[ننشر هنا على ثلاث حلقات الفصل الرابع من كتاب الباحث في الاقتصاد السياسي ومدير برنامج الدراسات الإسلامية ودراسات الشرق الأوسط في جامعة جورج ميسون، بسام حداد، والذي صدر عن مطبعة جامعة ستانفورد بعنوان "شبكات الأعمال في سوريا: الاقتصاد السياسي لنظام استبدادي يثابر على الاستمرار"، والذي يصدر قريبًا في اللغة العربية].
العامل الريفي ـ الأقلوي
كي نفهم حزب البعث على نحو أفضل يجب أن ننظر إليه كتحالف بين التيارات الاجتماعية والإيديولوجية التي وحّدتها معارضتها للوضع القائم في مرحلة ما قبل الوحدة بين سوريا ومصر: وأحدث تأسيس الجمهورية العربية المتحدة (1958-1961) انقسامًا بين الحرس القديم (الذي فضّل الوحدة) وبقية الحزب، وسببت الحركة الانفصالية المحافظة (1961-1963) انقسامًا آخر بين القطريين المتشددين (القاعدة الريفية) والجميع. وفي الوقت الذي استولى فيه القطريون (وهم أنفسهم خليط من الأقليات الريفية) على السلطة في 1966، هيمن العنصر العلوي على تلك المجموعة، رغم أنها كانت ما تزال تضمّ بعض العناصر غير المنحدرة من أقليات. وفي نهاية الستينيات، كانت قيادة البعث أقل مدينية وأكثر ريفية، أقل سنية وأكثر تمثيلًا للأقليات، أقل تنوّعًا على صعيد تمثيل الأقليات وأكثر علوية. وكان دافع القيادة الراديكالية في الستينيات في البداية هو الحاجة لإنشاء آلية للولاء في غياب مؤسسات قوية وفي حضور معارضة مدينية قوية. استُخدمت الهوية الطائفية لتعبئة الدعم لأسباب سياسية (أي كوسيلة، وليس كغاية) رغم أنّ تزامن الانقسامات الطبقية والمناطقية والطائفية جعل من الصعب عزل الأسباب.22 إن آليات طائفية كهذه يجب أن تُدعم بعقلانية بنيوية واستراتيجية. ذلك أنّ العلويين، رغم أنهم منقسمون فيما بينهم على أرضيات سياسية وفردية، ورغم أنهم لم يحكموا باسم الطائفة أو من أجل فائدتها، فقد نظرت إليهم المجموعات التي تم إقصاؤها كعلويين، بالتالي وجدوا أن التحالفات المبنية على الطائفية مبرّرة. على أي حال، "تمحور الصراع، في العمق، حول مسائل ووجهات نظر مختلفة حول إلى أي مدى يجب أن تكون ثورة البعث راديكالية وكيف تتعامل مع المعارضة المدينية".23 لكنّ الاعتماد على العامل الريفي الأقلوي كان يعني الانتحار السياسي للنظام.24 فحين استلم الأسد السلطة في 1970، صار استخدام آلية الولاء هذه أكثر إلحاحًا من أجل زيادة الدعم وحماية النظام داخليًّا وخارجيًّا، بينما صارت الوسائل لفرض سيطرة محكمة متاحة أكثر في الوقت نفسه. ما هو مهم بصورة مساوية هو أن الأسد كان يعرف تاريخ سوريا والطبيعة العنيدة الظاهرة لشعبها جيدًا، كما بيّن اعترافه بالحاجة إلى موقع مركزي في صراعه مع المتطرفين في تطبيق الإصلاح الزراعي.25 كان يعرف أنه لا يستطيع أن يجعل النخبة علوية فقط ولا يستطيع أن يواصل إقصاء الطبقات الوسطى المدينية، التي كانت سنية بصورة غالبة. كان نظامه مضطرًا إلى دمج أجزاء من المؤسسة السنية المدينية سياسيًّا واجتماعيًّا، وتسخير إمكانياتها الاقتصادية والإبداعية من أجل أن يسرّع تراكم رأس المال المطلوب لبناء دولة أقوى وأكثر استقرارًا. وبعد أن استطاع الأسد الوصول إلى أجزاء من المجتمع المديني باتباعه لسياسات التقارب الاقتصادي والتحرير المتحكم بها، تمكّن بسرعة من أن يُضْفي شرعية جزئية على نظام اشتراكي قومي معتدل، ويضمن تراكم رأس المال، ويخطب ودّ أجزاء كبيرة من جماعة الأعمال التي بقيت في سوريا. كانت نتيجة هذه الإنجازات ضخمة، ولعبت دورًا مهمًّا في إبقاء الإسلاميين تحت سيطرة محكمة كما بيّنت نتيجة الصراع بين الدولة والإسلاميين في وبعد 1982، حين سحق النظام المعارضة دون رحمة. لكنّ التوترات بين النظام والمعارضة استمرت ولوّنت كثيرًا من العلاقات بين الدولة والمجتمع، وتحديدًا العلاقة بين الدولة وجماعة الأعمال، بما في ذلك السيرورة التالية من إعادة دمج جماعة الأعمال.
تدعيم وتقويض الحكم الشعبوي الاستبدادي
ينطوي تدعيم الأنظمة الشعبوية الاستبدادية، من وجهة نظر اقتصاديّة-سياسيّة، على مآزق جمعية من الاستثمار وتراكم رأس المال فيما تأخذ هذه الدول على عاتقها مشروع التصنيع بنفسها، وتستبدل القاعدة الاقتصادية الخاصة إلى حد كبير. تُحلّ مآزق كهذه عبر عمليات تأميم وإصلاح زراعي تساعد الدولة في تأمين مصادر لتراكم رأس المال.26 وينطوي تقويض الأنظمة الشعبوية الاستبدادية، من ناحية أخرى، على مأزق فعالية جماعيّ: 27 بما أنّ وظائف إعادة التوزيع التي تقوم بها هذه الدول تنشئ مجموعات استحقاق راسخة وشبكات اقتصادية تسعى إلى فوائد الأنشطة الريعية، فإنّ الفعالية الاقتصادية تصبح مخادعة.28
يعالج هذا البحث بصورة عامة الصعوبات المرتبطة بتقويض الشعبوية: كيف تواجه الأنظمة الشعبوية الاستبدادية تحديات إبقاء اقتصاداتها تعمل بفعالية رغم الالتزامات التوزيعية (أو الأعباء، من منظارها)، التي هي مع ذلك حاسمة لشرعية النظام، وغالبًا لبقائه. ثمة عامل أساس لفهم عمليات التدعيم والتقوية هذه وهو العلاقة بين السلطة ورأس المال. يرى واتربري29 وهايديمان، أن توطيد الأنظمة الشعبوية الاستبدادية في الدول النامية المستقلة ينطوي على تحديات ومقايضات جوهرية. تواجه هذه الأنظمة ما يسمّيه هايديمان مآزق "التعبئة الشعبية"، و"التعبئة المضادة"، و"استقلالية الدولة المحدودة في ظل أوضاع من التنمية الاتكالية".30 ويتضمّن كلٌّ من هذه المآزق مجموعة من المقايضات، مضمونها هو عادةً توازنٌ بين تعميق الشعبوية عبر "إجراءات تحصيل ضريبي" (خيار الدولة الاشتراكية المتشددة) وتمييع الشعبوية بملاحقة نوع "التراكم الاتكالي" الذي يؤذي الاستقلالية القومية (خيار الدولة الناعمة).31 ويرى واتربري أن مصر تبنّت خيار الدولة الناعمة لأنّ البديل "يكلّف الكثير"،32 بينما يرى هايديمان أن سوريا تبنّت الخيار المتشدد. ويتفق التحليل هنا مع تشخيص هايديمان للطريق الذي سلكته سوريا في الستينيات. على أي حال، لم يحصل الاعتدال البعثي في السبعينيات عبر تمييع الشعبوية ولكن عبر مرحلة مطوّلة من إلغاء التعبئة الاجتماعية الفعلية. إن انسجام الهوية الطبقية والطائفية والمناطقية للقيادة البعثية الجديدة ("المظلومون" الريفيون التاريخيون المنحدرون من أقلية) وقربها غير المتكافئ من الأجهزة العسكرية أو مشاركتها فيها، أنشأ كتلة سياسية أكثر تماسكًا وقوية نسبيًّا. بالتالي، دفع عامل انسجام هويات مُستغَلَّة تاريخيًّا الفصيل المنتصر في القيادة للسعي وراء الشرعية والاستقرار عبر توسيع الدكتاتورية على نحو آمن. وبعد هزيمة 1976 في الحرب مع إسرائيل واجهت قيادة حزب البعث التي كانت تتصفّى باستمرار، والقادمة بشكل متزايد من خلفيات أقليات ريفية مسحوقة اجتماعيًّا ومستغلة تقليديًّا، واجهتْ مجتمعًا منطويًا على نفسه على نحو كبير، لكن بأجزاء مرنة سنية مدينية وتجارية مرشحة للخسارة في الوضع الاقتصادي السياسي القائم. ومنحتْ البدائل المتاحة في ذلك الوقت الصدقيّة لتسوية تاريخية، ذلك أنه بدا كأنّ النظام السوري لم يستطع اتّباع الخيار المتشدد الذي ينطوي على مجازفة بعد الستينيات. باختصار، بينما لم يبد خيار الدولة الناعمة ملائمًا سياسيًّا قبل 1970، فإنّ استمرار موقف الستينيات المتشدّد لم يعد ممكنًا، سياسيًّا واقتصاديًّا في آن، لوقت طويل بعد 1970. ونُظر إلى تعميق الاشتراكية بصفته انتحارًا سياسيًّا بطيئًا (هذا إذا لم يكن انتحارًا اقتصاديًّا)، من ناحية أخرى، إن تمييع الاشتراكية على الطريقة المصرية لم يبشّر بالخير على المدى المتوسط والطويل للقيادة الريفية المنحدرة من أقلية إلى حد كبير. واختار نظام ما بعد 1970 إلغاء للتعبئة محليًّا على نطاق واسع، تخلّله تقارب تم خارج المؤسسات مع أجزاء من البرجوازية، ورسا على مشروع منهجيّ لتعزيز أوراق اعتماده القومية عبر نقل الصراعات إلى الخارج. وشغل الصراع مع إسرائيل مركز الصدارة في سياسة سوريا الخارجية منذ ذلك الوقت فصاعدًا، فيما جعل انخراط سوريا في لبنان تلك البلاد "ساحة رئيسة للصراع بين سوريا وإسرائيل حالما أعيقت عملية السلام بعد 1973". 33 بالتالي، سُرِّحتْ الشعبوية، وتم احتواء ما بقي من البرجوازية الكبيرة مؤقتًا، ومرت العزلة الإقليمية في سيرورة شفاء عاجلة، ولو أنها غير كاملة. لكنّ القيادة الجديدة لم تستطع حتى الآن أن تقوض رسميًّا دور البعث الاشتراكي الذي دعا إلى المساواة (والذي حيدته أجهزة الأمن)، ولم تستطع أن تدمج رسميًّا مصالح جماعة الأعمال المدينية كما فعل النظام المصري بعد جمال عبد الناصر. وبيّن التنافر الأكثر وضوحًا دومًا بين القابضين على مقاليد السلطة وأصحاب رأس المال (الذي لم يكن عاملًا مهمًّا في مصر) أن خيارات تقويض الشعبوية على طريقة مصر مكلفة جدًّا ولا يمكن الدفاع عنها سياسيًّا. نجم تطوران أو خياران في هذا الاتجاه، بعد عبد الناصر، لم يكونا خيارين في الحالة السورية: تم حلّ حزب الاتحاد الاشتراكي العربي وإنشاء الحزب الوطني الديمقراطي، والذي هو مؤسساتيًّا وإيديولوجيًّا أكثر استجابة للدمج الرسمي لمصالح جماعة الأعمال من أجل أهداف تراكم رأس المال. وتعود الصعوبة التي واجهها حزب البعث بالتالي في إعادة دمج مصالح جماعة الأعمال المدينية إلى ترييفه في الستينيات، ما فاقم الانشقاقات الريفية ـ المدينية:
إن حقيقة أن قيادة حزب البعث كانت على نحو متزايد... منحدرة من أقليات علوية ودرزية وإسماعيلية، وإلى حد كبير من الطبقات المتوسطة الأدنى، وأنَّ خصوم البعث كانوا سنيين مدينيين بصورة رئيسة، ومن موقع اجتماعي أعلى، مثلت انشقاقًا اجتماعيًّا رئيسًا انطوى على خلافات سياسية ومنحت الصراع بينه وبين المعارضة في ذلك الوقت سمة مدينية ـ ريفية أكثر مما هي طبقية. 35
فضلًا عن ذلك، ما حثّ على ردْكلة البعث آنذاك هو فشلُ الحرس القديم البعثي والعودة القصيرة للمؤسسة المدينية. ودعّمتْ الطريقة التي تكشفت بها ردكلة وترييف حزب البعث في الستينيات العداء الريفي ـ المديني، وبالتالي، العداء بين الدولة وقطاع الأعمال.
عزل الحزب واستقطاب المجتمع السوري في الستينيات
قاد إرثٌ من انعدام الثقة الشديد بين القابضين على مقاليد سلطة الدولة وأصحاب رؤوس الأموال في النهاية إلى استقطاب المجتمع السوري في أواخر الستينيات، ما جهّز خشبة المسرح لحدوث تغيير داخل النظام.36 وكانت الآلية السببية العاملة هي السياسات الفعلية التي تم تبنيها في ذلك الوقت لـ "تعميق الاشتراكية". وكانت تلك السياسات الوسائل الجديدة للبعث لضرب قاعدة القوة الخاصة بالمؤسسة المدينية.
إنّ خيبات الأمل الناجمة عن الجمهورية العربية المتحدة (بما فيها إجراءاتها الاشتراكية الخفيفة، وحلّ البعث، والمساومة على الاستقلالية الوطنية السورية) وعودة أو مرونة البرجوازية بعد ذلك، إن كلّ هذه الأمور التي شهدها البعثيون الراديكاليون الذين من الجيل الجديد، أكّدت وقّوت معتقداتهم الراديكالية وتصميمهم على إنشاء حركة متشددة تتجنب أشراكًا كهذه. وبحسب هايديمان، إن حدث انفصال سوريا عن الجمهورية العربية المتحدة والذي قامت به "الثورة المضادة" علّم النخب البعثية كم يمكن أن تكون كلف الاستبداد الناعم مرتفعة... تمت إعادة تدعيم هذه الدروس بمعارضة جماعة الأعمال ومالكي الأراضي المعادية بصورة مستمرة للبعث بعد 1963". 37 ذلك أن "الوحدة قضت على البعث بصفته حركة موحّدة".38 على أي حال، بقيت ثلاثة فصائل بعثية بعد تفكُّك الجمهورية العربية المتحدة. كان يقود أحد هذه الفصائل ميشيل عفلق، أحد مؤسسي الحزب، وقاعدته الطلابية الداعمة بصورة رئيسة. وكان الفصيل الآخر مشكلًا من "تجمّع كبير من المفكرين الريفيين الذين سيطروا على بقايا الكثير من الفروع الريفية للحزب... والذين أُطلق عليهم فيما بعد اسم القطريين". أخيرًا، والأكثر أهمية، كان هناك مجموعة من الضباط البعثيين الأصغر، "معظمهم ريفيون وبشكل غير متكافئ من الطوائف العلوية والدرزية والإسماعيلية"،39 وكانوا الفصيل الذي خاب أمله أكثر من حلِّ حزب البعث، والذي بقي مخلصًا للبعث ولكن ليس لقادته التاريخيين. فقد هاجم هذا الفصيل بعنف حلّ حزب البعث، الذي بدا كأنه يقضي على أداة طموحاته السياسية والاجتماعية".40 وفقد جميع قادة هذين الفصيلين الأخيرين الذين يتمتّعون بصلة عسكرية جيدة إيمانهم بالقيادة التقليدية، ولكن الفصيل الثالث الذي يضمُّ الضباط الصغار هو الوحيد الذي امتلك التصميم والشبكات المدنية ـ العسكرية الضرورية للقيام بانقلاب قادر على الاستمرار. وقامت مجموعة من الضباط، الذين لم يكونوا كلهم بعثيين، بانقلاب 1963 الذي جاء بالبعث الجديد الراديكالي إلى السلطة. وتضمّنت نواة هذه المجموعة ما هو معروف الآن باسم اللجنة العسكرية السرية، والتي شكّلها أثناء أعوام الجمهورية العربية المتحدة مجموعة من الضباط السوريين. وقد جاء من هذه الزمرة الحكام المؤثرون لسوريا على مدى الأعوام الستة وثلاثين القادمة. كان في اللجنة صلاح جديد (قائد سوريا القويّ من 1966 إلى 1970)، وحافظ الأسد (وزير دفاع سوريا حتى 1970)، وآخرون من خلفيات ريفية.41 ما هو بالغ الدلالة أنه "عشية استيلاء الحزب على السلطة، لم يكن للبعث قيادة معترف بها على نطاق واسع، ولم يحظ بإجماع إيديولوجي... فقد كان متناثرًا ومبعثرًا على المستوى التنظيمي، وقاعدته الجماهيرية السابقة إما مُبعدة أو غير معبأة".42 ومنح الأصل الاجتماعي الريفي للبعثيين الجدد الأولوية لما دعاه هينيبوش "راديكالية الإصلاح الزراعي" على حساب القومية العربية؛ لهذا "واجه البعث مدّة طويلة عداءَ جزءٍ كبيرٍ من المجتمع المديني، وليس نخبة مالكي الأراضي والإسلاميين المحافظين فحسب، بل أيضًا الكثير من الناصريين الذين من الطبقة الوسطى والليبراليين أيضًا. أخيرًا، "امتلك البعث الجديد قواعد قوة في الجيش والريف، وحكم من أعلى هرم سلطة الدولة البيئةَ المدينيةَ التي رفضتْ شرعيته".43 وواصل الرجال الأقوياء الحاكمون تطويع وترقية المثقفين والضباط من الجماهير الريفية، وكانوا جزءًا من المجتمع عبّأه النظام البرجوازي في الخمسينيات في إطار جهوده لكسب الجماهير في نزاعه الذي لم يدم طويلًا مع الوجهاء المالكين للأراضي".44 وإذا تحدثنا استراتيجيًّا، برهنتْ الستينيات بأنها أكثر تلقيًا لنوع الرسالة شبه الاشتراكية والقومية التي كان البعث يبثها، بصرف النظر عن الحاملين الاجتماعيين، لأنه "بالمقارنة، عمل جميع خصومه في ظلّ عوائق مهلكة"؛ وكان بينهم الإخوان المسلمون والحزب السوري القومي الاجتماعي والشيوعيون.45 وفي الحقيقة، إن هذا السياق هو الذي قاد البعث إلى تقديم مسار متميز. وكانت قيادة البعث الجديدة بحاجة إلى عقيدة تحوّل ثوري، لم تقدمها الحركة البعثية الكلاسيكية، "قابلة للتمييز عن الناصرية. بالتالي، صاغ الصراع بين القوى السياسية الموجودة وعقْلن الأولويات السياسية والإيديولوجية البعثية: حُوفظ على القومية العربية كهدف بعيد يجب أن يسبقه تحوّل ثوريٌّ تقوم به سوريا. وميّز هذا الموقف الإيديولوجي السياسي البعث الجديد. وفكّرت القيادة الجديدة بـ"الجمع بين القومية البعثية والماركسية... كي يكون هذا بديلًا إيديولوجيًّا لكل الأمور التي يرفضونها: الإسلام التقليدي، والرأسمالية الليبرالية الغربية، والأممية الشيوعية، وخطة قابلة للحياة لثورة اشتراكية، ولكنها عربية على نحو أصيل".46 كانت الصورة أكثر تعقيدًا اجتماعيًّا وسياسيًّا، بما أن راديكاليي النظام الجديد يجب أن يُقْصوا ويُجرّدوا من القوة قطاعًا من المجتمع السوري فاعلًا اقتصاديًّا، هو البرجوازية، وبذلك زادوا من ردكلة واستقطاب السياسة السورية. لكن تجريد البرجوازية من القوة حتميّ إذا كان على البعث الجديد أن يقوم بأي تحول اجتماعي. وخدمت مرونة المؤسسة في الحقيقة كمحفّز غير مقصود في ردْكلة البعث الجديد وجعله متشدّدًا. ودفعتْ المغامرات السياسية الفاشلة قبل 1963، وأعني الجمهورية العربية المتحدة، والحركة الانفصالية، الحزب أكثر إلى اليسار وأدّت إلى حكم استبدادي قمعيّ.47 وكان الانقلاب الانفصالي الذي أعقب حلَّ الوحدة شهادةً على فشل الحكم الاستبدادي الناعم في سوريا والتفريط بالسياسة الاجتماعية أثناء الوحدة مع مصر. باختصار، استُبْعدت خيارات الدولة الناعمة لصالح وجهة نظر متشدّدة تصورت صراعًا قائمًا على اللعبة الصفرية بين مُصلحين تقدميين والمؤسسة. ورغم أنه لم يكن من السهل على القيادة الريفية المنحدرة من أقلية أن تتبنى مقاربة متشددة، فقد كانت المخاطر التي تحول دون تجنّبها كبيرة. وعكست الأعوام بين 1963- 1966 هذا الهاجس من جانب القيادة. فالصراعات البعثية المهلكة في ذلك الوقت بين الحرس القديم والحرس الجديد حجبت العامل الريفي الأقلوي وساعدت القيادة الراديكالية في تدعيم قبضتها على السلطات العليا وراء الستار.48 وكان هذا الفصيل المنتصر مستعدًّا في 1966 كي يطبق علنًا سياساته التقليدية في التأميم والإصلاح الزراعي (والتي بدأت بشكل فعّال في 1965)، والهادفة إلى توجيه ضربة قاضية للمؤسسة المدينية ولخصوم وحلفاء سابقين، ومن بينهم الناصريون.49 وجرّد المزيد من التأميم في 1965 القطاع الخاص من قوته الاقتصادية المتبقيّة، بينما استهدف تطبيق قانون الإصلاح الزراعي الجديد، والذي "قسم الكمية التي يمكن أن يحتفظ بها مالكو الأراضي إلى نصفين، وفي تجاوزه للهجوم (1958) السابق على الأقطاب الأكبر، وجّه ضربة لقوة مالكي الأراضي المتوسطين.50 قال هينيبوش، معبرًا عن الأمر بوضوح: "كانت نتائج تلك السياسات هي استقطاب المجتمع السوري". ومن أجل احتواء التعبئة المضادة والانتقامات، كان على الحزب أن يعتمد بشكل متزايد على الجيش وعلى عناصره الذين كان ولاؤهم لا يقبل الشك. وكانت الكلفة عالية ومؤذية داخليًّا في آن لحزب البعث، وبرهنت أنها جوهرية في إحداث نقلة داخلية، وتحديدًا بعد حرب 1967. وإذا تحدثنا مؤسساتيًّا، إن التركيز على الأمن، حدد بداية هيمنة أجهزة الأمن بعد 1970. في غضون ذلك، وقبل أن تُحلّ النزاعات البعثية الداخلية، كان الجيش هو الذي خدم كسترة نجاة للفصيل المنتصر. وبسبب اعتماده الكبير على الجيش، لم يستطع الحزب أن يهيمن عليه أو يُخْضعه؛ بالأحرى، كان العكس هو الصحيح. وقدم افتقار الحزب للشرعية المؤسساتية الامتياز للجيش وفيما بعد للأجهزة الأمنية ذات السمعة السيئة.51 وكان النظام في حالة مستمرة من عدم الاستقرار أدت إلى استغلاله لجميع الفوائد والانقسامات اللامؤسساتية، بما فيها "الشخصية والجيلية والطبقية والإقليمية دون أن ننسى الطائفية".52 ويُعَدُّ نافلةً القول إن ممارسات كهذه قوّضت أكثر لا الشرعية والمأْسَسَة فحسب بل تماسك نظام البعث أيضًا. ورغم أن الراديكاليين انتصروا بوضوح بحلول 1966، إلا أنهم كانوا معزولين، ليس عن معارضيهم فقط؛ بل أيضًا عن حلفائهم السابقين، وعن جزء مهم من المجتمع، الذي شعر النظام نفسه أنه بعيد جدًّا عنه بسبب عواطف ذلك الجزء غير الراديكالية.53 واتّبع البعث خطة جديدة بعد 1966 لاستبعاد جميع الآراء المحافظة، سواء أكانت اجتماعية أو اقتصادية، وحتى الآراء القومية البراغماتية: وقد تم استبعاد الأسد، والذي كان هو نفسه قوميًّا براغماتيًّا.54 وحدث تطبيق جدي وفعال للإصلاحات الزراعية الجديدة بعد أن تولى دفة القيادة الفرع الراديكالي من الحزب. وقادت سياسة الحزب المترافقة مع صرامة إيديولوجية،55 إلى استقطاب المجتمع في انقسامات يسارية ويمينية (ولو فضفاضة). أعقب ذلك ترييف المدن، وتحديدًا دمشق، وتزامن ذلك مع نفي البرجوازيين. وكانت جماعة الأعمال الكبيرة، وتحديدًا التجار والجماعات الدينية، هي الأكثر تأثرًا. وانتشرت نكات مضادة للريفيين والعلويين في الثقافة الشعبية الخاصة في المدن، ما دلَّ على بداية نقلة في إدراك طبيعة الصراع، وذلك من منظور المتشددين داخل وخارج النظام، من صراع طبقي إلى اجتماعي ـ طائفي.
هوامش
٢٢- انظر: هينيبوش، السلطة الاستبدادية وتشكيل الدولة في سوريا البعثية، 130. انظر أيضًا: فلاحو سورية، المتحدرون من الأعيان الريفيين الأدنى، وسياستهم. قال بطاطو إنه "لم تكن التنافرات داخل الحزب طائفية صرفة أو إقليمية صرفة في طبيعتها".
٢٣- انظر: هينيبوش، السلطة الاستبدادية وتشكيل الدولة في سوريا البعثية، 130.
٢٤- بحسب ناصر ناصر، وهو اقتصادي من القطاع العام، واجه النظام في ذلك الوقت مأزقًا: "احتاج إلى الحزب كي يوسّع حكمه، ولكن من دون سياسته". كانت هناك حاجة بعد 1976 للعثور على بديل تعبوي للبعث لأنه كان أداة الجناح اليساري للحزب في ذلك الوقت. إن صعود الأجهزة العسكرية والأمنية يتعلق بهذا المأزق"؛ مقابلة، دمشق، 20 نيسان\أبريل، 1999.
٢٥- انظر: هينيبوش، السلطة الاستبدادية وتشكيل الدولة في سوريا البعثية، 137-39.
٢٦- انظر: والدنر، بناء الدولة والتنمية المتأخرة، ف 1.
٢٧- المصدر نفسه.
٢٨- انظر: شودري، "الشرق الأوسط والاقتصاد السياسي للتنمية"؛ وهايديمان، "تدعيم الاستبداد في العالم العربي".
٢٩- انظر: وتربري، الاقتصاد السياسي لنظامين.
٣٠- انظر: هايديمان، الاستبداد في سوريا، 19.
٣١- انظر: وتربري، الاقتصاد السياسي لنظامين، 17- 20؛ وهايديمان، الاستبداد في سوريا، 18-19.
٣٢- انظر: وتربري، الاقتصاد السياسي لنظامين. بحسب قراءة هايديمان لوتربري، لم يكن ناصر مستعدًّا لاستخدام قبضة حديدية ويجازف بالصراع الطبقي. انظر: هايديمان، الاستبداد في سوريا، 18.
٣٣- انظر: إحتشامي وهينيبوش، سوريا وإيران، 71.
٣٤- لم يحدث هذا في أي جزء صغير بسبب المصالح الطبقية لفلاحي الطبقة الوسطى الذين دعموا الفصيل البعثي المنتصر وخافوا من المزيد من إصلاحات الأراضي. انظر: هينيبوش، السلطة الاستبدادية وتشكيل الدولة في سوريا البعثية، 138-139.
٣٥- يسود هذا الفهم في الدوائر الأكاديمية السورية؛ على أي حال، لم يُناقش علنًا. إن الذين يناقشون مسائل كهذه في صحبة الآخرين يثقون أنه لن يتم الاستشهاد بكلامهم أو تتم خيانتهم.
٣٦- انظر: هينيبوش، السلطة الاستبدادية وتشكيل الدولة في سوريا البعثية، ١٣٥.
٣٧- انظر هايديمان، الاستبداد في سوريا، ٢٢.
٣٨- لقد دحض هذا الادعاء أكاديميون سوريون جريئون، يعتقد معظمهم أن موقف البعث تحسّن عبر الجمهورية العربية المتحدة. ويرى بعضهم أنّ الجمهورية العربية المتحدة كانت في نهاية المطاف مرسلة من الله إلى البعث: "تتضمن تأثيرات الجمهورية العربية المتحدة وقف التطور السياسي في سوريا وتهيئة الدولة كي يستولي عليها الحزب الأقل شعبية"؛ مقابلة مع ناصر ناصر، 20 نيسان\أبريل، 19. انظر: هينيبوش، السلطة الاستبدادية وتشكيل الدولة في سوريا البعثية، 113.
٣٩- انظر: هينيبوش، السلطة الاستبدادية وتشكيل الدولة في سوريا البعثية، 114-115.
٤٠- تماشيًا مع هذا التأويل، نظر البعثيون السابقون إلى ارتباط العناصر البعثية الراديكالية في الحزب من زاوية ذرائعية ولكنهم عزوا الذرائعية إلى الأعضاء الأقل ميلًا إيديولوجيًّا للجنة السرية، بما في ذلك الأسد. انظر: هينيبوش، السلطة الاستبدادية وتشكيل الدولة في سوريا البعثية، 113.
٤١- من أجل معلومات أكثر دقة عن اللجنة العسكرية، بما في ذلك الجدل حول متى تشكّلتْ ومن ضمّتْ (مثلًا، يزعم الأسد أنه عضو مؤسس، بينما يعلن أحمد المير أنه انضم بعد سنة، في 1960)، انظر: بطاطو، فلاحو سورية، المتحدرون من الأعيان الريفيين الأدنى، وسياستهم، 144- 45؛ وانظر: 146 -49 من أجل قائمة شاملة للأعضاء ومعلومات عن خلفياتهم. إن القائمة مهمة لأن هؤلاء الأعضاء جاؤوا كي يشكّلوا القيادة القطرية للبعث الذي حكم سوريا على نحو فعال في الستينيات وما بعدها.
٤٢- انظر: هينيبوش، السلطة الاستبدادية وتشكيل الدولة في سوريا البعثية، 116.
٤٣- المصدر نفسه، 117.
٤٤- انظر: هايديمان، الاستبداد في سوريا،12؛ وهينيبوش، السلطة الاستبدادية وتشكيل الدولة في سوريا البعثية، 118.
٤٥- إن القاعدة المدينية للإسلاميين قصرت جاذبيتهم على الأجزاء المعبّأة حديثًا والتي صارت مدينية للمجتمع السوري وعلى الطبقات الوسطى المتعلمة الصاعدة، والتي يكن لم كثير منها من السنة. كان الشيوعيون يعانون لوقت طويل من وصمة كونهم خاضعين للاتحاد السوفياتي، وخاصة بسبب دعمهم لتقسيم فلسطين، الذي اتبع خطًّا سوفياتيًّا. أخيرًا، رغم ما قدمه كثير من المحللين كحجج للجاذبية المحدودة للحزب السوري القومي الاجتماعي (مثلًا، موقفه العلماني المضاد لإسرائيل وقيادته التي تهيمن عليها الأقلية ـ وكأن البعث لم يكن هكذا)، سيكون أكثر أمانًا الافتراض بأن إيديولوجية الحزب السوري القومي الاجتماعي في حد ذاتها (إحياء سوريا الكبرى) لم ترق فورًا للأجزاء الأكبر من السكان العاديين، سواء كانوا مسلمين ومسيحيين متدينين أو ملحدين. بدلًا من ذلك، كانت كوادرهم، وبقيت، محدودة ولكن دومًا متوترة ومتقدة حماسًا، وخاصة بين المفكرين قبل 1967.
٤٦- انظر: هينيبوش، السلطة الاستبدادية وتشكيل الدولة في سوريا البعثية، 122-123.
٤٧- المصدر نفسه، 85.
٤٨- انظر: رابينوفيتش، سوريا في ظل البعث، من أجل رواية دقيقة عن الصراعات الداخلية في الحزب بين 1961-1963.
٥٠- انظر: هينيبوش، السلطة الاستبدادية وتشكيل الدولة في سوريا البعثية، 133-35. المصدر نفسه، 135.
٥١- بحسب هينيبوش، "إن كل فصيل حزبي ناجح كان يقوده أو يناصره ضابط ـ سياسي. في النهاية، حين استعصت النزاعات على الحلّ في مؤسسات الحزب، برهن اللجوء إلى التعبئة العسكرية التنافسية أنه حاسم والائتلاف الذي قاد قوة متفوقة هو الذي ساد: هكذا كان الأمر في 1966 وسيبرهن أنه هكذا مرة ثانية في 1970". انظر: هينيبوش ، السلطة الاستبدادية وتشكيل الدولة في سوريا البعثية، 132.
٥٢- انظر: هينيبوش، السلطة الاستبدادية وتشكيل الدولة في سوريا البعثية، 132.
٥٣- المصدر نفسه، 134.
٥٤- بحسب أولئك الذين في المراتب العليا في الجيش، شعر الأسد باكرًا بأن "الطريق الذي كان يسلكه النظام لن يستمر". مقابلة مع ضابط سوري متقاعد يعيش في الولايات المتحدة، 30 أيلول/سبتمبر، 1999.
٥٥- وضعت الأسس الإيديولوجية الجديدة للبعث مجموعة من البعثيين القدامى والشيوعيين السابقين (بينهم جمال أتاسي، الياس مرقص، وياسين الحافظ) الذين أعادوا تجهيز المبادئ غير المتبلورة للمؤسسين كي يتجنبوا مزالقها الاستراتيجية والإيديولوجية. "كتبت هذه المجموعة في جريدة البعث وانتقدت البعثية التقليدية لتشديدها على الحرية الفردية ومعارضتها للصراع الطبقي ودعت إلى الانفتاح على الماركسية والتشديد على تنظيم الجماهير الشعبية؛ كان أولئك الكتاب مهمين لأن عملهم عبّر عن الطفرات الإيديولوجية التي تجري في قواعد الحزب ووضعوا الأسس لرَدْكلة إيديولوجية البعث بعد 1963". انظر: هينيبوش، السلطة الاستبدادية وتشكيل الدولة في سوريا البعثية، 114. عن الأسس الإيديولوجية والسياسية للبعث، انظر أيضًا: جبور، الفكر السياسي المعاصر في سوريا، 375- و76؛ وصفدي، حزب البعث، 155-61.
[ترجمة أسامة إسبر، عن Business Networks in Syria The Political Economy of Authoritarian Resilience Stanford University Press, 2012].
[لقراءة الجزء الأول اضغط/ي هنا].