[هذه المقالة جزء من ملف حول اللغة الأمازيغية، تحت عنوان «"تانكرا تمزيغت": الصحوة والأصلانية الأمازيغتَيْنِ في الآداب والفنون»].
تتداخل المناطق الأمازيغية مع دول أفريقيا الشماليّة، والأمازيغية (تمازيغت) ليست جنسيّة بل هي انتماء رمزي لهويّة إقليمية راسخة في عدد من الدول. والسينما في هذه المنطقة هي سينما وطنية، ومن ضمنها، ترتبط السينما الأمازيغية رمزيا بفئة عابرة للحدود.
وحين نتحدّث عن السينما الأمازيغيّة، يجب أن نحدّد أنّها تعني السينما الأمازيغية في المغرب أو في الجزائر. والصياغة هنا دقيقة. فالأمر لا يتعلّق بسينما أمازيغيّة مغربية أو جزائريّة، بل بسينما في المغرب أو في الجزائر. هي سينما "تمازغيّة" (berbère بحسب التسمية الأوروبيّة) تعني منطقة تمتد، من الشرق إلى الغرب، من صحراء "سيوا" في مصر إلى جزر الكناري في الأطلسي، وعلى امتداد شاطئ المتوسّط والساحل الصحراوي. هي موجودة في كل مكان تتواجد فيه الشعوب الأمازيغيّة طالما أن الحوار في الفيلم بتم بهذه اللغة، أو تمّ تصميمه ضمن هذه الثقافة.
[جميلة أمزال في فيلم The Forgotten Hill].
وتتجاوز السينما الأمازيغيّة الحدود، وإنّ كانت تجسّد خصائص وطنيّة (محليّة)، لتنضّم إلى هذه المجموعة الأمازيغية التي تتميّز بـ: هوية ورمز مشتركين: تاريخ 20 نيسان/أبريل الذي يرمز إلى الاعتراف بهويتهم، والرموز الثقافية التي هي الـ "Z" الأمازيغية، والأصابع الثلاث المرفوعة عوضا عن أصبعي شارة النصر V. وموقع هذه السينما هو ضمن هذا السياق السياسي الثقافي، في تطورّها في المغرب وفي الجزائر متّبعة أشكالا وموضوعات مختلفة. وهي إقليمية رمزيا، ووطنية فعليا من خلال وسائلها وأشكال إنتاجها التي تختلف بين سياسة ثقافية وأخرى.
والسينما الأمازيغيّة، التي ولدت في كل من الجزائر والمغرب في الوقت ذاته تقريبا، وجدت، فيما يتعلّق بالجزائر، لدى قيام الدولة، التي كانت تحتكر صناعة السينما حتّى ذلك الوقت، بتأسيس قطاع خاص للإنتاج سنة 1991 (المركز الوطني للسينما). ولقد تحققت هذه السينما من خلال مساهمة الدولة المالية وأذوناتها (للسيناريو، والتصوير والاستثمار)، وكان من ضمن السينما الوطنية الجزائريّة ويمثّل في الوقت ذاته هويّة تتجاوز حدود هذا البلد وحده. وتحمل المعطيات التي تحدّده عددا من التناقضات بما أنه، من جهة، يطرح نفسه كإحدى الفئات السينمائية، وكونه، من جهة ثانيّة، يندرج ضمن إطار السينما الجزائريّة. وفي ظلّ هذه التركيبة، يصبح استحضار بلد الانتماء متعلقا بجنسية هذا الفن وليس أسلوبه. وفي بعض الأحيان تُسمّى هذه الفئة "نوعا سينمائيا"، وفي ذلك خروج عن المعايير التي تحدّد ماهية النوع السينمائي. تماما كما يشكّل بلد المنشأ تعريفا وطنيا وليس نمطا (سينمائيا)، فالتيار التعبيري (expressionnisme) ليس هو السينما الألمانية، والواقعية الجديدة (néoréalisme) ليستا لسينما الإيطاليّة كما أنّ الموجة الجديدة ليست السينما الفرنسية مثلا.
[Ascending to the village of Tasga].
هي سينما حكومية تُعدّ طرفا في عملية البناء الاجتماعية، والسياسية والثقافية، والتي كانت من قبّل موحّدة عبر الاستخدام الحصري للغة العربية، فيما كان منع الأمازيغية من المسلمات، كما يُظهر إتلاف الفيلم الأول لعبد الرحمن بوقرموح "مثل روحٍ"، في 1965، وقد تم تلف النسخة الوحيدة الموجودة منه فور انتهاء مرحلة ما بعد الإنتاج.
[The protagonists].
والسينما الأمازيغيّة - التي ولدت بعد عشر سنوات من الربيع البربري في نيسان/أبريل 1980 والذي أطلَقت إلى العلن المطالبة بالاعتراف بالأمازيغية - هي نتاج نضال عدد من المخرجين الذين كانوا يعملون في المؤسسات الوطنيّة للسينما. ولاحقا، تجاوزت هذه السينما الحدود الوطنية للارتباط ثقافيا وتاريخيا ورمزيا بمنطقة شمالي أفريقيا.
وتحدّثت المقالات التي ظهرت في أوروبا، مع انطلاق عرض الأفلام الأمازيغية في الجزائر، عن هذه السينما البربريّة، مصنفة إيّاها، بشكل مباشر أو مضمر، في إطار السينما العربية، وذلك على خلفيّة سياسية بحتة هذه المرّة، حيث أدرجت هذه السينما، التي أنشئت أساسا للتأكيد على لا عروبتها والارتباط بأفريقيتها الغارقة في وسط بلا حدود جغرافية يسمّى "الكتلة العربية". وتسمح هذه الملاحظات بالاستنتاج بأنّ السينما الأمازيغيّة موجودة فعلا لكنّها بحاجة إلى تعريف جغرافي إقليمي قبل إضفاء الطابع الإقليمي عليها كي تلج السينما العالمية. ولن تتم مناقشة إذا كانت هذه السينما نوعا أو فئة إلّا من خلال هذه الملاحظات وذلك على الرغم من أن ضعف الإنتاج، في الجزائر على الأقلّ، يبقى تحدّيا أساسيّا للاعتراف السينمائي بها.
[Ta'ssāst or security: the highest point in the village].
لقد تعرّض المكّون السينمائي الأمازيغي في الجزائر، منذ نهاية عقد التسعينيات وحتّى اليوم، إلى انقسام مزدوج بين أفلامه التأسيسيّة الثلاثة وبين ما تلاها. ويتمثّل الانقسام الأوّل في كون الأفلام الأمازيغية الأولى متجذّرة كلّها في منطقة القبائل، في شمال شرقي العاصمة، ولا تمثّل المجتمعات الأمازيغية الأخرى إلا بشكل رمزيّ. وهذه المجتمعات تمثّل الثقافة الأمازيغيّة من باب إضفاء طابع إقليمي، بما أن ثقافة القبائل المتوسطية، مثلا، بعيدة عن الثقافة الأفريقيّة للطوارق في الهكار. أما الانقسام الثاني، وهو محليّ هذه المرّة، فيرتبط بالأفلام الثلاثة الأولى وهي: "الربوة المنسيّة" لعبد الرحمن بوقرموح (1994) -وقد بدأ مشروع تنفيذه منذ 1958 فيما السيناريو بالقبائلية موضوع منذ 1969 إلّا أنّه لم ينفّذ بسبب عدم الاعتراف بالأمازيغية وقتها--وفيلم "ماشاهو" لبلقاسم حجّاج (1995) بالإضافة إلى فيلم "جبل باية" لعزالدين مدوّر (1997) -والتي يمكن أن نضيف إليها فيلما قلّ ما يتم ذكره لأنّه فيلم قصير وهو "نهاية الجن" (1991) لشريف عقون. وهذه الأفلام الثلاثة الطويلة، إذن، أُحيطت بزخم شعبي ساهم بشكل ملموس وطوعي في إنجازها (هبات مالية وتجهيزات وأزياء قديمة، وتجهيز مواقع التصوير..) على أمل أن يرى المتبرعون ظهور حضارتهم ولغتها على الشاشات وتفادي بذلك خشية أن يسقط عليهم الحظر فيما هم يعبرون العقد الأشدّ عنفا في تاريخ الجزائر منذ الاستقلال. ومع ظهور الأفلام الثلاثة على الشاشات، اكتُسبت الضمانة بأنّ اللّغة باتت أخيرا مقبولة في السينما الجزائريّة. أما الأفلام التالية فقد تمّ إخراجها بالشروط ذاتها للأفلام الجزائريّة الأخرى، مع الميزة، التي مازالت جديدة، بأن أحداثها تدور في تامازغا.
[جميلة أمزال في فيلم Baya's Mountain].
وهناك خاصيّة أخرى تكوّنت منذ ولادة السينما الأمازيغيّة. فهناك الذين، مثل عز الدين مدور، يتحدّثون عن سينما أمازيغية مختلفة عن بقيّة السينما الجزائرية بخاصياتها وتمثيلها للهوية الأمازيغية. وهناك آخرون أيضًا، مثل بلقاسم حجّاج، الذين يستخدمون صيغة السينما التعبيريّة الأمازيغية بما يعني ضمنًا أن هذه السينما تندرج في إطار مجمل الأعمال السينمائيّة الجزائريّة، وهي أمازيغيّة ثقافيًّا مهما كانت اللغة المستخدمة. وتترجم أفلام المخرجين أفكارهما أصلا. ففيلم "جبل باية" لعزالدين مدور يستكشف الهوية الأمازيغية عبر العودة إلى الحقبة الأسطورية في أفريقيا الشمالية، خاصة عبر طقس "أنزار" (إله المطر) ومراسم زفافه الرمزية مع "باية" (إلهة الأرض)، فيما أحداث الفيلم تدور تاريخيا في فترة سحق عمليات عصيان القبائل لجيش الاستعمار الفرنسي سنة 1871.
[The protagonists].
أمّا فليم "ماشالو" لبلقاسم حجّاج فيصوّر التقاليد والطقوس القديمة المرتبطة بمفهوم الثأر عبر استخدام ديكورات وأزياء غير مرتبطة بحقبة زمنيّة معيّنة تنتمي إلى مجمل حوض المتوسط، ويمكن أن تعتبر من لبنان، أو اليونان، أو جنوبي إيطاليا، أو كورسيكا الخ... بما أنه كانت في هذه المجتمعات، تقليديا، أوجه تشابه في ممارسة قواعد الشرف الأبوي.
وتقدم الصيغتان المثارتان اختلافا عميقا بما أنّ الأولى تدّل على ظهور سينما هوياتية مشتركة، لأفريقيا الشمالية، من الممكن أن تحتوي السينما الأمازيغية، فيما الثانية تدمج السينما الأمازيغيّة بالسينما الجزائريّة، لأن الأفلام، إن كانت ناطقة باللهجة المحلية العربيّة أو الأمازيغية، إلا أنّها تنبع تاريخيا من ثقافة وصور أمازيغيّة.
[Anzār (rain) ritual].
والفيلم الأول من بين الأفلام الثلاثة الطويلة، والذي، بتعبيده للطريق)، استخدم كنموذج للفيلمين الأخريين، هو "الربوة المنسيّة". وهو مهم لأنّه مأخوذ عن الرواية التي تحمل الاسم ذاته لمولود معمري والتي نشرت خلال الاستعمار (1952)، وهاجمها بشّدة بعض الساسة الجزائريين لأنّها تخالف الصورة المتجانسة التي كانت القومية الناشئة تنوي إرساءها عن المجتمع الجزائري. وهو يقدّم وصفا واقعيّا عن القبائلية في وقت تسعى فيه القوميّة إلى فرض صورة موّحدة متجانسة للشعب الجزائري، على الصعيد الدولي، والذي أُفرغ من خصائصه الهوياتيّة لصالح الهوية العربية الإسلامية الحصرية، مما سيقود، بعد الاستقلال، إلى إنكار الهويّة الأمازيغيّة. وقد تم شجب الرواية ورفض السيناريو المستمد منها، والذي كتبه عبد الرحمن بوقرموح سنة 1958، وكان حينها طالبا في "المعهد العالي للدراسات السينمائيّة" في باريس، لدى إيداعه لوزارة الثقافة سنة 1969. وكان للفيلم رمزيّة كبيرة حين تم السماح بالتصوير سنة 1991، بعد عامين من وفاة مولود معمري. وقام عبد الرحمن بوقرموح بتنظيم تصوير المشهد الأول في قرية "ثاوريرث ميمون" في منطقة القبائل، في منزل مولود معمري، حيث تلاقت حشود كبرى جاءت من جميع المناطق، تستقبلها لافتة زرعت في المكان وكتب عليها "لن يكون هناك بعد اليوم أي ربوة منسيّة، لن يكون هناك أي رجال منسيين، لن يكون هناك أي تاريخ منسي".
[The Women Warriors in Baya's Mountain].
والثقل الرمزي للفيلم يرفعه فورا إلى مصاف متعدد الأبعاد كونه الفيلم الطويل الأول بالأمازيغية، وفيلما بشحنة نضاليّة، وعملا سياسيا يجسّد رفع الستارة عن الإنكار الذي يعصف بهذا الفن المصمم كأداة للترويج لجزائر يراد لها أن تكون عربية مسلمة حصرا. لذا، هناك سياق متعدد الأبعاد يتعين استكشافه قبل الوصول إلى التحدّث عن سينما أمازيغية ومصيرها.
[بلقاسم حجاج، المخرج وبطل فيلم Machaho].
وتجد الأفلام التالية طريقا رسمتها وحدّدتها الأفلام السابقة. أساسا، كان كل من عز الدين مدور وبلقاسم الحجّاج قد ذهبا لحضور تصوير فيلم "الربوة المنسيّة" لعبد الرحمن بوقرموح، ومن ثمّ وظّفوا ممثليه للعمل في فيلميهما. وقام الثلاثة بإرساء مرجعيات لأجواء، وديكورات وسبل وأنواع تمثيل اجتماعي، تعطي تعريفا أمازيغيا للأفلام بعيدا عن استخدام اللغة. وعلى سبيل المثال: فإنّ أفلام "سي موح أو محند" لرشيد بن علال واليزيد خوجة، و"فاظمة نْ سومر" لبلقاسم حجاج و"ميمزران" لعلي موزاوي، واجهتها صعوبات التصوير نفسها التي تواجهها الأفلام الجزائريّة كلّها وهي ليست صعوبات مرتبطة بكون هذه الفئة السينمائية مستجّدة. والمخرجون يتجاوزونها بلا ضجيج ومن دون الحماسة الشعبيّة التي شهدتها الأفلام الأخرى: فالأمر قد تمّ والسينما الأمازيغية قد ولدت.
[In search of vengeance].
ويبقى أن نفهم اليوم لماذا لم تغزو السينما الأمازيغية المساحات الهوياتية الواسعة في أفريقيا الشماليّة ولماذا هي غائبة عن الفعاليات السينمائيّة الكبرى حول العالم. ويشكّل الإنتاج السينمائي الأمازيغي في الجزائر اليوم جزءا من المشهد الفنيّ العام بطبيعة الحال، إلّا أنّه يبقى ضعيفا لسببين أساسيين: في مراحله الأولى، غياب التمويل اللازم لتصوير أفلام طويلة، وفي مراحله النهائية، ضعف حلقة التوزيع التي تعيق السينما الجزائريّة كلّها. والعنصر المتّصل بضعف الإنتاج هذا هو غياب تأهيل السينمائيين وتدريبهم، باستثناء بعض المبادرات الهامشيّة لورش عمل عن السينما يطلقها بعض المتحمّسين.
[A call from the peak of the mountain toward the faraway valley].
ولا توجد أي مدارس أو معاهد أو جامعات تقدّم هذا التخصّص في الجزائر، وكانت التجربة الأولى والأخيرة حتّى اليوم هي إنشاء "المعهد الوطني للسينما" الذي انطلق في 1964 وتمّ حلّه في 1968، ضمن مشهد سياسي كان يميل نحو السيطرة على السينما كأداة للترويج. وفيما كان مخرجو الأفلام الأمازيغيّة الأولى محترفين درسوا السينما في مدارس عالميّة كبرى (المعهد الوطني العالي للفنون والعروض البلجيكي، الجامعة الحكومية الروسية للسينما، معهد الدراسات العليا في السينما الفرنسي...) أساسا في دول أوروبا الشرقية وفرنسا-خلال الحقبة الاشتراكيّة في الجزائر، إلا أنّ الجيل الذي تلاهم، المحروم من الاختصاص، واجه ظروفا قاسية للإنتاج.
[The protagonists].
اليوم، في الجزائر، كما في المغرب بالمناسبة، تتجه غالبيّة المنتجين نحو أفلام أمازيغيّة بموازنات صغيرة ويسعون لعرضها عبر شاشات التلفزة، مستنفذين بذلك فرص استمراريّة السينما كفنٍ يعرض على الشاشة الكبيرة.
إلّا أن ذلك لا يعني موتا محتّما، ففي الجزائر حيث تمرّ السينما بفترات إشراق وبفترات تشبه اجتياز الصحراء، يشهد المشهد السينمائي الأمازيغي، منذ سنوات عدّة، فترة نضوج يقوم شبّان خلالها بإعداد أنفسهم في ورش عمل لكتابة السيناريو والإخراج والمونتاج. في بعض المرّات، تظهر لآلئ مثل فيلم "الموجة" لعمر بلقاسمي (2015)، أو "أوعدك" لمحمد يارقي (2016) وهما فيلمان قصيران تجاوزا حدود القبائل والبلد، ويبشّران بسينما أمازيغية مستقبلية.
سينما وطنيّة أو سينما إقليميّة، فئة أو نوع، سينما أمازيغيّة أو سينما ناطقة بالأمازيغيّة، بجميع الأحوال، يبدو أن هذه السينما تعيش فترة نضجها الصامت، مبقيّة الأسئلة التي تطرحها على النقّاد والباحثين، معلّقة.
[ترجمت المقال عن اللغة الفرنسية هنادي سلمان].