[هذه القصة جزء من ملف مخصص للقصة السورية المعاصرة].
هذه المرّة، سأدعوكم للنظر نحوَ الأسفل! ودونَ استغراب! انظروا! فشخصياتي في هذه القصّة هي أقدامٌ ضَخمةٌ موحِلةٌ هائِشة، تدبُّ على الأرض دباً، تدعسُ وتبعثر وتكسرُ كل شيءٍ أمَامها، فتزيدُ ألَمَ الأرضِ ألماً، وخسوفَها خسوفاً...
أقدامٌ، نعم، هي مُجرّدُ أقدام، وليس لها أيّ امتدادِ آخر أو أيّ بعدٍ آخر، هي أقدامٌ بلا رأسٍ وبلا قلب وبلا وجدان، ولا حتى لسان، بلا حوارات، وتشقّ طرقاتِها بعيداً عن الإنسان والزمان والمكان...
فذلك الشبّاكُ الشرقيّ، المُقنطرُ بالرخام، لم يعد نافذةً لنورِ الشمس ولا للهَوى، ولم يعدْ مُكلّلاً بالياسمين، بل أصبحَ سُّخاماً...
سّخام يطلُّ على سُخام، وقطعٌ مُفكّكةُ من ألواحِ الزّجاج والألمنيوم الثّقيل، على شكلِ جرحٍ مفتوح مفجوعٍ لم يضمّده أحد، أو فمٍ فاغر يصرخُ بعد أن رأى العَجَب!
اسقِ العطاشَ، فالعقلُ طاش! يبدو أنّك لن تُروى ولن تشرب ولو كأس ماءٍ واحدة! فبئر المياه العذبة التي في الحديقة لن ترويَ أحداً بعد اليوم، فهي في واقع الحال ليس إلا مِضخّة ألمانية أصليّة، ومن أيّام العزّ، قُبرِت لسنوات، واجتثّت بأيديهم لأنّهم محظوظون، بل ومباركونَ من آلهةٍ ما...
أمّا الفِراش، أقصدُ فراشَ الصوف الذي حَضَن أجيالاً من الصغار منذ أكثر من ثلاثينَ عاماً، فهذا في حقيقة الأمر، لم يعد فراشاً للنومِ، ولا للحُلم، ولا داعيَ بعدَ اليوم لأن يكون وثيراً، فهو الآن مشروعُ مخبأ مُحتمل للذهبِ والفضةِ والأموال...
لم ينتهِ المشهدُ السفلي بعد! أقدامٌ أقدامٌ، ومخالِب شقّت وجه الفراش المطرّز، بحثاً عن شقاءِ العمر... شقّته ونبّشته بنَهمٍ، ففوجِئَت بالعدَم، فلا عُمر فيها ولا حتى شقاء...
نُثِرَ صوفُ الغَنَم المُعطّر بالغار، وبُعثِرَ حتى تشتّت وتمزّق وطار، وطارت معه رائحةُ الصغار، التي راحَت تئنّ وتعوي وحيدةً في هذا المنفى البارد، ليخرِسها الغُبارُ الثقيل أخيراً...
بدأ الحوار أخيراً! وليته لم يبدأ!
أقدامٌ أقدام، ومخالِب وأنياب، تدبّ من غرفةٍ إلى غرفة، ترصُدُ وتشدّ وتسَحقُ وتجمّع، وصوتٌ أجشّ يقول بثقة:
"يا ولد! هل بقي شيءٌ هنا! أريدُ تمشيطَ هذا البيتَ وكلّ بيتٍ، بل كلّ البلد! لا أريدُ أن أرى إبرة، ولو كانَ ثمنُها ليرة!".
وصوتٌ آخرٌ يردّ بحماسة: "كل الأمور على ما يُرام! كما تُريدُ وأكثر يا مُعلّم! سنجتثّ كلّ شيء من جذوره، وحتى نهايةِ أطرافه، ههههههه... إنّه ليس إعلان...ههههه".
نعم، كانوا يجتثون كلّ شيء، فكلّ شيءٍ قابلٌ لإعادة التدوير، بل للتعفيش وللتخزين وللبيع، وبأرخصِ وأغلى الأثمان...
أسمعُ رنيناً من صالون العائلة، رنيناً قوياً يجرحُ طبلةَ الأذنِ حتى شِغافَ القلب... وينتهي بشكلٍ ناعمٍ كرنينِ أساور العروس.
يااااه... إنّه ذلك القيشاني الأزرق، المُدّلّل، والمحمولِ ولعقودٍ ولسنوات بالأكفّ الناعمة ورموش العيون، أذكر "أم كنان" في أيّام التعزيل والتنظيف الموسميّة، كانت تستيقظ قبل الجميع، تشدّ رأسها بمنديلٍ مزهّر، تُشعل المذياعَ على أغنية فيروزيةٍ خافتة، تُمسك قماشة بيضاء ناصعة، لتبدأ بتلميعه وتدليله قطعةً قطعة...
تعيدُ كلّ قطعةٍ إلى مكانها، وتتغزّل بقوامِها المصقولِ الملوّن، إلى أن تنتهي، وينتهي طقسها الموسميّ هذا بإغلاقِ الخزانةِ الزجاجية...
الآن صارَ ما لم يكن في الحسبان، هو تحتَ الأقدامِ يُكسّر... ويُهشّم... ويُسحَق.
نعم، هذه المرّة لم تحمله رموش العيون ولا حتى الأيدي، بل رُمي أرضاً ورُكِل بالأقدام، برعونةٍ وانتقام فالقطع الجميلة الناعمة لا تقوَ على حياةِ الدكّ و(التعفيش)، وليسَ لها راغِبٌ سريع، فهي مُتعبة أكثر من كونها مفيدة...
قال أحدهم بتهكّمٍ: "هذه الجرّة حلوة، بل تُحفة! الله يخليها لأهلها! اكسرها!".
ورماها أرضاً، فتكسّرت، وأصدرت رنيناً، فضَحِك...
قطعةٌ وراء أُخرى، يُمسكها بكلتا يديه، وكأنّه يُمسِك طفلاً رضيعاً، يرفعه عالياً فيضحك، ليرميه في هذه اللحظة، بل ويقذفه نحوَ الأرضِ بقوّة، وهو يُلَعْلِعُ: "هههههههه... يا ولد! بالجمالِ ولا بالمال!" "بالجمال ولا بالمال! شعار المرحلة! ألا يقولون ذلك في نشرات الأخبار؟".
وسَقَطَ باكياً... إنّه ذلك القيشاني الأزرق، المُعتّق، المُزخرفِ بالجمال الحرّ المنمّق، ظلّ يرنّ ويرنّ ومن الألمِ تحتَ أقدامِهم يتفتّق، إلى أن بَقِيَ مَكَانَه، حيثُ نشأ ومُسِحَ جبينه، مَكسورَ الخاطرِ مُحطّم القلب في خيبتِه يغرق...
أقدامٌ أقدام... دَعَسَت فوقَه وهشّمته وحوّلته إلى مزقٍ صغيرة، فالجمالُ يستفزّ الأقدامَ، وإن كانَ غريباً وصعباً، ستركضُ لاهثةً لدعسه، يدعس ويهشّم، يُدعَس ويُهشّم إلى أن يتحوّل إلى فتاتٍ، بل إلى أن يخيّب آمالهم مرّة أُخرى، ليحوّل إلى قطع فسيفسائيّة ناعمة وساحرة الأثر!
أقدامٌ أقدام، وأنيابٌ ومخالِبٌ، سَحقت ونهشت ومزّقت...
لا بل بالمعنى العمليّ الدقيق، رصَدّت وشدّت وجمّعت وحمّلَت، بل أخَذَت وباعت وسوّقت...
وفي النهاية ربِحت! واسترزَقت! هذا هو مبدأ السوق في هذه الأيّام...
بعد ثوانٍ، ومن جديد، ها أنذا أسمَع صوتَ أقدامٍ! لا هي ليست مجرّد أقدام، انظروا هذه المرّة نحو الأعلى! أقدامٌ تحمِلُ أجساداً فيها قلبٌ وذاكرةٌ ووجدان، وتحمل أحضاناً عميقة بأذرعٍ مفتوحةٍ تريدُ البكاءَ وعِناقَ المكان...
امرأةٌ ستينيّة، عيناها دامعتان، بل قلبُها يَدْمَعُ، تضع كفّها على فمها ليخرَس! أم كنان جاءت مع شابين اثنين لتتفقّد شقاءَ العمر...
عشرُ سنواتٍ مَضَت، ولم تستطع خلالها أن تعرف شيئاً عن بيت العائلة، لكنّها عرفت كلّ شيءٍ منذ ثانيةٍ واحدة، بل وبثانيةٍ واحدةٍ فقط، عرفت كلّ شيءٍ وخَرِست قسراً رغم امتلائها بالفجيعة!
فبعينيها رأت الشاحنّة تخرجُ من بيتِها وهي حامِلةٌ ومحمّلة، تأمّلتها جيداً، وودّعت بسلامٍ ما بقي من شقاء العمر! دونَ ولو تلويحةٍ واحدة، خوفاً على شبّانها من سَحقِ الأقدام!
لم يبقَ شيءٌ على حاله، الأرضُ سوداء فاحِمة، الأشجار أيضاً كلّها سوداء إلا من رمانة قانئةٍ متفحّمةٍ وقلبها ملآن...
الجدران كذلك مُشقّقة سوداء، عاريةٌ، تُعلِنُ حِدادَها وتقفُ أمامَ الأمّ، مُغمضةَ الجفنِ، بحسرةٍ وخذلان...
مرّت الأمّ ومعها الشابان، مروا جميعاً من منزلهم مرورَ الكِرام، من الرّدمِ الذي كان حديقة، ومن الفتحةِ المفجوعةِ التي كانت باب المنزل، ومن الخرابةِ المكتئبةِ على نفسها والتي كانت صالوناً، مرّت ومن فوق الحجارة المنكسرة، والأسقفِ المُنهارة، والملاعِق الجائعة، والتماثيل المهزومة، واللوحاتِ المنكّل بها...
مرّت بها جميعاً، وهي على رؤوس أصابِعِها، تمشي برفقٍ وأناة وذهول، لا تومِئ ولا تقول إلا: "يا ضيعان العمر! يا ضيعان!".
بُهِتت الأمُّ وهَاجَرَ لونُها، كما هاجرت عن بيتها أوّل مرّة، هاجَرَ لونُها، وكأنّها لم تسمعْ يوماً ولم تدرِ...
كانت تشدّ على فكيّها كي لا تتفوّه بحرفٍ، فأمام هذا المشهد كلّ حوارٍ سيغدو تافِهاً! (والحكي مو مثل الشوف!).
تشدّ على فكيها فيصطكان وتضرِبُ كفاً بكفّ، وتردّد: "يا ضيعان العمر... يا ضيعان!".
تُنهي ترديدَ جملتها هذه، فتنظُرُ إلى الأرض من جديد، فتعيدُ جُملتها الوحيدة:
"يا ضيعان العمر... يا ضيعان!".
رأت ملابِسَ العائلة مرميّة مُمزّقةً، بعد أن أخرجوها من خزائنها، التي فُكّت وحمّلت وبيعت لاحقاً...
كانت تنظرُ إلى الملابِس المشرّدة المهجّرة كعائلتها، وتقولُ بكلماتٍ تشبِهُ الهلوسات:
"انظر يا شادي إلى هذا الفستانِ الحريري! إنّه لابنتي نادية، زوجتك! ما بك تحدّق به هكذا! فهو كان جميلاً ونظيفاً ومكويّاً أيضاً! لقد قمتُ بخياطتِه بيديّ هاتين، أما قماشتُه فقد اشتريتها من أقدمِ أسواق الشام!"...
وتابعت مُلتفتةً إلى الشاب الآخر، بعد أن نَفَضَت الغبار وأشياءَ أخرى عن معطفٍ شتويّ أسود: "وهذا المِعطف، انظر إليه! لقد كان أنيقاً جداً! هو من الفراء الطبيعي، لقد ورثته عن أمي، آخ ماذا حل به... لقد أمسى كالقطّ الجربان".
تَضْحَكُ من حُزنها، أما الشّابان فكانا يُجيبان إجابتين مُتشابهتين وباقتضاب شديد: "أعرِف يا أمي! أرى يا أمي! لقد حدّثتني نادية! لقد حّدثتني ياسمين! ولم أكن أدرك إلى هذا الحد! لم أكن أتخيّل... يا ضيعان كل ما حرق وهُدّم وسُرق ومزّق".
مرميٌّ على الأرض كلُّ شيء غير قابل للبيع أو للمُتاجرة، لا بل ومُدنّس وملطّخ ومُرجّس ومقذر بمختلف الطرق والوسائل المقززة، فالتقذيرُ أنجعُ من التمزيق، وبالقذارة وحدَها لن تمنحَ الأشياءَ فرصة الحياة من جديد.
مَشَت الأم وسرحت بخيبتها من أوّل البيت حتى آخر غرفة، تتأمل وتحضن وتتذكر...
تتذكّر وتتذكّر إلى أن وقعت عينها على قطعة زرقاء صغيرة، كانت مخبأة خلف الباب، وبلونها الفيروزيّ والقيشانيّ الأزرق لفتت أنظار الأم، ولم تعد تدري أهذا المشهد من الذاكرة الزرقاء أم من الحاضر الأسود، فشدّتها بسرعة وشمّتها...
حاوَل الشّاب مَنْعَها بعد أن سألها بخوفٍ وحَذَر: "ما هذه القطعة القِماشية الصغيرة، أبعديها عنك...! لن تكونَ أفضل من كُلّ شبر هنا! كل شبرٍ مقذّر وعمداً! يا لهذا العقاب!".
لم تكترث الأمّ، بل رَاحَت تشمّ القطعة بعمق، وقالت: "هذه القطعة لم تُدّنس بعد، انظر! غرزها التي غرزتها يدايَ قبل ثلاثين عاماً مازالت على حالها، مشدودةً مُنمّقة، أما رائحتها فما زالت ياسميناً! ياسمين! في إمكانك تتنفّس عِطْرها! لقد سقطت للتوّ من العلية، يبدو أنها رفضت الذهاب معهم... ألم أخبرك!
تابعت الأمّ حديثها، وضَحِكَت بطريقة هستيرية: "لقد رأيتهم! ومنذ دقائق! رأيتهم بأمّ عيني وهم يحمّلون ويعفّشون!".
فتحت يديها وحضنت المكان، وقالت: "أخذوا كلّ شيء... وخَرِستُ!".
ربت الشّابُ المَخنوق على كتفيها، وشقّ على وجهه ابتسامةَ قطعت سيلَ دموعه: "وما هذه القطعة الصغيرة يا أمي؟".
أجابَت الأمّ بعد أن اجتاحتَ وجْهَها بهجة مفاجئة: "هذا الثّوب ذو الشبرين هو ثوب خطيبتك ياسمين، عندما كانت ابنة سنتين!
فوجئ، وضحكَ من قلبه، وأخذ الثوبَ وضمّه إليه بحنان، شمّه كثيرا حتى انتشى، وتوسّع صدره، فصرخ: "حقاً... لا أصدق! هذا ثوب ياسمين! كم ستفرح به! ما أجملك يا ياسمين!".
انتهى المشهدُ بخروجهم من المكان الذي كانَ منزلاً، يجرون معهم ذيول الخيبة، ويحملون على أكفهم ثوبَ ياسمين!".
أقدامٌ أقدام، وخطوات قلقة مرّت ومرّ معها شهران، كأنهما شبران، وتزوّجت ياسمين بحفل زفاف متواضع، وحينما دَخَلَت قفصها الذهبيّ المُستأجَر، وأُغلِقَت الأبواب، قرّر زوجها أن يُفاجئها، مَشى إلى غرفة النوم بأقدامٍ هامسة، وشدّها من يدها، فتح الخِزانة، وأخرجَ الثوب الأزرق ذا الشبرين منها، وسَألها مُمازحاً: "هل تعرفين هذا الثوب؟ ما رأيك به؟".
فتحت عينيها وحدّقت، أطالت التحديقَ وكأنّها تريدُ أن تتحقّق، إلى أن شَعَرَت بدوارٍ زمنيّ شديد: "هل هذا هو حقّاً الثوب الأزرق؟".
وصرخت كطفلة وعيناها تبرق فرحاً: "يااااه هذا ثوبي... ثوبي عندما كنت صغيرة! أليس كذلك! ياه كم يشبهه! قل لي! أرجوك هل هذا فعلا ثوبي! ياه لا أصدق!.
أرجوكَ! هل وَجَدت شيئاً آخر! هل وَجَدْتَ الصّور؟ صوري عندما كنت صغيرة! أريدُ ولو صورةً واحدة! أرجوك!".