[هذه القصة جزء من ملف مخصص للقصة السورية المعاصرة].
[لميس الزين، من مواليد مدينة حلب، صدر لها "حدث غداً"، و"أرملة سوداء"، و"أحلام منتصف الشوق" (شعر)، و"الفناء الخلفي" (رواية)].
أنهى بكري الكومجي إفطاره، وارتدى ملابس الشُّغل؛ بدلة من الكتّان الذي كان أزرق قبل أن تغطّيها شحوم السيارات، ويتحوّل إلى الكحلي المُموَّه بالسواد.
وقف على الشرفة الصغيرة مطلّا من العُلوِّ الشاهق للطابق السادس على شارعه الذي لم يعد شارعا؛ فتلال الردم في الشارع الضيّق وصلت بين صفَيْ المباني على الجانبين وقطعت الطريق على أي سيّارة يسوّل لها سائقُها الدخول.
لن يَسمَح لحمّود باللّعب بالدراجة الجديدة في هذا الشارع المترَب المحجّر، لا مخاطر جمّة أو مخاوف دهس لا سمح الله، مع ذلك لا ينبغي لعجلات الدرّاجة الجديدة أن تنبعج أو تتخرّش بالسير بين أكوام الحجارة. هو لم يشترِ الدرّاجة بعد، لكنّ عدم الشراء لا يعني عدم وضع قوانين للّعب.
صبّ من شايه الثقيل في الكأس المصفرّة، وأضاف ملعقتَيْ سكَّر، نفث دخاناً من لفافة الحمراء الطويلة وهو يتأمل الأبنية التي شهقت فيما مضى فوق مساحات صغيرة، حتى بدا منظر الشارع الضيّق من موقعه كمن يطالع قعر جبّ.
حين اشترى هذا الملحق لم تُغرِهِ المباني المصطّفة عاليةً متلاصقةً، ولا الإطلالة المشرِفة على كلِّ ما حولها، بقدر ما أغراه سعرٌ مقدورٌ عليه لمثوى يلمُّه وعروسه. ملحقٌ غير مرخّص، ما المشكلة؟ ليس الوحيد الذي يشتري بيتاً مخالفاً، كلُّ ما بعد الطابق الرابع في هذا الشارع مخالفات تمَّ تمريرها بمبالغ تُدفَع من تحت الطاولة لمتنفّذين في البلدية. ها هي اليوم وقد أودت القذائف بطوابقها العليا فبات بعضها مقصوص الرأس، واشتكى عددٌ منها ألماً في الخاصرة بعد فقدِ واحدة أو أكثر من الشرفات وما يجاورها من جدران ربما، فيما دُمِّرت مبانٍ أخرى فتكوّمت على نفسها كقعيدٍ يستجدي سبل النهوض، أكوامٌ صار تسلُّقها الملعبَ المتاحَ لأولاد من عاد إلى الحيّ من ساكنيه، بعد رحلة النزوح المضني.
"مين بتحبّ ماما إلا بابا؟"
"بحبّ البسكليت"
يبتسم بكري الكومجي متذكّراً، يقطّب جبينه من جديد عاقداً العزم على ألّا يدع سعاد تنام عند أهلها ثانية. البيت موحشٌ من دون "أب بكري"، كما يحلو له أن يناديه، لم تستقبله ذراعا حمّود وهو يركض إليه حين دخل البيت أمس، لم يحمله كما اعتاد، ويقذف به إلى الأعلى ليعود ويتلقّفه معانقاً ومقبّلاً؛ الأمر الذي يستنفر سعاد لنوبة صراخ تتكرّر كلّما حمل أحد الأولاد قبل أن يبدل ملابسه ويغتسل. هي كفّت منذ زمن بعيد عن التذمّر من طبيعة عمله المعاندة لجميع أنواع المنظفّات، لكن نظافة الأولاد خطٌّ أحمر يتجاوزه بكري كل مساء، تجاوزات لا سبيل للنجاة منها إلا إذا وصل البيت وكان حمّود نائماً. عندها سيُضطرُّ إلى الاغتسال أولا قبل التوجُّه إلى سريره ليوقظه، ويأخذ حصته اليومية من القبلات والأحضان، ثم لينعم بلحظته الأجمل، وهو يكرّر عليه سؤال كل يوم "مين بتحب أكتر أنا إلّا أمّك؟"، يُوارِب الصغير مُطالباً بالحلوى التي وُعِد بها، فيكرّر بكري سؤاله إلى أن يحصل على الخيار الثالث "البسكليت" جواباً لا يبغي سواه، ليطلق ضحكته مرفقة بسيل من القبلات يمطرها على خدِّ الوغد الصغير.
مضت سنتان على عودة بكري الكومجي إلى صلاح الدين التي ظلّت لأكثر من أربع سنوات مسرحاً لمعارك كونية وقذائف تسّاقط من السماء وأخرى تنبع من الأرض، خرج المسلحون منها فكان من أول العائدين. إنّه الآن في بيته، لن يمنّ عليه أخو سعاد أنْ تفضّل عليه بإيوائهم في بيته، ولن تضرب بنته حمّود لأنه لمس ألعابها. صحيح أن أكوام الأتربة والهدم لا تزال تسدُّ الطرق، لكنّه متفائل، الكهرباء ما تزال مُغيَّبة عن الحيّ أيضاً، لا بأس؛ فمولّدة الأمبيرات ستفي بالغرض؛ "الوضع الخدمي إلى تحسُّن" هذا ما يقوله التلفزيون، والتلفزيون لا يكذب!!
حين حملت سعاد غضب، ما كان عليها أن تحمل وهم محشورون في غرفة في بيت أخيها، لكنّها الحُجَّة المعتادة "غلطة"، ثم التخفيف من وطأة الخبر بـ"يأتي الولد، فيأتي رزقه معه". كاد الصبيّ يتمّ سنته الثالثة، وبكري لم يزل نازحاً مرّةً في بيت أخته، ومرّةً في بيت ابن حميه، ظلَّ دائم الحمد أنه لم يضطّر إلى المبيت في خيمة على رصيف أو في حديقة. وبعودته إلى بيته اكتمل النعيم، اللهمّ إلا من أحلام صغيرة يتربّع على رأس قائمتها درّاجة جديدة بثلاث عجلات لحمّود الغالي، درّاجة حمراء لامعة كالتي لابن خاله اللئيم، والتي كان يمنعه من ركوبها.
هو لم يحصل على درّاجة حين كان صغيراً، المرّة الأولى التي ركب فيها درّاجة كانت في محلّ المعلّم آكوب. كان في الصفِّ الرابع حين عاد بجلاء مدرسيّ متفوّقا في مادتين فقط: الرياضة والسلوك. يومها نظر أبوه حامل شهادة محو الأميّة إلى علامته في الرياضيات، وصفعه:
"واحد يا ابن الكلب؟ أنا الحمار جبت بزماني أربعة".
ووجدت الأم في رسوب بكري الشعرة التي قصمت ظهر الطريق إلى المدرسة جيئة وذهاباً بلا طائل، والفرصة المؤاتية ليتعلّم بكري مصلحة تنفعه. تناولت عباءة كلح سوادها، عقدت المنديل على رأسها وسحبت ابنها مطبوع الخدّ بوسم أصابع الأب الغليظة من يده، متجّهةً إلى محلِّ المعلم آكوب الكائن في ناصية الشارع.
"الله يخلي أولادك يا معلم آكوب .. اللحم لك، والعظم لنا"
نظر المعلم آكوب إلى الفتى الهزيل نظرة تردُّد، ثم وافق على أن يجرّبه في الشغل أسبوعاً، نجح الفتى باختبار الطاعة قبل اختبار المخّ النظيف حين أبدى جلداً على الدوام دون تملّص أو تأفّف، ليبدأ العمل عنده كأجير، ويستخدم لاحقاً الدرّاجة الموجودة في المحلّ لإحضار ما يطلبه منه المعلّم آكوب.
كبر بكري، ومات المعلّم آكوب، فبحث عن معلّم جديد لصنعة لا يجيد غيرَها، وهكذا التصق لقب الكومجي باسمه كما تلتصق بقعُ زيت السيارات ببدلته التي كانت زرقاء.
كان قد أوشك أن ينتهي من تبديل عجلة سيارة مرسيدس لسيّدة ثرية، حين رنّ جوّاله النوكيا الأسود الصغير، آخر أجهزة جيله التي انقرضت، وبقي هو متماسكاً بشريط لاصق، وقد امّحت من واجهته معالمُ الحروف والأرقام كليّة. إنه زياد صديق الأيام الجميلة قبل النزوح، وقبل أن يُوفّق إلى عملٍ عند أحد أرباب المال والسلطة:
"بكري الحبيب .. إلك ولا للديب؟"
"خسى الديب"
"هَمَرْ المعلم أبو العزّ"
"هَمَرْ وعطلانة؟ مستحيل"
ضحك زياد وهو يجيب:
"ليس تماماً. هو يريد فحص الدواليب للتأكّد من أنّ كل شيء على ما يرام لأنه مسافر بها غداً صباحاً. ولا يريد أن نأخذها إلى ورشة"
"زوجتي تنتظرني عند أهلها"
"لن نتأخر. ساعة وربما أقل، ولا تنسَ أنّ هناك رزقة طيبة"
حين تلامس الأحلام جيبكّ لا تفكّر بما هو أبعد؛ (رزقة طيّبة) تجسّد حلم الدرّاجة الحمراء أهمّ من زوجة تنتظر. هو يحبُّ سعاد لكن درّاجة حمّود أولى، وما إنْ يشتري الدراجة سيأتي دورها ويبدأ بجمع ثمن معطف الجوخ الأسود ذي الياقة المصنوعة من فرو ناعم لامع. سعاد لم تطلب المعطف، لكنه يدرك رغبتها به، تماماً كما يدرك أنه لو امتلك ثمنه، وأعطاه لها لتنازلت عنه لصالح الأجساد الصغيرة، ثمّ ما ضرورة المعطف ومعظم قريباتها ومعارفها هنَّ من فئة مواطن معتَّر؟ تلك نعمة كبرى لمن لا يملك ثمن الأحلام.
أمّا حلمه هو فلم يكن يخصّه، إلا بشكل غير مباشر؛ قطعة ملابس لسعاد أكثر شفافية من معطف الجوخ، كان يمرُّ بها في واجهة محل (لانجري) تتكون من قطعتين لم تستَهلكا من القماش مساحة أكثر من رغيف خبز يتناوله في وجبة الإفطار. ظل لأسابيع يتخيّل سعاد ترتديها ذات خميس، إلى أن اختفت من واجهة العرض التي كان يمرُّ بها في طريق عودته، واختفى معها الحلم بالحميميّة وبالخميس الأحمر، أما حلم الدرّاجة فلن يثنيه عنه شيءٌ.
استأذن المعلم وانيس بالانصراف أبكر قليلا، واتّصل بزياد للذهاب إلى فيلّلا أبي العزّ، ومعاينة الهَمَر المدلّلة التي لا تحبّ النزول إلى الورشات. يحقُّ لها الدلال؛ قامة شامخة، وهيكل متين بزوايا حادّة، ومصابيح علوية؛ تفرّدٌ يمنح المتربّع خلف مقودها شعوراً بالفوقيّة والتحدّي. كان قد وقع في هواها حين رآها أوّل مرّة تقف على الإشارة فهمس: "مثلكِ لا ينبغي أن يقف على الإشارة"، لكنه لم يتطاول بأحلامه يوماً إلى درجة اقتنائها أو حتى قيادتها.
أنهى مغازلته للهَمَر الجميلة بسلاسة فائقة، وكان المعلّم أبي العز سخيّاً معه فأرسل له فوق ما توقّع؛ إكرامية أضافها مع نفحة سيّدة المرسيدس إلى ما سبق أن جمعه فلم يعُدْ بإمكانه الانتظار أكثر. أي تأجيل قد يعني تبخُّراً مباغتاً للمبلغ في مصارف منزلية ما أنزل الله بها من سلطان، أمرٌ حدث مراراً ولن يسمح بتكراره، سيتوجّه إلى شارع بستان كل آب حيث أكبر تجمّع لمحلّات الدرّاجات، قبل أن يتورّط بالمرور إلى البيت وتعريض الكنز الذي في جيبه إلى التقسّيم والذوبان.
اشترى بكري الدرّاجة، تماماً كما أرادها وتخيّلها؛ حمراء وبثلاث عجلات، وجرس صغير، ومقعد خلفي سيكون ملائماً لزينب التي بدأت للتوّ تخطو أولى خطواتها.
حمل حلمه الذي صار حقيقة، وتوجّه إلى البيت، سيغتسل ويذهب لإحضار سعاد والأولاد من بيت أهلها، تخيّل فرحة حمّود وهو يرى درّاجته، سعاد ستسأله: من أين تدبّرْتَ ثمنَها، وستخترع بدائل تراها أولى.
كان ينتظر سيّارة أجرة تُقِلُّه هو والدرّاجة الجديدة حين رنّ جوّال النوكيا فتجاهله، غالباً هو زبون من معارفه يحتاجه لتغيير عجلة في هذا الوقت المتأخر.
عاود الجهاز الرنين، فلم يجِدْ بدّاً من وضع الدراجة أرضاً وإخراج الجهاز من جيب البنطال الخلفي، نظر إلى الشاشة، فأسرع في الإجابة:
"أهلين معلمي. أمرني"
"يا بكري الدنيا مقلوبة عليك. جيرانك بصلاح الدين اتّصلوا إلى الورشة، وقالوا البناية وقعت، الله يجبر مصيبتكم. احمد ربك يا بكري أنّ حرمتك والأولاد عند أهلها، بالمال ولا بالعيال"
تجمّدت الكلمات في حلق بكري، شعر بأن الدنيا تدور به، وستطرحه أرضاً، لكنّ الدرّاجة التي يحملها منعته من السقوط، لكأنها كانت هي من تحمله وليس العكس.
فتحت سعاد الباب وقد عقدت الدهشة لسانها لوهلة، ثم انطلق صوتها مؤنّباً بنبرةٍ مكتومة:
"هل جُنِنْت؟ لماذا أتيت إلى هنا بثياب الشغل؟
اكتفى بالإطراق حامداً الله أنّ انقطاع الكهرباء أخفى دمعة انبجست من عينه.
كرّرتْ بإلحاح:
"بكري! أجبني. هل حصل شيء؟"
تماسك وهو يرفع الدراجة التي وضعها أرضاً، قائلا:
"نعم. لقد اشتريت الدرّاجة".