[هذه القصة جزء من ملف مخصص للقصة السورية المعاصرة].
[حسام خضور، ولد في اللاذقية عام 1952. رئيس تحرير مجلة جسور ثقافية، مترجم وقاص وروائي. من أعماله المترجمة: "الجائزة"، و"من نحن"، و"لغز رأس المال". من أعماله القصصية المنشورة: "عربة الذل"، و"ليس في الجنة قبور". من أعماله الروائية المنشورة: "وباء السلطان"، و"العودة من الأبدية"].
نيسان ربيع يافع يدرج في شبابه بثقة، يقدم لوحاته الملونة بصحبة المطر والشمس وأقواس القزح الدافئة كأن كل شيء يُعَدّ لمعرض جميل ورداً وزهراً وخضاراً وبدايات ثمار لا تتأخر.
نيسان السوري ليس نزقاً، ليس شرساً. نيسان السوري مدخل أنيق إلى حديقة، إلى بستان، إلى برية، إلى لون في السهل والجبل، في الشاطئ والبادية. ورد نيسان السوري ما أجمله!
***
لما وصل سامر إلى سوق البلدة ناقلاً منتجات القرية وجد المحلات مغلقة. تساءل، لكنهم أخبروني أن الأوضاع مستقرة، وعاد الناس إلى أعمالهم المعتادة. أخرج هاتفه المحمول. كلَّم أحد عملائه الذين يستقبلون منتجاته الزراعية والحيوانية.
- خير، السوق مسكِّر. وينكن؟
- الشباب هيك بدُّن. بنصحك ترجع.
- ما في إمكانية تجي تستلم البضاعة؟
- الوضع غير آمن.
- تعال، ما في حدا.
- طيِّب، رَحْ إِجي.
- ناطرك.
لم يكد يضع هاتفه في جيبه حتى برزت مجموعات مسلحة من اتجاهات مختلفة تقدمت باتجاهه. عرف بعضهم. طمأنه ذلك. هم أصدقاء.
***
لا محالة أنا ميت. الموت ينهش جسدي بسكاكينه. إنها مجموعة من أجساد آدمية تشتمني وتسبّ أهلي.
شهدت وفاة أبي. مات على فراشه وهو يحدثنا عن سفره النهائي. أوصانا ألا نجزع. ودّعنا واحداً واحداً كأنه عرف متى ستفارقه روحه: "أنا مطمئن أنكم تعملون جيداً. أرضكم خصبة ولا خوف عليكم." بكينا رغماً عنا، وضد رغبة أبي.
لم تتخلف عنه أمي طويلاً. كأنه كسر قلبها. فارقت الحياة بلا حكي. جلطة قاتلة لم تمهلها لتودعنا كما فعل أبي.
يأتي الموت في ضيعتنا صديقاً؛ كما لو أنه رحمة.
ليس وقتي لأموت. هذا قتل. الموت صديق. لا تقتلوني! لا تقتلوني! ثم بعد لحظات أحس أنها دهر، "اقتلوني! اقتلوني!" شعر أن السرعة في القتل رحمة. مثل الفارق بين طرق الإعدام. شعر أنهم اختاروا له طريقة الموت بألف جرح. كان يستعجل الموت وكانوا يبطئونه.
"لو لم أكن مقيداً. لو عرفت نواياهم. لم يخطر في بالي أنهم يكتنزون هذا الحقد الأسود. هم أصدقائي حتى اللحظة التي بدؤوا فيها يقطعون لحمي." فكر أن يستخدم قدميه؛ لكنه، في اللحظة عينها، تلقى طعنتين بسكينين في ظاهرَي فخذيه، وأخريين في بطتَي ساقيه، جعلته يصرخ صرخة مكلومة مدوية، "يا بَيِّي! يا أمي!" ثم صرخة قصيرة جداً، "وَلَكْ، يا عيروط، من سيحميك مني؟" وتعالت من الحشد شتائم تنال من أمه وأبيه.
انسحب عدد صغير من الحشد الذي يحيط به. لم يره. أعماه الألم. الدم يتصبب في عينيه، لم يعرف مصدره. جسده كله ينابيع دم. دم طازج دافئ.
لم تعد ساقاه قادرتين على حمله. هوى على الأرض. تسربل بالتراب. ثم أخذ وضعية النوم على جانبه الأيمن. كأنه استراح. لم يعد يُسمع له صوت. لكن البحر نفث تنيناً هائلاً غطى البلدة من أقصاها إلى أقصاها، والأحياء البحرية خرجت إلى سطح الماء، وأخذت ترقص رقصات غضب جماعية. وسُمِع صوت رعد في أعالي الجبال، أخذ يقترب سريعاً. ارتعبت البلدة عندما عصفت بها ريح عتية، وأخذت أغصان الأشجار الضخمة، على جانبي الطرقات، تتحرك وجذورها المتشعبة الراسخة في الأرض تبرز على السطح من دون أن تقع شكلت موكباً طاف حول الجسد الهاجع كأنه كعبة، في الطواف الأول رمت أوراقها، وفي الطواف الثاني رمت أزهارها، وفي الطواف الثالث مالت أغصانها إلى الجسد الهاجع المغطى بأوراقها وأزهارها، تحولت إلى ما يشبه الأيدي قدمت له تحية وداع.
***
لا تزال رائحة دمه في منخري صديقه خالد الذي استبقوه ليشهد أن الجيش قتله، ومثَّل به لأنه يموِّن سوق البلدة بالخضار والمنتجات الريفية. صوَّروا مقطعاً من فيلم بحضور شيخ، ظهر خالد يقول فيه: "سامر صديقي وصديق السوق. كل اللي بيشتغلو بالسوق بحبّوه. ما إلو شبيه بالتعامل؛ صادق، متسامح، كريم. لا أحد يخسر معه. بيجبلك رزقة ما بتعرف منين. الله يرحمو." اكفهرّ وجه الشيخ. اكفهرت وجوه المجموعة حوله.
قال الشيخ بلهجة آمرة: "لكنك لم تقل لي من قتله. لماذا قتلوه؟"
تلعثم. كاد لا يعرف ماذا يقول. تنحنح أحدهم، وأومأ إليه بإشارة بعيداً من عين الكاميرا، قوَّلته: "نعم شيخي، قتلو الجيش. بَدّو فتنة بين الجبل والمدينة. بس ما رح فِيُنْ. الناس كُلُنْ بِحِبو سامر. هادا شاكر وسعد وعمر، وبركات، ومحمد، وخالد كُلُن زبوناتو في سوق الخضرة، وحلفو يسموا السوق بإسمو" وكاد يقول الله يرحمو؛ لكنه أمسك عن ذلك في آخر لحظة.
شجب الشيخ فعل الجيش الشائن، "هذه جريمة هدفها إثارة فتنة افتعلتها قوات النظام العميل." ودعا الوطنيين في الجيش إلى تشكيل كتائب تحمي المواطنين من بطش النظام. تراءى له أن جلاوزة جهنم تفعل ما يجب أن تفعله بروح المجرم الذي نال عقابه على الأرض بأيدي جند الرحمن. شعر الشيخ بالراحة أنه قام بواجبه العقائدي. نهض ودّع المجموعة ودعا لها بالتوفيق مرتاحاً لأدائها. رافقته عين الكاميرا ومريدوه حتى خرج من الباب.
***
لم يذهب الشيخ حسن إلى الجامع، توضأ وصلّى في البيت. أراد أن ينام لعله يحلم بعذابات جسد سامر في القبر، وروحه في جهنم. تعوَّد أن يحلم بما أراد ورغب واشتهى في يقظته. وقد رغب اليوم أن يرى جسد سامر يُعذَب في القبر شرّ عذاب، وينكل جلاوزة مالك بروحه شرّ تنكيل ــــ "عسى ديدان عملاقة تنهش لحمه، وتأتي ضباع ضارية تحفر القبر، تكسر عظامه وتطحنها. وجبة دسمة للديدان والضباع. أما الروح فسيحملها جلاوزة مالك إلى شر درك في النار. لا أريد أن تتبخر وتتلاشى."
لم يرَ الشيخ ما تمناه هذه المرة. ولما استفاق أبدى استياءه من كل شيء في البيت، لا سيما زوجته، خلود، التي أدركت، بالتجربة، أن أفعالاً جنسية سادية سيمارسها عليها هذه الليلة. ارتعبت. أسرعت إلى كريماتها وزيوتها ومليناتها، أسرفت في إضافتها إلى مداخلها ومخارجها.
كما أيقنت خلود، طلب الشيخ أن تُحضِّر أشياء السهرة. أركيلة بالحشيش، حبة زرقاء، سفرة عامرة، فستان شفاف أحمر، شريط أغانٍ راقصة، عصا.
لم يقل مساء الخير عند عودته من الجامع بعد صلاة العشاء، بل زَوَرَها، وعندما أغلقت الباب، وبدأت بإعداد الأركيلة، قال لها: "أنت عاهرة."
ابتسمت وردت بتهذيب: "حرام عليك، أنت زوجي." وخرجت إلى الشرفة، جلبت مشعل الفحم، وضعت جمرتين على رأس الأركيلة، وضعت مبسماً جديداً، أخذت عدداً من الأنفاس، قبل أن تناوله النبريج.
شعوره بالاستياء من أنه لم يرَ في منامه الديدان تلتهم جثمان سامر، والضباع تكسر عظامه، لم يغادره. "ليتني لم أنم." تفاقمت انفعالاته. بدأ يلهث وهو يزفر أنفاس الأركيلة.
- "أين حبتي الزرقاء؟
ناولته واحدة وكأس ماء. بلعها وشرب كأس الماء بطريقة وظيفية. لاحظت زوجته ذلك، وشعرت بالارتياح.
خلال برهة وجيزة تغيرت طباعه. صار كأنه ليس شيخاً. تعرى. تعرت. تخاصرا، رقصا. ثم همد فجأة، ونظر إليها نظرة اتهامية. وطلب حبة زرقاء أخرى.
تصارعت في رأسها أفكار متناقضة. الثانية خطيرة، ماذا دهاه هذه الليلة؟ ماذا ينوي؟ كل أفعاله ستقع عليّ. لا، لا، الشيخ حسن ليس طبيعياً هذه الليلة. يستعجل كل شيء. تظاهرت بتجاهل طلبه، وعرضت مساعدتها.
- بدك ساعدك؟
شعر بالحرج، وأنه ضعيف، وأن زوجته أقوى منه. قال في سره، لن أدعها تتمتع بهذا الشعور. سأعرض عنها، سأظهر قرفي منها. يجب أن تعرف أنها هي السبب وأن الحبة الزرقاء شيء يستر عيوبها هي، وأنها غير قادرة على إثارتي.
- أنت مقرفة. العيب ما بالحبة، العيب فيك. اللي بيشوفك عمرو ما بيشتهي النسوان، روحي من وِجِّي.
- شبك؟ كمان الحشيش ما أخد مفعولو؟
- وَلٍيكْ، اللي بيشوفك، ما بتأثر فيه لا حبة زرقا ولا حشيش. انقلعي من وِجّي. (وصفعها).
- وللا، ما قاعدتلك بهالبيت، يا ختيار النحس.
***
نهضت، ارتدت ثيابها، وخرجت.
تبعها، وَقْفي، وِين رايحة؟ كانت تنزل الدرج. "لا تروحي! ارجعي! وأسرع خلفها".
على الدرج، تعثر، "تدركل". سبقها وكاد يُسقِطها معه لولا أنها أمسكت بالدرابزون وأخفق بالإمساك بساقها. أسفل الدرج فارق الحياة. شخصت عيناه. انفغر فمه من دون أن يقوى على إطلاق صرخة تطلب المساعدة.
لكن صرخة من زوجته تعالت: "مات الشيخ!"، جعلت مسلحاً عند باب الدار يدخل، ويُفاجأ بالشيخ جثة عارية هامدة أسفل الدرج.
أخرج المسلح هاتفه المحمول واتصل بالقائد. أخبره بالحادث.
أمره القائد ألا يفعل شيئاً وأنه قادم.
***
سأل القائد زوجة الشيخ حسن:
- شو صار؟ شو بدك تخبرينا؟
- الله وكيلك، ما بعرف شي.
- لا تعرفي شي. صار عنا شهيد جديد قتلو جيش النظام.