[هذه القصة جزء من ملف مخصص للقصة السورية المعاصرة].
كان سهراب يدفع كل يوم المرضى أمامه متنقلاً بهم من طابق إلى آخر في ردهات المستشفى.
تجتاح أنفه رائحةُ العقاقير والسيرومات والمنظفات الممزوجة برائحة الخراء والقيء والطعام البائت. تبقى معه هذه الخلطة الدسمة من الروائح طوال اليوم إلى أن يخلد إلى النوم. مع أنّ عمله يقتضي أن يدفع أجساداً مريضة طوال اليوم، إلّا أنه كان يشعر بالفخر وهو يفتح الأبواب المقفلة أمامه ببطاقة خاصة يعلّقها على صدره. على البطاقة اسم سهراب الكامل ووظيفته والقسم التابع له: "سهراب مُرتضى/ عامل نقل/ قسم خدمات المرضى".
يستيقظ عادةً في الخامسة صباحاً. عليه أن يكون في المستشفى الساعة السادسة. يبدأ مناوبته من غرفة عاملي النقل في الطابق الأرضي. يراجع لائحة المرضى الذين ينتظرون في غرفهم كي ينقلهم أحد عاملي النقل على أسرّة نقّالة أو كراس متحرّكة. وظيفته أن يأخذهم إلى حيث يجرون فحوصاتهم الشعاعية أو عملياتهم الجراحية ثم يعيدهم إلى غرفهم.
عمله يشبه عمل العتّال. الفرق أنه ينقل البشر عوض الحقائب. لكنه يحبّ عمله الذي يسمح له بالتعرّف كل يوم على وجوه جديدة. صحيح أنها وجوه مريضة، ترمقه أحياناً بنظرات حاسدة، لكنه أدمن على هذا اللقاء اليومي مع المعاناة والألم، فوراء كل وجه قصّة تستفزّ فضوله.
نظر سهراب إلى لائحة المرضى. الدور كان لمريضة اسمها كاثرين. توجّه إلى الطابق الخامس دافعاً أمامه كرسياً متحركاً. خرج من المصعد، توجّه إلى اليمين، عبَر ممرّاً طويلاً إلى الغرفة رقم ٥٥٤. كانت كاثرين امرأة في السبعينات على الأغلب، عظامها بارزة كأنها لم تأكل شيئاً منذ أسابيع طويلة. ظلال الموت تحوم حول هيئتها المتضائلة. جلدها خارطةٌ من الكدمات الملوّنة. شعرها الأبيض متخشّب، فقد كامل حيويته كأنه رأسُ مكنسة متّسخة مهملة. لا يحب سهراب أن يفكر بهذه التشابيه لكنها تجتاح رأسه رغماً عنه. كانت نائمة، تختبئ إبرة السيروم في أحد أوردة يدها اليسرى، وشريط الأوكسجين ينتهي عند فتحتي أنفها. "مرحبا"، قال سهراب بصوت عال.
فتحَتْ كاثرين عينَيْها ببطء. ابتسمتْ عندما رأته. دبّتْ بعض الحيوية في وجهها المليء بخطوط طويلة. حدّق سهراب في وجهها. عجوز هزيلة ومريضة، لكنْ شيء ما يبرق في عينَيها. كل شيء في وجهها كان يرزح تحت وطأة المرض والشيخوخة، إلّا هذا البريق.
"إلى أين ستأخذني أيها الشاب الجميل؟"، قالت كاثرين بصوت ضعيف.
ارتبك سهراب: "اسمي سهراب من قسم النقل. سآخذك إلى قسم الأشعة".
ابتسمت كاثرين: "أنا محظوظة أن شاباً مثلك سيأخذني".
"شكراً"، أجاب سهراب وهو يحكّ مؤخرة رأسه: "سأساعدك على الانتقال إلى الكرسي المتحرك".
"هل تظنّ أن هذه المرأة العجوز لا تستطيع أن تحرّك جسدها"، قالت كاثرين وهي تبتسم: "مع ذلك، لا أمانع إذا كنتَ راغباً في مساعدتي أيها الشاب".
ضحك سهراب بعصبيّة: "سأساعدك بالتأكيد". قرّبَ الكرسي من سرير كاثرين، وبرفق شديد أحاط ظهرها المقوّس من الخلف بذراعيه. نقل جسدها الهش إلى الكرسي المتحرّك. بعد عدّة دقائق، استقرّتْ كاثرين في الكرسي. كانت أنفاسها متقطّعة وقطرات صغيرة من العرق تبلّل جبينها. غطّاها سهراب بالملاءات وبدأ يدفعها من الخلف.
بعدما انتظمتْ حركة صدرها ثانية أدارت كاثرين رأسها قليلاً نحو اليمين وسألتْ: "كم عمرك سهراب؟".
"٢٦ عاماً"، أجاب.
"هذا عمر جميل. استمتعْ به قدر استطاعتك. الناس في عمرك يمكنهم أن يغيّروا العالم"، قالت كاثرين ثم أطلقت ضحكة خافتة: "لكن لا تفوّت شبابك في التفكير كثيراً".
ابتسم سهراب. وصلا إلى باب المصعد. ضغط على زرّ النزول ومكثا ينتظران: "أحاول أن أستغل وقتي في أشياء مفيدة. لا أريد أن أندم على شيء في المستقبل"، قال وهو يتطلّع في وجه كاثرين بحنان.
انقبض وجه كاثرين وانطفأ للحظة البريق في عينَيها. كانت يداها تضغطان على صدرها كأنها تحاول أن تطرد شيئاً ما. بعد لحظات، استرخى وجهها ثانية. فتحتْ عينَيها ببطء وهي تبتسم: "هذا الألم الملعون يُفاجئني أحياناً… قل لي سهراب، ما هي مخططاتك المستقبلية؟".
"أخطّط للحصول على شهادة في علم النفس"، أجاب سهراب بصوت قوي: "أُنهي الآن دورات دراسية تحضيرية كي أستطيع بعد ذلك التقدّم للجامعة. أنا هنا كي أتحصّل على بعض المال. يعني عمل مؤقت فقط. أحبّ علم النفس".
"برافو… جميل جداً. عليك أن تفعل ما تحبّ. كل ما ينقصنا هو بعض المثابرة والإصرار والصلابة"، قالت كاثرين وهي تلوّح بإصبعها النحيفة صوب سهراب. بقيت يدها معلّقة في الهواء للحظات قصيرة ثم هوتْ بيدها على الكرسي كأنها قامت بمجهود عظيم، وظلّت تحدّق في الفراغ أمامها. بعد فترة صمت قصيرة أكملتْ: "لا تستسلم أبداً". سحبتْ كاثرين نفساً عميقاً ضعيفاً ثم عادتْ إلى صمتها.
أعلن المصعد برَنين قصير عن وصوله. دفع سهراب السرير وضغط على زرّ الطابق الأول حيث يقع قسم الأشعة. بدت كاثرين مرتاحة.
توقف المصعد عند الطابق الأول. دفع سهراب الكرسي أمامه: "هل تسمحين لي بسؤالك عمّا كنتِ تعملين كاثرين"، سأل وهو يحاول أن يُبطِئ من سرعة الكرسي المتحرّك.
"لا أبداً. لا مشكلة. لقد كنتُ رسّامة".
لم يكن بإمكانه رؤية وجه كاثرين وهو يدفعها من الخلف. نبرة صوتها لم تكن تشي بعاطفة محدّدة.
"جميل جداً. أنا برفقة فنانة. أنا المحظوظ إذاً".
لم تقل كاثرين شيئاً. وصلا إلى نهاية أحد الدهاليز، دفع سهراب بالكرسي المتحرك صوب اليمين واستطاع للحظات أن يرى طرف وجهها. كانت عيناها مغلقتين وشفتاها متباعدتَين قليلاً كأنها تحاول أن تقول شيئاً. "محظوظون زوجك وأولادك. يعيشون مع فنّانة"، قال. ما إن لفظ جملته الأخيرة حتى ندم. ربما لا تحب الحديث عن عائلتها.
"ليس لديّ أولاد ولم أتزوج"، قالت كاثرين ببطء.
"أوه. أنا فعلا آسف. لم أقصد أن أكون حشرياً".
"لا تعتذر عزيزي. سعادتي كانت في أن أرسم. آخرون يجدون سعادتهم في مكان آخر. لكلّ منا سعادته الصغيرة الخاصة. الخيارات كلّها جيدة".
"بالضبط. أوافقك تماماً"، قال سهراب بصوت عال.
وصلا إلى غرفة الفحص الشعاعي. تمنّى سهراب لو كان لديهما وقت أكثر للكلام. طلبتْ منه العامِلة التقنية أن يترك المريضة قرب باب الفحص. أوقفَ الكرسي في المكان المحدّد وركع أمام كاثرين. كانت متكوّرة حول نفسها كقطّة صغيرة متعبة، والبريق نفسه في عينيها، إلّا أنه كان أكثر حزناً هذه المرة. أمسك بيدَيها المعروقتين وحاول ألا يضغط عليهما كثيراً: "سُررت جداً بالتعرّف عليك كاثرين".
"عندما تصبح عجوزاً، تكتسب مقداراً ضئيلاً من الحكمة"، قالت كاثرين وعلى وجهها ابتسامة صغيرة.
"أنا واثق أن كل شيء سيسير على ما يرام. عاملُ نقلٍ آخر سيُعيدك إلى غرفتك، ولكني سأمرّ غداً للاطمئنان عليك، وقد نكمل محادثتنا. أوكي. حظّاً سعيداً".
***
في صباح اليوم التالي، ذهب سهراب إلى المستشفى في الوقت نفسه. بعدما انتصف النهار، مرّ على غرفة كاثرين ليسلّم عليها. كانت نائمة على السرير. سحب كرسياً وجلس قربها. مع أن وجهها بات مليئاً بتجاعيد عميقة متفرّعة كجذور شجرة موغلة في القدم، إلّا أنه يستطيع أن يحدس بأنها كانت امرأة جميلة جداً. نظر إلى يديها المعقودتين فوق بطنها الضامر. كانت مفاصلها مليئة بعقد منتفخة.
بعد عدة دقائق فتحت كاثرين عينَيها. بدت مبتهجة عندما رأتهُ، مع أن الإعياء كان واضحاً عليها: "أنت هنا عزيزي سهراب؟".
"قلتُ لك أني سأمرّ للسلام عليك. كيف تشعرين اليوم؟".
"لا بأس. وفرحة جداً برؤيتكَ. كيف يومكَ حتى الآن؟".
"جيد جداً، العمل اليوم خفيف… كنتُ أفكر لو أمكنني رؤية بعض رسوماتك"، قال سهراب مبتسماً.
بدا على كاثرين كأنها تفاجأتْ قليلاً. لكنها سرعان ما ابتسمتْ ابتسامتها المـُتعَبة وبدتْ فرِحة كطفل: "طبعاً. سأحاول إحضار بعض لوحاتي من البيت لتراها. بيتي أشبه بمعرض من كثرة اللوحات التي رسمتُها ولم أعد أجد لها مكاناً. في السنوات الأخيرة صرتُ أرسم الكثير من البورتريهات لأصدقائي ولنفسي. أنا واثقة أنها ستعجبك كثيراً. رسمتُها وقد بدأ بصري يضعف، فصرتُ أملأ التفاصيل التي لا تستطيع عيناي رؤيتها بخيالي. يمكنك أن ترى الكثير من الأشياء بخيالك سهراب. الخيال هو حاسّة منفردة لا يستعملها الكثير من الناس، لكني أظن أنها أهم الحواس. لذلك لا تهملها أبداً. أحياناً ما تراه بخيالك أصدق بكثير".
"معك حق كاثرين. فمع أن التوهّم يُعتبر مرضاً نفسياً، لكن كثيراً ما يقول المتوهمّون أشياء تبدو صحيحة جداً ومنطقية".
ابتسمتْ كاثرين. كان في ابتسامتها هذه المرة بعض المكر: "يبدو أنك خبير في النفوس البشرية عزيزي. على المرء أن يحتاط منك". أطلقتْ ضحكة خافتة ثم داهمها سعال عنيف.
"على مهلك كاثرين"، قال سهراب عاقداً حاجبيه: "أرجوك يجب أن ترتاحي، أظن أني أتعبتكِ بحديثي".
توقفتْ كاثرين عن السعال وأخذت نفساً عميقاً: "بالعكس. أتمنى لو كانت مفاصل يديّ على ما يُرام وصحتي تسمح لي، لكنتُ رسمتُ لك بورتريه تحفظه عندك. سأبدأ بعينيك. فيهما طاقة غامضة. عندما أرسم وجهاً، أبدأ بالعينَيْن. العينان نافذتان ترى من خلالهما روح الإنسان الذي أمامك. العينان فاضحتان"، قالت كاثرين جملتها الأخيرة وهي تضحك.
"ستتحسّنين وترسمينني كاثرين. أشعر بهذا بقوة".
رفعتْ كاثرين يدها بصعوبة في الهواء: "أشكرك عزيزي على تفاؤلك". صمتتْ للحظات ثم أردفتْ: "يجب أن أُريك صور معرضي الأخير. من كل المعارض التي أقمتُها لرسوماتي، كان هذا من أكثر معارضي نجاحاً. لقد كلّل مسيرتي كلها. كان الحضور كبيراً، وعدا عن الإعجاب الكبير الذي سمعتُه مباشرة من الكثير من الناس، امتدح الكثير من النقّاد أسلوبي وجرأتي ورشاقتي في الرسم. كان يجب أن ترى صوري وهم يتحدثون عني في الصحف". كانت تغمز بعينيها.
"عزيزتي كاثرين. أنا سعيد أني تعرّفتُ عليك".
"لا شيء يُعادل لحظة تشعر فيها أنك ممتلئ من الداخل، من دون حسرة أو ندم".
كانت عينا كاثرين تضيقان وهي تتلفّظ بكلماتها. اقترب سهراب منها وأمسك بيدها: "كاثرين. كلامك جميل. يجب أن نتحدّث لفترة أطول، ولكن علي الذهاب الآن. سأعود غداً. انتبهي على نفسك الآن. أنا متأكد أنك ستتحسنّين يوما بعد يوم، وستخرجين بأحسن حال من هنا".
"شكراً عزيزي. أراك قريباً"، قالت كاثرين ثم أغلقتْ عينَيها.
***
وصل سهراب إلى المستشفى. لم ينم جيداً البارحة. تطلّع إلى لائحة المرضى وبدأ بالعمل.
بعدما انتهى من نقل عدد من المرضى، توجّه إلى غرفة كاثرين. كان سريرها فارغاً. بجانب السرير كانت فتاة في العشرينيات من عمرها توضّب أغراض كاثرين. جمد سهراب عند عتبة الغرفة. انتبهتْ الفتاة لوجوده.
"مرحبا. هل تبحث عن جدتي؟"، قالت الفتاة بنبرة خافتة.
"نعم. أنا أعمل هنا. كاثرين جدّتك؟ تعرّفتُ على كاثرين أثناء نقلي لها وأصبحنا أصدقاء. أردتُ أن أسلّم عليها".
أطرقتْ الفتاة بنظرها نحو الأرض. سرتْ رجفة ناعمة في ذقنها: "لقد توفيت جدتي اليوم صباحاً. تدهورتْ صحتها بسرعة…". غطّتْ الفتاة عينيْها بيدها وصارت تبكي.
انقبض قلب سهراب. شعر بكرة من الألم تتدحرج من حنجرته صوب صدره. عضّ على شفتيه ثم قال بصوت متهدّج: "يا إلهي، كنا نتحدّث البارحة. لم أتوقع أن تسوء حالتها هكذا. أنا آسف. آسف جداً. كانت امرأة رائعة".
"…".
"أعلم أنك حزينة ومشغولة الآن. لكن هل تسمحين لي بسؤال؟".
"طبعاً تفضّل".
"تقولين كاثرين جدّتك! لكن الذي فهمتُه من كاثرين أنها لم تتزوج وليس لها أولاد"، قال سهراب بتردّد.
رفعتْ الفتاة حاجبيها: "هل قالت لك هذا؟ غريب، لا أدري لماذا فعلتْ ذلك. فجدتي لديها ثلاث بنات وولد واحد… والعديد من الأحفاد".
"أوكي"، قال سهراب بنبرة خافتة: "هل كانت ترسم؟".
"ترسم؟ ليس تماماً… كانت مغرمة بفن الرسم وتقضي أوقاتاً كثيرة في المتاحف"، صمتت الفتاة قليلاً كأنها تحاول أن تتذكّر شيئاً ما: "حسب ما أخبرتْني مرْةً، كان لها محاولات في الرسم في شبابها لم تكملها. لكن لا أذكر أني رأيتُها ترسم أبداً". صمتتْ الفتاة قليلاً ثم أردفتْ: "عفواً، لكن أسئلتك غريبة قليلاً".
بقي سهراب صامتاً. كان ينتقل بنظره بين سرير كاثرين الفارغ والنافذة المطلّة على سماء زرقاء صافية.