تقدم "جدلية" للقراء العرب مقالات مختارة تشكل إضافة فكرية في حقلها، في مجال الفكر والفلسفة والسياسة والأدب، تحت عنوان "مقالات تأسيسية".
المقالات تتجاوز الكتابة الصحافية إلى كونها تحليلاً فكرياً يحفز على طرح أسئلة جديدة حول الموضوع المناقش، ويهدف إلى تقديم فكر تنويري مختلف يقدم للقارىء مادة تضيء له مساحات في الفكر والواقع غير مألوفة. وهذه المقالات التأسيسية التي يشرف عليها أسامة إسبر، ستُترجم من لغات مختلفة كالإنكليزية والإسبانية والفرنسية والإيطالية، كي تقدم فكرة متكاملة عن الفتوحات الفكرية في هذه البلدان وتطور فن المقالة الذي يقدم أفكاراً جديدة في حقول مختلفة. ستنشر جدلية المقالات بشكل منتظم، من أجل تعميم الفائدة على القراء وبناء جسور مع ثقافة الآخر.
الإيمان والعقل والدولة
ستيفن نادلر، أكاديمي وفيلسوف أمريكي
يُشار إلى القرن السابع عشر في معظم الأحيان باسم عصر العقل في الروايات الشعبية لتاريخ الفلسفة الأوربية، ويُرجَّح أنَّ سبب ذلك هو التمييز بينه وبين ما يُسمّى عصر الإيمان، الذي يُقْصد به المرحلة القروسطية. إلا أن الشكوك في دقة التسمية يمكن أن تعتري حتى المراقب العادي للطريقة التي واصلت بها السلطة الكنسية (الكاثوليكية والإصلاحية على حد سواء) ضبط المسائل الفكرية، وليس العَقَديّة فحسب، في أنحاء القارة. لم تبدأ الأمور مباشرةً. ففي سنة ١٦٠٠ حكمت الكنيسة الكاثوليكية في إيطاليا على جيوردانو برونو بتهمة الهرطقة وأحرقتْهُ في المحرقة لتجرؤه على إعلان أن الكون لانهائي وأن الأرض ليست مركز الكون. وبعد ست عشرة سنة، حذّر رجل الدين نفسه الذي ترأس محاكمة برونو، وهو الكاردينال روبرتو بيلارمين، غاليليو وطلب منه أن يتوقف عن مناقشة الكوبرنيكية. هذا، ورغم أن غاليليو وعدَ بالطاعة، إلا أنه واصل التصريح علانيةً بأن الأرض تدور حول شمس ثابتة. وبسبب هذه الجرأة اقتيد للمثول أمام محاكم التفتيش في روما سنة ١٦٣٣ وأُجبر على الاعتراف بأنَّ أراءَهُ مغلوطة وحُكم عليه بالإقامة الجبرية لبقية حياته. ووُضع كتابه الذي يحمل عنوان "حوار حول النظامين الرئيسين للكون" في فهرس الكتب الممنوعة.
كانت معاملة محكمة التفتيش لغاليليو مزعجة بما يكفي لديكارت، الذي كان يبعد ألف كيلومتر إلى الشمال، ما دفعه في العام نفسه إلى سحب كتابه الكوزمولوجي "الكون" من النشر.
كنتُ قد بدأت بمراجعة أطروحتي كي أضعها بين يدي الناشر حين علمتُ أن بعض الأشخاص الذين أذعن لهم والذين يمتلكون سلطة على أفعالي لا تقل عن السلطة التي يملكها عقلي على أفكاري رفضوا نظرية فيزيائية نشرها منذ مدة قصيرة أحدهم (غاليليو). لن أقول إنني قبلتُ هذه النظرية، أريد أن أشير فقط أنه قبل شجبهم لم ألاحظ أي شيء فيها يمكن حُسبانه ضاراً للدين أو الدولة، وعليه لا شيء كان سيمنعني من نشرها من تلقاء نفسي، لو أن العقل أقنعني بها. وهذا جعلني أخشى أنه من المحتمل أن هناك خطأ في إحدى نظرياتي…. كان هذا كافياً لجعلي أغير قراري السابق بنشر وجهات نظري. (١).
بعد عدّة سنوات، حين طرح ديكارت أنموذجاً ديكارتياً للكون في كتابه "مبادئ الفلسفة"، كان حريصاً جداً على أن يقدمه كمجرد "فرضية" بينما تشرح المظاهر الفلكية فإنها "يمكن أن تكون غير صحيحة ولا تمثل الحقيقة كاملة". وكي يلعب اللعبة بشكل آمن، قال إن الأرض ثابتة، لكن لأنَّها تحافظ على موضعها نفسه بالنسبة إلى المادة التي تحيط بها مباشرة والتي تحركها حول الشمس. أخرت حيلته المشاكل مع الكنيسة فحسب. وفي١٦٦٣، بعد ثلاث عشرة سنة من وفاته، وُضعت كتابات ديكارت في فهرس الممنوعات، وحُكم عليها بأن تبقى هناك "إلى أن يتم تصحيحها".
عرف سبينوزا أنه بينما كانت الجمهورية الهولندية الكالفينية أكثر تساهلاً مع الاتجاهات الفكرية التقدمية وحتى "حرة التفكير" من جيرانها الكاثوليك، إلا أن هناك حدوداً للتسامح الهولندي الشهير. وكان هذا صحيحاً بخاصة في النصف الأول من القرن، قبل مرحلة الحرية الحقيقية التي دشنها تعيين دي فيت حاكماً لولايات هولندا. وكانت جامعة أتريخت في أربعينيات القرن السابع عشر، هذا إذا أخذنا مثلاً واحداً فقط، ساحة معركة رئيسة للمجادلات حول الكوبرنيكية والديكارتية. كان هناك الكثير من المقاومة من القيادة الأكاديمية (والمؤلفة بشكل رئيس من رجال إكليروس محافظين) لـ"الإبداعات الخطيرة" في العلم والفلسفة. وكان الأساتذة الديكارتيون في الطب والفيزياء وفروع أخرى يتعرضون لمعاملة قاسية من رئيس الجامعة، فويتيوس وحلفائه. وحتى في ستينيات القرن السابع عشر كان أوصياء العروش الهولنديون العلمانيون والليبراليون بعامة ميالين إلى أفعال القمع الفكري التي حرض عليها رجال الدين، كما شهدت على ذلك معاملة كويرباخ في أمستردام. زج المجلس البلدي بصديق سبينوزا في السجن في ١٦٦٩، وكانت الدعوة المرفوعة ضده مدفوعة من المجلس الكنسي الإصلاحي.
لا يعني هذا أن الكنائس الكاثوليكية والإصلاحية كانت ضد العلم. إذ رغم الحكاية المدرجة في المقررات الدراسية والتي تُروى في معظم الأحيان حول قضية غاليليو، فإن فكرة أن الدين كان معارضاً للتقدم العلمي في النظرية والتطبيق دُحضت دوماً بصفتها خرافة في تلك المرحلة. ذلك أن كثيراً من النشاط العلمي في العصور الوسطى والمرحلة الحديثة المبكرة في الفيزياء وعلم الفلك وعلم الميكانيكا والكيمياء، ومجالات أخرى حصل في سياق المؤسسات الدينية، بما فيها الكليات اليسوعية والكليات الجامعية المليئة برجال دين محافظين جداً. كانت هذه مؤسسات محافظة جداً، كما هو معروف، وكان على التفكير العلمي والفلسفي أن يحترم حدوداً معينة مقحمة من خارج تخصصه. ربما كانت الكنيسة الكاثوليكية داعماً رئيساً للبحث العلمي، لكنها اشترطت أنه يجب أن تكون نتائج ذلك العلم متسقة مع عقائدها اللاهوتية. وبين الكاثوليك، كان البابا وممثلون معينون (وبينهم كبار الأساقفة المحليون) هم الذين يقررون إن كانت نظرية عن الكون أو تفسيراً للأجرام السماوية يُعدّان خطراً على الإيمان أم لا، وفي الأقاليم البروتستانتية لهولندا، كانت وظيفة وعاظ الكنيسة في المجالس الكنسية أن يحرسوا الدين مما سمته السلطات في جامعة ليدن تطبيق الفلسفة على تحيّز علم اللاهوت.
صحيح أن برونو أنكر بعض العقائد القطعية للكاثوليكية بما فيها الثالوث المقدس، وبدا أن كويرباخ بذل جهوداً مركزة كي يسخر من العقائد المقدسة القيّمة بالنسبة إلى كل من المؤمنين الكاثوليك والإصلاحيين. لكن لم يكن غاليليو ولا ديكارت مهتمين بأن يتناولا المواضيع الدينية مباشرة. وترك ديكارت في الحقيقة هذا الطريق كي يتجنب التورط في المجادلات اللاهوتية. كان يريد أن يُترك وحدَهُ كي يقوم باستقصاءاته في الفلسفة الطبيعية. كيف يمكن لمجرد نظرية في المادة أو شرح لقوانين الحركة أن تكون غير متسقة مع عقائد اللاهوت، أو أن تشكل تهديداً للإيمان؟
هذا، ومن سوء الطالع، لم تكن الأمور بسيطة في القرن السابع عشر. وفي الحقيقة، يبدو السؤال ساذجاً على نحو خاص، وديكارت (رغم احتجاجاته) لم يكن متفاجئاً جداً من ردود الفعل التي أثارتْها فلسفته لدى رجال الدين. بالنسبة لرجال الكنيسة الأوائل، لم تكن المشكلة مع الديكارتية، أو أي نظام فلسفي "جديد"، مهما كانت ادعاءاته دنيوية، هي أن نظرياته غير صحيحة تجريبياً أو تعاني من عيوب منطقية داخلية بل أنَّ الهجمات ومحاولات الحظر والمنع) مثل مرسوم 1642 في أوتريخت الذي يحظر تدريس أي فلسفة ما عدا فلسفة أرسطو( كان الدافع وراءها ما بدا، مهما كان غامضاً للعيون غير الإكليركيّة، أنه يمكن أن يكون ردود فعل دينية فلسفيّة.
هذا، وقد عدّت السلطات الكنسيّة بحكم وظيفتها بعض النظريات العلميّة مناقضة لحقائق عن الله والطبيعة جاء الإيمان بها من إخبار الكتاب المقدس بها إما على نحوٍ صريح أو على نحوٍ مضمر؛ ذلك أنَّ الكتاب المقدس كان قد نصّ على رد الشمس فتوقفت عن الاستمرار في حركتها في السماء من أجل إطالة النهار في أحد أيام الحرب*، وهذا يعني من دون ريب أن النظام الكوبرنيكي القائل بمركزية الشمس يجب أن يكون مرفوضاً. غير أن سبب الرقابة الدينية على الأفكار العلمانية أكثر تعقيداً في حالات أخرى كما تبين، خاصة بما أن فهم ما ينتمي بشكل ملائم إلى العقيدة الكنسية صار أكثر اتساعاً. لكن هذه المرة، وعلى نحوٍ فعليّ، استطاعت التفسيرات الأرسطية السكولاستيكية القديمة لعدد من المعتقدات الكاثوليكية والإصلاحية أن تحقق لنفسها مكانة العقيدة الدينيّة. واعتقد ديكارت أن ما يقوم به يقع في حقل الميتافيزيقيا فحسب، لكنه عرف بسرعة كبيرة أن بعض رجال الدين الكاثوليك يعتقدون أن تفسيره الجديد للجسم يعني الحضور الحقيقي للمسيح في خبز القربان.(٧) إن الشرح الخاص لتحوّل خبز القربان بوساطة الصور والكيفيّات الأرسطية المحدثة كان متأصلاً على نحو عميق في علم اللاهوت الكاثوليكي الذي صار جزءاً جوهرياً من اللغز، وكان إنكار التفسير الأرسطي (كما فعل ديكارت جوهرياً) معادلاً لإنكار المعجزة ذاتها.
وبناء على ذلك راقبت مجالس الكنيسة الكاثوليكية والإصلاحية، كحراس للإيمان، كلاً من المسائل الدينية والمسائل الفلسفية والعلمية. وافترضت أن لها سلطة ليس على ما كان مسألة تدين فحسب بل ما كان مسألة حقيقة.
إن فكرة أن تقوم المعايير الدينية، وخاصّة النص المقدس والمؤوّلون الطائفيون، بتعريف الحدود التي يجب أن تُوضَع على العلم والفلسفة، هو الهدف المحوري لهجوم سبينوزا في مؤلَّفه "رسالة". إن الفكرة التي يطرحها هو أنه حتى إذا اعتقدت أنه من المحتمل أن هناك صراعاً بين التخصصات الساعية إلى المعرفة من ناحية، وتشجيع التدين من ناحية أخرى، فإنك ستعاني من سوء فهم عميق لطبيعة الإيمان وعلاقته بالحقيقة والعقل. إن التشوش وعدم التسامح اللذين يولّدهما سوء الفهم هذا لا يصيبان الأوساط الأكاديمية العلمية ودراسة الفلسفة فحسب بل الكومنويلث بعامة. بالنسبة لسبينوزا، إن الانقسام بين الإيمان والعقل، وبين الدين والفلسفة، هو حصري مثل الانقسام الذي يوجد بين صفتي "الفكر والامتداد" في ميتافيزيقيا الطبيعة لديه.
تلقى سبينوزا رسالته الأولى من فان بليجنبرغ في كانون الثاني\يناير ١٦٦٥، ذلك أن التاجر الذي من درودريخت، والذي عرف اسبينوزا عن طريق دراسته لكتاب ديكارت "مبادئ الفلسفة"، شرع بمراسلته كي يعرف المزيد عن وجهات نظر سبينوزا في الشر، وفي هذه النقطة، لم يكن يمتلك على ما يبدو شبهة بأن الفلسفة الأشمل التي يعتنقها سبينوزا هي فلسفة سيجدها مزعجة في الحقيقة. "أرى أنك ستنشر بعد وقت قصير الأفكار الميتافيزيقية في شكل موسع (كتاب "علم الأخلاق")، أتطلع كثيراً إلى كلٍّ من هذين، لأنني أمتلك توقعات كبيرة حيالهما". بعد خمس سنوات، صُدم فان بليجنبرغ مما قرأه في كتاب "رسالة"، وانكب على تأليف دحض موسع لما سماه "الكتاب التجديفي".
وفي رسالة بعثها في كانون الثاني، كتبها بالهولندية، شرح فان بلجينبرغ لسبينوزا "قاعدتين عامتين تحكمان دوماً مسعاي للتفلسف". إحداهما "المفهوم الواضح والمتميز لعقلي"، وهذا أمر سيوافق عليه أي ديكارتي جيد. أما القاعدة الثانية فتتعلق بـ "الكلمة الموحاة، أو إرادة الله"، والتي تشترط أنه "حين تبدو معرفتي الطبيعية متناقضة مع هذه الكلمة، أو لا يمكن مصالحتها معها بسهولة، فإن هذه الكلمة تمتلك سلطة كبيرة بالنسبة لي بحيث أنني أفضل أن أشكك بالمفاهيم التي أتصورها واضحة على أن أضعها فوق، أو في تعارضٍ، مع الحقيقة التي أجدها موصوفة لي في ذلك الكتاب".
لم يوافق سبينوزا على هذا الحكم في الفقرة الافتتاحية لرده بالهولندية (وهي لغة اعترف بأنه لا يعبر عن نفسه بها جيداً): "أرى أننا نختلف ليس فقط حول الاستنتاجات التي يمكن التوصل إليها عن طريق التفكير العقلي من المبادئ الأولى، لكن حول تلك المبادئ الأولى نفسها، بحيث أنني أعتقد بعد لأيٍ أن مراسلتنا يمكن أن تصب في صالح تعليمنا المتبادل".
يتابع ليشرح أنه "بما أنني أدرك أنه حينما يتم تقديم دليل إليّ لا جدال فيه، أجد أنه من المستحيل تقبُّل الأفكار التي تلقي بظلال من الشك عليه، فأنا أوافق تماماً على ما يظهره لي عقلي من دون أي شك في أنني تعرضت للخديعة فيه، وحتى لو كان ذلك الكتاب المقدس مناقضاً له، فلا بدّ أن أفحصه. ذلك أنَّ الحقّ لا يضادّ الحقّ."
يبدو ظاهرياً أن سبينوزا يقدم في هذه الرسالة ما دُعي مقاربة " عقديّة" للعلاقة بين الإيمان والعقل: يجب فهم مبادئ الإيمان ومقولات الكتاب المقدّس بطريقة تنسجم مع التصريحات الحقيقية للعلم والفلسفة. وقد سبق أن كرر ابن ميمون وميجير كثيراً أن الكتاب المقدس، بصفته مصدراً للحقيقة مُوحى به، يجب أن يُؤول بشكل مجازي أينما كان هناك تأويل حرفي لا يتساوق مع الحقيقة المشروحة عقلياً، بالتالي إن الدوغمائي يلح بعامة أن الحقيقة واحدة، وأن الإيمان يجب أن يُكيف مع العقل. بالمقابل تبنى فان بليجنبرغ ما دُعي بـ "الموقف الشكي"، والذي بمقتضاه يجب على العقل (الذي يقول المتشككون تقليدياً إنه ملكة ضعيفة وغير موثوقة، وعلى نحو خاص غير ملائم في حقل ترنسندنتاليٍّ وسببيِّ مثل الدِّين أن يخضع للإيمان حين لا تتساوق مكتشفاته مع حقائق أوحى بها الله. إذا أعطت الدوغمائية الأولوية للعقل البشري، فإن الشكية تصر أن العقل يجب أن يخضع للوحي.
بعث سبينوزا رسالته إلى فان بلجينبرغ قبل بضع سنوات من بداية تأليفه لكتاب "رسالة". ويمكن الاستنتاج أنه إما أن ملاحظات سبينوزا لفان بلجينبرغ لا تعكس وجهة نظره الحقيقية حول المسألة (وربما كان لدى سبينوزا سبب جيد كي يخفي آراءه الحقيقية عنه)، أو أن وجهة نظره تطورت بعد أن وضع جانباً كتاب "علم الأخلاق" كي يتفرغ للمسائل اللاهوتية- السياسية. أيا كان الأمر، من الواضح أن سبينوزا في كتاب "رسالة" يرفض كلاً من الدوغمائية والشكية١١ ويذهب إلى أبعد من ذلك مبيناً أن الفلسفة والدين لا علاقة لهما ببعضهما بعضاً مطلقاً في الحقيقة. فالفلسفة سعيٌ إلى المعرفة؛ أما الإيمان الديني فيتعلق بالطاعة والفعل. وتُقيّم الفرضيات الفلسفية بحسب قيمة الحقيقة فيها، وتوسع النظريات الحقيقية إدراكنا للعالم ولأنفسنا. أما الفرضيات الدينية فتُقيَّم بحسب عمقها العَقَديّ وقيمتها التحفيزية، ومن المفترض أن تلهم فينا حباً لله وسلوكاً أخلاقياً حيال الآخرين. إن هذا الفصل بين حقليْ الفلسفة والدين هو في قلب حجة سبينوزا لموضوع كتاب "رسالة في السياسة": إنه الدفاع عن "حرية التفلسف".
كما رأينا، إن التعاليم الجوهرية للنص المقدس أخلاقية: أحببْ جارك. هذا أيضاً مبدأ قابل للاكتشاف من قبل العقل وحده، لأي شخص متفلسف بما يكفي وقادر على فهم ما هي الفضيلة حقاً. لكن القول بأن النص المقدس يعلِّم حب الإحسان بصفته كلمة الله لا يمكن أن يكون مؤسساً بالاحتكام إلى أي شرح عقلاني، بل اكتُشف بالأحرى عن طريق فحص النص المقدس نفسه.
إذا كانت هذه الوصية المبدأ الأعلى للدين الحق، كما يصرُّ سبينوزا، فإن المبادئ التابعة إذاً للإيمان تقتصر فقط على تلك الفرضيات التي تشجع على طاعته. "لا يتطلب الإيمان عقائد صحيحة كثيراً كالعقائد الدينية… ولا يتطلب بوضوح إيماناً عَقَديّاً حقيقياً، بل تلك المعتقدات الضرورية للطاعة فحسب، أي تلك التي تقوّي إرادة المرء كي يحب جاره". إن الذين يجدون دافعهم للسلوك الفاضل في الكتاب المقدس لا في شروح كتاب "الأخلاق"، لن يتعلموا من الكتابات النبوية إلا تلك الأمور التي يكون الإيمان بها أكثر فائدة، وحتى ضروريّاً لتشجيع محبة المرء لله ولجيرانه البشر.
في الفصل الرابع عشر من كتاب "رسالة"، يعدد سبينوزا ما هي تلك المعتقدات الأساسية، وكذلك أسباب التفكير بأن هذه المعتقدات ضرورية لطاعة قانون الله:
١- إن الله، بوصفه كائناً أعلى يوجد بشكل أكثر سمواً ورحمة، وهو نموذج الحياة الحقة، ذلك أن كل من لا يعرف أنه موجود ولا يؤمن بوجوده لا يستطيع طاعته ولا يعرف أنه القيوم.
٢- أن الله واحد لا شريك له، إذ لا أحد بمقدوره الشك في أن هذا أيضاً مطلوب بشكل مطلق للإخلاص الأعلى وإبداء الإعجاب بالله وحبه، ولا ينبعث الإخلاص والإعجاب والحب إلا من تفوقِ واحدٍ بالمقارنة مع آخرين.
٣- أن الله كلي الحضور، وكل الأشياء مكشوفة له: لأنه إذا ظُن أن الأشياء مخبأة عنه، أو أن الناس لا يعون أنه يرى كل شيء، ستعتريهم شكوك في إنصاف عدالته، التي يدير بها كل الأشياء، أو على الأقل لن يكونوا واعين لها.
٤- أن لله حقاً وسيطرة كاملة على كل شيء، ولا يفعل أي شيء لأن القانون يجبره على ذلك، لكنه لا يعمل إلا انطلاقاً من متعته الخيرة المطلقة ونعمته الخاصة، ذلك أن كل شيء مقدر على نحو مطلق كي يطيعه، لكنه غير مجبر على أن يطيع أحداً.
٥- أن عبادة الله وطاعته تتألفان فقط من العدالة والإحسان، أو من حب المرء لجاره.
٦- أن جميع الذين يطيعون الله بالعيش بهذه الطريقة يُنقذون فحسب، أما البقية، الذين يعيشون تحت سيطرة المتع فهم ضائعون، إذا لم يؤمن البشر بهذا بقوة لن يكون هناك سبب يجعلهم يفضلون طاعة الرب على متعهم.
٧- أخيراً، أن الله يغفر ذنوب التائبين، إذ لا يوجد أحد بريء من الذنوب، بالتالي إذا لم نؤكد هذا فإن الجميع سييأسون من هذا الخلاص، ولن يكون هناك سبب لإيمانهم برحمة الله، علاوة على ذلك، كل من يؤمن بقوة أن الله يصفح عن ذنوب البشر منطلقاً من الرحمة والنعمة اللتين يدير بهما كل شيء، ويصبح لهذا السبب ملهماً أكثر بحب الله، فإن هذا الشخص يعرف حقاً المسيح وفقاً للروح والمسيح هو فيه.(٢)
إن فرضية سبينوزا هي أن شخصاً يؤمن فقط بأن هناك إلهاً حراً وعادلاً ورحيماً يعرف كل شيء ويمتلك قدرة على كل شيء، وهو على وجه التحديد قيّوم على مخلوقاته، إن شخصاً كهذا سيطيع بإرادة وانسجام الوصية المقدسة لمحبة الله وسيعامل الآخرين بعدالة وفضيلة محاكياً هذا التصوير لله في سلوكه الخاص ولا علاقة لمكانة هذه المعتقدات بحقيقتها. وفي الحقيقة، لا ينبغي أن تكون حقيقية مطلقاً. وتوخياً للدقة (أي من منظور سبينوزيٍ) هناك عدد منها مزيف (وهذا ليس مفاجئاً خاصة إذا كنا نعرف أن مؤلفي النصوص المقدسة لم يكونوا متعلمين). إن الله (أو الطبيعة) ليس عادلاً ومنصفاً، فهو لا ينصب نفسه قيّوماً علينا، ومُثيباً ومعاقباً. وبينما يمكن أن تكون المعتقدات الأخرى صحيحة حين تُؤول بشكل ملائم (الطبيعة والله واحد، والعلة القوية لكل شيء)، فإن ما يمنحها قيمة ليس حقيقتها؛ بل فعاليتها العملية.
لا تشرح مقولات الإيمان أي شيء عن التجسدات والانبعاثات وإنجاب العذراوات والسعير المُلتف باللهب أو متع الفردوس، ولا تقارب الصلوات ولا المراسيم ولا الطقوس، ولا تطلب اقتناعاً بالمعجزات، ولا تفسيراً لنشوء الكون. يصمت الإيمان حين يتعلق الأمر بفيزياء السماوات أو تكوّن الأجرام السماوية. ويمنح أيضاً الحرية لكل شخص كي يتصور طبيعة الله كما يشاء. و"سواء أكان الله ناراً، أم روحاً، أم ضوءاً، أم فكرةً، أم شيئاً آخر، فإن هذا غير ذي صلة بالإيمان". وفي المسائل التفصيلية لعلم اللاهوت الميتافيزيقي "لا يهم ما المعتقدات التي يؤمن بها إنسان ما". فقد تكون وجهات نظر المرء حول أمور كهذه صحيحة أو مغلوطة، طالما أن الإيمان بها صادق. ويعتمد هذا كله على ما يفضي إلى الطاعة، وسيكون هذا مختلفاً لدى كل شخص. و"من واجب كل إنسان أن يكيّف هذه العقائد الدينية مع فهمه الخاص وأن يؤولها لنفسه بأية طريقة تجعله يشعر بأنه يستطيع قبولها باستعداد أكبر وبثقة وإخلاص أكبر". ما يدعوه سبينوزا إيمانه "الكوني" أو "الكاثوليكي" هو واحد محدود، موجّه بشكل واضح نحو توسيع السلوك الأخلاقي إلى الحد الأعلى ودفع الجدل الديني إلى الحد الأدنى.
يبدو إصرار سبينوزا على أن هذه العقائد ضرورية للإيمان والدين الحق غريباً، خاصة إذا كان بعضها مزيفاً. (٣) سيتوقع المرء منه أن يقول، بالأحرى، إن الإيمان بالله بصفته جبّاراً وعادلاً ورحيماً فعال جداً في التشجيع على طاعة كلمة الله وممارسة العدالة والإحسان، وربما هذا لا غنى عنه للجماهير. لكن الزعم بأن هذه الفرضيات ضرورية للإيمان يمكن أن يبدو متناقضاً مع وجهة نظر سبينوزا الخاصة بأن بعض الناس يمكن أن يُقادوا نحو الفضيلة والدين الحق من طريق التأمل الفلسفي بدلاً من الكتابات النبوية. كيف تستطيع هذه المعتقدات، التي تشكل تصوراً تقليدياً جداً، وحتى تصوراً تجسيمياً للإله، أن تكون جوهرية للطاعة والخلاص حين يطرح كتاب "علم الأخلاق" نفسه ممراً عقلانياً بشكل تام وأكثر أماناً إلى "البركة" وحب الله؟
على أي حال، إن الشخص الذي يحب الله وجاره منطلقاً من "معرفة فكرية أو دقيقة لله" يكون في موقع مختلف جداً عن الشخص الذي يفعل هذا دون أن ينجز هذا الوضع التعرفي الأعلى. فالشخص الموهوب فلسفياً (يُسمّي سبينوزا شخصاً كهذا "هبة") لا "يطيع" في الحقيقة وصية كي يحب الله ويتصرف بعدالة وإحسان. سوف يستمتع بحب الله ويحسن معاملة الآخرين باستمرار كنتيجة طبيعية أو حتى ضرورية لفهمه الصحيح لله والطبيعة. بالنسبة له، إن الخلاص ليس مسألة إيمان.
إن حب الله ليس طاعة بل فضيلة حاضرة على نحوٍ ضروريٍّ في إنسان يعرف الله بشكل صحيح بينما تنطوي الطاعة على الخضوع لإرادة الآمر ولا يوجد حسبان لقيمة الضرورة والحقيقة … أظهرنا أن الوصايا الإلهية تظهر لنا كوصايا أو مراسيم فقط طالما أننا لا نعرف علتها. حالما نعرف ذلك، تتوقف عن كونها وصايا، ونعتنقها كحقائق أبدية، وليس كوصايا، أي طاعة تمر مباشرة إلى الحب، الذي ينشأ على نحو ضروريّ من المعرفة الحقيقية نفسها كما ينشأ الضوء من الشمس. بناء على ذلك نستطيع بتوجيه من العقل أن نحب الله، لكن لا أن نطيعه، ذلك أنه بفضل العقل لا نستطيع أن نقبل قداسة الوصايا العشر بينما لا نعرف علتها، ولا نستطيع أن نتصور الله بصفته حاكماً يسنّ القوانين.(٤)
إن الشخص الذي يقوده العقل يعرف، في الحقيقة، أن الله (أو الطبيعة) ليس سانّاً للقوانين ولا يُصدر الوصايا، بالتالي، إن سلوكه العادل والمحسن ليس، إذا توخينا الدقة، شكلاً من الطاعة (للقوانين) بل نتيجة حتمية لفضيلته الفكرية.
على أي حال، ليس معظم الناس فلاسفة، وهدف الكتاب المقدس ليس نقل المعرفة بل التشجيع على الطاعة وتقوية العدالة. وبما أن الكتاب المقدّس يُصوّر الله بلغة تخلع عليه صفاتٍ إنسانيّة وكأنّه مشرّع يسنّ القوانين، فإن الشخص غير المتفلسف والمتدّين سيحبُّ، بدافع من تأثره بالإيمان، الله والبشر الآخرين لأنه يؤمن بأن الله أوصاه بأن يفعل ذلك، وبالتالي فإنه يفعل ذلك انطلاقاً من الطاعة والإحساس بالواجب. إن سبينوزا الذي كان أحياناً يزدري الأشخاص الذي يؤدون واجباتهم فقط بسبب الخوف من العقاب أو أملاً بمكافأة، صنع سلامه مع هذا. "لا يسأل الله عِبْرَ أنبيائه عن معرفة أخرى بنفسه غير معرفة عدالته المقدسة وفضيلته، أي صفات الله التي يجد الناس أنه من الممكن أن يحاكوها بقاعدة محددة من السلوك". إن كل شخص حر كي يقرأ النص المقدس كما يشاء ويصدق من الله (والعالم الطبيعي) ما يريده، على أساس أن قراءته ومعتقداته متسقة مع الرسالة الأخلاقية الرئيسة للأنبياء وفعالة في دفعه إلى أن يتصرف بعدالة وإحسان (ليس بالمصادفة)، فإنَّ ذلك يفرض عليه أن يسمح بالحرية نفسها للجميع.
لكن كما أن الفلسفة (والحقّ) لا يحددان ما ينتمي إلى الإيمان (وما هو الأفضل الذي يعزز طاعة الله)، لا يمتلك الإيمان بالتالي الحق لوضع حدود على التفلسف. إن السلطات الدينية تتجاوز حدود مجالها حين تحاول السيطرة على السعي إلى المعرفة وتحديد ما يجب أن يُقبل بصفته حقيقةً.
إن الإيمان يسمح لكل إنسان بالحرية الأعلى للتفلسف، وباعتناق أية آراء تسره في ما يتعلّق بموضوعات من أي نوع من دون تضمين الشر. ولا يُشجب من الناس بصفتهم هراطقة وأصحاب فتن إلا أولئك الذين يعلّمون معتقدات مثل الترويج للعناد والكراهية والفتنة والغضب، بينما لا يُعدّون مؤمنين إلا أولئك الذين يروجون للعدالة والإحسان بأفضل قواهم ومقدراتهم العقلية. (٥)
إن الدوغمائيين مخطئون: ليس الإيمان خادماً للفلسفة. لكن رغم ما يقوله المتشككون، ليست الفلسفة أيضاً خادمة للإيمان. فالدين لا يمتلك الحق بأن يطلب أي شيء أكثر من محبة المرء لله ولنظرائه في الإنسانيّة ولا يحق له أن يصر على أي معتقدات سوى تلك التي هي على وجه التحديد ضرورية لتوليد مواقف وسلوك من هذا القبيل. إن حرية التفلسف تمتد كي تشمل التفلسف في ما يتعلق بالألوهيّة. إن الاعتقاد بأن المشروعين الفلسفي والعلمي يجب أن يخضعا لسيطرة رجال الكنيسة ويجب أن تضع حدودهما العقيدة الدينية وكلمات الأنبياء يعني أنك مذنب في ارتكاب غلط الخلط بين الفئات، "بين الإيمان وعلم اللاهوت من ناحية والفلسفة من ناحية أخرى لا توجد علاقة ولا قرابة".
في نقاشه للنصّ المقدس بيّن سبينوزا أن ابن ميمون كان على غلط، وأن معاني الكتابات النبوية يجب ألا تُقْسر كي تنسجم مع العقل والفلسفة. كما بيّن خطل الكاردينال بيلارمين، مُبيِّناً أنَّ الفلسفة (سواء أكانت الفلسفة الطبيعية أم الميتافيزيقيا) يجب ألا تُرغم على الانسجام مع الإيمان. إذا، كما قال سبينوزا، لم يكن الكتاب المقدس مصدراً للحقائق الفلسفية أو العلمية بل فقط لمواد بسيطة جداً من الدين، إذن، لا يمكن استخدامه لتقييم مزاعم تلك التخصصات العلمانية وتبرير الرقابة عليها. ويمكن أن يُلخص موقفه على نحو أمثل بملاحظة غاليليو الشهيرة، منذ خمسين سنة، بأن هدف النص المقدس هو "أن يعلمنا كيف نذهب إلى السماء، لا ماهية السماء".
يشكل تدخل الكنيسة تهديداً لا للتقدم في الفلسفة والعلم فحسب بل لرفاه الدولة أيضاً. وفي الحقيقة، إن قدرة رجال الدين على ممارسة الرقابة على الاستقصاء الفلسفي تتناغم مباشرة مع تأثيرهم في السياسة المحلية. إن حجة سبينوزا في كتاب "رسالة" من أجل حرية التفلسف في الدولة هي بالتالي، وفي الوقت نفسه، حجة لدولة لا تمتلك فيها السلطات الدينية الطائفية تأثيراً في الشؤون العامة، بما فيها المسائل الفكرية والثقافية. وفي النهاية يذهب سبينوزا حتى إلى أبعد قائلاً إن الدين، بوصفه ممارسة ونشاطاً عاماً، يجب أن يسيطر عليه القادة العلمانيون للدولة. ولم يستطع أن يطرح هذه القضية إلا بعد استقصاء لطبيعة الدولة نفسها. وهكذا في الفصل السادس عشر من كتاب "رسالة في السياسة" يأخذ توجهاً سياسياً حازماً.
كان سبينوزا قائداً جدياً للفكر السياسي القديم والحديث. احتوت مكتبته على الأعمال الكاملة لماكيافيللي، وكذلك على كتابات لمفكرين جمهوريين هولنديين حديثين مثل هوغو جروتيوس والأخوين بيتر وجوهان دي لا كورت. وكان أكبر تأثير في فلسفة سبينوزا السياسية في ذلك الوقت هو كتابا هوبز، المواطن De Cive الذي كان يملكه، واللفياثان، الذي لم يكن يملكه كما تبين لكنه قرأه.
يقدم هوبز كما رأينا تفسيراً للدولة المدنية يرسي أسسها النظرية (إن لم يكن التاريخية) في "حالة الطبيعة البشرية"، أو حالة الطبيعة. وهذا وضع خيالي تم افتراضه من أجل هدف استدلالي لشرح الأساس المنطقي للإلزام السياسي. إن حالة الطبيعة هي بيئة ما قبل سياسية، تخلو من أية حكومة أو حتى تنظيم اجتماعي. وتتصف بـ "حرب كل إنسان ضد كل إنسان آخر"، حيث يتبع كل فرد القانون الأكثر أساسية للطبيعة وينخرط في سعي غير ملجوم للمصلحة الذاتية. في ظروف كهذه، يمتلك كل شخص الحق بفعل ما بوسعه كي يحمي نفسه ويدافع عنها، وأن يحصل على كل ما يعتقد أنه يساعد في بقائه وتقوية خيره. في حالة الطبيعة، لا يوجد ما هو صحيح أو مغلوط، عدالة أو ظلم. ففي غياب أي "قوة مشتركة لإخافة البشر"، يكون العنف والخوف المستمر هما العرف، وهذا وضع قال عنه هوبز على نحو شهير في اللفياثان تكون فيه "حياة الإنسان معزولة، وفقيرة، وكريهة ووحشية وقصيرة".
في حالة شؤون كهذه، "حيث كل إنسان هو ذئب بإزاء كل إنسان آخر" سيدرك العقلاء في النهاية أن الحفاظ على الذات وأمن الملكية يتحققان بصورة أمثل في الحقيقة ليس عن طريق الدفاع عن أنفسهم بشكل أبدي في الصراع بل عن طريق تحقيق السلام. إن قانون الطبيعة (أو ما يسميه هوبز في كتاب المواطن "ما يمليه العقل")، إذاً، يوصي أيضاً بأن يتخذ المرء خطوات إيجابية كي يخرج من حالة الطبيعة. ويحدث هذا عن طريق التوصل إلى اتفاق هدنة مع آخرين والامتناع طوعياً عن السعي إلى المصلحة الذاتية. وبهذا يختار العقلاء التوحد والتخلي عن الحقوق غير المحدودة وغير المؤكدة التي كانت لديهم في حالة الطبيعة. يلتزمون بالامتناع عن إلحاق الأذى ببعضهم بعضاً، وحتى بأن يقدموا المعونة المتبادلة لبعضهم بعضاً. وعلى كل شخص أن يتصرف بطريقة مفضية إلى صيانة ميثاقهم، مبدين السيطرة على الذات والفائدة والإنصاف والكياسة والاعتبار وفضائل طبيعية أخرى، باختصار يتفقون على ألا يعاملوا الآخرين بطرق لا يريدون أن يُعاملوا بها.
يدرك المواطنون البدائيون أيضاً أن اتفاقية تكون جيدة فحسب بقدر القوة التي وراءها، وثمة حاجة لوجود شيء ما بالإضافة إلى الضمير وحدَهُ كي يمنع الناس من استغلال الآخرين حين تنشأ الرغبة وتسنح الفرصة. "إن مجتمعاً مذعناً أو متعاقداً، من دون قوة ما مشتركة يمكن عن طريقها أن يُحكم رجال معينون بالتخويف من العقاب، لا يكفي لصناعة ذلك الأمن، والذي هو متطلب لممارسة العدالة الطبيعية". بالتالي، يتخذ أطراف هذه الهدنة خطوة أخرى وينشئون عن طريق نوع من العقد كومونويلثاً رسمياً، بقوة سيادية محددة على رأسه. وبمقتضى هذا العقد، ينقلون كل حقوقهم إلى الحاكم ويمنحونه سلطة كي يفرض العقد ويعاقب المتجاوزين له. يمتلك الحاكم سلطة مطلقة (ويعني هوبز سلطة مطلقة) في الدولة المؤسسة الآن، وأي ترتيب آخر يضع قيوداً على سلطة الحاكم، أو وجود مصادر بديلة للسلطة في الدولة، لن يسمح للحاكم بأن ينجز بفعالية ما عُين كي أن يفعله. إن الحاكم وحده سواء أكان فرداً (النظام الملكي) أم هيئة تمثيلية للناس بعامة (النظام الديمقراطي) يمتلك الحق في سنّ القوانين وتقديم كل العقوبات الضرورية لضمان أن الاتفاقية والتي هي أساس الدولة تم التقيد بها وأن السلام والدفاع المشترك تم الحفاظ عليهما. إن المواطنين ملزمون بدورهم بالتالي بالطاعة للحاكم والقوانين التي يسنها.
بهذه الطريقة إن الإرادات الكثيرة التي في حالة الطبيعة والمعارضة لبعضها بعضاً تحل محلها إرادة واحدة حاكمة للكل، وهي إرادة الحاكم. في تفسير هوبز، إن المواطنين الذين يدخلون في معاهدة سياسية يتخلون عن الكثير بإخضاع أنفسهم للسلطة المطلقة للحاكم، لكنهم بفعلهم لهذا يعيدون إلى أنفسهم، على أرضيات مؤكدة أكثر، ما كانوا يسعون إليه في المقام الأول. وبينما يشكل الخوف الدافع الرئيس للدخول في ميثاق سياسي، حالما يتم التوصل إلى الاتفاق، يفسح الخوف المجال للسلام والأمن.
إن تقديرات سبينوزا الخاصة بالدولة تبدأ أيضاً بالفكر التجريبي لحالة الطبيعة، والتي يقر أنها "ليست أكثر من نظرية"، والعقد الاجتماعي الناجم بين أعضائها يشبه عقد هوبز في نواح كثيرة مهمة. قبل كل شيء، ما يتفق عليه هوبز وسبينوزا مثل فلاسفة آخرين في التراث التعاقدي هو أن أصل وشرعية الحكومة يكمنان في إرادة الله (جوهر نظرية "الحق المقدس للملوك، التي اقترحها القانوني الفرنسي من القرن السادس عشر جان بودن) لكن في تقليد بشري جداً.
يرى سبينوزا، على غرار هوبز، أن جميع الكائنات البشرية تحفزها جوهرياً المصلحة الشخصية. نحن بشكل طبيعي، وحتى بحكم الضرورة، وكلاء أنانيون نسعى إلى أي شيء وفقط إلى ما نعتقد أنه سيسهم في الحفاظ علينا وفي زيادة قوتنا. هذا مبدأ جوهري للطبيعة، مبدأ يضع في كل من "رسالة" وكتاب "علم الأخلاق" أساس الحق الأكثر أساسية لكل شخص كي يفعل ما بوسعه كي يبقى على قيد الحياة وكي يزدهر. يقول سبينوزا في كتاب "علم الأخلاق":
يوجد الجميع بالحق الأعلى للطبيعة، وبالتالي يفعل الجميع، بالحق الأعلى للطبيعة تلك الأمور التي تنبع من ضرورة طبيعتهم. بالتالي فإن كل شخص، بالحق الأعلى للطبيعة، يحكم على ما هو خير وما هو شر، ويفكر بفائدته الخاصة بحسب مزاجه، وينتقم لنفسه ويجاهد كي يحافظ على ما يحبه ويدمر ما يكرهه.(٦)
في حالة الطبيعة، حيث لا توجد حكومة ولا حتى ميثاق بين الأفراد، كل واحد حر كي يمارس حقه وأن يلاحق دون قيد ما يؤمن أنه، سواء بشكل صحيح أو خاطئ، فائدته الخاصة. الفكرة نفسها تدخل النقاش السياسي في "رسالة":
حين يُعتقد أنَّ هناك إنساناً تحت همينة الطبيعة، فإن كل ما يظن بأنه يشكل فائدة له، سواء أكان ذلك بتوجيه من العقل السليم أم بدافع من الأهواء، يمكن أن يسعى بحق الحاكم الطبيعي إليه ويحصل عليه لنفسه بأية وسيلة، بالقوة، الخداع، التوسل، أو بأفضل طريقة يستطيع اتباعها، وبالتالي يمكن أن يُعَدّ عدواً له أي شخص يحاول أن يعيقه عن الحصول على ما يريده.(٧)
إذا كان هذا السعي إلى الفائدة موجهاً عقلياً، ولا تقوده الأهواء ولا العواطف بل المعرفة الحقيقية، فإن الناس كافةً سيسعون حينها إلى حقهم الطبيعي ليس فقط دون أذى وضرر للآخرين بل على العكس، بتقديم العون للآخرين ومساعدتهم على العيش بشكل صحيح. ويرى الشخص العقلاني أن التعاون والكرم يخدمان أفضل مصالحه. ومن المحزن، كما يقر سبينوزا في كتاب "علم الأخلاق"، أنه "من النادر أن يحدث ويعيش الناس بحسب توجيه العقل. على العكس إن حيواتهم تتشكل بطريقة يكونون فيها عادة حاسدين لبعضهم بعضاً ويشكلون عبئاً على بعضهم بعضاً". في الوقت نفسه، لا تستطيع الكائنات البشرية إلا أن تعيش بين كائنات بشرية أخرى. بناء على ذلك، إذا لم يُقيد السَعْي إلى المصلحة الذاتية بين أولئك الأفراد الذين لا يستطيعون تجنب الوجود المشترك، إما بعقل المرء أو على يد سلطة أعلى تعمل لصالح العقل، وتهدف "إلى الخير الحقيقي للبشر فقط"، فإن الوجود اليومي سيكون مشروعاً غير آمن ومجازفاً ومليئاً بالخطر والقلق والمشاكل المتواصلة. إذا كان الجميع أحراراً كي يفعلوا ما يسرهم، سواء أكان الدافع هو العدالة والكرم أم الغضب والحسد فإن الحياة إذاً في حالة الطبيعة ستكون "بائسة" وستتواصل صعوبة تحقيق الهدف الأصلي للحفاظ على الذات.
سيدرك الأفراد في ظروف كهذه في النهاية أنه من الأكثر فائدة لهم أن يتخلوا عن السعي المنفلت من عقاله إلى المصلحة الذاتية وأن يتحدوا في "هيئة واحدة"، أي في كومنويلث، فيه "يجب أن يوضع الحق غير المقيد الذي يمتلكه كل فرد تحت ملكية مشتركة، ويجب ألا تعيد تحديد هذا الحق قوة الفرد وشهوته بل سلطة وإرادة للجميع معاً". إن تضحية كهذه بالحق والقوة الفرديين ضرورية لجعل الوضع من أجل "حياة آمنة وخيرة" ممكناً. علاوة على ذلك، إن أعضاء هذه الجماعة سيتفقون أن الإرادة المشتركة التي كونوها يجب أن توجهها مبادئ عقلية وكونية، من أجل أن يبقوا على نحو أفضل شهواتهم المتنوعة والمعاكسة وغير العقلانية قيد الفحص في معظم الأحيان.
هذا هو الميثاق الذي يرى سبينوزا في كتاب "علم الأخلاق" أنه الأصل التبريري للدولة. إن الإلزام السياسي هو، على الأقل، من حيث المبدأ إن لم يكن من حيث الحقيقة التاريخية، (٨) نتيجة اتفاق عقلاني تطوعي بين الأفراد لتسليم حقهم وقوتهم للسعي إلى فائدتهم الخاصة إلى سلطة مشتركة وأن يُحكموا من إرادة الكل بقدر ما هي هذه الإرادة موجهة من قبل العقل. ما يحصلون عليه في المقابل هو السلام، وحياة أكثر أمناً، والتمتع المستقر بالخيرات التي يثمنونها.
لو تصرّف الجميع عقلانياً طوال الوقت لأتى التقيد بهذا الميثاق والاحترام للإرادة المشتركة بشكل طبيعي، بما أن الناس سيعرفون أنه من مصلحتهم أن يطيعوا أوامرها، أن يطيعوا القوانين. "لو أن جميع البشر يمكن حثهم على أن يوجههم العقل فقط وأن يعرفوا الفائدة العليا وضرورة وجود الدولة فإن الجميع سيبتعدون عن الخداع". (في الحقيقة، في نقطة ما من كتاب "رسالة" يقول سبينوزا إن الأشخاص المكتملين عقلانياً لن يحتاجوا حتى للقوانين. "لو أن الطبيعة كونت البشر بحيث لا يرغبون بأي شيء سوى ما يصفه العقل الحقيقي، فإن المجتمع لن يكون بحاجة إلى أي قوانين. لن تكون هناك حاجة لأي شيء سوى تعليم الناس العقيدة الأخلاقية الحقيقية، وحينها سيعملون لفائدتهم الخاصة بأنفسهم، بصدق وحرية".).
لكن في غياب عقلانية كونية كهذه، فإن الدافع الرئيس بين الناس للامتثال للميثاق يجب أن يكون عاطفياً، أي الخوف من أن العواقب الشريرة لعدم طاعة الدولة هو أكبر بكثير من أية فائدة قصيرة الأمد يمكن الحصول عليها بهذه الطريقة. بناء على ذلك، ما يشكل جزءاً جوهرياً من العقد السياسي هو أن ما يُسلم إلى الجماعة هو القدرة على فرض إرادتها ومعاقبة المتجاوزين. ويمكن أن يُصان المجتمع السياسي كما يصرُّ سبينوزا (في الجزء السياسي من كتاب "الأخلاق" الذي تم تأليفه على الأرجح بعد أن أكمل مؤلَّفه "رسالة")، فقط حين تمتلك الدولة "القدرة على أن تصف قاعدة مشتركة للحياة، والقدرة على سن القوانين، والحفاظ عليها، ليس بالعقل الذي لا يستطيع تقييد العواطف بل بالتهديدات".
في الحقيقة يؤمن سبينوزا مثل هوبز أن هذا الميثاق الاجتماعي لن يعمل إلا إذا امتلكت الدولة سلطة مطلقة كي تمارس "الحق السيادي الطبيعي على كل شيء" مُنح لها. يقول في كتاب "رسالة" إن "القوة الحاكمة لا يحدها قانون، والجميع يجب أن يطيعوها في كل القضايا، لأن هذا ما تعاهد عليه الجميع سواء أكان ذلك في السر أم في العلن حين منحوها كل قوة دفاعهم عن النفس، أي كل حقهم". لا يحتفظ المواطنون الأفراد بأية حقوق لأنفسهم، بما أن وضع حد كهذا على قوى الحاكم سيُحْدثُ انقساماً سيادياً في الدولة، وستكون هناك مواقع سلطة بقدر ما هناك مواطنون، ما يؤدي إلى انحلال الدولة في النهاية بسبب الانقسام الاجتماعي. إن أطراف العقد "سلمت نفسها بشكل كامل لإرادة القوة الحاكمة… ومن واجبنا أن ننفذ جميع أوامر القوة الحاكمة دون استثناء، حتى لو كانت تلك الأوامر غير عقلانية. ذلك أن العقل يتطلب منا أن ننفذ حتى هذه الأوامر، كي نختار أهون الشرين".
يجب أن تكون هناك دولة قوية تتمتع بسلطة كاملة كي تنفذ إرادتها، وحاكم يجبر كل المواطنين على الطاعة عن طريق التهديد والتخويف. لا يبدو هذا الكلام كأنه يشير إلى أنه رؤية شخص يمتلك سمعة بأنه مفكر ليبرالي ومتسامح. هل اعتنق سبينوزا الدروس الإطلاقية لهوبز؟
هناك على أي حال فرقٌ جوهري بين المنظّريْن السياسيين. فبينما يؤمن هوبز بأن السيادة يجب أن تُوضَع في فرد واحد وأن النظام الملكي هو شكل النظام السياسي الأكثر فعالية واستقراراً، فإن سبينوزا يرى بأن أفضل ما يخدم أهداف الدولة هو الديمقراطية. (٩) وفي كومونويلث سبينوزا المثالي يُمنح حق تحديد ما يشكل المصلحة المشتركة والقوانين ويطبقها للناس بعامة. هذه رسالة كل من كتاب "رسالة" وبشكل أكثر مكراً كتاب "رسالة في السياسة"، الذي ألفه بعد عدة سنوات وتُرك غير منته بسبب وفاة سبينوزا.
إن سبينوزا حساس لتهمة أنه بمنحه السلطة المطلقة للدولة فإنه يقوم في الحقيقة باستعباد المواطنين. بيد أنه يطمئننا بأن "الخطر المتضمن في تسليم المرء لنفسه بشكل مطلق لقيادة آخر وإرادته لن يؤدي إلى شكوك كثيرة". ويعود هذا إلى حد ما إلى أن قدرة الدولة المتواصلة على فرض إرادتها مشروطة بإصدارها لأوامر معقولة وتهدف فقط إلى الخير العام بقوانينها. حالما يصبح الحاكم طاغية وخادماً لنفسه، فإن فعاليته في النهاية ستضعف فيما يقاوم المواطنون سلطته ويستعيدون القوة التي منحوها له بالأصل، ويعتقد سبينوزا أنه بوساطة العقد الاجتماعي يمنح المواطنون للحاكم سلطتهم فحسب، محتفظين بحقوقهم الطبيعية حتى في الدولة.(١٠) بالتالي هناك فحص طبيعي للحكومة الاستبدادية، أو هكذا يعتقد سبينوزا (ربما بتفاؤل مفرط).
علاوة على ذلك، ينبع الاستقرار الأكبر للديمقراطية من حقيقة أنها أقل حكومة بين كل أشكال الحكومة الأخرى التي من المحتمل أن تتصرف بشكل غير عقلاني وتغرّب سكانها، "ذلك أنه من المستحيل عملياً لأغلبية مجلس واحد، إذا كان له حجم ما، أن توافق على قطعة الحماقة نفسها". يفترض سبينوزا على ما يبدو أن الشهوات اللاعقلانية والخاصة للأفراد سوف تخرج، في مجلس ديمقراطي، من الخلاف وستعكس "الإرادة" الناتجة للمجلس إجماعاً يمتلك كموضوع له الرفاه العقلاني للجماعة. لأنه، كما يُظهر سبينوزا في كتاب "علم الأخلاق"، إن الكائنات البشرية "تتفق في الطبيعة" بقدر ما "تعمل بحسب توجيه العقل"، أو هي ليست مختلفة أو "معاكسة لبعضها بعضاً"، إلا بقدر ما هي محكومة بالأهواء، وسيكون تقريباً من المستحيل لمجلس ديمقراطي كبير بما يكفي أن يوافق على أية قوانين مقترحة تعبر فقط عن الرغبات الأنانية التي تقودها العاطفة لمشرع أو بضعة مشرعين، ومن المحتمل أن القوانين العقلانية هي التي يمكن أن تمر عبر السيرورة التشاورية للمجلس. "إن الهدف الجوهري للديمقراطية هو تجنب حماقات الشهوة وإبقاء الرجال داخل حدود العقل، بقدر الإمكان، بحيث يمكن أن يعيشوا بسلام وانسجام". وفي نظام ديمقراطي، يحكم الحاكم بشكل مستمر لمصلحة رعاياه، على الأقل نظرياً. لا يسن إلا القوانين التي يقودها العقل والموجهة إلى "رفاه الناس ككل".
ما يمتلك أهمية مساوية هو حقيقة أنه في النظام الديمقراطي، حيث "الجماعة كلها… تمسك بلجام الحكومة كهيئة واحدة"، تصل حرية المواطنين إلى الحد الأعلى، هذا لأنهم بطاعتهم للحاكم هم يطيعون أنفسهم. "إن السيادة ممنوحة لكل المواطنين، والقوانين مجازة بقبول مشترك. سيبقى الشعب حراً بشكل مساو في جماعة كهذه سواء تعددت القوانين أو قلت، بما أنه سيتصرف ليس بناء على طلب من آخر بل انطلاقاً من إذعانه نفسه". في نظام ديمقراطي، حيث تُسن القوانين بتوجيه من العقل، ليست إرادة الحاكم هي إرادة الشعب فحسب، بل تمثل إرادة الحاكم إرادته العقلانية. في طاعته للحاكم هو يلاحق مصلحته الذاتية الحقيقية (بدلاً من أن يُقاد من شهواته غير العقلانية) ويعيش وفق العقل الصحيح. من ناحية أخرى، إذا كانت السيادة تنتمي لشخص واحد فقط أو إلى فرع من المواطنين، فإن الانسجام مع القوانين هو أكثر مسألة طاعة بالمعنى الحصري، أي، خضوع لسلطة آخر أو "فعل تحت الأوامر". إنه مثل ما دُعي في كتاب "علم الأخلاق" استرقاقاً للأهواء، بقدر ما يتصرف المرء بحسب إملاءات آخر.
وعليه تمثل الديمقراطية استقلالية لمواطنيها، بينما يشكل النظام الملكي والنظام الأرستقراطي "انتهاكاً للحرية" ويجازفان بالانحطاط إلى نوع من العبودية، خاصة إذا لم يعمل الحاكم من أجل رفاه سكانه. بالتالي يختتم سبينوزا أن الديمقراطية هي:
الشكل الأكثر طبيعية للدولة، ويقترب بشكل أكبر إلى تلك الحرية التي تمنحها الطبيعة لكل إنسان. ذلك أنه في الدولة الديمقراطية لا أحد ينقل حقه الطبيعي إلى شخص آخر بشكل كامل بحيث أنه بعد ذلك لا تتم استشارته، بل ينقلها إلى أغلبية الجماعة كلها التي يشكل هو جزءاً منها.(١١)
يحافظ النظام الديمقراطي على المساواة بين المواطنين وعلى حرية الأفراد أكثرمن أي شكل آخر من أشكال الحكم.
في هذا المنحى المهم، لم تتأثر الفلسفة السياسية لكتاب "رسالة" بآراء هوبز بقدر ما تأثرت بما قرأه سبينوزا في أطروحات الأخوين دي لا كورت التي أعجب بها. كان بيتر وجوهان تلميذين مجتهدين لكتاب "المواطن" وفيما بعد لكتاب "اللفياثان"، وما عثر عليه سبينوزا في كتاباتهما بالهولندية (خطابات سياسية وملاحظات حول الدولة، أو التوازن السياسي) هو هوبز بعد أن تمت تصفيته في مصفاة النزعة الجمهورية الهولندية. وافق الأخوان دي لا كورت مع هذا الرجل الإنكليزي على أن أسس الدولة تكمن في ميثاق بين الأفراد تُمنح السلطة بمقتضاه لقوة سياسية مركزية، هدفها هو تقييد السعي القائم على الأهواء الخادم للمصلحة الذاتية وتهيئة الأوضاع للسلام والأمن. على أي حال، قال الأخوان ديلا كورت إن هذا يتم بالصيغة الأمثل عن طريق النظام الديمقراطي الذي من المؤكد عملياً أنه سيُصدر قوانين عقلانية تخدم مصلحة مواطنيه وحيث من المحتمل أقل أن تعكس "الإرادة العامة" فقط الإرادة الخاصة والمنصبة على المصلحة الذاتية للحاكم وحده.
إن نقاش سبينوزا للديمقراطية في "رسالة" يترك الكثير كي يُرغب. لا يقدم في هذا الكتاب نموذجاً يتصور فيه كيف تعمل الديمقراطية، ولا يذكر الطريقة التي يُبنى بها مجتمعه الديمقراطي المثالي، ولا يقدم سبينوزا أي شرح مفصّل لكيفية القيام بالتعبير عن إرادة المواطنين في إرادة الحاكم، سواء أكان ذلك بالاستفتاء في ديمقراطية مباشرة أم عن طريق ممثلين منتخبين، أو تُوكل إليهم مهمة تنفيذ هذه الإرادة. كان من المفترض أن يُغطى كل هذا في الفصول حول الديمقراطية في كتاب "رسالة"، الكتاب الأقل نظرية وأكثر "عملية" وواقعية، والمتجذر في مفهوم "الناس كما هم وليس كما يريدهم المرء أن يكونوا". (١٢) ولسوء الحظ، بعد أنهى سبينوزا الكتاب حول النظام الملكي والنظام الأرستقراطي، توفي بعد تأليف بضع فقرات حول النظام الديمقراطي.
لا يمكن أن تتميز فلسفة سياسية فقط بتركيزها على تحديد بؤرة القوة أو ما ترى أنه أفضل صيغة لتنظيم للمجتمع بل تتميز أيضاً عن طريق ما تعدّه هدفاً للدولة. ويقترح الليبراليون الكلاسيكيون، من أمثال جون لوك، أن الحكومة موجودة بشكل رئيس كي تحمي حياة مواطنيها وحريتهم وملكيتهم. إن دور الدولة بالنسبة لهذه التيارات الليبرالية المتنوعة هو أن تعمل من أجل السلام والأمن، وتقدم الحد الأدنى من الأوضاع الأساسية التي تسمح للأفراد بأن يعيشوا بحرية الحيوات التي اختاروها وأن يسعوا إلى ما يعدّونه ذا قيمة، دون أن يفرضوا عليهم أي قيم ثابتة أو يرغمونهم على أن يتبعوا أي تصور معين للحياة الجيدة. (١٣) وترى الليبرالية الكلاسيكية أن الدولة يجب أن تبقى حيادية حين يتعلق الأمر بوجهات نظر متنافسة حول كيف يجب أن يعيش البشر، ويجب أن تقصر نفسها على التمكين لهم من أجل أن يعيشوا كيف يشاؤون.
بالمقابل يميل التقليد الجمهوري إلى التأكيد على دور الدولة في قولبة المواطنين الجيدين، وأحياناً حتى في جعلهم أناساً جيدين. ويقدم كتاب "الجمهورية" لأفلاطون فقط المثال الأكثر شهرة لهذه الرؤية للدولة. أما بالنسبة لمنظّري عصر النهضة ومنظّري النزعة الجمهورية الأوائل مثل ميكافيللي ومونتسكيو فيجب على الحكومة أن تنخرط بقوة في غرس فضائل مدنية معينة بين الناس. وما هو أكثر أهمية من مجرد السماح للمواطنين بالحرية وحتى تقديم الوسائل لهم كي يلاحقوا رؤاهم الفردية للحياة الجيدة هو دور الدولة في جعلهم يتبنون لأنفسهم، مفهوماً مشتركاً للخير العام ويعملون من أجله. ويربط المواطنون الجمهوريون الفاضلون رفاههم الشخصي الخاص بازدهار المجتمع.
لا تندرج فلسفة سبينوزا السياسية في كتاب "رسالة" في أية فئة ليبرالية أو غيرها (رغم أن هذا يمكن قوله عن الفلسفة السياسية عملياً لجميع المفكرين في تلك الحقبة). غير أن ما هو واضح أنه يتصور دوراً جوهرياً للحاكم، وبما فيه دوراً ديموقراطياً، في الحياة الأخلاقية للمواطنين. إن هدف الدولة ليس حماية الحياة والملكية أو أن تدافع عن الحريات المدنية، وبخلاف ذلك أن تسمح للناس بأن يفعلوا ما يريدونه وأن يعيشوا بحسب أية قيم يختارونها. إن الكومنويلث الذي يعمل جيداً بالنسبة لسبينوزا، فيما ينقل نظرياً الأفراد من حالة الطبيعة إلى جماعة منظمة، يفعل في الحقيقة أكثر من تقديم السلام والأمن الأساسيين اللذين هما الدافع الرئيس للدخول في العقد الاجتماعي في المقام الأول. ويمتلك الناس تحت رعاية الدولة الفرصة كي يزيدوا حريتهم وفضيلتهم، وهذا بالنسبة لسبينوزا مماثل للعيش وفقاً للعقل وتحقيق سيطرة أكبر على الأهواء:
ليس الهدف المطلق للدولة ممارسة الهيمنة ولا السيطرة على الناس عن طريق الخوف وتجريدهم من استقلاليتهم، بل على العكس إن هدفها هو أن تحرر جميع البشر من الخوف كي يتمكنوا من أن يعيشوا حياتهم في أمان بقدر الإمكان، وكي يتمكنوا من المحافظة بشكل أفضل على حقهم الطبيعي كي يوجدوا ويفعلوا دون أن يُلْحقوا الأذى بأنفسهم وبالآخرين. أكرر، ليس هدف الدولة تحويل الناس من كائنات عقلانية إلى وحوش أو دمى، بل بالأحرى أن تمكنهم من تطوير ملكاتهم الذهنية والجسدية بأمان، كي يستخدموا عقلهم دون قيد وأن يمتنعوا عن الفتنة والانتهاك الماكر المتبادل الذي يستحث عليه الحقد والغضب أو الخداع. بالتالي إن هدف الدولة، في الحقيقة، هو الحرية. (١٤)
لا يعني سبينوزا بـ "الحرية" فقط ما دعاه إشعيا برلين "الحرية السلبية"، أو التحرر من تدخل الآخرين، بل الاستقلال الإيجابي الذي يتألف من العمل بتوجيه من العقل وليس القائم فحسب على الاستجابة عاطفياً وعلى نحو غير متجانس للمؤثرات الخارجية. إن شخصاً عقلانياً وحراً لا يلاحق هذه الأمور لمجرد أنها تجعله يشعر بمتعة مؤقتة لكنه يختار أن يفعل ما يعرفه بصورة حقيقية كي يخدم مصلحته الأفضل. وعليه، بينما قد يكون مطلوباً من الدولة كبح النزعات العاطفية للمواطنين وبالتالي تخفيف اختلافاتهم وصراعاتهم عن طريق تهديدات متضمنة في القوانين (خاصة حين يكون أولئك المواطنون متحررين حديثاً من حالة الطبيعة) فإن هدفها النهائي هو ما يدعوه سبينوزا "صقل العقل".
إن الدولة المثالية، التي تُدار ديمقراطياً وتشرّعُ بهدْيٍ من العقل، ستساعد مواطنيها على أن يتطوروا إلى أفراد أكثر تعقلاً يمارسون سيطرة أكبر على أهوائهم. بهذه الطريقة تعوض الدولة حالات النقص البشرية وتلعب دوراً تربويا وتنويرياً في حيواتهم. وكما يقول سبينوزا في كتاب "رسالة":
إذا كانت الطبيعة البشرية مكونة بطريقة بحيث أن البشر يرغبون أكثر بما يخدم فائدتهم أكثر، لن تكون هناك حاجة إلى مهارة خاصة لضمان الانسجام والثقة. ولكن بما أن الطبيعة البشرية مكونة وعلى نحو لا يمكن إنكاره بطريقة مختلفة جداً عن هذا، فمن الضروري أن يتم تأسيس الدولة بطريقة سيقوم فيها جميع البشر، حاكمين ومحكومين، سواء أَشاؤوا أم أبوا، بفعل ما يخدم مصالح رفاههم المشترك، أي إما طوعياً أو مجبرين بقوة الضرورة، سيعيش الجميع كما يصف العقل. (١٥)
وبينما يمكن أن يطيع المواطنون القوانين الجيدة (بسبب الخوف) وبالتالي يعملون فقط بحسب ما يطلبه العقل، فإنهم في النهاية، وعن طريق الحكومة الجيدة، يتعرفون على النوايا الخيرة خلف القوانين، يذوِّتون محتوياتها المعيارية (إملاءت العقل)، وبالتالي يتطورون إلى مواطنين متعقلين يحفزهم الأمل ومكرسين ومستمرين في فضيلتهم. وتقع على عاتق الدولة مسؤولية أن تجعل هذا يحدث. "وتماماً كما ستوضع رذائل الرعايا وفسقهم وعنادهم على باب الكومنويلث، يجب أن تعزى فضيلتهم وطاعتهم الثابتة للقوانين من ناحية أخرى بشكل رئيس إلى فضيلة الكومنويلث وحقه المطلق". بالتالي تحل مكان السلوك الجيد الناجم عن الخوف من العقاب العدالة والفضيلة اللتان تُمارسان انطلاقاً من ميول فاضلة، وعقل صحيح. تمكّن الدولة للمواطنين، بالمعنى الحر الدقيق، أي أنهم بعد أن يتحولوا يجربون ازدياداً في القوة التي تشكل بالنسبة لسبينوزا جوهر أي فرد. (١٦) ويزيد هذا بدوره قوة الدولة واستقرارها نفسه، كما هي مؤلفة الآن من مواطنين فاضلين وعاقلين يربطون بين ازدهارهم وازدهار الكومنولث.
ترجمة: أسامة إسبر.
المصدر:
Steven Nadler
A Book Forged in Hell
Spinoza’s Scandalous Treatise and the Birth of the Secular Age
هوامش
١- Discourse on Method, AT VI.60,CSM I.141-42
٢- TTB XIV,G III. 177-78
٣- يعتقد سبينوزا أنَّ هذه المبادئ أوضاع ضرورية للإيمان وهذا واضح في كلامه: "يجب أن يعرف الإيمان بأنه اعتناق معتقدات معينة عن الله، مثل هذه، ومن دونها لا يمكن أن تكون هناك طاعة لله، وإذا سلم بهذه الطاعة فإنه من الضروري أن يسلم بهذه المعتقدات.
٤- TTP, Supplementary Note 34, GIII. 264.
٥- TTP XIV, GIII.179-80
٦-Ethics IVP 37s2.
٧-TTP XVI, GIII.190
٨- في الحقيقة يعتقد سبينوزا أنه كانت هناك لحظة تاريخية قاربت الحالة النظرية للطبيعة. حين قاد موسى بني إسرائيل خارج مصر، كان وضعهم قريباً للحالة الطبيعية، بما أنهم لم يكونوا مواطني كومنولث وهكذا كانوا بدون أي حكومة أو حاكم.
٩- ليس هذا بالطبع الفرق الوحيد بين سبينوزا وهوبز في النظرية السياسية. بالنسبة لهوبز ينقل المرء حقوقه للدولة بينما بالنسبة إلى سبينوزا ما ينقل هو القوة. وبالتأكيد يسمح سبينوزا بحريات أكثر بين المواطنين، بما فيه حرية التعبير وهذا غير موجود لدى هوبز كما يشير كل من كورلي (١٩٩٦) ومالكوم (٢٠٠٢).
١٠- يجب أن أعترف أنني غير متأكد كيف أصالح هذا مع زعم سبينوزا الذي أشير إليه سابقاً وهو أنه في الدولة قام المواطنون بنقل "كل حقهم" إلى الحاكم. من المفترض أن هناك فرقاً بين قوة ممنوحة للحاكم والحق المحفوظ للمواطن. لكن خلط سبينوزا المتواصل للقوة والحق يشوش المسألة فحسب.
١١- TTP XVI, GIII.297-98.
١٢-TPI. 1, GIII. 273
١٣- ثمة الكثير من الجدل بين دارسي لوك حول إن كان لوك حين يقول إن الحكومة "لا نهاية لها سوى الحفظ"، يعني أن دور الدولة الوحيد هو حماية حقوق الأفراد من الانتهاك من قبل آخرين (ما دعاه إشعيا برلين "الحرية السلبية") أو أن الدولة يجب أن تقدم أوضاعاً إيجابية للخير العام.
١٤- TPP XX, G III. 240
١٥- TP VI. 3, GIII. 297
١٦- من المفترض بشكل عام أن هذا يمثل اختلافاً آخر بين سبينوزا وهوبز، والذي بالنسبة له كما زُعم أنَّ دور الدولة هو مجرد تقديم الأمان والأمن وحماية حيوات وممتلكات المواطنين من انتهاك الآخرين. إن أفكار سبينوزا هنا هي أقرب إلى آفكار الأخوين دي لا كورت، اللذين بالنسبة لهما أنَّ دولة جيدة تجعل مواطنيها أكثر تعقلاً وفضيلة وبالتالي تزيد من حريتهم. (انظر نيدين-بولوك ١٩٩٩). أنا لست مقتنعاً هنا بأن هذه قراءة صحيحة لهوبز. في كتاب المواطن يصر أن ما يعنيه "الأمان" الذي تقدمه الدولة ليس "مجرد حفط الحياة في أي وضع، لكن من أجل سعادته. ذلك أنه من أجل هذه الغاية يجمع البشر أنفسهم بحرية ويشكلون الحكومة، بحيث يمكنهم، بقدر ما يقدمه الوضع البشري، أن يعيشوا بمتعة". بتعبير آخر، إن الحاكم يجب أن يعمل بحيث أن رعاياه "يمكن أن يكونوا أقوياء جسدياً وعقلياً". في الحقيقة بالنسبة لهوبز يجب أن يمارس الحاكم السيطرة على تعليم العقائد الدينية والأخلاقية بقدر ما يرى نفسه مسؤولاً ليس فقط عن السعادة الزمنية ورفاه مواطنيه بل عن خلاصهم الأبدي أيضاً.