مقالات تأسيسية: حقّ التنزّه في الغابات

[ريتشارد لوف]. [ريتشارد لوف].

مقالات تأسيسية: حقّ التنزّه في الغابات

By : Richard Louv

تقدم "جدلية" للقراء العرب مقالات مختارة تشكل إضافة فكرية في حقلها، في مجال الفكر والفلسفة والسياسة والأدب، تحت عنوان "مقالات تأسيسية".

المقالات تتجاوز الكتابة الصحافية إلى كونها تحليلاً فكرياً يحفز على طرح أسئلة جديدة حول الموضوع المناقش، ويهدف إلى تقديم فكر تنويري مختلف يقدم للقارىء مادة تضيء له مساحات في الفكر والواقع غير مألوفة. وهذه المقالات التأسيسية التي يشرف عليها أسامة إسبر، ستُترجم من لغات مختلفة كالإنكليزية والإسبانية والفرنسية والإيطالية، كي تقدم فكرة متكاملة عن الفتوحات الفكرية في هذه البلدان وتطور فن المقالة الذي يقدم أفكاراً جديدة في حقول مختلفة. ستنشر جدلية المقالات بشكل منتظم، من أجل تعميم الفائدة على القراء وبناء جسور مع ثقافة الآخر.

المقالة الأولى، الثانية، الثالثة، الرابعة.

[ريتشارد لوف كاتب وصحفي أميركي ألف ثمانية كتب عن الصلات بين الأسرة والطبيعة والجماعة. كتابه ”آخر طفل في الغابة: إنقاذ أطفالنا من اضطراب نقص الطبيعة“ تُرجم إلى العديد من اللغات العالمية. حصل على وسام أودوبون في ٢٠٠٨].


حقُّ التنزّه في الغابات

ريتشارد لوف، ترجمة: أسامة إسبر


قد يتكرّم مؤرخو المستقبل يوماً ما ويكتبون أن جيلنا واجه التحديات البيئية لزمنه (لا التحدي البيئي فحسب، بل تغيّر المناخ في القلب البشري، واضطراب نقص الطبيعة (١) في مجتمعنا أيضاً) ودخل جيلنا بسبب هذه التحديات عازماً ومصمماً إحدى أكثر المراحل إبداعاً في التاريخ البشري، أي أنه فعل ما هو أكثر من البقاء على قيد الحياة والاستمرار، ووضع حجر الأساس لحضارة جديدة، وجاءت الطبيعة إلى أمكنة عملنا وحاراتنا ومنازلنا وعائلاتنا.

لن يحدث تحوّلٌ ثقافيٌّ وسياسيٌّ من هذا القبيل إلا إذا واكبتْه نظرةٌ جديد إلى حقوق الإنسان. إن عدداً محدوداً من البشر سيعارض اليوم فكرة أن الجميع، وخاصة الأطفال، لهم الحق باستخدام الإنترنت سواء عن طريق مقاطعة المدرسة والمكتبة أو برنامج عام تُشْرف عليه الدولة. كما أننا نتقبّل فكرة أن ”الفجوة الرقمية“ بين من يستخدمون الإنترنت وبين من لا يملكون مدخلاً إليه يجب أن تُردم.ولقد شرعتُ في الآونة الأخيرة بطرح السؤال التالي على أصدقائي: هل نمتلك الحق بالتنزه في الغابات؟ ردّ بعضهم بتناقض محيّر قائلاً: انظرْ إلى ما يفعله نوعنا البشري بكوكبنا. بناء على هذا الدليل فحسب أليست العلاقة بين البشر والطبيعة قائمة على التعارض ضمنياً؟ هذه وجهة نظر قابلة للفهم في ضوء تدمير البشر للطبيعة. لكن فكّروا برد أشخاص ينتمون إلى توجّه آخر في الطيف السياسي\الثقافي، حيث يُنْظر إلى الطبيعة كشيء يخضع لهيمنة البشر، أو على أنها محطة إلهاءٍ على الطريق إلى الفردوس.من الناحية العملية، إن هاتين النظرتين إلى الطبيعة تختلفان جذرياً. وعلى الرغم من ذلك، هناك أيضاً تشابه مدهش بينهما: تبقى الطبيعةُ هي ”الآخر“، والبشر هم فيها، لكنهم ليسوا منها. 

أَقْلق ذكري للمفهوم الأساسي للحقوق بعض الناس الذين تحدثتُ معهم ما دفع أحد الأصدقاء إلى طرح السؤال التالي عليّ: ”في عالم يحتوي على ملايين الأطفال الذين يتعرضون لانتهاكات وحشية كل يوم، هل يمكن أن ندّخر الوقت كي نقدّم حقوق الطفل على تجربة الطبيعة؟“ كان طلبه جيداً. أشار آخرون إلى أننا نعيش في عصر تَضَخَّم فيه القانون وتقلصتْ الحقوق، ويعتقد كثير من الناس أن لهم ”الحق“ بمكان لركن سياراتهم، و“الحق“ بالتلفاز الكبليّ، وحتى ”الحق“ بأن يعيشوا في حارة تحظر الأطفال.نتيجة لهذا، تقلصتْ فكرة الحقوق. هل نحتاج فعلاً إلى إضافة مزيد من الحقوق إلى قائمة حقوقنا؟

إن جوابي على هذه الأسئلة هو نعم، إذا كان بوسعنا الاتفاق على أن الحق قيد النقاش جوهري لإنسانيتنا.

منذ عدة أعوام وبينما كنت أقوم ببحثي كي أؤلف كتابي ”آخر طفل في الغابات“، زرتُ مدرسة ساوثوود الابتدائية، التي درستُ فيها في طفولتي حين كانت عائلتي تسكن في ريتاون بولاية ميزوري. سألتُ طلاب أحد الصفوف في هذه المدرسة عن علاقتهم بالطبيعة فقدّم كثيرون منهم الجواب المألوف التالي: أنهم يفضلون ألعاب الفيديو، والأنشطة التي تتم داخل المنزل، وحين يكونون في الخارج يلعبون كرة القدم أو رياضة أخرى ينظمها الكبار.لكن إحدى طالبات الصف الخامس، التي وصفتْها أستاذتها ب“شاعرتنا الصغيرة“ أجابت: ”حين أكون في الغابات أشعر بأنني مع نفسي“. ذلك أن الطبيعة تجسد بالنسبة لها الجمال والملاذ وشيئاً آخر. أضافتْ قائلة: ”إن الجو مسالم أيضاً ورائحة الهواء طيبة. أرى أن الجو مختلف جداً في ذلك الموضع. إنه وقتي الخاص. أحياناً أذهب إلى هناك حين أكون غاضبة ومستاءة، وأشعر بالتحسن من ذلك الهدوء. أعود إلى البيت سعيدة، ولا تعرف أمي السبب“. توقفتْ. ثم تابعت: ”أمتلك مكاناً خاصاً بي. كان هناك شلال ماء كبير وجدول إلى جانبه. حفرت حفرة كبيرة في المكان، وأحياناً كنت آخذ خيمة، أو بطانية وأستلقي في تلك الحفرة فحسب وأنظر نحو الأعلى إلى الأشجار والسماء.أحياناً أنام هناك. أشعر بالحرية، كما لو أنه مكاني الخاص الذي أستطيع أن أفعل فيه ما أشاء، ولا أحد يستطيع أن يمنعني من ذلك. كنت أذهب إلى هناك كل يوم تقريباً“. احمرّت الشاعرة الصغيرة وبحّ صوتها. ”ثم قاموا بقطع الأشجار، كما لو أنهم بتروا عضواً من أعضائي“.

كمجتمع يجب أن نعاود منح الطبيعة لأطفالنا ولأنفسنا. إن عدم فعلنا لذلك غير أخلاقي

أذهلني تعليقها الأخير: ”كما لو أنهم بتروا عضواً من أعضائي“. إذا كانت فرضية البيوفيليا(٢) التي طرحها عالم البيولوجيا إدوارد. أو. ولسون (٣) صحيحة (أن الميل إلى الطبيعة لدى الإنسان فطري) فإن مقولة شاعرتنا الصغيرة تتجاوز كونها استعارة.حين أشارت إلى غابتها بأنها ”جزء مني“ كانت تصف شيئاً ما من المستحيل تحديده، أعني تركيبتها البيولوجية الأولية، إحساسها بالدهشة، وجزءاً جوهرياً من نفسها.

لإنهاء التوجهات التي تفصل البشر عن الطبيعة، يجب أن تستند الأفعال إلى العلم، لكنها يجب أن تستند أيضاً إلى حقيقة أعمق. في ٢٠٠٧ اجتمع عدد لا بأس به من العُمُد والأساتذة ودعاة الحفاظ على البيئة وقادة الأعمال في واشنطن العاصمة لمناقشة انقطاع الصلة بين الفتيان الصغار والطبيعة. تناول نقاشهم (التنويري، والحماسي أحياناً) أشخاصاً من مختلف الأعمار، ولكن مع مرور الساعات بدأ عدد من الحضور يسألون عن الحلول. كان البعض يبحث عن نموذج أعمال كي يطبقه على تحدي تعريف الأطفال على الطبيعة. ورأى الجميع أن هناك حاجة إلى مزيد من الأبحاث.

”أقدّر هذا النقاش، لكنني أرغب بأن أضيف شيئاً“، قال جيرالد إل. دودري، وهو كبير كهنة الكنيسة البابوية بروفيدنس ميشينيري في مدينة أطلنطا. ساهم دودري في تأسيس المنظمة الثقافية الأفريقية الأمريكية وعمل إلى جانب مارتن لوثر الابن . تقدّم إلى الأمام وقال:”إن الحركة تتحرك. لديها حياة“.وعلى غرار كل حركة ناجحة، إن ما زوّد صراع حركة الحقوق المدنية (٤) بالوقود هو مبدأ أخلاقي مصقول بقوة، مبدأ ليس بحاجة كي نبرهن عليه مرة بعد أخرى. كان من المحتمل أن تكون نتيجة حركة الحقوق المدنية مختلفة، أو على الأقل متأخرة، كما نوه دودري، لو انتظر قادتها مزيداً من البراهين الإحصائية كي يبرروا قضيتهم، أو ركزوا على عدد الاعتصامات الشبيهة باعتصام جرينسبورو (٥). لقد برهنت بعض الجهود بأنها ناجحة، إلا أن بعضها الآخر لم يكن منتجاً، ورغم ذلك انطلقت الحركة.

”حين نطرح حجة أخلاقية، ليس هناك أحكام ثابتة، وهذه الحجج يمكن أن تُجادَل دوماً“، بحسب الفيلسوف لاري هينمان (٦). ”غير أن معظم الحجج الأخلاقية تستند إلى نقطة أو نقطتين. تتضمن هذه مجموعة من النتائج ومبدأ أولياً، مثل احترام حقوق الإنسان على سبيل المثال.“ إن العلم يلقي الضوء على النتائج القابلة للقياس من أجل تعريف الناس على الطبيعة، وتشير الدراسات إلى فوائد صحية ومعرفيةفورية وملموسة، غير أن ”مبدأ أولياً“، يبزغ ليس فقط من ما يستطيع العلم أن يبرهن عليه، بل أيضاً من ما لا يستطيع أن يكشفه بشكل كامل: صلة حقيقية مع الطبيعة جوهرية لروحنا وبقائنا، كأفراد وكنوع. 

تحدث توماس بيري (٧) في زمننا عن استحالة الانفصال عن الطبيعة بوضوح أكبر.وضع بيري وجهة نظر إي. أ. ولسون البيولوجية داخل منظور كوني أوسع.وفي كتابه، ”العمل العظيم“ كتب بيري: ”إن ما هو ملح الآن هو أن نبدأ بالتفكير داخل سياق الكوكب كله، جماعة الأرض الكاملة بكل مكوناتها البشرية وغير البشرية. وحين نناقش الأخلاق يجب أن نفهمها على أنها تعني المبادئ والقيم التي تحكم تلك الجماعة الشاملة“. اعتقد بيري بأن العالم الطبيعي هو التجلي المادي للمقدس وأن استمرارية كل من الدين والعلم لا تعتمد على فوز أحدهما على الآخر (لأن كليهما سيخسر حينها) بل على بزوغ ما دعاه قصة تنتمي إلى القرن الواحد والعشرين، أي إعادة الاتحاد بين البشر والطبيعة.

قد يقلقنا الحديث عن المطلقات، لكن من الأكيد أن هذا صحيح: كمجتمع يجب أن نعاود منح الطبيعة لأطفالنا ولأنفسنا. إن عدم فعلنا لذلك غير أخلاقي. قال بيري: ”إن مسكناً منحطاً سينتج بشراً منحطين، وإذا كنا نريد تحقيق أي تقدم حقيقي فهذا يعني أن الجماعة كلها يجب أن تتقدم“. حين تأسستْ المُثُل الأمريكية، كانت الطبيعة جوهرية لفكرة حقوق الإنسان، وكان فكر الآباء المؤسسين ينطوي على هذه الفرضية التالية: مع كل حق تأتي مسؤولية، سواء أكنا نتحدث عن الديمقراطية أم الطبيعة، وإذا فشلنا في أن نخدم كمضيفين حريصين، سندمر سبب حقنا، والحقّ نفسه، وإذا لم نستخدم هذا الحق سنفقده.

قال فان جونز، مؤسس حركة ”الأخضر للجميع“ ومؤلف كتاب ”اقتصاد الياقة الخضراء“، إن مجموعات العدالة البيئية تفرط في التركيز على ”الحماية المتكافئة من المادة السيئة“، أي السموم التي يتم التخلص منها في معظم الأحيان في حارات معزولة اقتصادياً. ودعا إلى تشديد جديد على المدخل المتكافئ إلى ”المادة الجيدة“، أي الوظائف الخضراء التييمكن أن تنقذ شبان المدن وغيرهم من البؤس. على أي حال، ثمة فئة أخرى ل“المادة الجيدة“، وأعني الفوائد الصحية المادية والنفسية والروحية، والمعرفية التي نتلقاها جميعاً من تجاربنا في العالم الطبيعي.

يجب أن يقرن مجتمعنا القول بالفعل حين يتحدث عن أهمية الطبيعة، وأن يضمن أن يتوفر للناس في جميع أنواع الحارات كل يوم مدخل إلى الفضاءات والأمكنة والتجارب الطبيعية. لتحقيق هذا، يجب أن تصبح هذه الحقيقة واضحة: لا يمكننا أن نعتني بالطبيعة وبأنفسنا إلا إذا رأينا أنه لا يمكن الفصل بيننا وبين الطبيعة، و أحبننا أنفسنا كجزء منها، و آمنا أن الكائنات البشرية تمتلك الحق بهباتها، من دون تدمير.

قد لا يكون للفتاة الصغيرة في ريتاون حق محدد في تلك الشجرة المعينة في غابتها المختارة، لكن لها حقاً لا يمكن إنكاره بأن تكون مع حياة أخرى، لها الحق بالحرية، التي لا يمكن أن تتحقق عن طريق إقامة جبرية حمائية في المنزل، والحق بالبحث عن السعادة، والتي يجعلها العالم الطبيعي كلية.

هذا الحق هو حقٌّ لكم أنتم أيضاً.


هوامش المترجم


١- ”اضطراب نقص الطبيعة" عبارة صاغها المؤلف ريتشارد لوف، في كتابه "الطفل الأخير في الغابة"، وهي تعني أن الأطفال يقضون وقتاً أقل في الهواء الطلق وهذا يؤدي إلى عدد من المشاكل السلوكية.

٢- تقترح فرضية البيوفيليا أن البشر يمتلكون ميلاً فطرياً لنشدان الصلات مع الطبيعة وأشكال أخرى من الحياة. أدخل إدوارد. أو. ولسون الفرضية في كتابه ”البيوفيليا“. ويعرّفها بأنها ”الإلحاح للتواصل مع أشكال أخرى للحياة“.

٣- إدوارد أو. ولسون (١٩٢٩-٢٠٢١) عالم أحياء وطبيعة وبيئة وحشرات أمريكي اشتهر أيضاً بتطويره لحقل السوسيوبيولوجيا (علم الأحياء الاجتماعي).

٤- كانت حركة الحقوق المدنية الأمريكية حركة جماهيرية ضد الفصل والتمييز العنصري في جنوب الولايات المتحدة وبرزت على الصعيد القومي في منتصف الخمسينيات. وتمتلك هذه الحركة جذورها في جهود استمرت لقرون بذلها العبيد الأفارقة والمنحدرون منهم لمقاومة الاضطهاد العنصري وإلغاء مؤسسة العبودية.

٥- كان اعتصام جرينسبورو، أو الاعتصام المضاد للفصل العنصري في المطاعم، احتجاجاً قامت به حركة الحقوق المدنية وبدأ عام 1960 عندما نظم طلاب أمريكيون من أصل أفريقي اعتصاماً في مكتب غداء وولورث الذي يفصل عنصرياً بين البيض والسود في جرينسبورو بولاية نورث كارولينا، ورفضوا المغادرة بعد رفض تقديم الطعام لهم. سرعان ما انتشرت حركة الاعتصام في المدن الجامعية في جميع أنحاء الجنوب. على الرغم من اعتقال العديد من المتظاهرين بتهمة التعدي على ممتلكات الغير أو السلوك غير المنضبط أو الإخلال بالسلام، إلا أن أفعالهم أحدثت تأثيراً فورياً ودائماً ما أجبر وولورث والمؤسسات الأخرى على تغيير سياسات الفصل العنصري.

٦- لاري هينمان (١٩٤٤) فيلسوف أمريكي وأستاذ شرف في جامعة سان دييغو في الولايات المتحدة الأمريكية. من أشهر كتبه ”الأخلاق، مقاربة جماعية للنظرية الأخلاقية“، ”مسائل أخلاقية معاصرة، التنوع والإجماع“.

٧- توماس بيري (١٩١٤- ٢٠٠٩)، قس كاثوليكي، مؤرخ ثقافي وباحث في أديان العالم، وخاصة التراث الآسيوي. فيما بعد درس تاريخ الأرض وكيف نشأت وعدّ نفسه عالم جيولوجيا. 


[المصدر: The Nature Principle: Human Restoration and the End of Nature Deficit Order].

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬