تقدم "جدلية" للقراء العرب مقالات مختارة تشكل إضافة فكرية في حقلها، في مجال الفكر والفلسفة والسياسة والأدب، تحت عنوان "مقالات تأسيسية".
المقالات تتجاوز الكتابة الصحافية إلى كونها تحليلاً فكرياً يحفز على طرح أسئلة جديدة حول الموضوع المناقش، ويهدف إلى تقديم فكر تنويري مختلف يقدم للقارىء مادة تضيء له مساحات في الفكر والواقع غير مألوفة. وهذه المقالات التأسيسية التي يشرف عليها أسامة إسبر، ستُترجم من لغات مختلفة كالإنكليزية والإسبانية والفرنسية والإيطالية، كي تقدم فكرة متكاملة عن الفتوحات الفكرية في هذه البلدان وتطور فن المقالة الذي يقدم أفكاراً جديدة في حقول مختلفة. ستنشر جدلية المقالات بشكل منتظم، من أجل تعميم الفائدة على القراء وبناء جسور مع ثقافة الآخر.
المقالة الأولى، الثانية، الثالثة، الرابعة.
[ريتشارد لوف كاتب وصحفي أميركي ألف ثمانية كتب عن الصلات بين الأسرة والطبيعة والجماعة. كتابه ”آخر طفل في الغابة: إنقاذ أطفالنا من اضطراب نقص الطبيعة“ تُرجم إلى العديد من اللغات العالمية. حصل على وسام أودوبون في ٢٠٠٨].
حقُّ التنزّه في الغابات
ريتشارد لوف، ترجمة: أسامة إسبر
قد يتكرّم مؤرخو المستقبل يوماً ما ويكتبون أن جيلنا واجه التحديات البيئية لزمنه (لا التحدي البيئي فحسب، بل تغيّر المناخ في القلب البشري، واضطراب نقص الطبيعة (١) في مجتمعنا أيضاً) ودخل جيلنا بسبب هذه التحديات عازماً ومصمماً إحدى أكثر المراحل إبداعاً في التاريخ البشري، أي أنه فعل ما هو أكثر من البقاء على قيد الحياة والاستمرار، ووضع حجر الأساس لحضارة جديدة، وجاءت الطبيعة إلى أمكنة عملنا وحاراتنا ومنازلنا وعائلاتنا.
لن يحدث تحوّلٌ ثقافيٌّ وسياسيٌّ من هذا القبيل إلا إذا واكبتْه نظرةٌ جديد إلى حقوق الإنسان. إن عدداً محدوداً من البشر سيعارض اليوم فكرة أن الجميع، وخاصة الأطفال، لهم الحق باستخدام الإنترنت سواء عن طريق مقاطعة المدرسة والمكتبة أو برنامج عام تُشْرف عليه الدولة. كما أننا نتقبّل فكرة أن ”الفجوة الرقمية“ بين من يستخدمون الإنترنت وبين من لا يملكون مدخلاً إليه يجب أن تُردم.ولقد شرعتُ في الآونة الأخيرة بطرح السؤال التالي على أصدقائي: هل نمتلك الحق بالتنزه في الغابات؟ ردّ بعضهم بتناقض محيّر قائلاً: انظرْ إلى ما يفعله نوعنا البشري بكوكبنا. بناء على هذا الدليل فحسب أليست العلاقة بين البشر والطبيعة قائمة على التعارض ضمنياً؟ هذه وجهة نظر قابلة للفهم في ضوء تدمير البشر للطبيعة. لكن فكّروا برد أشخاص ينتمون إلى توجّه آخر في الطيف السياسي\الثقافي، حيث يُنْظر إلى الطبيعة كشيء يخضع لهيمنة البشر، أو على أنها محطة إلهاءٍ على الطريق إلى الفردوس.من الناحية العملية، إن هاتين النظرتين إلى الطبيعة تختلفان جذرياً. وعلى الرغم من ذلك، هناك أيضاً تشابه مدهش بينهما: تبقى الطبيعةُ هي ”الآخر“، والبشر هم فيها، لكنهم ليسوا منها.
أَقْلق ذكري للمفهوم الأساسي للحقوق بعض الناس الذين تحدثتُ معهم ما دفع أحد الأصدقاء إلى طرح السؤال التالي عليّ: ”في عالم يحتوي على ملايين الأطفال الذين يتعرضون لانتهاكات وحشية كل يوم، هل يمكن أن ندّخر الوقت كي نقدّم حقوق الطفل على تجربة الطبيعة؟“ كان طلبه جيداً. أشار آخرون إلى أننا نعيش في عصر تَضَخَّم فيه القانون وتقلصتْ الحقوق، ويعتقد كثير من الناس أن لهم ”الحق“ بمكان لركن سياراتهم، و“الحق“ بالتلفاز الكبليّ، وحتى ”الحق“ بأن يعيشوا في حارة تحظر الأطفال.نتيجة لهذا، تقلصتْ فكرة الحقوق. هل نحتاج فعلاً إلى إضافة مزيد من الحقوق إلى قائمة حقوقنا؟
إن جوابي على هذه الأسئلة هو نعم، إذا كان بوسعنا الاتفاق على أن الحق قيد النقاش جوهري لإنسانيتنا.
منذ عدة أعوام وبينما كنت أقوم ببحثي كي أؤلف كتابي ”آخر طفل في الغابات“، زرتُ مدرسة ساوثوود الابتدائية، التي درستُ فيها في طفولتي حين كانت عائلتي تسكن في ريتاون بولاية ميزوري. سألتُ طلاب أحد الصفوف في هذه المدرسة عن علاقتهم بالطبيعة فقدّم كثيرون منهم الجواب المألوف التالي: أنهم يفضلون ألعاب الفيديو، والأنشطة التي تتم داخل المنزل، وحين يكونون في الخارج يلعبون كرة القدم أو رياضة أخرى ينظمها الكبار.لكن إحدى طالبات الصف الخامس، التي وصفتْها أستاذتها ب“شاعرتنا الصغيرة“ أجابت: ”حين أكون في الغابات أشعر بأنني مع نفسي“. ذلك أن الطبيعة تجسد بالنسبة لها الجمال والملاذ وشيئاً آخر. أضافتْ قائلة: ”إن الجو مسالم أيضاً ورائحة الهواء طيبة. أرى أن الجو مختلف جداً في ذلك الموضع. إنه وقتي الخاص. أحياناً أذهب إلى هناك حين أكون غاضبة ومستاءة، وأشعر بالتحسن من ذلك الهدوء. أعود إلى البيت سعيدة، ولا تعرف أمي السبب“. توقفتْ. ثم تابعت: ”أمتلك مكاناً خاصاً بي. كان هناك شلال ماء كبير وجدول إلى جانبه. حفرت حفرة كبيرة في المكان، وأحياناً كنت آخذ خيمة، أو بطانية وأستلقي في تلك الحفرة فحسب وأنظر نحو الأعلى إلى الأشجار والسماء.أحياناً أنام هناك. أشعر بالحرية، كما لو أنه مكاني الخاص الذي أستطيع أن أفعل فيه ما أشاء، ولا أحد يستطيع أن يمنعني من ذلك. كنت أذهب إلى هناك كل يوم تقريباً“. احمرّت الشاعرة الصغيرة وبحّ صوتها. ”ثم قاموا بقطع الأشجار، كما لو أنهم بتروا عضواً من أعضائي“.
أذهلني تعليقها الأخير: ”كما لو أنهم بتروا عضواً من أعضائي“. إذا كانت فرضية البيوفيليا(٢) التي طرحها عالم البيولوجيا إدوارد. أو. ولسون (٣) صحيحة (أن الميل إلى الطبيعة لدى الإنسان فطري) فإن مقولة شاعرتنا الصغيرة تتجاوز كونها استعارة.حين أشارت إلى غابتها بأنها ”جزء مني“ كانت تصف شيئاً ما من المستحيل تحديده، أعني تركيبتها البيولوجية الأولية، إحساسها بالدهشة، وجزءاً جوهرياً من نفسها.
لإنهاء التوجهات التي تفصل البشر عن الطبيعة، يجب أن تستند الأفعال إلى العلم، لكنها يجب أن تستند أيضاً إلى حقيقة أعمق. في ٢٠٠٧ اجتمع عدد لا بأس به من العُمُد والأساتذة ودعاة الحفاظ على البيئة وقادة الأعمال في واشنطن العاصمة لمناقشة انقطاع الصلة بين الفتيان الصغار والطبيعة. تناول نقاشهم (التنويري، والحماسي أحياناً) أشخاصاً من مختلف الأعمار، ولكن مع مرور الساعات بدأ عدد من الحضور يسألون عن الحلول. كان البعض يبحث عن نموذج أعمال كي يطبقه على تحدي تعريف الأطفال على الطبيعة. ورأى الجميع أن هناك حاجة إلى مزيد من الأبحاث.
”أقدّر هذا النقاش، لكنني أرغب بأن أضيف شيئاً“، قال جيرالد إل. دودري، وهو كبير كهنة الكنيسة البابوية بروفيدنس ميشينيري في مدينة أطلنطا. ساهم دودري في تأسيس المنظمة الثقافية الأفريقية الأمريكية وعمل إلى جانب مارتن لوثر الابن . تقدّم إلى الأمام وقال:”إن الحركة تتحرك. لديها حياة“.وعلى غرار كل حركة ناجحة، إن ما زوّد صراع حركة الحقوق المدنية (٤) بالوقود هو مبدأ أخلاقي مصقول بقوة، مبدأ ليس بحاجة كي نبرهن عليه مرة بعد أخرى. كان من المحتمل أن تكون نتيجة حركة الحقوق المدنية مختلفة، أو على الأقل متأخرة، كما نوه دودري، لو انتظر قادتها مزيداً من البراهين الإحصائية كي يبرروا قضيتهم، أو ركزوا على عدد الاعتصامات الشبيهة باعتصام جرينسبورو (٥). لقد برهنت بعض الجهود بأنها ناجحة، إلا أن بعضها الآخر لم يكن منتجاً، ورغم ذلك انطلقت الحركة.
”حين نطرح حجة أخلاقية، ليس هناك أحكام ثابتة، وهذه الحجج يمكن أن تُجادَل دوماً“، بحسب الفيلسوف لاري هينمان (٦). ”غير أن معظم الحجج الأخلاقية تستند إلى نقطة أو نقطتين. تتضمن هذه مجموعة من النتائج ومبدأ أولياً، مثل احترام حقوق الإنسان على سبيل المثال.“ إن العلم يلقي الضوء على النتائج القابلة للقياس من أجل تعريف الناس على الطبيعة، وتشير الدراسات إلى فوائد صحية ومعرفيةفورية وملموسة، غير أن ”مبدأ أولياً“، يبزغ ليس فقط من ما يستطيع العلم أن يبرهن عليه، بل أيضاً من ما لا يستطيع أن يكشفه بشكل كامل: صلة حقيقية مع الطبيعة جوهرية لروحنا وبقائنا، كأفراد وكنوع.
تحدث توماس بيري (٧) في زمننا عن استحالة الانفصال عن الطبيعة بوضوح أكبر.وضع بيري وجهة نظر إي. أ. ولسون البيولوجية داخل منظور كوني أوسع.وفي كتابه، ”العمل العظيم“ كتب بيري: ”إن ما هو ملح الآن هو أن نبدأ بالتفكير داخل سياق الكوكب كله، جماعة الأرض الكاملة بكل مكوناتها البشرية وغير البشرية. وحين نناقش الأخلاق يجب أن نفهمها على أنها تعني المبادئ والقيم التي تحكم تلك الجماعة الشاملة“. اعتقد بيري بأن العالم الطبيعي هو التجلي المادي للمقدس وأن استمرارية كل من الدين والعلم لا تعتمد على فوز أحدهما على الآخر (لأن كليهما سيخسر حينها) بل على بزوغ ما دعاه قصة تنتمي إلى القرن الواحد والعشرين، أي إعادة الاتحاد بين البشر والطبيعة.
قد يقلقنا الحديث عن المطلقات، لكن من الأكيد أن هذا صحيح: كمجتمع يجب أن نعاود منح الطبيعة لأطفالنا ولأنفسنا. إن عدم فعلنا لذلك غير أخلاقي. قال بيري: ”إن مسكناً منحطاً سينتج بشراً منحطين، وإذا كنا نريد تحقيق أي تقدم حقيقي فهذا يعني أن الجماعة كلها يجب أن تتقدم“. حين تأسستْ المُثُل الأمريكية، كانت الطبيعة جوهرية لفكرة حقوق الإنسان، وكان فكر الآباء المؤسسين ينطوي على هذه الفرضية التالية: مع كل حق تأتي مسؤولية، سواء أكنا نتحدث عن الديمقراطية أم الطبيعة، وإذا فشلنا في أن نخدم كمضيفين حريصين، سندمر سبب حقنا، والحقّ نفسه، وإذا لم نستخدم هذا الحق سنفقده.
قال فان جونز، مؤسس حركة ”الأخضر للجميع“ ومؤلف كتاب ”اقتصاد الياقة الخضراء“، إن مجموعات العدالة البيئية تفرط في التركيز على ”الحماية المتكافئة من المادة السيئة“، أي السموم التي يتم التخلص منها في معظم الأحيان في حارات معزولة اقتصادياً. ودعا إلى تشديد جديد على المدخل المتكافئ إلى ”المادة الجيدة“، أي الوظائف الخضراء التييمكن أن تنقذ شبان المدن وغيرهم من البؤس. على أي حال، ثمة فئة أخرى ل“المادة الجيدة“، وأعني الفوائد الصحية المادية والنفسية والروحية، والمعرفية التي نتلقاها جميعاً من تجاربنا في العالم الطبيعي.
يجب أن يقرن مجتمعنا القول بالفعل حين يتحدث عن أهمية الطبيعة، وأن يضمن أن يتوفر للناس في جميع أنواع الحارات كل يوم مدخل إلى الفضاءات والأمكنة والتجارب الطبيعية. لتحقيق هذا، يجب أن تصبح هذه الحقيقة واضحة: لا يمكننا أن نعتني بالطبيعة وبأنفسنا إلا إذا رأينا أنه لا يمكن الفصل بيننا وبين الطبيعة، و أحبننا أنفسنا كجزء منها، و آمنا أن الكائنات البشرية تمتلك الحق بهباتها، من دون تدمير.
قد لا يكون للفتاة الصغيرة في ريتاون حق محدد في تلك الشجرة المعينة في غابتها المختارة، لكن لها حقاً لا يمكن إنكاره بأن تكون مع حياة أخرى، لها الحق بالحرية، التي لا يمكن أن تتحقق عن طريق إقامة جبرية حمائية في المنزل، والحق بالبحث عن السعادة، والتي يجعلها العالم الطبيعي كلية.
هذا الحق هو حقٌّ لكم أنتم أيضاً.
هوامش المترجم
١- ”اضطراب نقص الطبيعة" عبارة صاغها المؤلف ريتشارد لوف، في كتابه "الطفل الأخير في الغابة"، وهي تعني أن الأطفال يقضون وقتاً أقل في الهواء الطلق وهذا يؤدي إلى عدد من المشاكل السلوكية.
٢- تقترح فرضية البيوفيليا أن البشر يمتلكون ميلاً فطرياً لنشدان الصلات مع الطبيعة وأشكال أخرى من الحياة. أدخل إدوارد. أو. ولسون الفرضية في كتابه ”البيوفيليا“. ويعرّفها بأنها ”الإلحاح للتواصل مع أشكال أخرى للحياة“.
٣- إدوارد أو. ولسون (١٩٢٩-٢٠٢١) عالم أحياء وطبيعة وبيئة وحشرات أمريكي اشتهر أيضاً بتطويره لحقل السوسيوبيولوجيا (علم الأحياء الاجتماعي).
٤- كانت حركة الحقوق المدنية الأمريكية حركة جماهيرية ضد الفصل والتمييز العنصري في جنوب الولايات المتحدة وبرزت على الصعيد القومي في منتصف الخمسينيات. وتمتلك هذه الحركة جذورها في جهود استمرت لقرون بذلها العبيد الأفارقة والمنحدرون منهم لمقاومة الاضطهاد العنصري وإلغاء مؤسسة العبودية.
٥- كان اعتصام جرينسبورو، أو الاعتصام المضاد للفصل العنصري في المطاعم، احتجاجاً قامت به حركة الحقوق المدنية وبدأ عام 1960 عندما نظم طلاب أمريكيون من أصل أفريقي اعتصاماً في مكتب غداء وولورث الذي يفصل عنصرياً بين البيض والسود في جرينسبورو بولاية نورث كارولينا، ورفضوا المغادرة بعد رفض تقديم الطعام لهم. سرعان ما انتشرت حركة الاعتصام في المدن الجامعية في جميع أنحاء الجنوب. على الرغم من اعتقال العديد من المتظاهرين بتهمة التعدي على ممتلكات الغير أو السلوك غير المنضبط أو الإخلال بالسلام، إلا أن أفعالهم أحدثت تأثيراً فورياً ودائماً ما أجبر وولورث والمؤسسات الأخرى على تغيير سياسات الفصل العنصري.
٦- لاري هينمان (١٩٤٤) فيلسوف أمريكي وأستاذ شرف في جامعة سان دييغو في الولايات المتحدة الأمريكية. من أشهر كتبه ”الأخلاق، مقاربة جماعية للنظرية الأخلاقية“، ”مسائل أخلاقية معاصرة، التنوع والإجماع“.
٧- توماس بيري (١٩١٤- ٢٠٠٩)، قس كاثوليكي، مؤرخ ثقافي وباحث في أديان العالم، وخاصة التراث الآسيوي. فيما بعد درس تاريخ الأرض وكيف نشأت وعدّ نفسه عالم جيولوجيا.
[المصدر: The Nature Principle: Human Restoration and the End of Nature Deficit Order].