عندما تصير الإمبراطورية نملة

عندما تصير الإمبراطورية نملة

عندما تصير الإمبراطورية نملة

By : محمد عودة

Ophiocordyceps Unilateralis هو الاسم العلمي لنوع من الفطريات التي تتكاثر عبر التطفل على النمل، ما يميز هذا النوع من التطفل هو أنه لا يكتفي بامتصاص شيء من المضيف وإنما يخترقه كلياً ليتحكم بالجسد عبر مكونات بيولوجية تعبث بالجهاز العصبي. عندما بحثت عن تشبيهٍ للعلاقة بين الولايات المتحدة والكيان الصهيوني لم أجد أنسب من هذا. سوف تركّز المقالة على إعادة النظر فكرياً واستراتيجياً بطبيعة العلاقة بين الكيان الفطري والمضيف انطلاقاً من هذا التشبيه.

على مر العقد الماضي وحتى مطلع هذا الشهر، تزايدت نقاط التماس بين القوى العظمى، وفي كل حينٍ تلتهب الأحداث حتى تقترب من درجة الغليان قبل أن تهدأ قليلاً، نتساءل عن احتمالية وقوع حرب عالمية ثالثة. ربما سينظر المؤرخون إلى الحروب في الشرق الأوسط وحرب أوكرانيا بأنها البارود وأن طوفان الأقصى هو الشرارة، ونحن كلنا نعايش حرباً عالميةً دون أن ندرك ذلك بعد، إلا أن حرباً عالمياً ستجبرنا على الإدراك المؤلم عاجلاً لا آجلاً، فمقدار الألم والظلم قد فاق أي حدٍ طبيعي.

لكن التحليل، للأسف، عليه أن يبتعد عن الخطابة أو الجماليات ويلتصق بالحقائق. وقعت الحرب العالمية في مسرح أوروبي ومسرح المحيط الهادئ ومسرح البحر المتوسط والشرق الأوسط. لكن حرباً على مساحة عالمية تلتها وسميت بالحرب الباردة، وبما أن الحروب لم تصب الدول العظمى بمقتلٍ فلم يكترث العالم كفايةً ليسميها حرباً عالمية. وأرى أن هذا أقرب لما يحصل في حروب اليوم، ولذلك أظن أن الأدق هو أن ندرك أننا في الحرب الباردة الثانية لا العالمية الثالثة، إلا إن تفاقمت الصراعات لنصير في الحرب النووية الأولى.

الحجة العسكرية وهل تفسر السبب؟

تكاثرت التعليقات على التدخلات الغربية الداعمة للكيان الصهيوني لتؤكد رأياً سائداً عند المفكرين العرب واليساريين من الغرب، يفيد بأن الكيان هو امتداد استعماري للغرب، وتجد هذا الرأي بصياغات مختلفة وأدلة ستحاول هذه المقالة تفنيدها لتقديم نموذج بديل يفسر واقعنا اليوم. 

الحقائق التي يقوم عليها هذا الرأي السائد واضحة للجميع، القوى الغربية الكبرى مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا كلها تدعم الكيان دعماً يحلم به أي حليف. مؤخراً، طلبت إدارة الرئيس بايدن حزمةً غير مسبوقة من الكونغرس تصل إلى مئة وخمسة مليار دولار لدعم الأمن القومي، يذهب أكثر من نصفها إلى أوكرانيا (61 ملياراً)، وما يقارب عشرها للكيان الصهيوني (14 ملياراً)، وعشرٌ آخر لدعم الحدود الأمريكية المكسيكية (13.6 ملياراً). كما يذهب شيء منها لدعم تايوان. المبلغ المصروف على دعم أوكرانيا يمكن فهمه في إطار الحرب الباردة الثانية، حيث تسعى القوى الغربية لدعم الطوق حول روسيا واستنزافها في حربها الحالية، ولكن ما هو تفسير دعم الكيان بمبلغٍ يفوق دعم الحدود الأمريكية نفسها، فالكيان الصهيوني على عكس أوكرانيا لا يواجه قوة عظمى عسكرياً؟

هناك نقطة ثانية تزيد من غرابة ضخامة هذا الدعم وهي أنه دعمٌ شبه روتيني، على عكس الدعم لأوكرانيا، الكيان الصهيوني كان منذ الحرب العالمية الثانية وحتى 2019 أكبر متلقٍ للدعم الأمريكي، وكانت المبالغ تصل إلى عشرات المليارات في كل عقد، ثم صار في المرتبة الثانية بعد أفغانستان، بينما احتلت المراتب الثلاثة بعدها دول تحيط بالكيان وهي الأردن، ومصر، والعراق. نلاحظ أن تصنيف الدول المتلقية للدعم الأكبر ينقسم إلى دولتين احتلتهما الإمبراطورية الأمريكية، ودولتين في سلامٍ مع الكيان الصهيوني. لا يمكن تفسير عدم تقديم هذا الدعم السخي للدولتين المتبقيتين في الإقليم، سوريا ولبنان، سوى باقتران الدعم مع توقيع معاهدات الاستسلام للكيان.

بالتدريج، يمكنك تأويل تصرفات الولايات المتحدة على أنها إمبراطورية تريد حماية مصالحها، وهي إمبراطورية حديثة لا تسعى لتطهير عرقي وإحلال مواطنيها كما كان حالها تاريخياً، ولا تشابه الاستعمار الكلاسيكي إن صح التعبير، والذي يسعى إلى السيطرة المباشرة والكاملة على المستعمرات دون الحاجة للاستيطان الجماعي مثل الإمبراطورية البريطانية والهند.

لكنّ كل هذا لا يفسر الدعم للكيان الصهيوني. يزعم الرأي السائد بأن الكيان امتداد استعماري للولايات المتحدة في المنطقة ويربطه بها استراتيجياً لتحقيق مصالحها. ولا أدري كيف يترجم هذا الكلام على أرض الواقع، فلو أخذنا احتلال العراق، على سبيل أنه أقرب مثال لحربٍ أمريكية أتاحت لهذا الكيان بأن يثبت أهميته الاستراتيجية، سنجد أنه لم يشارك في تحالف الدول المساهمة في احتلال العراق، ولم يُقتَل أي جندي إسرائيلي في هذه الحرب. وإذا ذهب أحدهم لتفسير ذلك بأن الكيان قال إنها "ليست حربنا"، فما هو تفسير الإملاء الإسرائيلي على أمريكا كي تحتل العراق؟ حينها أدلى نتنياهو بشهادة أمام الكونغرس الأمريكي تشجّع على أن إسقاط صدام سيملأ الإقليم كله بأصداء إيجابية.

هذا أيضاً دليل لا يفسره الرأي القائل بأن إسرائيل هي حليف استراتيجي أو تابع ينفذ مصالح الإمبراطورية، بالعكس هو الأقرب للواقع، فكل شيء يدل على أن الولايات المتحدة هي التي تتلقى بعض الأوامر والإرشادات من الكيان، ولا سابق لعلاقة مثل هذه بين أي مستعمرة والدولة الاستعمارية التي تمتد منها. في العادة تضخ المستعمرات ما نهبت إلى عمق الإمبراطورية أو تساعد في تثبيت مصالحها على حدودها الإمبراطورية، كل هذا لا نجده في حالة الكيان.

ولا يتوقف الأمر على فقدان دليلٍ واضحٍ على المصلحة التي تنالها الولايات المتحدة من دعم الاحتلال، بل نجد المزيد من الأدلة في الاتجاه المعاكس. ففي الوثائق التي سربها إدوارد سنودين دليل على أن وكالة الأمن الأمريكية تشارك معلوماتها الاستخباراتية مع الكيان عن مواطنيها، في حين اتُّهم الكيان بشبهة التجسس على البيت الأبيض في 2019 دون أي نوعٍ من التوبيخ.

يبحث البعض عن أي حجة لتفسير تلك العلاقة دون الاعتراف بانقلاب الأدوار، تشومسكي المشهور بعدائه للسياسات الأمريكية الخارجية وعدم رضاه عن الكيان، ينبش في الوثائق المسربة ليخبرنا بأن الأهمية الاستراتيجية للكيان تكمن في التعاون العسكري التقني، كما يقلل من خطورة اللوبي الصهيوني بحجج فارغة ليرسخ اللوم على الولايات المتحدة. لكن هل يفسر حقاً وجودُ شيءٍ من التعاونِ مقدارَ الخسارة التي تتكبدها الولايات المتحدة لتدفع ثمنه؟

قد يكون هناك بعض الأفكار التي تصح عندما تؤخذ وحدها أو في توقيت معين لكنها تفشل عندما نضعها في سياقها كما هي حجة المصلحة العسكرية. فضلاً عن عدم مشاركة الكيان عسكرياً مع الإمبراطورية التي يزعم البعض أنه تدعمه خصوصاً من أجل هذه المصلحة، تملك الإمبراطورية الأمريكية من القواعد العسكرية في المنطقة المحيطة بهذا الكيان ما يسد حاجتها للردع المحلي، إذ تضم العديد من الدول العربية قواعد أمريكية ومنها العديد. ولو تتبعت حجة الردع العسكري وأحسنتُ الظن فإن الداعي لمثل هذه الحجة هو الاصطفافات في الحرب الباردة الأولى، حيث كانت الدول العربية القومية تميل نحو القطب السوفيتي وكان فعلاً من مصلحة الولايات المتحدة التصدي لهذه الدول.

تكمن مشكلة هذه الحجة في أصل العداء للولايات المتحدة، إذ لا داعي للعداء المباشر من الشرق الأوسط تجاه الولايات المتحدة بعينها، فهي ليست بريطانيا أو فرنسا اللتان احتلتا دولاً عربيةً مسبقاً. أي لولا وجود الكيان الصهيوني، ولولا حالة العداء التي حلّت مع الكيان الملطخ بدماء العرب ومن وقف في طريقه من الغرب، لما كان هناك داعٍ للشعور بالنفور من دول المنطقة. والأهم من ذلك وما أشبه اليوم بالبارحة، لم يكن الكيان عدواً مريراً لروسيا السوفيتية على أي حال حتى نقول أنه ضمن مصلحة الولايات المتحدة للتصدي لروسيا.

نزرع هنا علامة استفهام حول طبيعة هذه العلاقة والرأي القائل بأن هذا الكيان وظيفيٌ لتلك الدول. كل الأدلة ترسم صورة مقلوبة تكون فيه هذه الدول العظمى وظيفيةً للكيان. إلا أن في ذلك أيضاً تبسيطاً مبالغاً فيه عند دراسة سياسات تلك الدول بشكل عام. وبما يخص الصراعات المختلفة في كل أنحاء العالم، ليس من المعقول أن يكون هناك سبب للصراع الصيني التايواني يخدم الكيان، إلّا بشكل طبيعي وفقاً لشكل العلاقات المتشابكة في العالم المعاصر المرتبط بسبب التطور الصناعي، لا أكثر. الفرضية التي أطرحها للنقاش والصقل تحمل قوة تفسيرية تنفع لتوضيح طبيعة العلاقة فيما يخص رقعة نفوذ الإمبراطورية الأمريكية في الشرق الأوسط فحسب، وأثر ذلك على سياسات الدول الداعمة بما يخص الشرق الأوسط.

العلاقة بين الكيان الصهيوني والدول الداعمة له هي علاقة أحادية الجانب تفوق فيها المفسدة على المصلحة لمن وقف مع الكيان

الحجة الأخلاقية وهل تفسر الكم؟

ما يجدر ذكره عن تلك الفطريات التي ذكرناها في البداية، هو أنها لا تسيطر على "عقل" النملة وإنما تتغلغل في مفاصلها، وتحرّك مضيفها كما تشاء.

الساسة المتصهينون في الإمبراطورية يتحدثون عن ثلاثة أسباب لهذه العلاقة: المصلحة الاستراتيجية التي ذكرت غرابتها أولاً، وخصوصية المظلومية اليهودية بعد الحرب العالمية الثانية، والقيم الغربية المشتركة ثالثاً.

هنا يسعني الإشارة سريعاً إلى مقالة التصابي التصنيفي وإلى صورة أخرى من الخلل التصنيفي الذي يقع فيه المفكرون العرب، حيث تستخدم كلمة "الغرب" وتسبغ على جميع الأطراف. ليقول بعضهم إن الغرب يشعر بالذنب حول مظلومية اليهود عبر تاريخهم وخصوصاً في الحرب العالمية وأنهم يحاولون التكفير عنه، وذلك عبر الدعم اللامتناهي للكيان. وربما يصح تشخيص ذلك الذنب عند الدولة الأشهر في هذا الصدد وهي ألمانيا، لكن كلمة الغرب لا معنى لها في الحرب العالمية التي كان "الغرب" فيها هم أشد المتناحرين.

تشكّل الحرب العالمية ميثولوجيا خلق علمانية مدنية؛ اليهود هم الضحايا فيها والأخيار في هذه الملحمة هم الحلفاء الذين هزموا الألماني. كيف إذاً يشعر المنقذ بالذنب؟ أو الدول الغربية التي احتلتها دول المحور؟ هنا يصعب تفسير هذا الذنب بواقعية، ويلجأ أي قائل بهذا إلى الخلط بين الدول الغربية بطريقة عشوائية وبمراحل منتقاة من تاريخ كل دولة دون اعتبارات ملائمة. علاوةً على أن الولايات المتحدة أنقذت اليهود في الملحمة المتخيلة، فهي لم تعانِ يوماً من انتشار "معاداة السامية"، ولا يوجد في تاريخها ما نجده في تاريخ معظم الأقوام من اشتباك بشكل أو بآخر مع الأقلية اليهودية. لذلك لا يعقل أن تكون الولايات المتحدة تحاول التبرؤ من تاريخها. أما دولة مثل بريطانيا فهي وإن عاشت لمدة طويلة بما فيه الكفاية ليشمل تاريخها مثل تلك الحلقة إلا أنه تاريخ في الماضي السحيق، وإن كان الألماني يكفّر عن ذنبه فما هو ذنب قوم بلفور الذي لم يغسله إقامة الكيان بأكمله؟

من المنطقي أن يأتي رد يقول إن دول الحلفاء يدافعون عن الكيان الصهيوني لا لأنهم يشعرون بالذنب، بل لأنهم يسعون لحماية اليهود من مصير يشبه ذلك المصير في الميثولوجيا العلمانية، هذا الرد معقولٌ أكثر مما سبق وأسلّم إلى حدٍ ما بأنه سبب مقنع أكثر، ولكنني أجد خللاً في تفسير كم هذا الدعم. لنقل أنهم يحمون الكيان من أجل ذلك، فلماذا يتركونه في بيئة معادية تماماً ويصرفون كل هذا عليه بدلاً من تحصينه في بلدانهم؟ الحجة الوحيدة التي تجمع بين حرصهم على حمايته وحقيقة وجوده في الشرق الأوسط كما اختار لنفسه تصب في حجة هذه المقالة التي تفصل بين فكر وإرادة الكيان، وبين فكر وإرادة داعميه.

ومن غير المنطقي أن تأتي الردود التي تتهم الدول الغربية بنوعٍ مستتر من معاداة سامية، مثل تلك الردود التي تحيل الدعم إلى كراهية الغرب لليهود وأنهم صنعوا الكيان كي يطردوهم من دولهم، ولا داعي للإطالة في الرد على هذا النوع من الحجج، إذ تكفي الإشارة إلى عدم وجود أي وثائق سرية تدل على ذلك، وأن اليهود في الدول الغربية يعيشون مثل أي مواطنٍ آخر بل والكثير منهم يتقلدون أعلى المناصب بين ظهراني الساسة. وإن كان هذا نوعٌ مميزٌ جداً من الكراهية مستترٌ بطريقة مؤامراتية عميقة، فهل يفسر هذا الكم الهائل من المساعدات؟

الحجة الثقافية والمكملات الفارغة للرأي السائد

أخيراً، يبقى التقارب الثقافي من الأسباب المعلنة عند الساسة الغرب. عادة، يشار إلى الكيان بكل استشراقيةٍ بأنه واحة من الديمقراطية والحضارة، رغم كل أنواع الحروب والمؤامرات التي شنها على جيرانه، وأن شعوب أولئك الجيران لا تشعر بالراحة بجانب هذا الكيان.

لا داعي لأن ندافع عن أنفسنا ونرفع هذه التهمة العنصرية في هذا المقام، لكن لدواعي المقالة يجب تفنيد هذه الحجة بالإشارة إلى أن أكثر الدول قرباً من الولايات المتحدة في المنطقة هي الممالك. لو كانت القيم هي ما يوحّد الحلفاء لتغيّر التاريخ الذي نعرفه، إذ يُنسى عند ذكر دول الحلفاء في الحرب العالمية الثانية مثلاً أن الاتحاد السوفيتي كان في صفّهم، ولم تجمعهم معه أية قيم سوى العداء لدول المحور.

كما أن في صُلب الكيان الصهيوني مزعم ديني وعرقي، وذلك لا ينطبق على أي الدول الحليفة منذ تأسيسه وحتى اليوم. بالطبع، لا تمارس الدول الغربية كل المبادئ الإنسانية والحقوقية التي تتغنى بها، لكننا لا ننكر أنها قطعت شوطاً معتبراً في الميادين المدنية، وأنها دولٌ صارت علمانية إلى أبعد الحدود، وفكرة إقامة دولة على أساس عرقي مدعاة للسخرية والاستهجان في تلك الدول، لكن هذا الاستهجان يقف عند ذكر الكيان. لذلك تتهاوى هذه الحجة.

أخيراً، يبالغ البعض ويذهب إلى بكائيات ضد الاستعمار الكلاسيكي القديم ويقول إن الدول تدعم هذا الكيان لترضي حساً استعمارياً قديماً، وكأن الدول أشخاصٌ يعانون من النوستالجيا ويصرفون المليارات فقط لإرضاء مزاجهم. أو أن هذا الكيان المترهل عسكرياً يرضي دولاً استعمارية بدلاً من أن يخزيها فشله المتكرر في مواجهة ميليشيات موفقة دون المليارات.

الأصح هو أن نتقفى أثر هذه الحجة، تصريحات نتنياهو اليوم تصوّر الصراع بأنه بين الحضارة والبربرية، ويركز على القيم "الغربية المشتركة"، ونجد منبتاً لهذه الفكرة في التسعينيات وخصوصاً في خطةٍ خطّها هو مع مجموعة من السياسيين الأمريكيين تدعو لأن "يترفّع" الكيان على الصراع مع الدول العربية عبر إسقاطها بحروب بالنيابة أو عبر التدخل الأمريكي، إحدى البنود تدعو إلى التركيز على أن الكيان على طيفٍ من القيم الغربية. 

دعوة وجدوى إعادة النظر

إحدى مواطن القوة في التشبيه الذي جاء في مطلع المقالة يأتي من التسمية نفسها، كلمة unilateralis تعني أحادية الجانب، والعلاقة بين الكيان والدول بصفتها دولاً تبدو تحت المجهر بأنها تذهب في اتجاهٍ واحد.

لكن كيف يفسر التشبيه هذه العلاقة، أيعقل أن الدول الغربية لا تستفيد البتة من تحالف كهذا؟ من البساطة أن نؤمن بنظرية مؤامرة معقدة جداً عن هيمنة سحرية للكيان عليهم، أو نظريات متهمة بمعاداة السامية، ولكن من السذاجة تجاهل كل المؤشرات على علاقة غريبة بين هذا الكيان وتلك الدول. الحل الأنسب هو الدراسة المجهرية لفرضية الفطريات التي توضّح تغلغلاً في الجسد الغربي، هذا التغلغل انفضح مؤخراً بعد الطوفان. سياسياً وثقافياً، نجد الصهاينة على كل الأصعدة يعملون جهاراً نهاراً على تهيئة الرأي العام والخاص لتقبل المجازر والتطهير العرقي الصهيوني لغزة. المتصهينون من غير اليهود مؤمنون بضرورة دعم الكيان بسبب هذا التغلغل، هناك من يقبض المال بشكل صريح مثل الرؤساء الذين تتبرع الحركات والقامات الصهيونية لحملاتهم، وهناك من يصدق الأكاذيب الصهيونية بسذاجة لأن الأخاديع المركبة انطلت عليهم.

لا ينطبق التشبيه على الواقع انطباقاً كاملاً وإلا لما عاد تشبيهاً، وعندما أشبّه الحلفاء بالنمل الذي سيطرت عليه هذه الفطريات فأنا أشير بالدرجة الأولى إلى الخطورة التي تشكلها تحركات لا تفيد سوى الفطريات، أما في الحالة الواقعية فإن نفعاً لا بد وأن يعود على تلك المفاصل. وأزعم أن اكتشافها ليس بذلك الصعوبة، مثلاً، يوضح الوثائقي المتعلق بحادثة الهجمة على سفينة يو إس إس ليبرتي وكيف غطت الحركة الصهيونية الجريمة عبر مزيجٍ من الرشوة والابتزاز وإخفاء الأدلة، وتوفير خدمات لا يوفرها إلا كيان يتغلغل في عدة دول متحاربة ويملك سطوة على الرأي العام.

ثانياً، لننتبه إلى سهولة كشف زيف البروباغندا والخداع الموجه لجمهور آخر، الأولى بنا أن نبحث عن آثار هذا التغلغل في سياساتنا وثقافاتنا، ومع أن التصهين البواح ما زال شاذاً في العقلية العربية والإسلامية، إلا أن نظرية الكيان بصفته كائن فطري طفيلي تجزم بأنه سوف يبث أنواعاً مستترة من التصهين، ومحاكة خصيصاً للجمهور العربي. كما يجب التأكد من أن التغلغل هو ليس مؤامرة رأسية تأتي فقط في إقناع شخص أعلى الهرم، وإنما باختراق مفاصل المضيف سياسياً وثقافياً واقتصادياً، وتحريكه.

الخلاصة

الحجة الجوهرية في هذه المقالة هي كالتالي: العلاقة بين الكيان الصهيوني والدول الداعمة له هي علاقة أحادية الجانب تفوق فيها المفسدة على المصلحة لمن وقف مع الكيان، وأن كل التفسيرات التي تدعم الرأي المعاكس والقائل بأن الكيان وظيفي أو امتداد للاستعمار لا تفسّر سببية الدعم أو نوعه أو كمّه. ما تقوله حجتي هي أن الكيان على الرغم من التصاقه في مفاصل الدول المضيفة فهو لا يزال منفصلاً وانتهازياً، وهذا الفصل الدقيق مهم لسببين، الأول هو أن الواقع في صراع وجودي كهذا لا بد وأن يُحترم عند تشخيص الخطر علينا، وأن الأهواء وصلاحية الأفكار المنتهية مع الزمن يجب أن تُحيّد. السبب الثاني هو أن الحقيقة بتعريفها البراغماتي يجب أن تفسح الطريق للفعل، وأنا أزعم أن الرأي الذي أخالفه لا نجد أمامه أي طريقٍ براغماتي، فإن كنت تؤمن كلياً بأن الكيان امتداد لكل تلك الدول العظمى وأنهم مستعدون للهلاك من أجله، فما هي جدوى الصراع مع هذا الكيان المدعوم من العالم الأول؟ وإن صدقت نية من زعم بأنها امتداد لتلك الدول بصراعهم، فما هي الاستراتيجية؟ أظن أنها حجةٌ عقيمة لا تولد فِعلاً وتصاغ لتريح ضمائر القاعدين إذ إن أي مخطط أقل من تدمير الغرب أو إرهاقه لا يعقل مع هذا الرأي، نحن نتحدث عن إمبراطوريات قائمة ومتقاعدة. والثمن المدفوع من الأنفس حتى نرهق العالم الأول مادياً هو ثمن باهظ جداً وقيمة أرواحنا تفوق ما يخسرونه من المليارات.

أما لو نظرنا إلى الحقيقة الفطرية للكيان، يُفتح باب لنظرية إزالته إزالةً جراحية دقيقة من مفاصل المضيفين الغربيين وحتى العرب. كما يمكن استخدام أسلحته ضده في كل الميادين؛ في فلسطين لا خيار آخر سوى الحسم العسكري وإن تخدرت تلك المناطق تحت سيطرته، وهذه المواجهة مفروضة أيضاً في الدول التي لم تستسلم مثل لبنان وسوريا. أما في تلك التي وقّعت معاهدات السلام مثل الأردن، ينمو هذا الكيان حول صمامات المياه وعدادات الكهرباء، ولا يتردد في القتل العشوائي دون أي احترام للمواطنين الأردنيين أو المصريين أو لسيادة هذه الدول. خارج بلاد الشام ها هو يتسلل لتخدير وتسخير دول الخليج أيضاً.

في الدول المضيفة العربية، والتي تشعر بالألم والحمى، لا داعي لإقناع الجميع بخطورته وإنما يكفي التذكير والتحليل. أما في الدول الغربية، تجب مواجهته في الحقل السياسي الراشي للمرشحين والمسؤولين، وفي الحقل الثقافي المخادع للمواطنين. وربما يمكن تفعيل مهمة مضادة لمهمة الكاناري، بدلاً من استهداف الطلاب والناشطين بسبب أفكارهم كما يفعل شرطة الفكر الأورويليون، يجب استهداف الصهاينة الفعّالين في الرشوة والخداع وإبطال مساعيهم، وخصوصاً أولئك المرتبطين بشكل واضح ومثبت بالكيان الصهيوني، لا أي شخصٍ تلقَّن أفكاراً صهيونية وأخذ يكررها.

الفرضية التي أطرحها في هذه المقالة تعطي المجال لمواجهة تغلغل الكيان في مفاصل كل تلك الدول المضيفة، بدلاً من أن تكتفي مثل الرأي السائد بشيء من القبلية البدائية التي تؤمن بأن القوى العظمى تتصرف كما لو أنها قوى الطبيعة التي لا يمكن صرفُ ضررها وأن هذا الكيان هو سلاح تلك القوى. تفتحُ هذه الفرضية المجال للتفكير بجدية في نوعٍ مبتكر من المقاومة، يوجه أهدافه نحو المفاصل التي تغلغلت فيها الفطريات والقضاء عليها دون حاجةٍ لمواجهة النملة العملاقة.

ننهي بالعودة إلى التشبيه في بداية المقالة، ماذا تفعل الفطريات الطفيلية بعد سيطرتها على النملة؟ تحركها نحو مكان تتوفر فيه الظروف المناسبة لنمو الطفيليات في جسد النملة من ضوء ورطوبة. في هذا المحيط المناسب لها، تُجبر النملة على أن تعضّ ورقة وتَعْلَق في مكانها إلى أن تموت. فهل ستَعْلَق الإمبراطورية الأمريكية في الشرق الأوسط إلى أن تسقط؟

بعدها بحين، تقضي الفطريات على المضيف وتنشر لقاحها من جثمانه، باعثة أبواغها، باحثة عن مضيفٍ جديد لا يفقه ما حَلَّ بأخيه.


هوامش:

[1]: مثل الكونت فولك برنادوت السويدي الذي كان وسيط الأمم المتحدة من أجل مفاوضات السلام في 1948 والذي اغتالته عصابة ليهاي الصهيونية لأنه في نظرها دمية بريطانية جاء ليمنع قيام الدولة الصهيونية.

[2]: من أصحاب ذلك المخطط رجالات جورج بوش مثل دوغلاس فايث وهو من الذين هندسوا الحرب على العراق بعد إرساء تلك الاستراتيجية.


بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬