Ophiocordyceps Unilateralis هو الاسم العلمي لنوع من الفطريات التي تتكاثر عبر التطفل على النمل، ما يميز هذا النوع من التطفل هو أنه لا يكتفي بامتصاص شيء من المضيف وإنما يخترقه كلياً ليتحكم بالجسد عبر مكونات بيولوجية تعبث بالجهاز العصبي. عندما بحثت عن تشبيهٍ للعلاقة بين الولايات المتحدة والكيان الصهيوني لم أجد أنسب من هذا. سوف تركّز المقالة على إعادة النظر فكرياً واستراتيجياً بطبيعة العلاقة بين الكيان الفطري والمضيف انطلاقاً من هذا التشبيه.
على مر العقد الماضي وحتى مطلع هذا الشهر، تزايدت نقاط التماس بين القوى العظمى، وفي كل حينٍ تلتهب الأحداث حتى تقترب من درجة الغليان قبل أن تهدأ قليلاً، نتساءل عن احتمالية وقوع حرب عالمية ثالثة. ربما سينظر المؤرخون إلى الحروب في الشرق الأوسط وحرب أوكرانيا بأنها البارود وأن طوفان الأقصى هو الشرارة، ونحن كلنا نعايش حرباً عالميةً دون أن ندرك ذلك بعد، إلا أن حرباً عالمياً ستجبرنا على الإدراك المؤلم عاجلاً لا آجلاً، فمقدار الألم والظلم قد فاق أي حدٍ طبيعي.
لكن التحليل، للأسف، عليه أن يبتعد عن الخطابة أو الجماليات ويلتصق بالحقائق. وقعت الحرب العالمية في مسرح أوروبي ومسرح المحيط الهادئ ومسرح البحر المتوسط والشرق الأوسط. لكن حرباً على مساحة عالمية تلتها وسميت بالحرب الباردة، وبما أن الحروب لم تصب الدول العظمى بمقتلٍ فلم يكترث العالم كفايةً ليسميها حرباً عالمية. وأرى أن هذا أقرب لما يحصل في حروب اليوم، ولذلك أظن أن الأدق هو أن ندرك أننا في الحرب الباردة الثانية لا العالمية الثالثة، إلا إن تفاقمت الصراعات لنصير في الحرب النووية الأولى.
الحجة العسكرية وهل تفسر السبب؟
تكاثرت التعليقات على التدخلات الغربية الداعمة للكيان الصهيوني لتؤكد رأياً سائداً عند المفكرين العرب واليساريين من الغرب، يفيد بأن الكيان هو امتداد استعماري للغرب، وتجد هذا الرأي بصياغات مختلفة وأدلة ستحاول هذه المقالة تفنيدها لتقديم نموذج بديل يفسر واقعنا اليوم.
الحقائق التي يقوم عليها هذا الرأي السائد واضحة للجميع، القوى الغربية الكبرى مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا كلها تدعم الكيان دعماً يحلم به أي حليف. مؤخراً، طلبت إدارة الرئيس بايدن حزمةً غير مسبوقة من الكونغرس تصل إلى مئة وخمسة مليار دولار لدعم الأمن القومي، يذهب أكثر من نصفها إلى أوكرانيا (61 ملياراً)، وما يقارب عشرها للكيان الصهيوني (14 ملياراً)، وعشرٌ آخر لدعم الحدود الأمريكية المكسيكية (13.6 ملياراً). كما يذهب شيء منها لدعم تايوان. المبلغ المصروف على دعم أوكرانيا يمكن فهمه في إطار الحرب الباردة الثانية، حيث تسعى القوى الغربية لدعم الطوق حول روسيا واستنزافها في حربها الحالية، ولكن ما هو تفسير دعم الكيان بمبلغٍ يفوق دعم الحدود الأمريكية نفسها، فالكيان الصهيوني على عكس أوكرانيا لا يواجه قوة عظمى عسكرياً؟
هناك نقطة ثانية تزيد من غرابة ضخامة هذا الدعم وهي أنه دعمٌ شبه روتيني، على عكس الدعم لأوكرانيا، الكيان الصهيوني كان منذ الحرب العالمية الثانية وحتى 2019 أكبر متلقٍ للدعم الأمريكي، وكانت المبالغ تصل إلى عشرات المليارات في كل عقد، ثم صار في المرتبة الثانية بعد أفغانستان، بينما احتلت المراتب الثلاثة بعدها دول تحيط بالكيان وهي الأردن، ومصر، والعراق. نلاحظ أن تصنيف الدول المتلقية للدعم الأكبر ينقسم إلى دولتين احتلتهما الإمبراطورية الأمريكية، ودولتين في سلامٍ مع الكيان الصهيوني. لا يمكن تفسير عدم تقديم هذا الدعم السخي للدولتين المتبقيتين في الإقليم، سوريا ولبنان، سوى باقتران الدعم مع توقيع معاهدات الاستسلام للكيان.
بالتدريج، يمكنك تأويل تصرفات الولايات المتحدة على أنها إمبراطورية تريد حماية مصالحها، وهي إمبراطورية حديثة لا تسعى لتطهير عرقي وإحلال مواطنيها كما كان حالها تاريخياً، ولا تشابه الاستعمار الكلاسيكي إن صح التعبير، والذي يسعى إلى السيطرة المباشرة والكاملة على المستعمرات دون الحاجة للاستيطان الجماعي مثل الإمبراطورية البريطانية والهند.
لكنّ كل هذا لا يفسر الدعم للكيان الصهيوني. يزعم الرأي السائد بأن الكيان امتداد استعماري للولايات المتحدة في المنطقة ويربطه بها استراتيجياً لتحقيق مصالحها. ولا أدري كيف يترجم هذا الكلام على أرض الواقع، فلو أخذنا احتلال العراق، على سبيل أنه أقرب مثال لحربٍ أمريكية أتاحت لهذا الكيان بأن يثبت أهميته الاستراتيجية، سنجد أنه لم يشارك في تحالف الدول المساهمة في احتلال العراق، ولم يُقتَل أي جندي إسرائيلي في هذه الحرب. وإذا ذهب أحدهم لتفسير ذلك بأن الكيان قال إنها "ليست حربنا"، فما هو تفسير الإملاء الإسرائيلي على أمريكا كي تحتل العراق؟ حينها أدلى نتنياهو بشهادة أمام الكونغرس الأمريكي تشجّع على أن إسقاط صدام سيملأ الإقليم كله بأصداء إيجابية.
هذا أيضاً دليل لا يفسره الرأي القائل بأن إسرائيل هي حليف استراتيجي أو تابع ينفذ مصالح الإمبراطورية، بالعكس هو الأقرب للواقع، فكل شيء يدل على أن الولايات المتحدة هي التي تتلقى بعض الأوامر والإرشادات من الكيان، ولا سابق لعلاقة مثل هذه بين أي مستعمرة والدولة الاستعمارية التي تمتد منها. في العادة تضخ المستعمرات ما نهبت إلى عمق الإمبراطورية أو تساعد في تثبيت مصالحها على حدودها الإمبراطورية، كل هذا لا نجده في حالة الكيان.
ولا يتوقف الأمر على فقدان دليلٍ واضحٍ على المصلحة التي تنالها الولايات المتحدة من دعم الاحتلال، بل نجد المزيد من الأدلة في الاتجاه المعاكس. ففي الوثائق التي سربها إدوارد سنودين دليل على أن وكالة الأمن الأمريكية تشارك معلوماتها الاستخباراتية مع الكيان عن مواطنيها، في حين اتُّهم الكيان بشبهة التجسس على البيت الأبيض في 2019 دون أي نوعٍ من التوبيخ.
يبحث البعض عن أي حجة لتفسير تلك العلاقة دون الاعتراف بانقلاب الأدوار، تشومسكي المشهور بعدائه للسياسات الأمريكية الخارجية وعدم رضاه عن الكيان، ينبش في الوثائق المسربة ليخبرنا بأن الأهمية الاستراتيجية للكيان تكمن في التعاون العسكري التقني، كما يقلل من خطورة اللوبي الصهيوني بحجج فارغة ليرسخ اللوم على الولايات المتحدة. لكن هل يفسر حقاً وجودُ شيءٍ من التعاونِ مقدارَ الخسارة التي تتكبدها الولايات المتحدة لتدفع ثمنه؟
قد يكون هناك بعض الأفكار التي تصح عندما تؤخذ وحدها أو في توقيت معين لكنها تفشل عندما نضعها في سياقها كما هي حجة المصلحة العسكرية. فضلاً عن عدم مشاركة الكيان عسكرياً مع الإمبراطورية التي يزعم البعض أنه تدعمه خصوصاً من أجل هذه المصلحة، تملك الإمبراطورية الأمريكية من القواعد العسكرية في المنطقة المحيطة بهذا الكيان ما يسد حاجتها للردع المحلي، إذ تضم العديد من الدول العربية قواعد أمريكية ومنها العديد. ولو تتبعت حجة الردع العسكري وأحسنتُ الظن فإن الداعي لمثل هذه الحجة هو الاصطفافات في الحرب الباردة الأولى، حيث كانت الدول العربية القومية تميل نحو القطب السوفيتي وكان فعلاً من مصلحة الولايات المتحدة التصدي لهذه الدول.
تكمن مشكلة هذه الحجة في أصل العداء للولايات المتحدة، إذ لا داعي للعداء المباشر من الشرق الأوسط تجاه الولايات المتحدة بعينها، فهي ليست بريطانيا أو فرنسا اللتان احتلتا دولاً عربيةً مسبقاً. أي لولا وجود الكيان الصهيوني، ولولا حالة العداء التي حلّت مع الكيان الملطخ بدماء العرب ومن وقف في طريقه من الغرب، لما كان هناك داعٍ للشعور بالنفور من دول المنطقة. والأهم من ذلك وما أشبه اليوم بالبارحة، لم يكن الكيان عدواً مريراً لروسيا السوفيتية على أي حال حتى نقول أنه ضمن مصلحة الولايات المتحدة للتصدي لروسيا.
نزرع هنا علامة استفهام حول طبيعة هذه العلاقة والرأي القائل بأن هذا الكيان وظيفيٌ لتلك الدول. كل الأدلة ترسم صورة مقلوبة تكون فيه هذه الدول العظمى وظيفيةً للكيان. إلا أن في ذلك أيضاً تبسيطاً مبالغاً فيه عند دراسة سياسات تلك الدول بشكل عام. وبما يخص الصراعات المختلفة في كل أنحاء العالم، ليس من المعقول أن يكون هناك سبب للصراع الصيني التايواني يخدم الكيان، إلّا بشكل طبيعي وفقاً لشكل العلاقات المتشابكة في العالم المعاصر المرتبط بسبب التطور الصناعي، لا أكثر. الفرضية التي أطرحها للنقاش والصقل تحمل قوة تفسيرية تنفع لتوضيح طبيعة العلاقة فيما يخص رقعة نفوذ الإمبراطورية الأمريكية في الشرق الأوسط فحسب، وأثر ذلك على سياسات الدول الداعمة بما يخص الشرق الأوسط.
الحجة الأخلاقية وهل تفسر الكم؟
ما يجدر ذكره عن تلك الفطريات التي ذكرناها في البداية، هو أنها لا تسيطر على "عقل" النملة وإنما تتغلغل في مفاصلها، وتحرّك مضيفها كما تشاء.
الساسة المتصهينون في الإمبراطورية يتحدثون عن ثلاثة أسباب لهذه العلاقة: المصلحة الاستراتيجية التي ذكرت غرابتها أولاً، وخصوصية المظلومية اليهودية بعد الحرب العالمية الثانية، والقيم الغربية المشتركة ثالثاً.
هنا يسعني الإشارة سريعاً إلى مقالة التصابي التصنيفي وإلى صورة أخرى من الخلل التصنيفي الذي يقع فيه المفكرون العرب، حيث تستخدم كلمة "الغرب" وتسبغ على جميع الأطراف. ليقول بعضهم إن الغرب يشعر بالذنب حول مظلومية اليهود عبر تاريخهم وخصوصاً في الحرب العالمية وأنهم يحاولون التكفير عنه، وذلك عبر الدعم اللامتناهي للكيان. وربما يصح تشخيص ذلك الذنب عند الدولة الأشهر في هذا الصدد وهي ألمانيا، لكن كلمة الغرب لا معنى لها في الحرب العالمية التي كان "الغرب" فيها هم أشد المتناحرين.
تشكّل الحرب العالمية ميثولوجيا خلق علمانية مدنية؛ اليهود هم الضحايا فيها والأخيار في هذه الملحمة هم الحلفاء الذين هزموا الألماني. كيف إذاً يشعر المنقذ بالذنب؟ أو الدول الغربية التي احتلتها دول المحور؟ هنا يصعب تفسير هذا الذنب بواقعية، ويلجأ أي قائل بهذا إلى الخلط بين الدول الغربية بطريقة عشوائية وبمراحل منتقاة من تاريخ كل دولة دون اعتبارات ملائمة. علاوةً على أن الولايات المتحدة أنقذت اليهود في الملحمة المتخيلة، فهي لم تعانِ يوماً من انتشار "معاداة السامية"، ولا يوجد في تاريخها ما نجده في تاريخ معظم الأقوام من اشتباك بشكل أو بآخر مع الأقلية اليهودية. لذلك لا يعقل أن تكون الولايات المتحدة تحاول التبرؤ من تاريخها. أما دولة مثل بريطانيا فهي وإن عاشت لمدة طويلة بما فيه الكفاية ليشمل تاريخها مثل تلك الحلقة إلا أنه تاريخ في الماضي السحيق، وإن كان الألماني يكفّر عن ذنبه فما هو ذنب قوم بلفور الذي لم يغسله إقامة الكيان بأكمله؟
من المنطقي أن يأتي رد يقول إن دول الحلفاء يدافعون عن الكيان الصهيوني لا لأنهم يشعرون بالذنب، بل لأنهم يسعون لحماية اليهود من مصير يشبه ذلك المصير في الميثولوجيا العلمانية، هذا الرد معقولٌ أكثر مما سبق وأسلّم إلى حدٍ ما بأنه سبب مقنع أكثر، ولكنني أجد خللاً في تفسير كم هذا الدعم. لنقل أنهم يحمون الكيان من أجل ذلك، فلماذا يتركونه في بيئة معادية تماماً ويصرفون كل هذا عليه بدلاً من تحصينه في بلدانهم؟ الحجة الوحيدة التي تجمع بين حرصهم على حمايته وحقيقة وجوده في الشرق الأوسط كما اختار لنفسه تصب في حجة هذه المقالة التي تفصل بين فكر وإرادة الكيان، وبين فكر وإرادة داعميه.
ومن غير المنطقي أن تأتي الردود التي تتهم الدول الغربية بنوعٍ مستتر من معاداة سامية، مثل تلك الردود التي تحيل الدعم إلى كراهية الغرب لليهود وأنهم صنعوا الكيان كي يطردوهم من دولهم، ولا داعي للإطالة في الرد على هذا النوع من الحجج، إذ تكفي الإشارة إلى عدم وجود أي وثائق سرية تدل على ذلك، وأن اليهود في الدول الغربية يعيشون مثل أي مواطنٍ آخر بل والكثير منهم يتقلدون أعلى المناصب بين ظهراني الساسة. وإن كان هذا نوعٌ مميزٌ جداً من الكراهية مستترٌ بطريقة مؤامراتية عميقة، فهل يفسر هذا الكم الهائل من المساعدات؟
الحجة الثقافية والمكملات الفارغة للرأي السائد
أخيراً، يبقى التقارب الثقافي من الأسباب المعلنة عند الساسة الغرب. عادة، يشار إلى الكيان بكل استشراقيةٍ بأنه واحة من الديمقراطية والحضارة، رغم كل أنواع الحروب والمؤامرات التي شنها على جيرانه، وأن شعوب أولئك الجيران لا تشعر بالراحة بجانب هذا الكيان.
لا داعي لأن ندافع عن أنفسنا ونرفع هذه التهمة العنصرية في هذا المقام، لكن لدواعي المقالة يجب تفنيد هذه الحجة بالإشارة إلى أن أكثر الدول قرباً من الولايات المتحدة في المنطقة هي الممالك. لو كانت القيم هي ما يوحّد الحلفاء لتغيّر التاريخ الذي نعرفه، إذ يُنسى عند ذكر دول الحلفاء في الحرب العالمية الثانية مثلاً أن الاتحاد السوفيتي كان في صفّهم، ولم تجمعهم معه أية قيم سوى العداء لدول المحور.
كما أن في صُلب الكيان الصهيوني مزعم ديني وعرقي، وذلك لا ينطبق على أي الدول الحليفة منذ تأسيسه وحتى اليوم. بالطبع، لا تمارس الدول الغربية كل المبادئ الإنسانية والحقوقية التي تتغنى بها، لكننا لا ننكر أنها قطعت شوطاً معتبراً في الميادين المدنية، وأنها دولٌ صارت علمانية إلى أبعد الحدود، وفكرة إقامة دولة على أساس عرقي مدعاة للسخرية والاستهجان في تلك الدول، لكن هذا الاستهجان يقف عند ذكر الكيان. لذلك تتهاوى هذه الحجة.
أخيراً، يبالغ البعض ويذهب إلى بكائيات ضد الاستعمار الكلاسيكي القديم ويقول إن الدول تدعم هذا الكيان لترضي حساً استعمارياً قديماً، وكأن الدول أشخاصٌ يعانون من النوستالجيا ويصرفون المليارات فقط لإرضاء مزاجهم. أو أن هذا الكيان المترهل عسكرياً يرضي دولاً استعمارية بدلاً من أن يخزيها فشله المتكرر في مواجهة ميليشيات موفقة دون المليارات.
الأصح هو أن نتقفى أثر هذه الحجة، تصريحات نتنياهو اليوم تصوّر الصراع بأنه بين الحضارة والبربرية، ويركز على القيم "الغربية المشتركة"، ونجد منبتاً لهذه الفكرة في التسعينيات وخصوصاً في خطةٍ خطّها هو مع مجموعة من السياسيين الأمريكيين تدعو لأن "يترفّع" الكيان على الصراع مع الدول العربية عبر إسقاطها بحروب بالنيابة أو عبر التدخل الأمريكي، إحدى البنود تدعو إلى التركيز على أن الكيان على طيفٍ من القيم الغربية.
دعوة وجدوى إعادة النظر
إحدى مواطن القوة في التشبيه الذي جاء في مطلع المقالة يأتي من التسمية نفسها، كلمة unilateralis تعني أحادية الجانب، والعلاقة بين الكيان والدول بصفتها دولاً تبدو تحت المجهر بأنها تذهب في اتجاهٍ واحد.
لكن كيف يفسر التشبيه هذه العلاقة، أيعقل أن الدول الغربية لا تستفيد البتة من تحالف كهذا؟ من البساطة أن نؤمن بنظرية مؤامرة معقدة جداً عن هيمنة سحرية للكيان عليهم، أو نظريات متهمة بمعاداة السامية، ولكن من السذاجة تجاهل كل المؤشرات على علاقة غريبة بين هذا الكيان وتلك الدول. الحل الأنسب هو الدراسة المجهرية لفرضية الفطريات التي توضّح تغلغلاً في الجسد الغربي، هذا التغلغل انفضح مؤخراً بعد الطوفان. سياسياً وثقافياً، نجد الصهاينة على كل الأصعدة يعملون جهاراً نهاراً على تهيئة الرأي العام والخاص لتقبل المجازر والتطهير العرقي الصهيوني لغزة. المتصهينون من غير اليهود مؤمنون بضرورة دعم الكيان بسبب هذا التغلغل، هناك من يقبض المال بشكل صريح مثل الرؤساء الذين تتبرع الحركات والقامات الصهيونية لحملاتهم، وهناك من يصدق الأكاذيب الصهيونية بسذاجة لأن الأخاديع المركبة انطلت عليهم.
لا ينطبق التشبيه على الواقع انطباقاً كاملاً وإلا لما عاد تشبيهاً، وعندما أشبّه الحلفاء بالنمل الذي سيطرت عليه هذه الفطريات فأنا أشير بالدرجة الأولى إلى الخطورة التي تشكلها تحركات لا تفيد سوى الفطريات، أما في الحالة الواقعية فإن نفعاً لا بد وأن يعود على تلك المفاصل. وأزعم أن اكتشافها ليس بذلك الصعوبة، مثلاً، يوضح الوثائقي المتعلق بحادثة الهجمة على سفينة يو إس إس ليبرتي وكيف غطت الحركة الصهيونية الجريمة عبر مزيجٍ من الرشوة والابتزاز وإخفاء الأدلة، وتوفير خدمات لا يوفرها إلا كيان يتغلغل في عدة دول متحاربة ويملك سطوة على الرأي العام.
ثانياً، لننتبه إلى سهولة كشف زيف البروباغندا والخداع الموجه لجمهور آخر، الأولى بنا أن نبحث عن آثار هذا التغلغل في سياساتنا وثقافاتنا، ومع أن التصهين البواح ما زال شاذاً في العقلية العربية والإسلامية، إلا أن نظرية الكيان بصفته كائن فطري طفيلي تجزم بأنه سوف يبث أنواعاً مستترة من التصهين، ومحاكة خصيصاً للجمهور العربي. كما يجب التأكد من أن التغلغل هو ليس مؤامرة رأسية تأتي فقط في إقناع شخص أعلى الهرم، وإنما باختراق مفاصل المضيف سياسياً وثقافياً واقتصادياً، وتحريكه.
الخلاصة
الحجة الجوهرية في هذه المقالة هي كالتالي: العلاقة بين الكيان الصهيوني والدول الداعمة له هي علاقة أحادية الجانب تفوق فيها المفسدة على المصلحة لمن وقف مع الكيان، وأن كل التفسيرات التي تدعم الرأي المعاكس والقائل بأن الكيان وظيفي أو امتداد للاستعمار لا تفسّر سببية الدعم أو نوعه أو كمّه. ما تقوله حجتي هي أن الكيان على الرغم من التصاقه في مفاصل الدول المضيفة فهو لا يزال منفصلاً وانتهازياً، وهذا الفصل الدقيق مهم لسببين، الأول هو أن الواقع في صراع وجودي كهذا لا بد وأن يُحترم عند تشخيص الخطر علينا، وأن الأهواء وصلاحية الأفكار المنتهية مع الزمن يجب أن تُحيّد. السبب الثاني هو أن الحقيقة بتعريفها البراغماتي يجب أن تفسح الطريق للفعل، وأنا أزعم أن الرأي الذي أخالفه لا نجد أمامه أي طريقٍ براغماتي، فإن كنت تؤمن كلياً بأن الكيان امتداد لكل تلك الدول العظمى وأنهم مستعدون للهلاك من أجله، فما هي جدوى الصراع مع هذا الكيان المدعوم من العالم الأول؟ وإن صدقت نية من زعم بأنها امتداد لتلك الدول بصراعهم، فما هي الاستراتيجية؟ أظن أنها حجةٌ عقيمة لا تولد فِعلاً وتصاغ لتريح ضمائر القاعدين إذ إن أي مخطط أقل من تدمير الغرب أو إرهاقه لا يعقل مع هذا الرأي، نحن نتحدث عن إمبراطوريات قائمة ومتقاعدة. والثمن المدفوع من الأنفس حتى نرهق العالم الأول مادياً هو ثمن باهظ جداً وقيمة أرواحنا تفوق ما يخسرونه من المليارات.
أما لو نظرنا إلى الحقيقة الفطرية للكيان، يُفتح باب لنظرية إزالته إزالةً جراحية دقيقة من مفاصل المضيفين الغربيين وحتى العرب. كما يمكن استخدام أسلحته ضده في كل الميادين؛ في فلسطين لا خيار آخر سوى الحسم العسكري وإن تخدرت تلك المناطق تحت سيطرته، وهذه المواجهة مفروضة أيضاً في الدول التي لم تستسلم مثل لبنان وسوريا. أما في تلك التي وقّعت معاهدات السلام مثل الأردن، ينمو هذا الكيان حول صمامات المياه وعدادات الكهرباء، ولا يتردد في القتل العشوائي دون أي احترام للمواطنين الأردنيين أو المصريين أو لسيادة هذه الدول. خارج بلاد الشام ها هو يتسلل لتخدير وتسخير دول الخليج أيضاً.
في الدول المضيفة العربية، والتي تشعر بالألم والحمى، لا داعي لإقناع الجميع بخطورته وإنما يكفي التذكير والتحليل. أما في الدول الغربية، تجب مواجهته في الحقل السياسي الراشي للمرشحين والمسؤولين، وفي الحقل الثقافي المخادع للمواطنين. وربما يمكن تفعيل مهمة مضادة لمهمة الكاناري، بدلاً من استهداف الطلاب والناشطين بسبب أفكارهم كما يفعل شرطة الفكر الأورويليون، يجب استهداف الصهاينة الفعّالين في الرشوة والخداع وإبطال مساعيهم، وخصوصاً أولئك المرتبطين بشكل واضح ومثبت بالكيان الصهيوني، لا أي شخصٍ تلقَّن أفكاراً صهيونية وأخذ يكررها.
الفرضية التي أطرحها في هذه المقالة تعطي المجال لمواجهة تغلغل الكيان في مفاصل كل تلك الدول المضيفة، بدلاً من أن تكتفي مثل الرأي السائد بشيء من القبلية البدائية التي تؤمن بأن القوى العظمى تتصرف كما لو أنها قوى الطبيعة التي لا يمكن صرفُ ضررها وأن هذا الكيان هو سلاح تلك القوى. تفتحُ هذه الفرضية المجال للتفكير بجدية في نوعٍ مبتكر من المقاومة، يوجه أهدافه نحو المفاصل التي تغلغلت فيها الفطريات والقضاء عليها دون حاجةٍ لمواجهة النملة العملاقة.
ننهي بالعودة إلى التشبيه في بداية المقالة، ماذا تفعل الفطريات الطفيلية بعد سيطرتها على النملة؟ تحركها نحو مكان تتوفر فيه الظروف المناسبة لنمو الطفيليات في جسد النملة من ضوء ورطوبة. في هذا المحيط المناسب لها، تُجبر النملة على أن تعضّ ورقة وتَعْلَق في مكانها إلى أن تموت. فهل ستَعْلَق الإمبراطورية الأمريكية في الشرق الأوسط إلى أن تسقط؟
بعدها بحين، تقضي الفطريات على المضيف وتنشر لقاحها من جثمانه، باعثة أبواغها، باحثة عن مضيفٍ جديد لا يفقه ما حَلَّ بأخيه.
هوامش:
[1]: مثل الكونت فولك برنادوت السويدي الذي كان وسيط الأمم المتحدة من أجل مفاوضات السلام في 1948 والذي اغتالته عصابة ليهاي الصهيونية لأنه في نظرها دمية بريطانية جاء ليمنع قيام الدولة الصهيونية.
[2]: من أصحاب ذلك المخطط رجالات جورج بوش مثل دوغلاس فايث وهو من الذين هندسوا الحرب على العراق بعد إرساء تلك الاستراتيجية.