عمى الأنوان

عمى الأنوان

عمى الأنوان

By : محمد عودة

في المقالة السابقة أشرت إلى غرابة العلاقة بين الكيان الصهيوني وداعميه من الدول العظمى، وكيف يحظى الكيان بالدعم بسبب اختراقه السياسي والثقافي لتلك الدول، وأن هذا الاختراق هو منهج الصهيونية منذ فجرها الدموي، في هذه المقالة أوجه النظر إلى الجانب الآخر من الحرب، إلى الضحايا والأبطال، والعلاقة الغريبة التي تربطهم بالحلفاء المزعومين لهم.

لقد مرّت أسابيع لم تقف فيها الطيارات عن القصف، وقارب عدد ضحايا هذه الآلات الجبانة عشرة آلاف شهيد. الخطة الإجرامية وفقاً لبعض التسريبات تسارع في نكبة جديدة، ومن الظاهر أن العنف الممنهج المازج لقصفٍ بلا هوادة وحصارٍ يحاول إرهاق عزيمة أهل غزة واستنزافهم ليضطروا إلى النزوح عنوةً. في هذه الأوقات تؤكد دول الجوار مثل الأردن ومصر على رفضها لقبول اللاجئين، وفي العادة يُنظر لرفض النزوح بأنه علامة عنصرية إلا أنه في هذه الحالة رفض للإزاحة العرقية المقصودة، والتي تختلف بطبيعتها عن حالات النزوح كأثر جانبي من المعارك الضارية لأسباب أخرى.

لكن هذا الرفض الذي قد يُشكر إن كان حقاً بسبب الحرص على القضية الفلسطينية لا يصحبه أي علامة ثانية من الاكتراث بمصير غزة، تشارك الجارتان في الحصار وتمرير الأسلحة وحماية حدود الكيان، ومن هنا وربما من أي مكان نبدأ في فهم المشهد، سوف نرى غرابة زعم الدعم للقضية.

كما المقالة السابقة سوف أشير إلى رأيٍ سائد تبنى عليه المخططات والشعارات والأفكار، وأبين بطلانه وضرورة استبداله بنموذج فكري ينطلق من الواقع كما هو لا كيف يجب أن يكون، أو بشكل أوضح سأبدأ التحليل بشكلٍ وصفي لا معياري. عندما أفصل بين الوصف والمعيار لا أفعل الكثير، ولكن في هذا الفصل تكمن حقيقة ما يحصل، بأن كل أنوان الجمع لا تصلح لوصف التخاذل المرعب.

النون الكبرى

يستخدم مصطلح الإنسانية للتعبير عن الأخلاق العابرة للثقافات والجغرافيا، وعندما توصف القضية بأنها إنسانية فهو وصفٌ معياري، أي أنها قضية يجب أن تهم الإنسانية جمعاء بغض النظر عن الأيديولوجيا. أما وصف الحال فهو أن الإنسانية تشاهد عن كثب ما يحصل ولا يخفى عنها من الحقيقة سوى مستوى الألم. في لفظ الإنسانية نجد أوسع نون جماعة ممكنة، ونجد في التاريخ الحديث لمنطقة الشرق الأوسط الكثيرين ممن لفظوا أنفاسهم الأخيرة يسألون عن تلك الإنسانية، من فلسطين وسوريا إلى اليمن وليبيا.

كلمة الإنسانية قد تحرك الكثيرين لكنها تحركات جماهيرية محمودة لا حاسمة، ولا يستنجد بها الضحايا وهم يظنون أن البشرية جمعاء سوف تلبي النداء، وإن كان من السهل كشف زيف هذه المصطلحات فأظن أن الصعوبة في فهم الواقع لدى الكثيرين، من الضحايا ومسانديهم، يبدأ عند محاولة إدراك زيف نون الجماعة في دوائر تصغر شيئاً فشيئاً.

وبما أن الحديث هو عن محاولة إبادة أهل غزة وطردهم من أرضهم كما فعل الكيان مع الشعب الفلسطيني في النكبة والنكسة، علينا أن نعاين ثاني أكبر دائرة ينتمي إليها الشعب الفلسطيني، وهي دائرة الأمة الإسلامية. هذه الأمة يقارب عدد المنتسبين إليها ما يقارب الملياري شخص، أي ربع العالم تقريباً، وفي غزة هناك مليونا مسلم تقريباً.

صلاة جماعة مليئة بالفُرَج

عندما يخرج سياسي في الكيان الصهيوني ويقتبس النصوص اليهودية يهرع الكثيرون لأخذ ذلك على أنه دليلٌ على أنها حربٌ دينية، وأنها قضية إسلامية، وفي السرعة هذه يظن السامع أن أصابع هؤلاء المسلمين على الزناد وهم ينتظرون الإقرار بأنها حرب دينية كي يطلقوا النيران تجاه الكيان. لكن النوايا في الصراعات لا تستوجب التساوي، فلو جاء مختل عقلي ليسرق منزلك ودافعت عن نفسك فهذا لا يعني أنك أنت مختل أيضاً. في الحقيقة، أجد أن معظم هذه المزاعم تأتي في سياق جدالات فارغة على الإنترنت، يحاول فيها البعض تقريع رؤوس الآخرين ممن يختلفون معهم نظرياً، السؤال الواقعي هو عن هذه النون، عن هذه الأمة، كيف يزعم مليارا شخصٍ أن قضيةً ما قضيتهم ولا يتمكن ربع العالم من نصر كُسرٍ من عددهم؟

هناك سبلٌ أخرى للوصول إلى استنتاج يؤمن به الكثيرون، وهو أن القضية قضية إسلامية، وقد يخطئ قارئ ما إذا ظن أن المنال من المقال هو دحض الجانب الإسلامي من القضية. ربما يقلّب بسرعة في رولودكس نظري ليسلك سبيلاً آخر، مثلاً يحاجج بأن حماس حركة إسلامية، وأن أهل غزة مسلمون بالمجمل، وأن في فلسطين مقدسات إسلامية، وتاريخاً مرتبطاً بالإسلام من بواكيره. ولكن إذا تمهل القارئ إياه أو غيره وفكّرا بما أقول، يُلَحظُ أن ما أصبو إليه لا ينكر أياً من هذا ولا يقلل أهميته، وأن السؤال الذي أطرحه يتبع الإقرار الافتراضي بهذه المقدمة من الحجة، أي بعد أن يتمكن من نسج أي مجموعة من الحقائق والتصريحات ليقول أنها إسلامية، سيجدني لا أختلف معه وإنما أسأله، وماذا بعد؟

وبما أن هذا الجدال الفارغ يتكرر فقد سمعت الكثير، ما لم أسمعه حتى الآن هو إقرارٌ واقعي لا تسقطه الأحمال الشرطية. كل من يقول إنها قضية إسلامية عليه أن يُشبِع نمطه الفكري بالاستثناءات، الأمة الإسلامية معنية بالقضية الفلسطينية لكنها لا تفعل شيئاً بسبب العديد من الأسباب، بعد أن يسردها لا بد وأن يمر على حقائق ستبدو غريبة لو كانت الأمة صادقة مع أبنائها. مثلاً عليه أن يبرر التقاعس من الدول الإسلامية، وأغلب الظن يذهب في تبريره للتقاعس بسببٍ ينفي نون الجماعة أصلاً. لو أشار أحدهم إلى الضعف فهل يعقل أن يصل الضعف إلى هذه الدرجة من الهوان وتبقى نون الجماعة في الحسبان؟

كما يتسم المتشددون بوصفها بأنها قضية إسلامية محضة في أنهم يقذفون أهل فلسطين بكل أنواع الطعن والذم ويعزون الكوارث التي تقع عليهم وعلى غيرهم من المسلمين لأسباب عجيبة، وكأن الإله نزقٌ مثل المتطرفين من عباده، يسمح لموت عشرات الآلاف من المدنيين المسلمين ثأراً للخلافة العثمانية وفقاً لهم، أو عقاباً على أن الأمة لا تصلي الفجر أو لم تتحجب بما فيه الكفاية، وبطريقة ما يحصل كل هذا في أماكن يمكن تفسير كوارثها دون اللجوء إلى التأله والغيبيات.

بدلاً من تفنيدها واحدة واحدة سأعطي القارئ أداة قياسية، المطلوب هو أن يُعرّف الشخص ماهية الأمة وكيف لا يبطل التعريف بذلك الاستثناء أو يدان. مثلاً إن تطرف وقال إن المسلمين ابتعدوا عن الدين يفترق طريقه المنطقي إلى فرعين أقبح من بعضيهما، أما استنتاج الجماعات التكفيرية تُخرِج معظم الناس من دائرة الإسلام، وكما أثبتت هذه الجماعات تصبح عدوةً للمسلمين أولاً وتؤذيهم إيذاءً فيوازي أذى غير المسلمين لهم، كما أثبتت هذه الجماعات بُعدَ أسلحتها كل البعد عن الكيان. الاستنتاج الثاني ليس قبيحاً بسبب كفره وإنما لفكره، كيف يظن المرء أن المنطق الجامع بين كل عناصر الفئة هو الشيء الذي يبتعدون عنه؟ بعد التسلسل في كل الحجج ستجد أن مصطلح الأمة هو إحصائي فقط. في نهاية المطاف يمكنك استخدام مصطلح الأمة الإسلامية فقط إذا أردت أن تشير إلى المجموعة التي تدين بدين الإسلام، بعد ذلك لا يصح أي اعتبار تنظيمي أو لوجستي أو واقعي.

أنوان أصغر فأصغر

يمكنك تقليل قُطر الدائرة الجامعة وتشير إلى أن النون تجمع أهل السنة والجماعة، هذا من شأنه تقليل عدد العناصر في المجموعة وربما تقوية زعم التقاعس الناتج عن الضعف، لكن الدائرة لم تصغر كثيراً والعكس قد يصدق أكثر، فأهل السنة هم الأغلبية عدداً وتوزيعهم الجغرافي يسمح لهم بموارد أكثر واقتصادٍ أقوى من بعض الدول الشيعية. لو كانت غزة مدينة شيعية لربما غض المتطرفون طرفهم ولفهمنا قبح بكمهم. كما أن المفارقة في زعم أن ما يحصل لغزة هو بصورةٍ ما بسبب طائفتهم لا يفسر موجات التطبيع الحديثة مع دول سنية أو ما سبقها من معاهدات السلام، بينما يفخر الشيعة بأنهم ما زالوا على أقل تقدير في حالة حرب ضد الكيان. هذه الحقيقة يستصعبها بعض من أهل السنة وكما سبق نجد التفافات عجيبة تعسّر الحجج في الدائرة السابقة.

لكن هل يحق للفلسطيني أن يطلب أكثر من ذلك؟ في الحقيقة أظن أنه يطالب بالمزيد فقط بسبب تصديقه لتلك الأنوان، فعندما يجد كل هؤلاء يقسمون له بأنها قضيتهم، هو يسلّم بذلك

النظرية الأكثر رواجاً هي أن صفقة سرية جرت بين الكيان وأعدائه من الشيعة، وأنهم يتظاهرون بأنهم أعداء لسببٍ ما، لا يصل أصحاب هذه المؤامرة إلى نهايتها المنطقية إلا مع الاستثناءات التي تنفي الحاجة للتآمر أصلاً. مثلاً يقول إن الكيان والشيعة يتآمرون على السنة، ثم يسرح في المنطق ويقول إن كل أنواع الصراع بينهم هي مسرحية، وعندما يتذكر أن الأطراف السنية على عكس الشيعية لا تملك من اللباقة إخفاء التآمر وإنها تتعاون جهاراً نهاراً ضد السنة من أهل فلسطين، يسحب الكرت المذكور في سابقاً، إما تطرفاً في تكفير الحكومات أو أن يصيّر فئة "الجماعة" فئةً هزيلة لا تستطيع مواجهة أقل من ستة مليون صهيوني لإنقاذ مليوني سنّي. بعض أصحاب هذه المؤامرة يزعمون أنها خدعة لاستقطاب الجماهير من السنة، ولكن يبدو أنها خدعة لم تنطلِ على الكثيرين ولسببٍ ما لم تتوقف المسرحية مع أن أمثال هؤلاء الجهابذة كشفوا ما وراء الكواليس.

نون الملايين، الشعب العربي وين؟

وهكذا تنحسر دوائر النون لنصل إلى الدول العربية، أو إلى مفهوم العروبة بعينه، إذ اقترن مصطلح الأمة الإسلامية بالأمة العربية، وهو اقتران يدل على المنتسبين فحسب. ما زلنا نتحدث عن ملايين وجيوش جرارة تُنفَق عليها مبالغ طائلة، ومع ذلك تستصعب الأمة العربية هزيمة هذا الكيان. لو كتبت المقالة وقت النكبة أو النكسة ربما تسلل إلى نفوس القراء قلق من تفوق عسكري للكيان، لكننا في لحظة تاريخية جاءت بعد هزائمه المتعددة والمهينة، وفي حرب انطلقت بعد أضخم خرقٍ لأمنه، بميزانية متواضعة، معارك أثبت فيها المقاتلون أن الإرادة والإخلاص مع التخطيط الذكي أكثر من كافٍ، ومما يسند المقالة السابقة التي تقول بأن هذا الكيان لا شيء دون خداعه لحلفاء من دول عظمى.

كما أننا في لحظة جاءت بعد عقدٍ أثبتت معظم الجيوش العربية أنها مستعدة للهجوم والدفاع والتدخل في كل أنواع الصراعات، وعندما نتحدث عن كل هذه الصراعات نمسك طرف خيطٍ لو سحبناه لسقطت كل الأنوان. المصطلحات الفئوية مثل الأمة تشكل عند الكثيرين تخبطاً في فهم الأحداث، ولا أدري ما إذا كان من الجنون رفض حرف النون تماماً في هذا السياق أم هو التفسير الأصح للعلاقة الغريبة التي تربط غزة بمحيطها. مع التطور في المواصلات والتواصل، والعلوم اللوجستية والعسكرية، لا عقبة تقف أمام دعم من أي حدب، الطائرات والصواريخ لا تأبه بالحدود. لو صدقت الدول العربية كلها على مواجهة الكيان لما فرض على الجوار وإنما تحركت الجيوش وانتظمت من المشرق للمغرب، وأدخلت الكيان في الكابوس الذي لاحقه منذ أن قام وإلى أن يسقط.

جماعات ليست بجماعات

سلسلة الأنوان لم تقف بعد، العذر الأقبح من الذنب عند عناصر الفئات المذكورة أخيراً يأتي على شكل شمّاعة الحكومات وقلة الحول والحِيَل للشعوب، يفصل فيها المتأسف بينه وبين حكومته، يشق فيها فئة أي دولة لتصبح قطعتين مصمتتين، الشعب ضد الحكومة، وهذا ما سمعناه منذ بداية فصل الربيع.

المشكلة في هذا الفصل أنه لا يمثل أي حالة في الدول العربية، هو فصل لا يعني شيئاً ما لم تكن الدولة محتلة يكون الحاكمون فيها حرفياً من مجموعة تختلف عن السكان ولهم قوات خاصة تتمايز عن الشعب، حتى لو جاءت أسفلهم طبقة خونة من السكان الأصليين. كل ما أجده من عذر الفصل هذا يعتمد على تمييع كلمة الاحتلال، سواء من العوام أو من مفكرين لا يتسمون بالجدية في استخدامهم للغة، وكأن اللغة العربية تفتقر لكلمات تصف قباحة العنف الذي تمارسه الجيوش العربية أو قوات أمنها في مواجهة المسلحين أو المتظاهرين غير كلمة الاحتلال.

هذه الميوعة الفكرية تفيد مع البروباغندا والخطابة لكن لا مكان لها عند التشخيص، لذا أدعو منظري الثورات العربية لأن يتوقفوا عن اختلاس المظلومية من القضية الفلسطينية، وأذكرهم بأن لا داعي لذلك فقد ذاق ما يكفي من العرب والمسلمين كل أنواع القهر والظلم، ولا خطب في أن نصف أنواع الظلم المختلفة بمصطلحات مختلفة بدلاً من البلادة في رسم المقارنات والمقاربات وما يتبعها من حزازية وحساسية.

وبما أن الدول العربية باستثناء فلسطين إما قاومت الاحتلال حتى دحرته أو لم تُحتل بشكل مباشر في أي لحظة من تاريخها الحديث، لا يوجد فيصل بين الحكومة وقوى الأمن والشعوب، ولكن لو سعينا لتقوية الحجة المقابلة كي نفندها في أفضل صورها، نستطيع استعارة تشبيه إيتيان دي لا بويسيه وقلنا إن الحاكم الظالم لا سلطة له دون هرمية من الأعوان والجند، ثم قد يقال إن الخيط الفاصل هو بين شريحة من الشعب تتصل بالحكومة والأمن وبين سائر الشعب.

أولاً نجد المزيد من الانحسار في الحلفاء الحقيقيين، من المطلوب هنا أن نصدق أن هذه القضية يقف معها فقط من لا يتصل بحكومته أو قوى الأمن في دولته البتة -وبالطبع لا أعني كل فرد وإنما عدداً يسد الحاجة- أيقول هؤلاء أنها قضية المغلوب على أمرهم فقط؟

الزعم بأن كل الشعوب تقف مع الشعب الفلسطيني لكن هناك قلة قليلة في سدد السلطة تمنعهم هو زعم يحمل كما رأينا استثناءات غريبة، هذا الزعم يقول لنا إن هذه الشعوب ضعيفة ولا قوة لها، وهذا لا يتماشى مع حقيقة المظاهرات والثورات عندما يمس الأمر شؤونهم المحلية. وهذا الزعم يحمل نظرياً نوعاً من الوحدة بين الشعوب، لكن نظرة سريعة على آراء الشعوب ترسم لوحة مختلفة ومبعثرة، يلعن فيها كل شعب شعباً آخر، ويزاود الجميع على بعضهم وفي نَفَسٍ واحد يطالبون بعدم المزاودة. ويصل التناقض في زعم وقوف أنصاف الشعوب مع القضية أوجه عندما يجرؤ الفلسطيني على انتقاد أي من تحركاتهم أو حركات المقاطعة لأنها لا تكفي، فجأة يتحول الداعم المساند إلى صهيوني صغير يشمت في المقتلة ويشتم الضحية. أو بعد أن يتظاهر الجميع بأنهم مع القضية لا ينتظرون طويلاً قبل ترامي الاتهامات فيما بينهم، أو إقامة الاحتفالات وما إلى ذلك من مظاهر تثبت بطلان التحالف. يزعم كل شعبٍ أنه أدى وظيفته، ويعود السؤال نفسه، هل تجمع نون الشعوب أضعف خلق الله وأصغرهم شأناً؟

والأنكى من ذلك أنهم يستكثرون على الفلسطيني المنبوذ قبول الدعم من الأطراف التي يخوضون حروباً ضدها، بدلاً من التنافس على شرف الدعم يكتفي البعض بالشعارات ورفع الأعلام، دون إطلاق رصاصة واحدة ولو لتبييض الوجوه، كل رصاصهم وقنابلهم حصرية على أعدائهم، خصماء تجمع بينهم تلك النون العربية والإسلامية.

ابتلاء وليس فتنة

العلاقة الغريبة هذه -على عكس ما جاء في المقالة السابقة- لا تُفهم بتشبيهٍ من عالم الحيوانات أو الحشرات، إذ أنها علاقة ترتبط بدرجات من التجريد اللغوي الذي يفوق الواقع ويصل السماء بمنطقه وهذه القدرات إنسانية تفوق قدرات أي كائنٍ آخر.

لكنها ليست أحجية، الحل لفهم العلاقة هو في إسقاط النون من التصنيف فحسب، وذلك لا يأتي على حساب أي وصف لها. القضية إنسانية فعلاً، لكنها لا تجمع الأناسي كلهم، وطبيعة الدعم من أي شخص لا يرتبط مع فلسطين سوى بالإنسانية سيأتي محصوراً وإن كان مشكوراً. سقف الدعم يقف إذا ما تماشت الضحية بلا شكوى معه أو عارضته في أيدولوجيته، كما يقف الدعم لو تطورت الأحداث إلى صالح الفلسطيني لدرجة هددت الكيان كلياً، فالكثير من الدعم يقف عند حدود غزة أو ٦٧.

وكذلك تستطيع التدرج هبوطاً عبر الدوائر الأصغر فالأصغر، الدعم لا يأتي دون شرط. القضية إسلامية فعلاً، ولا شك بأن المسلمين مكلومون عند سماع الأخبار، لكن معظم المتشبثين بهذا الرأي والمتشددين له يتوقف دعمهم عند الطائفية. كما أن الدائرة هذه تتسع جغرافياً حتى ينحصر الدعم في مظاهر سطحية أحياناً. في الدوائر الثلاث الأولى يأتي الدعم على شكل مظاهرة طارئة، تتقد مع الحرب المباشرة ثم تخمد مع الهدنة وكأن الكيان اختفى، وكأن استشهاد شاب وشابة بشكل يومي هو أمر طبيعي، وكأن ملف الأسرى المؤبد ملف عادل، ولا داعي للتدخل إلا عندما يطفح النصاب من الدم أو يقترب المضرب عن الطعام من الموت. وإن لم تكن مظاهرة يأتي على شكل مقاطعة وتغيير المنتجات، وهو أمر على مستوى الإيمان بالقضايا العامة جداً، مثل تغيير المؤمن بقضايا البيئة المشروبَ وكيف يمصه، يحول من مصاصة بلاستيكية إلى ورقية. وهذا الدعم أيضاً مشروط، فلو تجرأ الفلسطيني على التقليل من شأن مظاهرة سلمية إلى حد الأرنبة، أو من المقاطعة، ستنهال عليه الشتائم من أولئك الزاعمين بأن قضيته هي قضيتهم.

لكن هل يحق للفلسطيني أن يطلب أكثر من ذلك؟ في الحقيقة أظن أنه يطالب بالمزيد فقط بسبب تصديقه لتلك الأنوان، فعندما يجد كل هؤلاء يقسمون له بأنها قضيتهم، هو يسلّم بذلك، ولطالما فعل، وفي وقت ما كانت قضيتهم قولاً وفعلاً. أما اليوم أمام شبح نكبة ثانية، على الفلسطيني أن يعيد النظر في كل تلك المزاعم. في المقابل، على كل جهة وجماعة تسارع في تبني القضية، عليها أن تثبت ذلك. ما يحصل الآن ليس فتنة عجيبة تمسي علينا بالحيرة، وإنما ابتلاء جلي يتمايز فيه الصادق والمنافق، يؤكد فيه رفيق السلاح رفقته أو يتقاضى فيه ثلاثين قطعة من الفضة.

حل أحجية الدعم الهلامي هذه يساهم في فهم التاريخ أيضاً، لو تدرجنا حتى نصل نون العروبة وسلمنا بوجود تلك الحدود بدلاً من الهروب من كل الوقائع لملاحقة الأوهام، تنقلب المعارك بين الدول العربية وبين الكيان. الرأي السائد والجامع يصوّر تلك الحروب على أنها حروب خانت فيها الحكوماتُ الشعبَ الفلسطيني من وجهة نظر العرب، وأنها حروب شنتها دول ضعيفة جداً لم تتمكن من هذا الكيان القوي كما يظن الغرب. لكن لو عطلنا هذا الرأي وسرنا في تفسير وصفي، نتعامل عبره مع الدول بصفتها دولاً متفرقة، لها مصالحها الخاصة وحساباتها، سنجد أن الحروب كانت حروب احتواء لا حروب تحرير، ولم تكن هناك نية صادقة في تحرير كاملٍ لفلسطين في أي لحظة. أو على الأقل لم تكن هذه النية موجودة عند عدد كافٍ من تلك الأطراف، وسأترك الاتهامات بالخيانة التي تلاقفتها الحكومات العربية البارحة مثل ما تفعلها الشعوب العربية اليوم، كي أؤكد حقيقة التفرق وبطلان الأنوان، وأن هذا البطلان أثبتته كل تلك الحروب بين العرب أنفسهم، وأنك لا تستطيع الهروب من هذه الحقيقة سوى بشقلبة معيارية.

هذا الحل للأحجية لا يدعو للتفرق بل يشير إلى واقعه، ومن هنا يبدأ الامتحان الحقيقي لأي مفكر أو مواطن يؤمن بتلك الألوان من الأنوان. المطلوب ليس المستحيل، المطلوب هو فقط أن تثبت الدوائر مزاعمها، أي شعب يزعم أن القضية قضيته عليه أن يضغط على حكومته، وعليه أن يدرك أن تخاذل حكومته أمام مطالبه يعكس قدرته على التغيير من عدمها. إذا أراد الطائفيون إثبات أن طائفتهم هي على حق فالميدان يناديهم، وإن لم يلبوا النداء لن تفقد القضية أي حليف فهم لم يفعلوا شيئاً سوى استثمار المعاناة في صراعات خارج فلسطين، لكن هم من سيفقدون الشرعية ويعيشون في ذهان نرجسي ليظن أحدهم، وهو جالس في دول آمنة، أنه هو الضحية. قبل أن يقتاده دجال أو رجل استخبارات إلى تحقيق مصالح بعيدة كل البعد عن خدمة القضية الدينية.

كما أن هذه النظرة الرافضة للفئات التي ينفيها الواقع، على عكس النظرة السائدة، تفسح المجال أمام فلسطيني وغيره من كل داعم للقضية، بأن يبحثوا عن المصالح المشتركة بعيداً عن التجريد، ويدركوا أهمية المصائر المشتركة، وطبيعة الامتداد الواقعي لمدى الظلم، لما يترك في الأنفس من ظلام حالك ومعضلة شر مطلقة، ولما يعنيه من ظلال الظلم الذي قد يتعرض له أي قوم في عالم يرضى بالإبادة.

وترفض هذه النظرة، الرافضة لنون الجمع، أن يفر المرء إلى أي مخرج يطل خارج الواقع على عوالم غيبية أو وهمية، أمام كل هذا القتل لا يعقل انتظار مخلصٍ ما، ولا يجوز أمام كل هذه الدماء التقهقهر إلى أسباب لا تليق بالله عز وجل، مثل أن هذا عقاب على أي شيء اقترفه أهل غزة. كما أنها ترفض إقحام العقائد المفرغة من الأفعال وتصفية حسابات فكرية بين الدوائر دون التوقيع بالدم على أيٍ منها.

قد تتوقف الحرب قريباً وقد تمتد إلى حرب إقليمية أو ربما عالمية، ولذلك لا يمكن البت من الآن بأن القضية أثبتت أنها تنتمي لأي فئة، لكن إذا اكتملت خطة التهجير فمن اليقين أنها قضية الفلسطيني فقط، وأنه لم يكن ضحية القصف والحصار فقط، بل ضحية أكبر الأكاذيب أيضاً. اليوم ومنذ ثلاثة أسابيع وإلى أن تنتهي هذه المعركة يمتحن الجميع، على العلن، كل المبادئ على المحك، وكل المصالح أيضاً. القضية الفلسطينية أثبتت أنها ليست ثمرة الأمة وإنما بذرتها، والفلسطيني لم يعد ينتظر الدعم ويحتمل الموت البطيء، بل يصافح يد القدر ويجبر العالم على أن يثبتوا صدق عقائدهم، الدينية منها والدنيوية، أو أن يدركوا بطلانها كي يسعوا لخلق عقيدة تتماشى مع العدل، فهل من صادق بعد اليوم؟

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬