في المقالة السابقة أشرت إلى غرابة العلاقة بين الكيان الصهيوني وداعميه من الدول العظمى، وكيف يحظى الكيان بالدعم بسبب اختراقه السياسي والثقافي لتلك الدول، وأن هذا الاختراق هو منهج الصهيونية منذ فجرها الدموي، في هذه المقالة أوجه النظر إلى الجانب الآخر من الحرب، إلى الضحايا والأبطال، والعلاقة الغريبة التي تربطهم بالحلفاء المزعومين لهم.
لقد مرّت أسابيع لم تقف فيها الطيارات عن القصف، وقارب عدد ضحايا هذه الآلات الجبانة عشرة آلاف شهيد. الخطة الإجرامية وفقاً لبعض التسريبات تسارع في نكبة جديدة، ومن الظاهر أن العنف الممنهج المازج لقصفٍ بلا هوادة وحصارٍ يحاول إرهاق عزيمة أهل غزة واستنزافهم ليضطروا إلى النزوح عنوةً. في هذه الأوقات تؤكد دول الجوار مثل الأردن ومصر على رفضها لقبول اللاجئين، وفي العادة يُنظر لرفض النزوح بأنه علامة عنصرية إلا أنه في هذه الحالة رفض للإزاحة العرقية المقصودة، والتي تختلف بطبيعتها عن حالات النزوح كأثر جانبي من المعارك الضارية لأسباب أخرى.
لكن هذا الرفض الذي قد يُشكر إن كان حقاً بسبب الحرص على القضية الفلسطينية لا يصحبه أي علامة ثانية من الاكتراث بمصير غزة، تشارك الجارتان في الحصار وتمرير الأسلحة وحماية حدود الكيان، ومن هنا وربما من أي مكان نبدأ في فهم المشهد، سوف نرى غرابة زعم الدعم للقضية.
كما المقالة السابقة سوف أشير إلى رأيٍ سائد تبنى عليه المخططات والشعارات والأفكار، وأبين بطلانه وضرورة استبداله بنموذج فكري ينطلق من الواقع كما هو لا كيف يجب أن يكون، أو بشكل أوضح سأبدأ التحليل بشكلٍ وصفي لا معياري. عندما أفصل بين الوصف والمعيار لا أفعل الكثير، ولكن في هذا الفصل تكمن حقيقة ما يحصل، بأن كل أنوان الجمع لا تصلح لوصف التخاذل المرعب.
النون الكبرى
يستخدم مصطلح الإنسانية للتعبير عن الأخلاق العابرة للثقافات والجغرافيا، وعندما توصف القضية بأنها إنسانية فهو وصفٌ معياري، أي أنها قضية يجب أن تهم الإنسانية جمعاء بغض النظر عن الأيديولوجيا. أما وصف الحال فهو أن الإنسانية تشاهد عن كثب ما يحصل ولا يخفى عنها من الحقيقة سوى مستوى الألم. في لفظ الإنسانية نجد أوسع نون جماعة ممكنة، ونجد في التاريخ الحديث لمنطقة الشرق الأوسط الكثيرين ممن لفظوا أنفاسهم الأخيرة يسألون عن تلك الإنسانية، من فلسطين وسوريا إلى اليمن وليبيا.
كلمة الإنسانية قد تحرك الكثيرين لكنها تحركات جماهيرية محمودة لا حاسمة، ولا يستنجد بها الضحايا وهم يظنون أن البشرية جمعاء سوف تلبي النداء، وإن كان من السهل كشف زيف هذه المصطلحات فأظن أن الصعوبة في فهم الواقع لدى الكثيرين، من الضحايا ومسانديهم، يبدأ عند محاولة إدراك زيف نون الجماعة في دوائر تصغر شيئاً فشيئاً.
وبما أن الحديث هو عن محاولة إبادة أهل غزة وطردهم من أرضهم كما فعل الكيان مع الشعب الفلسطيني في النكبة والنكسة، علينا أن نعاين ثاني أكبر دائرة ينتمي إليها الشعب الفلسطيني، وهي دائرة الأمة الإسلامية. هذه الأمة يقارب عدد المنتسبين إليها ما يقارب الملياري شخص، أي ربع العالم تقريباً، وفي غزة هناك مليونا مسلم تقريباً.
صلاة جماعة مليئة بالفُرَج
عندما يخرج سياسي في الكيان الصهيوني ويقتبس النصوص اليهودية يهرع الكثيرون لأخذ ذلك على أنه دليلٌ على أنها حربٌ دينية، وأنها قضية إسلامية، وفي السرعة هذه يظن السامع أن أصابع هؤلاء المسلمين على الزناد وهم ينتظرون الإقرار بأنها حرب دينية كي يطلقوا النيران تجاه الكيان. لكن النوايا في الصراعات لا تستوجب التساوي، فلو جاء مختل عقلي ليسرق منزلك ودافعت عن نفسك فهذا لا يعني أنك أنت مختل أيضاً. في الحقيقة، أجد أن معظم هذه المزاعم تأتي في سياق جدالات فارغة على الإنترنت، يحاول فيها البعض تقريع رؤوس الآخرين ممن يختلفون معهم نظرياً، السؤال الواقعي هو عن هذه النون، عن هذه الأمة، كيف يزعم مليارا شخصٍ أن قضيةً ما قضيتهم ولا يتمكن ربع العالم من نصر كُسرٍ من عددهم؟
هناك سبلٌ أخرى للوصول إلى استنتاج يؤمن به الكثيرون، وهو أن القضية قضية إسلامية، وقد يخطئ قارئ ما إذا ظن أن المنال من المقال هو دحض الجانب الإسلامي من القضية. ربما يقلّب بسرعة في رولودكس نظري ليسلك سبيلاً آخر، مثلاً يحاجج بأن حماس حركة إسلامية، وأن أهل غزة مسلمون بالمجمل، وأن في فلسطين مقدسات إسلامية، وتاريخاً مرتبطاً بالإسلام من بواكيره. ولكن إذا تمهل القارئ إياه أو غيره وفكّرا بما أقول، يُلَحظُ أن ما أصبو إليه لا ينكر أياً من هذا ولا يقلل أهميته، وأن السؤال الذي أطرحه يتبع الإقرار الافتراضي بهذه المقدمة من الحجة، أي بعد أن يتمكن من نسج أي مجموعة من الحقائق والتصريحات ليقول أنها إسلامية، سيجدني لا أختلف معه وإنما أسأله، وماذا بعد؟
وبما أن هذا الجدال الفارغ يتكرر فقد سمعت الكثير، ما لم أسمعه حتى الآن هو إقرارٌ واقعي لا تسقطه الأحمال الشرطية. كل من يقول إنها قضية إسلامية عليه أن يُشبِع نمطه الفكري بالاستثناءات، الأمة الإسلامية معنية بالقضية الفلسطينية لكنها لا تفعل شيئاً بسبب العديد من الأسباب، بعد أن يسردها لا بد وأن يمر على حقائق ستبدو غريبة لو كانت الأمة صادقة مع أبنائها. مثلاً عليه أن يبرر التقاعس من الدول الإسلامية، وأغلب الظن يذهب في تبريره للتقاعس بسببٍ ينفي نون الجماعة أصلاً. لو أشار أحدهم إلى الضعف فهل يعقل أن يصل الضعف إلى هذه الدرجة من الهوان وتبقى نون الجماعة في الحسبان؟
كما يتسم المتشددون بوصفها بأنها قضية إسلامية محضة في أنهم يقذفون أهل فلسطين بكل أنواع الطعن والذم ويعزون الكوارث التي تقع عليهم وعلى غيرهم من المسلمين لأسباب عجيبة، وكأن الإله نزقٌ مثل المتطرفين من عباده، يسمح لموت عشرات الآلاف من المدنيين المسلمين ثأراً للخلافة العثمانية وفقاً لهم، أو عقاباً على أن الأمة لا تصلي الفجر أو لم تتحجب بما فيه الكفاية، وبطريقة ما يحصل كل هذا في أماكن يمكن تفسير كوارثها دون اللجوء إلى التأله والغيبيات.
بدلاً من تفنيدها واحدة واحدة سأعطي القارئ أداة قياسية، المطلوب هو أن يُعرّف الشخص ماهية الأمة وكيف لا يبطل التعريف بذلك الاستثناء أو يدان. مثلاً إن تطرف وقال إن المسلمين ابتعدوا عن الدين يفترق طريقه المنطقي إلى فرعين أقبح من بعضيهما، أما استنتاج الجماعات التكفيرية تُخرِج معظم الناس من دائرة الإسلام، وكما أثبتت هذه الجماعات تصبح عدوةً للمسلمين أولاً وتؤذيهم إيذاءً فيوازي أذى غير المسلمين لهم، كما أثبتت هذه الجماعات بُعدَ أسلحتها كل البعد عن الكيان. الاستنتاج الثاني ليس قبيحاً بسبب كفره وإنما لفكره، كيف يظن المرء أن المنطق الجامع بين كل عناصر الفئة هو الشيء الذي يبتعدون عنه؟ بعد التسلسل في كل الحجج ستجد أن مصطلح الأمة هو إحصائي فقط. في نهاية المطاف يمكنك استخدام مصطلح الأمة الإسلامية فقط إذا أردت أن تشير إلى المجموعة التي تدين بدين الإسلام، بعد ذلك لا يصح أي اعتبار تنظيمي أو لوجستي أو واقعي.
أنوان أصغر فأصغر
يمكنك تقليل قُطر الدائرة الجامعة وتشير إلى أن النون تجمع أهل السنة والجماعة، هذا من شأنه تقليل عدد العناصر في المجموعة وربما تقوية زعم التقاعس الناتج عن الضعف، لكن الدائرة لم تصغر كثيراً والعكس قد يصدق أكثر، فأهل السنة هم الأغلبية عدداً وتوزيعهم الجغرافي يسمح لهم بموارد أكثر واقتصادٍ أقوى من بعض الدول الشيعية. لو كانت غزة مدينة شيعية لربما غض المتطرفون طرفهم ولفهمنا قبح بكمهم. كما أن المفارقة في زعم أن ما يحصل لغزة هو بصورةٍ ما بسبب طائفتهم لا يفسر موجات التطبيع الحديثة مع دول سنية أو ما سبقها من معاهدات السلام، بينما يفخر الشيعة بأنهم ما زالوا على أقل تقدير في حالة حرب ضد الكيان. هذه الحقيقة يستصعبها بعض من أهل السنة وكما سبق نجد التفافات عجيبة تعسّر الحجج في الدائرة السابقة.
النظرية الأكثر رواجاً هي أن صفقة سرية جرت بين الكيان وأعدائه من الشيعة، وأنهم يتظاهرون بأنهم أعداء لسببٍ ما، لا يصل أصحاب هذه المؤامرة إلى نهايتها المنطقية إلا مع الاستثناءات التي تنفي الحاجة للتآمر أصلاً. مثلاً يقول إن الكيان والشيعة يتآمرون على السنة، ثم يسرح في المنطق ويقول إن كل أنواع الصراع بينهم هي مسرحية، وعندما يتذكر أن الأطراف السنية على عكس الشيعية لا تملك من اللباقة إخفاء التآمر وإنها تتعاون جهاراً نهاراً ضد السنة من أهل فلسطين، يسحب الكرت المذكور في سابقاً، إما تطرفاً في تكفير الحكومات أو أن يصيّر فئة "الجماعة" فئةً هزيلة لا تستطيع مواجهة أقل من ستة مليون صهيوني لإنقاذ مليوني سنّي. بعض أصحاب هذه المؤامرة يزعمون أنها خدعة لاستقطاب الجماهير من السنة، ولكن يبدو أنها خدعة لم تنطلِ على الكثيرين ولسببٍ ما لم تتوقف المسرحية مع أن أمثال هؤلاء الجهابذة كشفوا ما وراء الكواليس.
نون الملايين، الشعب العربي وين؟
وهكذا تنحسر دوائر النون لنصل إلى الدول العربية، أو إلى مفهوم العروبة بعينه، إذ اقترن مصطلح الأمة الإسلامية بالأمة العربية، وهو اقتران يدل على المنتسبين فحسب. ما زلنا نتحدث عن ملايين وجيوش جرارة تُنفَق عليها مبالغ طائلة، ومع ذلك تستصعب الأمة العربية هزيمة هذا الكيان. لو كتبت المقالة وقت النكبة أو النكسة ربما تسلل إلى نفوس القراء قلق من تفوق عسكري للكيان، لكننا في لحظة تاريخية جاءت بعد هزائمه المتعددة والمهينة، وفي حرب انطلقت بعد أضخم خرقٍ لأمنه، بميزانية متواضعة، معارك أثبت فيها المقاتلون أن الإرادة والإخلاص مع التخطيط الذكي أكثر من كافٍ، ومما يسند المقالة السابقة التي تقول بأن هذا الكيان لا شيء دون خداعه لحلفاء من دول عظمى.
كما أننا في لحظة جاءت بعد عقدٍ أثبتت معظم الجيوش العربية أنها مستعدة للهجوم والدفاع والتدخل في كل أنواع الصراعات، وعندما نتحدث عن كل هذه الصراعات نمسك طرف خيطٍ لو سحبناه لسقطت كل الأنوان. المصطلحات الفئوية مثل الأمة تشكل عند الكثيرين تخبطاً في فهم الأحداث، ولا أدري ما إذا كان من الجنون رفض حرف النون تماماً في هذا السياق أم هو التفسير الأصح للعلاقة الغريبة التي تربط غزة بمحيطها. مع التطور في المواصلات والتواصل، والعلوم اللوجستية والعسكرية، لا عقبة تقف أمام دعم من أي حدب، الطائرات والصواريخ لا تأبه بالحدود. لو صدقت الدول العربية كلها على مواجهة الكيان لما فرض على الجوار وإنما تحركت الجيوش وانتظمت من المشرق للمغرب، وأدخلت الكيان في الكابوس الذي لاحقه منذ أن قام وإلى أن يسقط.
جماعات ليست بجماعات
سلسلة الأنوان لم تقف بعد، العذر الأقبح من الذنب عند عناصر الفئات المذكورة أخيراً يأتي على شكل شمّاعة الحكومات وقلة الحول والحِيَل للشعوب، يفصل فيها المتأسف بينه وبين حكومته، يشق فيها فئة أي دولة لتصبح قطعتين مصمتتين، الشعب ضد الحكومة، وهذا ما سمعناه منذ بداية فصل الربيع.
المشكلة في هذا الفصل أنه لا يمثل أي حالة في الدول العربية، هو فصل لا يعني شيئاً ما لم تكن الدولة محتلة يكون الحاكمون فيها حرفياً من مجموعة تختلف عن السكان ولهم قوات خاصة تتمايز عن الشعب، حتى لو جاءت أسفلهم طبقة خونة من السكان الأصليين. كل ما أجده من عذر الفصل هذا يعتمد على تمييع كلمة الاحتلال، سواء من العوام أو من مفكرين لا يتسمون بالجدية في استخدامهم للغة، وكأن اللغة العربية تفتقر لكلمات تصف قباحة العنف الذي تمارسه الجيوش العربية أو قوات أمنها في مواجهة المسلحين أو المتظاهرين غير كلمة الاحتلال.
هذه الميوعة الفكرية تفيد مع البروباغندا والخطابة لكن لا مكان لها عند التشخيص، لذا أدعو منظري الثورات العربية لأن يتوقفوا عن اختلاس المظلومية من القضية الفلسطينية، وأذكرهم بأن لا داعي لذلك فقد ذاق ما يكفي من العرب والمسلمين كل أنواع القهر والظلم، ولا خطب في أن نصف أنواع الظلم المختلفة بمصطلحات مختلفة بدلاً من البلادة في رسم المقارنات والمقاربات وما يتبعها من حزازية وحساسية.
وبما أن الدول العربية باستثناء فلسطين إما قاومت الاحتلال حتى دحرته أو لم تُحتل بشكل مباشر في أي لحظة من تاريخها الحديث، لا يوجد فيصل بين الحكومة وقوى الأمن والشعوب، ولكن لو سعينا لتقوية الحجة المقابلة كي نفندها في أفضل صورها، نستطيع استعارة تشبيه إيتيان دي لا بويسيه وقلنا إن الحاكم الظالم لا سلطة له دون هرمية من الأعوان والجند، ثم قد يقال إن الخيط الفاصل هو بين شريحة من الشعب تتصل بالحكومة والأمن وبين سائر الشعب.
أولاً نجد المزيد من الانحسار في الحلفاء الحقيقيين، من المطلوب هنا أن نصدق أن هذه القضية يقف معها فقط من لا يتصل بحكومته أو قوى الأمن في دولته البتة -وبالطبع لا أعني كل فرد وإنما عدداً يسد الحاجة- أيقول هؤلاء أنها قضية المغلوب على أمرهم فقط؟
الزعم بأن كل الشعوب تقف مع الشعب الفلسطيني لكن هناك قلة قليلة في سدد السلطة تمنعهم هو زعم يحمل كما رأينا استثناءات غريبة، هذا الزعم يقول لنا إن هذه الشعوب ضعيفة ولا قوة لها، وهذا لا يتماشى مع حقيقة المظاهرات والثورات عندما يمس الأمر شؤونهم المحلية. وهذا الزعم يحمل نظرياً نوعاً من الوحدة بين الشعوب، لكن نظرة سريعة على آراء الشعوب ترسم لوحة مختلفة ومبعثرة، يلعن فيها كل شعب شعباً آخر، ويزاود الجميع على بعضهم وفي نَفَسٍ واحد يطالبون بعدم المزاودة. ويصل التناقض في زعم وقوف أنصاف الشعوب مع القضية أوجه عندما يجرؤ الفلسطيني على انتقاد أي من تحركاتهم أو حركات المقاطعة لأنها لا تكفي، فجأة يتحول الداعم المساند إلى صهيوني صغير يشمت في المقتلة ويشتم الضحية. أو بعد أن يتظاهر الجميع بأنهم مع القضية لا ينتظرون طويلاً قبل ترامي الاتهامات فيما بينهم، أو إقامة الاحتفالات وما إلى ذلك من مظاهر تثبت بطلان التحالف. يزعم كل شعبٍ أنه أدى وظيفته، ويعود السؤال نفسه، هل تجمع نون الشعوب أضعف خلق الله وأصغرهم شأناً؟
والأنكى من ذلك أنهم يستكثرون على الفلسطيني المنبوذ قبول الدعم من الأطراف التي يخوضون حروباً ضدها، بدلاً من التنافس على شرف الدعم يكتفي البعض بالشعارات ورفع الأعلام، دون إطلاق رصاصة واحدة ولو لتبييض الوجوه، كل رصاصهم وقنابلهم حصرية على أعدائهم، خصماء تجمع بينهم تلك النون العربية والإسلامية.
ابتلاء وليس فتنة
العلاقة الغريبة هذه -على عكس ما جاء في المقالة السابقة- لا تُفهم بتشبيهٍ من عالم الحيوانات أو الحشرات، إذ أنها علاقة ترتبط بدرجات من التجريد اللغوي الذي يفوق الواقع ويصل السماء بمنطقه وهذه القدرات إنسانية تفوق قدرات أي كائنٍ آخر.
لكنها ليست أحجية، الحل لفهم العلاقة هو في إسقاط النون من التصنيف فحسب، وذلك لا يأتي على حساب أي وصف لها. القضية إنسانية فعلاً، لكنها لا تجمع الأناسي كلهم، وطبيعة الدعم من أي شخص لا يرتبط مع فلسطين سوى بالإنسانية سيأتي محصوراً وإن كان مشكوراً. سقف الدعم يقف إذا ما تماشت الضحية بلا شكوى معه أو عارضته في أيدولوجيته، كما يقف الدعم لو تطورت الأحداث إلى صالح الفلسطيني لدرجة هددت الكيان كلياً، فالكثير من الدعم يقف عند حدود غزة أو ٦٧.
وكذلك تستطيع التدرج هبوطاً عبر الدوائر الأصغر فالأصغر، الدعم لا يأتي دون شرط. القضية إسلامية فعلاً، ولا شك بأن المسلمين مكلومون عند سماع الأخبار، لكن معظم المتشبثين بهذا الرأي والمتشددين له يتوقف دعمهم عند الطائفية. كما أن الدائرة هذه تتسع جغرافياً حتى ينحصر الدعم في مظاهر سطحية أحياناً. في الدوائر الثلاث الأولى يأتي الدعم على شكل مظاهرة طارئة، تتقد مع الحرب المباشرة ثم تخمد مع الهدنة وكأن الكيان اختفى، وكأن استشهاد شاب وشابة بشكل يومي هو أمر طبيعي، وكأن ملف الأسرى المؤبد ملف عادل، ولا داعي للتدخل إلا عندما يطفح النصاب من الدم أو يقترب المضرب عن الطعام من الموت. وإن لم تكن مظاهرة يأتي على شكل مقاطعة وتغيير المنتجات، وهو أمر على مستوى الإيمان بالقضايا العامة جداً، مثل تغيير المؤمن بقضايا البيئة المشروبَ وكيف يمصه، يحول من مصاصة بلاستيكية إلى ورقية. وهذا الدعم أيضاً مشروط، فلو تجرأ الفلسطيني على التقليل من شأن مظاهرة سلمية إلى حد الأرنبة، أو من المقاطعة، ستنهال عليه الشتائم من أولئك الزاعمين بأن قضيته هي قضيتهم.
لكن هل يحق للفلسطيني أن يطلب أكثر من ذلك؟ في الحقيقة أظن أنه يطالب بالمزيد فقط بسبب تصديقه لتلك الأنوان، فعندما يجد كل هؤلاء يقسمون له بأنها قضيتهم، هو يسلّم بذلك، ولطالما فعل، وفي وقت ما كانت قضيتهم قولاً وفعلاً. أما اليوم أمام شبح نكبة ثانية، على الفلسطيني أن يعيد النظر في كل تلك المزاعم. في المقابل، على كل جهة وجماعة تسارع في تبني القضية، عليها أن تثبت ذلك. ما يحصل الآن ليس فتنة عجيبة تمسي علينا بالحيرة، وإنما ابتلاء جلي يتمايز فيه الصادق والمنافق، يؤكد فيه رفيق السلاح رفقته أو يتقاضى فيه ثلاثين قطعة من الفضة.
حل أحجية الدعم الهلامي هذه يساهم في فهم التاريخ أيضاً، لو تدرجنا حتى نصل نون العروبة وسلمنا بوجود تلك الحدود بدلاً من الهروب من كل الوقائع لملاحقة الأوهام، تنقلب المعارك بين الدول العربية وبين الكيان. الرأي السائد والجامع يصوّر تلك الحروب على أنها حروب خانت فيها الحكوماتُ الشعبَ الفلسطيني من وجهة نظر العرب، وأنها حروب شنتها دول ضعيفة جداً لم تتمكن من هذا الكيان القوي كما يظن الغرب. لكن لو عطلنا هذا الرأي وسرنا في تفسير وصفي، نتعامل عبره مع الدول بصفتها دولاً متفرقة، لها مصالحها الخاصة وحساباتها، سنجد أن الحروب كانت حروب احتواء لا حروب تحرير، ولم تكن هناك نية صادقة في تحرير كاملٍ لفلسطين في أي لحظة. أو على الأقل لم تكن هذه النية موجودة عند عدد كافٍ من تلك الأطراف، وسأترك الاتهامات بالخيانة التي تلاقفتها الحكومات العربية البارحة مثل ما تفعلها الشعوب العربية اليوم، كي أؤكد حقيقة التفرق وبطلان الأنوان، وأن هذا البطلان أثبتته كل تلك الحروب بين العرب أنفسهم، وأنك لا تستطيع الهروب من هذه الحقيقة سوى بشقلبة معيارية.
هذا الحل للأحجية لا يدعو للتفرق بل يشير إلى واقعه، ومن هنا يبدأ الامتحان الحقيقي لأي مفكر أو مواطن يؤمن بتلك الألوان من الأنوان. المطلوب ليس المستحيل، المطلوب هو فقط أن تثبت الدوائر مزاعمها، أي شعب يزعم أن القضية قضيته عليه أن يضغط على حكومته، وعليه أن يدرك أن تخاذل حكومته أمام مطالبه يعكس قدرته على التغيير من عدمها. إذا أراد الطائفيون إثبات أن طائفتهم هي على حق فالميدان يناديهم، وإن لم يلبوا النداء لن تفقد القضية أي حليف فهم لم يفعلوا شيئاً سوى استثمار المعاناة في صراعات خارج فلسطين، لكن هم من سيفقدون الشرعية ويعيشون في ذهان نرجسي ليظن أحدهم، وهو جالس في دول آمنة، أنه هو الضحية. قبل أن يقتاده دجال أو رجل استخبارات إلى تحقيق مصالح بعيدة كل البعد عن خدمة القضية الدينية.
كما أن هذه النظرة الرافضة للفئات التي ينفيها الواقع، على عكس النظرة السائدة، تفسح المجال أمام فلسطيني وغيره من كل داعم للقضية، بأن يبحثوا عن المصالح المشتركة بعيداً عن التجريد، ويدركوا أهمية المصائر المشتركة، وطبيعة الامتداد الواقعي لمدى الظلم، لما يترك في الأنفس من ظلام حالك ومعضلة شر مطلقة، ولما يعنيه من ظلال الظلم الذي قد يتعرض له أي قوم في عالم يرضى بالإبادة.
وترفض هذه النظرة، الرافضة لنون الجمع، أن يفر المرء إلى أي مخرج يطل خارج الواقع على عوالم غيبية أو وهمية، أمام كل هذا القتل لا يعقل انتظار مخلصٍ ما، ولا يجوز أمام كل هذه الدماء التقهقهر إلى أسباب لا تليق بالله عز وجل، مثل أن هذا عقاب على أي شيء اقترفه أهل غزة. كما أنها ترفض إقحام العقائد المفرغة من الأفعال وتصفية حسابات فكرية بين الدوائر دون التوقيع بالدم على أيٍ منها.
قد تتوقف الحرب قريباً وقد تمتد إلى حرب إقليمية أو ربما عالمية، ولذلك لا يمكن البت من الآن بأن القضية أثبتت أنها تنتمي لأي فئة، لكن إذا اكتملت خطة التهجير فمن اليقين أنها قضية الفلسطيني فقط، وأنه لم يكن ضحية القصف والحصار فقط، بل ضحية أكبر الأكاذيب أيضاً. اليوم ومنذ ثلاثة أسابيع وإلى أن تنتهي هذه المعركة يمتحن الجميع، على العلن، كل المبادئ على المحك، وكل المصالح أيضاً. القضية الفلسطينية أثبتت أنها ليست ثمرة الأمة وإنما بذرتها، والفلسطيني لم يعد ينتظر الدعم ويحتمل الموت البطيء، بل يصافح يد القدر ويجبر العالم على أن يثبتوا صدق عقائدهم، الدينية منها والدنيوية، أو أن يدركوا بطلانها كي يسعوا لخلق عقيدة تتماشى مع العدل، فهل من صادق بعد اليوم؟