قبل سقوط أبراج التجارة في الولايات المتحدة بثلاثة أشهر صدرت لعبة "ديوس إكس" (Deus Ex) التي أسقطت فيها تلك الأبراج أيضاً عن طريق الخطأ. هذه اللعبة التي تمحورت حول نظريات المؤامرة وكواليس السياسة في عالم مستقبلي (في عام 2052) نالت العديد من الجوائز وأُدرِجَت في عدة قوائم لأفضل الألعاب على مر السنين، كما ساهمت في صياغة عالم تصميم الألعاب كما هو اليوم. استثنائية اللعبة سببها ثنائي، فردانية التجربة لكل لاعب، وعمق الأسئلة التي تطرحها. إلى اليوم، صدرت منها ثلاثة أجزاء[1] تقفز الأحداث فيها عبر الزمن؛ فالجزء الثاني تدور أحداثه في عام 2072، بينما يعود الجزء الثالث إلى عام 2027. نالت كل منها على درجات قبول متفاوتة، لكنها جميعاً حافظت على العناصر التي ميّزت الجزء الأول على الرغم من تغيّر فريق العمل والشركة المنتجة.
إن الحديث عن كل جزء لوحده يتطلب مقالة منفصلة لنعطيه حقه، لكن في ظل الأحداث الراهنة وفي سياق المقالات السابقة عن الألعاب بصفتها أعمالاً فنية، أود التقاط ما أظنه أعمق التساؤلات في كل لعبة وأقربها إلى واقعنا، داعياً القارئ للتفكير ملياً بها، ومضيفاً إلى حجتي الرئيسية أن الألعاب المتقنة لا تقل أهميةً عن أي وسيط فني آخر.
قبل البدء، يرجى التنبه أنني سأشير إلى الأجزاء وفق ترتيبها الزمني في عالمها لا وفق ترتيب إصدارها في عالمنا، كما أنني سأحاول تلافي حرق الأحداث قدر الإمكان، لذلك، إذا رغبت في اكتشاف اللعبة بنفسك يمكنك التوقف الآن والعودة بعد إنهاء تلك التجربة المميزة، أو من الأسهل متابعة فيديو يعرض اللعبة بأكملها أو بعض المقاطع منها[2].
مقدمة إلى عالم ديوس إكس
لنبدأ بنبذة عن العالم الذي تجري فيه أحداث اللعبة. هو عالم ديستوبي تصيغه التطوراتُ التكنولوجية والمؤامرات السياسية من جهات تحاول تسيير مصير كل شيء. في الجزء الأول، تشكّل تكنولوجيا الأطراف الاصطناعية محور القصة، هذه الأطراف لا تعوّض الشخص عن طرف مفقود فحسب، بل تعطيه بديلاً خارقاً، مثل ذراعٍ تحمل أثقالاً ضخمة أو شريحة دماغية تفتح المجال لقراءة لغة الجسد ونوع الشخصية والمؤشرات حيوية مما يُسهّل إقناع المحاور أو إفحامه. الجانب الآخر من التكنولوجيا هو الذكاء الاصطناعي، والذي قد تطور بما فيه الكفاية ليتحكم بالسردية الإخبارية حول العالم. في حين يحظى كل من الجزء الثاني والثالث ببرامج ذكاء اصطناعية أكثر تطوراً تقدر على الاندماج بالفرد ثم بالبشرية. أما الأطراف الصناعية تنتهي صلاحيتها لاحقاً ويحل محلها تكنولوجيا النانو، لكنها في سياق اللعب لا تختلف بالقدرات الخارقة التي توفرها لك. في الجزء الأول والثاني تلعب بشخصية ذكر، آدم جنسن، ثم جي سي دينتون، أما في الثالث يمكنك اختيار جنس الشخصية المسماة أليكس دي في الحالتين.
الاختيارات تُتَاح لك على عدة محاور. ما يركز عليه اللاعبون دوماً هو محور الوسائل الممكنة لتحقيق الهدف، إذ يمكنك سلوك طريقٍ خفي وتجنب كاميرات المراقبة، هذا الأسلوب الخفي قد يسمى أيضاً بالأسلوب غير الفتاك، عندما تسعى لتُفقِد الأعداء وعيهم للوصول إلى مُرادك بدلاً من قتلهم، أو قد تقتحم المنطقة وأنت تلوّح بأسلحتك وتسفك الدماء. كما يمكنك تحقيق بعض الأهداف فقط بانتقاء الحجج المناسبة وإقناع بعض الشخصيات وقرصنة الأجهزة، من مفاتيح آلية إلى حواسيب وآلات للحراسة. هناك محور آخر للاختيارات الممكنة وهو اختيار الأهداف بعينها، أو بالأحرى اختيار الجهات التي ستعمل معها كما سأوضح بعد قليل.
ماذا عن التسمية؟ ديوس إكس ماكينا تعني آلة الإله، وتشير بالأصل إلى أداة مسرحية إغريقية، يُطل فيها الإله حرفياً ويحل العقدة في القصة. في اللعبة تتجه كل الخواتم إلى طبيعة الحكم في العالم كله، وأنت مسؤول عن ذلك وفق خيارك الأخير وبعد التعاطي مع كل الجهات المعنية أثناء اللعب. المذهل في اللعبة هو أنها تقدم لكل جهة ما يكفي من الحجج المنطقية بدلاً من تسخيفها ودفع اللاعب في اتجاه دون الآخر، وهذا لا يحصل عَرضاً بل كان في جوهر اللعبة وفق مصمميها، إذ أرادوا أن يقرر اللاعب بنفسه بدلاً من تلقينه الإجابة الصحيحة.
هل تسمو التكنولوجيا بالبشرية؟
"الحرية لمن لا يملكها أثمن من الذهب، لكن أين بدايتها ومنتهاها؟" - آدم جينسن
الجزء الأول زمنياً هو "ديوس إكس: ثورة بشرية"، وتدور أحداثه بعد ثلاثة سنوات من نشر هذه المقالة، في ذلك العالم تزدهر صناعة أطراف آلية تزيد من قدرات البشر، وإحدى أشهر الشركات في مجال صناعة الأطراف الصناعية هي شركة ساريف، حيث تبدأ منها بصفتك المسؤول الأمني. بعد مقدمة سريعة لتعريف اللاعب بآدم جينسن وبعلاقته مع الباحثة ميغان رييد التي تعمل في الشركة وتوشك على تقديم إعلان مهم، تقاطعكم هجمة على الشركة وتُخطَف رييد كما يكاد جينسن أن يفقد حياته لولا إيعاز ساريف لطاقمه بزراعة أحدث وأفضل الأطراف الصناعية في جسده، بهذا يستيقظ آدم وقد صار جندياً خارقاً ومحققاً يسعى لكشف خيوط المؤامرة.
يتبين مع مرور الوقت أن من وقف خلف الهجمة وحدة مسلحة اسمها "الطواغيت". كما تظهر على الساحة سراً وجهراً عدة جهات لها تصورات تختلف جذرياً حول تكنولوجيا الأطراف الصناعية. ساريف يُمثّل الجهة التي تحلم بإطلاق العنان لمثل هذه التكنولوجيا ولتطور البشرية دون قيود، بينما يمثل ويليام تاغرت الجهة التي تدعو لضبط التطور وذلك لأسباب معلنة تحذر من مخاطر العبث بالبشرية، حيث تؤدي بعض خطاباته إلى أعمال شغب، ثم تتضح دوافعه السرية وهي أنه عضو في منظمة الإلوميناتي[3]. تخشى هذه المنظمة من وتيرة تطور التكنولوجيا وتحسينها للأفراد مما يصعب السيطرة على العوام كما تخطط منذ قرون. عضو آخر من هذه المنظمة والأب لهذه التكنولوجيا هو السيد دارو والذي سعى لتطوير الأطراف الصناعية لتخطي إصابة في ركبته، ولكن القدر بسخريته منعه من ذلك بسبب رفض جيناته للأطراف الصناعية، مما أثار سخطه ودفعه للترتيب لمنع استخدام الأطراف كلياً عبر افتعال موجة عنف عبر التلاعب بشريحة لمن يحمل تلك الأطراف.
سنام المواجهة بين هذه الجهات يضع جينسن أمام خيار يحدد مصير هذه التكنولوجيا ومعها مصير البشرية، الخاتمة لهذا الجزء تختلف وفق أربعة خيارات، ثلاثة منها هي في الوقوف مع المذكورين أعلاه والرابع هو بأن تترك للبشرية حرية الاختيار دون تلقينهم الرسالة التي تحاول تلك الجهات فرضها.
الفن الديستوبي للتحذير وليس للإرشاد
سؤال التكنولوجيا وأثرها على المجتمع ما زال يجاب حالاً ومقالاً بأنها قوة محايدة أو حسنة، تضخ كل الأموال والجهود لتطويرها والتسابق في تطويرها دون التفكير ملياً بتبعاتها المجتمعية والأخلاقية. بينما تأتي معظم الانتقادات لاستخداماتٍ تكنولوجية معينة دون نقد النظام التكنولوجي برمته، أو بنقد أنظمة مقترنة بها مثل الأنظمة الاقتصادية، مع الإيمان بأن التكنولوجيا المحايدة ستنفع أكثر في ظل نظام اقتصادي أو أخلاقي مختلف. ما زالت الأصوات الضدية للتقنية مغيبة عن النقاشات الرسمية لهذا السؤال، إلا أن مرور الوقت صار يرفع من قيمة تلك الأصوات، وتثبت الأعمال الفنية مثل "ديوس إكس" أن الهواجس المتعلقة بخطر التكنولوجيا ليست محض هذيان.
في المقابل تفسح التكنولوجيا المجال لتفنيد الأكاذيب والبروباغندا التي تبثها العصابات الإجرامية وأجهزتها الاستخباراتية، كما تؤدي دمقرطة التطورات التكنولوجية، كما خشيت الإلوميناتي في اللعبة، من زيادة قدرات الأفراد والجماعات التي لا تنتمي للنظام الدولي في التحكم بمصيرها ومجابهة ما ترسمه الأنظمة كأنها قضاء وقدر. وتتضح اليوم معالم الصراعات التكنولوجية والتي لا تتطلب فرساناً في الميادين فحسب بل تنظيماً لوجستياً وتقنياً قادراُ على اختراق أنظمة العدو وإسقاطها، مع ارتباط كل شيء بالكهرباء والإنترنت يصبح الصراع في قطع هذه الموارد بخطورة قطع المياه.
هذه المقالة لن تتسع لإجابة السؤال التكنولوجي كما لا يزعم كاتبها أنه وجد الحل على الرغم من اطلاعه على أدبيات أنصار التطور التكنولوجي والفلاسفة الذين حذروا منه وباتت تحذيراتهم نبوءات أمام أعين الجميع، ولكنها تتسع لتوضيح أن الحل لا يأتي بعصا سحرية، بل يتطلب حشداً من الدراسات الإمبريقية والنماذج الديستوبية الخيالية حتى تتمخض القيم الأخلاقية والفلسفية الحديثة. وهذه النماذج لا بد وأن تأتي بشتى الأشكال، من ألعاب وأفلام ولن تقتصر على أطروحات أو قياسات فقهية على أحداث تاريخية.
تعريف ماهية الإنسان بذاته على المحك عندما نتخيل تعديلات جذرية مثل الأطراف التي تصنعها شركة ساريف، ولو قيل إن هذا بعيد ولا شأن له بعالمنا دعني أنوه إلى أن إلون ماسك بدأ يعمل على شريحة تزرع في العقل البشري، والأنكى من ذلك هو أنه يشير في أكثر من مكان إلى اهتمامه بحبكة الجزء التالي من لعبة ديوس إكس.
عن مدى الجذرية في رفض السلطوية المركزية
"طالما شملت التكنولوجيا العالم كله، سيكون العالم في راحة أحدهم" - تريسر تونغ
الجزء الثاني في زمن اللعبة والأول في زمننا هو أفضل الأجزاء وفقاً للجمهور، ويعود ذلك بالدرجة الأولى لقفزته النوعية حين صدر.
تبدأ الأحداث بحوار عن حال العالم وعن وباء "الموت الرمادي" الذي تفشى حينها وبدأ في مختبر في الصين أيضاً، على عكس وباء كوفيد لم تجبر الحكومات المواطنين على أخذ اللقاح بل احتكرته المجموعة التي نثرته أصلاً، وهي مجموعة ماجيستيك 12 المنشقة عن الإلوميناتي تحت إمرة بوب بيج، وهو الذي صنّع الفيروس بتكنولوجيا النانو لنشر الفوضى وابتزاز السياسيين المصابين.
الشخصية الرئيسية في هذا الجزء هي "جي سي دينتون" وهو عميل محسن بتكنولوجيا النانو وهو يعمل مع أخيه بول دينتون في منظمة متخيلة تابعة للأمم المتحدة مهمتها مكافحة الإرهاب. تبدأ اللعبة في مواجهة مع منظمة إرهابية متخيلة، ومع انتهاء المرحلة الأولى ومواجهة أحد القادة فيها يلاحظ اللاعب أن المنظمة عقلانية إلى حد كبير، إلى درجة انشقاق أخيه لاحقاً بعد اكتشافه للمؤامرات التي ضلعت فيها منظمة مكافحة الإرهاب. وتتوالي الأحداث لتميط اللثام عن الجهات المختلفة التي تسعى إلى السيطرة على العالم، نجد الإلوميناتي مجدداً بالطبع، بالإضافة إلى بوب بيج الذي يسعى إلى الاندماج مع ذكاء اصطناعي ليصبح خارقاً لكن الخيار يعود لك ويتيح لشخصيتك بالاندماج بدلاً منه. وهناك شخصية تريسر تونغ الذي يرفض السطوة الهائلة للحكومة العالمية ويدعو اللاعب لإسقاط مركز الاتصالات العالمي مما سيسقط الاقتصاد العالمي معه ويعيد العالم إلى زمن القرى والدول المدنية المعقولة حجماً. هذه الخواتم الثلاث تتشابه إلى حد ما مع الخواتم في الأجزاء السابقة واللاحقة لكن المجريات في كل واحدة تسلط الضوء على جوانب مختلفة من فلسفة السياسة والتكنولوجيا.
أزعم أن إحدى زوايا النظر لهذه الخواتم تصنف الأولى والثانية في كفة وتضع نهاية تونغ في كفة مقابلة، في كفته رفضٌ جذري لمركزية حكومية عالمية، وأظن أن هذه الثنائية هي ما تحتاج لمراجعة جادة في ظل الحرب القائمة. إذ فقد الكثيرون إيمانهم في المنظمات الدولية والقدرة على تحقيق عدل دولي عبر التفاوض وإبقاء التنظيم العالمي كما هو، كما أننا نرى كيف توصم الجهات التي تحاول وقف الإبادة مثل جماعة أنصار الله بأنها إرهابية. وفي المقابل أثبت صمم الحكومات أمام ملايين من المتظاهرين في كل مكان أن المواطن لا حول له حقاً عندما يتعلق الأمر بسياسات خارجية، حتى في أكثر الدول ديمقراطيةً. بالطبع هذا الكلام ينطبق إلى اللحظة لكن قد تثبت تحولات مستقبلية أن الموجة الرافضة لهذه المنظمات (الديمقراطية والدولية) قدرتها على تصحيح مسارها.
لكن إلى ذلك اليوم يمكننا القول إن السؤال القائم هو سؤال عن جدوى المركزية الحكومية والأممية، ويجدر بي أن أشير إلى أن هناك انتقادات زائفة للمركزية الحكومية وحتى إلى تلك المنظمات الدولية، فقد تجد عند العديد من المفكرين رفضاً للمنظمات الغربية لكنه ليس رفضاً لمركزيتها، بمعنى آخر، المشكلة هي ليست في إعطاء منظمات دولية السلطة فوق الدول وإنما في إعطاء هذه المنظمات تلك السلطة. ولذلك لا يصل النقد إلى أقصى حد وتجد عند الناقد رغبة لا يخفيها كثيراً عن رغبته في تسلم السلطة، وفي حال جاءت منظمات تروق له وكانت على نفس المستوى من المركزية السلطوية فلا مانع لديه.
في المقابل يبدو أن المواطنين في كل مكان، على الرغم من تصريحاتهم وصدق غضبهم إزاء المجازر والفظاعات اليومية التي يقترفها كيان الاحتلال الصهيوني تحت غطاء سياسي واقتصادي وعسكري من أقوى الدول ومن دول الجوار، يبدو أنهم ما زالوا يؤمنون بأهمية الحفاظ على الأنظمة القائمة وأمنها، ويسعون إلى تحقيق متطلباتهم بسلمية وهدوء دون دفع أي ثمن راديكالي[4]. مما يعني أن رفض الأغلبية للسياسات الخارجية لا يعني رفضاً جوهرياً لطبيعة حكوماتهم. لذلك خاتمة تريسر تونغ لا تكتفي بالنقد الفاتر لآلية العمل وإنما تدعو لانهيار تام، وبالفعل تسمى في عالم المتخيل بحادثة "الانهيار" (The Collapse)، وهذه الخاتمة تضع أمام اللاعب سؤالاً عن مدى رفضه لما هو قائم.
عن العلمانية الطارئة والثنائيات الزائفة[5]:
"الناس يرغبون بتصديق حقائق معينة عن قادتهم، وهذه الرغبة هي مفتاح قوتنا" -نيكوليت دوكلير، عضوة في الإلوميناتي
الجزء الثاني في زمننا والثالث في زمن اللعبة تلقى ردود فعلٍ إيجابية فور صدوره، لكنه تحول في نظر اللاعبين إلى أسوأ الأجزاء، وقد تلاحظ هذا عند البحث عنه سواء في التعليقات أو في انخفاض النتائج مقارنة بالجزء الذي سبقه وتلاه، ومع ذلك، هذا الجزء هو الجزء الذي تنتهي فيه أحداث اللعبة.
كالعادة، يتقمص اللاعب دور عميل محسن تكنولوجياً، هذه المرة اسمه "أليكس دي"، وكالعادة تجد امتداداً لكل تلك الجهات المعنية بالسيطرة على العالم. في بادئ الأمر تشهد صراعاً بين ديانة جديدة توحد جميع الديانات تحت إمرة شخصية يشار إليها بلقب "قداستها" وبين نقابة تجارية عالمية. كما تظهر جهة متيمنة بفرسان الهيكل وهي ترفض كل التعديلات على البشرية وتعتبرها اعتداء صارخاً على النقاء البشري، مقابلها جهة جديدة تعد نفسها الخطوة القادمة في تطور البشرية اسمها "عُمَر" وهي مجموعة تعدل نفسها جينياً وتكنولوجياً لأقصى الحدود الممكنة، لتنزع فردانية أعضائها وتحمل بدله عقلاً جمعياً. وكذلك تعود الإلوميناتي بالطبع، ويعود جي سي دينتون من الجزء السابق ويدعوك إلى دمج العالم كله بنظام الذكاء الاصطناعي الذي دمج ذاته معه. كل هذه الجهات تعطيك خيارات مختلفة في كل مهمة ولكل خيار تبعات في موقفهم منك، تبدأ باتصالات توبيخية وتصل إلى محاولات اغتيالك.
أكثر ما علق في ذهني من هذا الجزء هو اكتشاف متأخر في اللعبة يعيد النظر في طبيعة الخيارات والجهات وراءها، حيث يكتشف أليكس أن الديانة الجامعة ونقابة التجارة العالمية ما هما سوى ذراعان لمنظمة الإلوميناتي، المنظمة تعلمت من أخطائها واستنتجت بعد "الانهيار" أن أفضل وسيلة للتحكم في الناس هي في إعطائهم خصماً للتوحد ضده، ولذلك، من أجل الحكم المطلق، عليك أن تتحكم بالخصم أيضاً. وهذه النظرة ليست غريبة عن نظريات المؤامرة التي توحد بين الخصوم الظاهريين. على مر سنوات الماضية وفي كل مرة يقصف الكيان الصهيوني العاصمة السورية يزعم البعض أن تلك الهجمات مسرحية متفق عليها لإعطاء الحكومة السورية شرعية ما. مؤخراً بعد طوفان الأقصى وارتفاع أهمية القضية الفلسطينية في الوعي الجمعي يتجنب بعض المناصرين للقضية في الغرب الجمع بين وقوفهم مع القضية والوقوف مع حماس، ولذلك يزعمون أن حماس قد أسسها الكيان وهما يعملان مع بعضهما. المثير في انتشار مثل هذه النظريات هو أنها لا تعتمد على سوابق تاريخية حقيقية أو دعائم منطقية صلبة على عكس نظريات مؤامرة أثبتها الزمن مثل هجمات بأعلام مزيفة. من الممكن تزييف هجمة أو عملية واحدة، أما تزييف حرب كاملة فهذا يعني أن القدرة على تزييف الأحداث صارت تفوق الوعي الفردي، وهذا النوع من نظريات المؤامرة التي تبالغ في تصور قدرات بعض الجهات الحكومية أو العسكرية يسهل على المرء الاستسلام الكامل لها.
المميز في اكتشاف الخيار بين الدين ورأسمال، بعد أن ننزع المبالغة الدرامية والمؤامراتية عنه، هو أننا نشهد أمثلة صارخة عليه منذ بدء الربيع العربي لو دققنا النظر، حيث لم يكن هناك تيار ديني يخترق الحدود، وكل المواقف يمكن تفسيرها لو اكتفينا بدراسة مصالح الدول فحسب. بمعنى آخر، كل رجل دين وافق حكومته تصدّر الإعلام، وأوجد ما يكفي من مبررات دينية لموقف حكومته، بينما زُجَّ بالسجن كل رجل دين عارض حكومته، وهؤلاء المعارضون لم تربطهم حقاً صلة إسلامية فعالة عبر الحدود.
هذه الملاحظة مزعجة لمن يؤمن بنوعٍ من التسامي الديني فوق الحدود الدنيوية، والمفارقة هي في أن الدين بذاته عندما اتفق إلى حد ما مع السياسة الدنيوية، مثلاً عندما دعمت بعض الدول ثورات في دول أخرى تحتوي على تباين طائفي، أُعطي رجال الدين الميكروفونات، بينما عندما تعارض الأمر الديني في الدفاع عن أتباع الدين والمقدسات مع الأمر الدنيوي من الحفاظ على العلاقات مع كيان ينتمي لدينٍ مختلف، تدجن رجال الدين أمام كيان من دين مختلف بعد أن تهيأوا من أجل تغذية صراع طائفي. وبدلاً من التأجيج اكتفوا بالتعذر والتباكي كما لو أنهم من المنظمات الدولية التي يقضون معظم مسيرتهم الدعوية في نقدها. وهذا دليل آخر على زيف الثنائية بين تصور رجل الدين الرباني وبين الحكومة الدنيوية.
وبذلك، يمكننا إسقاط زيف الثنائية بين الديانة الجامعة والنقابة التجارية على الثنائية المزيفة بين رجال الدين والحكومات، وعلى تصور أنهم ينتمون إلى دائرة أكبر من الجغرافيا والحدود. وهذا يفضي إلى استنتاجين على أقل تقدير، الاستنتاج الذي لا يروق للمتدين يشير إلى كم الزيف في أولئك الذين يحملون العلوم في دينه، والمتدين في أحسن الأحوال يشير إلى رجال الدين في السجون ويحصر الدين فيهم، دون أن يتنبه إلى أن الدين الحقيقي وفق نظرته هو دين ضعيف. الاستنتاج الثاني قد يروق للمتدين من الناحية الفكرية لكنه يحمله عبئاً فعلياً، وقد يتعارض مع ما ترسب من الحملة التحريضية الطائفية، وهو أن الدين الذي يخترق الحدود ويسمو فوق الرغبات الحكومية الدنيوية هو دين المجاهدين، وهو الدين الذي يسمو فوق الطائفة أيضاً، وأن وحدة الساحات اليوم هي خير ممثل لذلك. هذا الاستنتاج يرضي الضمير ويريح المرء عن سلامة الدين لكنه لا يجيب عن موقع المرء نفسه من هذا الدين، فهو ما لم يصبح في تلك الجبهات المشتعلة أو يشعل جبهةً أو يشكل الحاضنة المدنية لها، سوف يمسي في الثنائية الزائفة. أي في الدول التي لا رابطة حقيقية بينها وبين الدين سوى الاسم وشعائر فردانية، ولا يعقل أخذ الكلام إلى التكفير وإنما إلى توضيح زيف الثنائية لو استخدمت أي من المقاييس الواقعية.
مدح ومأخذ:
ما سبق كان تلخيصاً سريعاً للألعاب، وانتقاء لما ينطبق منها على ما نواجهه اليوم، لكنه لا يعطي أي لعبة حقها من العمق، كما أود التوضيح بأنني أصارع الأسئلة التي طرحتها، وإن ملت إلى إجابة دون أخرى أو أخذ القارئ انطباعاً أنني أفعل ذلك، في الحقيقة ما زلت لم أجد أجوبتي، ولذلك أشارك الأسئلة وأدعو القارئ إلى إعطائها حقها من التفكير.
من ناحية اللعب، قد يطول المدح، فهي تتيح لك أساليب مختلفة من إتمام المهمات كما تتنوع القدرات التي يمكنك تطويرها، وتنتقل بك إلى مواقع مختلفة، من نيويورك إلى القاهرة إلى هونغ كونغ. لذا سأكتفي بمدح ما أظنه أفضل خاصية في اللعبة وهو الثراء في التفاصيل، وهذا الثراء يعني أن المصممين لا يجبرون اللاعب على تقدير كل الجهد الذي وضعوه، يمكنك فهم العالم بقراءة الأخبار والبريد الإلكتروني هنا وهنا، كما يمكنك إعادة اللعبة كلها عدة مرات، وفي كل مرة تكتشف المزيد من التفاصيل والخفايا. تفاصيل تتدرج ببساطة إضافة جملة واحدة في إحدى النقاشات وفق تصرفاتك إلى أقصى حد وهو في أسلوب لعب والجهة التي تنتمي إليها.
في المقابل هناك العديد من المآخذ، لكن المأخذ الأساسي على كل الأجزاء في نظري هو في نسيج الخيارات، قد يلاحظ القارئ أن الألعاب تعطيك خيارات متعددة لكنها في الوقت نفسه تتسلسل خطياً في الزمن، وللأسف هذا عنى أن كل جزء لا يأخذ بعين الاعتبار ما اخترته في الجزء الذي سبقه، لذلك يبدأ كل جزء بمزج الخواتم المختلفة السابقة. بينما من الأجدر بأن تؤخذ خياراتك على محمل الجدية، ومن الناحية التصميمية لا مانع من أن تسألك اللعبة عن خياراتك السابقة أو أن تحملها من الملفات على جهازك، وهذا ما فعلته ألعاب أخرى مثل سلسلة "ذا ووكنغ ديد".
لكن في سبيل الإنصاف، الخواتم المختلفة في عالم "ديوس إكس" تشمل العالم كله ولا يمكن تصميم اللعبة بشكل يختلف جذرياً لأن ذلك يتطلب جهداً وموارد غير متوفرة، فهي لن تقتصر على وجود شخصية أو مقتلها، وإنما على طبيعة العالم مع اختلاف التيار الحاكم له. ولهذا السبب قد تكون اللعبة التي سوف ترث عظمة ديوس إكس هي تلك التي تلبي المساحة الشاسعة من تبعات القرارات المصيرية والتي حجبتها الموارد والتكنولوجيا المتوفرة عند إصدار الأجزاء الثلاثة.
المشكلة في الخيارات أيضاً تحصل داخل كل جزء، ففي نهاية الأجزاء يجد اللاعب نفسه في مساحة صغيرة إلى جوار ممثلين لكل الجهات وبغض النظر عن الخيارات التي أخذتها طوال اللعبة تتاح لك في النهاية الفرصة لأن تغير رأيك وتختار الخاتمة التي تريد، وقد يكون ذلك بسهولة الضغط على زر ليعطيك الخاتمة المرجوة، وبذلك لا تتأثر النهاية بقراراتك كثيراً وهذا يقلل من قيمة خياراتك في اللعبة[6]. وهذا أيضاً يتمثل في تصرفات أقل عقلانية من الشخصيات في اللعبة، مثلاً تسامحك الجهات بعد أن ألحقت الأذى بها وتثق بك إلى الرمق الأخير وتدعوك للانضمام لها، أو تختفي خيارات تؤدي إلى مقتل شخصية ما. لهذه المشكلة حل أفضل نجده في سلسلة "فول آوت" والذي يغير النهاية وفقاً لعدة قرارات وهذا لأن اللعبة تفكك المهمات بدلاً من نسجها في خط واحد.
أخيراً هناك مشكلة تصميمية تواجه كل الألعاب التي تعتمد على خيارات اللاعب وهي أنك قادر على متابعة الخواتم المختلفة على الإنترنت بغض النظر عن خياراتك داخل اللعبة، أي حتى لو أجبرتك اللعب على إعادة التجربة من أولها للوصول إلى نتيجة مختلفة، هناك محيط خارج اللعبة يسمح لك بتخطي تلك الحيل وهو محيط خارج عن سيطرة مصممي اللعبة. لذا أظن أن هذه المشكلة التصميمية تطلب حلاً مبتكراً، وبهذا أعيد الإشارة إلى الأسئلة الثلاثة التي طرحتها اللعبة عبر هذه المقالة، عن التكنولوجيا وعن مركزية السلطات وعن الثنائيات الزائفة، فهي أيضاً تندرج في محيط يفوق قراراتنا الفردية، وأقول إنها هي أيضاً مشاكل يجب معاينتها تقنياً وفلسفياً وبصورة جماعية، سواء جاءت الإجابة جمعية عفوية أو فلسفية نخبوية، في سبيل الوصول إلى حلول مبتكرة ترتقي لحجم المسائل المحددة لمصير العالم بأكمله.
هوامش:
[1]: هناك أجزاء إضافية من اللعبة لكنها تُعتبر مكمّلات للأجزاء الرئيسية، كما كتبت بعض الروايات التي توسع من العالم القصصي لها.
[2]: المقاطع التي أرشحها هي حوار دينتون مع الذكاء الاصطناعي مورفيوس حول شمولية المراقبة التكنولوجية، كما يمكنك البحث عن تجميعات لحوارات مختلفة مثل هذا.
[3]: وهي منظمة بافارية تاريخية تدور العديد من المؤامرات في عالمنا حول سريان عملها إلى يومنا، عادة بخلطها مع الماسونية.
[4]: مع استثناءات فريدة مثل هارون بوشنيل.
[5]: لم أركز هنا على الخواتم لأنها تتبع منطق الأجزاء السابقة في طرحها وتعالج سؤال التكنولوجيا والحكم العالمي المذكور سابقاً، يمكنك متابعتها هنا.
[6]: وخارج اللعبة يمكننا الإشارة إلى أن الخيارات التي نأخذها كل يوم تحتم علينا مسارات حياتنا، أفراداً وجماعات، ولا يمكننا تغييرها بعد فوات الأوان. لكن هذه الدرجة من الواقعية قد تنزع من الترفيه في اللعبة.