منذ فترة، وحين كنت أبحث عن رواية تُشبع قلبي وتجعله ينتفض من جديد، شأنه شأن جسد المدمن حين يطلب جرعةً من مخدرٍ حُرم منه زمناً، اقترحت علي صديقة رواية "وحدها شجرة الرمان" للكاتب العراقي سنان أنطون، التي صدرت في عام 2010، عن منشورات الجمل، وجاءت في 255 صفحة.
انتابتني الحسرة، كيف لم أسمع بالرواية طوال السنين التي انقضت! ثم ندمت لأنني أنهيتها بسرعة، لقد قرأتها بالفعل! والآن، هل لي أن أقرأ عملًا آخر يماثل جمال هذه الرواية؟
أدرك, بالطبع، طول قوائم الكتب الجيدة التي تصدر، وعلى وجه الخصوص، الأدبية منها، وأنه ثمة أعمال جديرة بالقراءة تنتظرني، بيد أنني دأبتُ أن أعيش أفكاري إلى أقصاها حين أكتب عن عملٍ أحبه.
سردٌ تاريخيٌّ روائيّ
رافقتني الرواية ثلاثة أيام تقريباً، اطلعتُ خلالها على تاريخ العراق منذ الحرب مع إيران في الثمانينيات، مرورًا بالحرب على الكويت في عام 1990، والحصار الذي فُرض على البلد بعدها، ومن ثمَّ احتلال العراق عام 2003. سردٌ تاريخي ذكي ووافٍ للأحداث المحورية، وما نجم عنها من حربٍ طائفية أنهكت الجسد العراقي وأدمته حتى هذا اليوم. حافظ الكاتب على أسلوبه السردي الممتع بعيدًا عن الإسهاب والدخول في حيّز التوثيق التاريخي المحض، كان أسلوب الكاتب مشوّقاً ومليئاً بانعطافاتٍ وذرى أحداثٍ عدّة.
في مشهدٍ صغير، لمغيسل، (مغسل موتى) ورثه الراوي جواد، عن والده الذي كان قد ورثه بدوره عن جدّه، ينطلق الكاتب إلى مشهدٍ أعم وأشمل. فذلك المكان الذي تُغسل فيه جثث الموتى، ما هو إلا وجهة ما قبل أخيرة لمن طحنتهم الحياة والحرب بطرقٍ شتّى، ومثّلت في أجسادهم.
يصوّر الكاتب أحداثًا مأساوية من تفجيراتٍ واغتيالاتٍ، وذبحٍ باسم الدين والطائفة والسياسة، خارج ذلك المغسل، ثم ينتقل إلى داخله فيرينا عملية غسل الأموات وتكفينهم بالتفصيل. عمليةٌ تكتنفها مشاعر الرهبة والخشوع، كما الألم والخوف.
على الدّكة وسط المغسل، ترقدُ جثث الموتى، أو نصف جثثهم، أو حتى رأسٌ فحسب. لا تفرّق تلك الدّكة بين طرائق الموت وأسبابه، جميع الأجساد لها الأشكال والروائح ذاتها مهما بدت مختلفة، ولها لون الدم ذاته، في إشارةٍ إلى هشاشة البشر وقيمتهم التي لا تساوي أكثر من كمشة قطنٍ وكفنٍ وقبرٍ ضيق.
بهذا السرد المتداخل بين العام والخاص، تكتمل الصورة وتتضح. يُغنيها الكاتب بعناصر ومعلومات حول موضوعاتٍ عدة: فن، سياسة، تاريخ وحتى جغرافيا، تعكس خلفية ثقافية غنية، لم يتخلَّ صاحبها عن تواضعٍ وقربٍ من شعبٍ أصيل، يتجليان من خلال حوارات مكثّفة باللهجة العراقية تؤكد على أصالة الكاتب وتماهيه مع شخوص روايته، ونجاحه في التحدث بألسنتهم من دون تصنّعٍ أو تزلُّف.
بشريّة الراوي لا أسطوريته
ترد في الرواية، على لسان شخصياتٍ عدة، آيات مقتبسة من النص القرآني في إشارةٍ إلى مرجعيّة تلك الفئة من المجتمع وعقيدتها المتجذّرة، ناهيك عن الاستهلال بآية قرآنية وحديثٍ نبوي. إلا أنّ القارئ يلمس وبسهولة أن الراوي، جواد، تائهٌ في منزلةٍ بين الإيمان والشك. يمارس عملًا لا يحبه ويردد أدعيةً لا يؤمن بها، يشرد في أفكاره وهو يغسل ميتًا، لكنه يعود فيؤنب نفسه في منامه على فعلته تلك. جواد غير المؤمن، الممتلئ إيمانًا وصحوة، يبكي حين سماعه الصوت العذب للرادود باسم الكربلائي في حضرة موسى بن جعفر وفي يومه وبين زوّاره، فيعتذر منه.
جواد الطفل الذي شكك منذ الصغر بوجود الروح، وسأل والدته عن الحكمة من غسيل الأموات؟ وإن كانوا يرحلون إلى الجنة حقًّا؟ منهج الشك الذي سار عليه جواد منذ طفولته، نفّر قلبه من مهنة المغسّلجي، فاختار الفن طريقًا بديلًا يتلاءم مع حساسيته ورهافة روحه. إلا أن الحرب شاءت غير ذلك، فالظروف الاقتصادية أجبرته على العودة إلى الدكة وإلى دلاء الماء والسدر والكافور.
وهنا تبرز فكرة معاكسة لتلك القائلة، بأن الإبداع هو وليد الألم والمعاناة. بل في هذا السرد الواقعي المؤلم، يبتعد جواد عن النحت والرسم، ويتوقف إنتاجه ويموت شغفه.
ليست جميع الآلام ولّادة، ثمة آلامٌ تشلُّ قدرتك على الحياة، وتطفئ روحك، وتسحب الأمل من داخلك سحباً، فتصبح خاويًا أجوف. "كل ما أعرفه هو أنني تعبتُ من نفسي ومن كل شيء. وبأن قلبي ثقبٌ يمكن المرور عبره لكن يستحيل البقاء فيه". "هل من طريقة، غير الانتحار، لإخراج كل هذا القيح والدم المختنق في أعماقي. هل يمكن تفتيت وصهر الأحجار المتكوّمة في آبار الروح اليابسة وفتح جرحٍ كبيرٍ كي تخرج كلها منه؟ هل يمكن هذا دون أن يطحن المرء عظامه ويهشم أضلاعه؟"
تخفيفًا من حدة المشاهد وقسوتها، يأتي الحب مهربًا لكلّ يائس، فتَحْضُر قصة حب واعدة بين بطلنا جواد، وصديقته ريم. لكنها شأنها شأن أحلامه الأخرى، لا تكتمل، تُبتر قبل أن تبدأ، كما لو أنه مكتوب عليه أن يعيش الكوابيس فحسب.
غير أن جواد، يعيش تجربة ثانية بعد خسارته ريم، لا تكتمل هي الأخرى.
بعد تلك التجارب كلها والمشاعر التي يختبرها جواد، تتوضح لنا طبيعته البشرية على حقيقتها، فهو بعيد عن المثاليات الأسطورية والعفة التي يسبغها الكتّاب عادةً على أبطال رواياتهم. جواد بشرٌ في النهاية، يحب ويخسر محبوبته ويحاول تخطّيها، يضيع بين إيمانٍ وشك، يغار ولو لوهلةٍ من أخيه الشهيد الذي لطالما كان المفضل لدى والده، يفشل في مهنةٍ اختارها، ويعود أدراجه خائبًا من حلمٍ بسفرٍ لم يتحقق. لذلك هو قريبٌ منا، يشبهنا نحن قرّاءه البشر.
لا أحلام وردية في قاموس جواد، كوابيس، فقط كوابيس، انتفاضاتُ جسدٍ متعرقٍ خلال النوم، صرخاتٌ لا يُسمع لها صوت، وبكاءٌ مكتوم.
تتخلل فصول الرواية، مشاهد من تلك الكوابيس، برعبها وواقعيتها أحيانًا، فينتقض قلب القارئ فزعًا، لكنه يعود ويتنفس الصعداء حين يدرك أن ما قرأه للتو كان كابوسًا من كوابيس جواد، ويفلح الكاتب مرة أخرى في دمج القارئ والبطل في كينونةٍ واحدة.
رمزية الرمان
يبدأ الكاتب روايته بآية قرآنية عن شجرة الرمان: {فيهما فاكِهَةٌ ونًخْلٌ ورُمّانْ}، وحديثٍ نبوي: «ما من رمانةٍ إلّا وفيها حبةٌ من رمانِ الجنّة»، وينهيها بمناجاةٍ بين الراوي وشجرة الرمان الواقفة في حديقة المغسل.
تلك الشجرة التي شربت مياه الموت لعقود، عبر القناة التي حُفرت في الأرض والتي امتدت من أسفل الدكّة وحتى جذور الشجرة الماثلة في الحديقة الخلفية للمغسل.
يرمز الرمان في القرآن إلى الخصوبة والوفرة، وفي معرض أحداث الرواية، إلى استمرارية دورة الحياة وتجدُّدها: "الأحياء يموتون أو يسافرون والموتى دائمًا يجيئون، كنتُ أظنُّ أنَّ الحياة والموت عالمان منفصلان بينهما حدود واضحة، لكنني الآن أعرف أنهما متلاحمان. ينحتان بعضهما البعض".
شجرةٌ استمرت في تفتّحها وإعطاء الثمر رغم شربها من مياه غسل الموتى، أزهارها حمراءُ قانيةٌ بلون الدم، أكل من ثمارها بشرٌ كثر، وقُطعتْ أغصانها وكُسّرت ودُفنت مع جثث الموتى لتخفف عنهم عذاب القبر.
تحوّل نهدا ريم في أحد كوابيس جواد إلى رمانتين، وحلّا مكان النهد المُستأصَل، سقطت إحداهما وتدحرجت وسال الدم غزيرًا.
كما لو أن الرمان فاكهةٌ محرمةٌ على جواد، امتنع عن تناوله حين أدرك حقيقة الماء الذي تشربه تلك الشجرة، لم يعد يقوى على أكله رغم حبه له.
وكذلك الأمر مع النهد الجميل الذي أخذه بين راحتيه يوماً، رمانتا ريم الشهوانيتين، حُرّمتا عليه أيضًا.
اكتشف جواد أن الرمان بإمكانه أن ييبس ويفقد دمويّته، فينبض بالموت، كقلبه.
هو يعلم ذلك، لكن لا أحد يعرف.
وحدها شجرة الرمان... تعرف.