السلطة المضادة في العراق: تفكيك المجال العام وتكسير أدوات الحراك الاجتماعي

السلطة المضادة في العراق: تفكيك المجال العام وتكسير أدوات الحراك الاجتماعي

السلطة المضادة في العراق: تفكيك المجال العام وتكسير أدوات الحراك الاجتماعي

By : Safaa Khalaf صفاء خلف

لم تُفض الحركة الاجتماعية الاحتجاجية ضد السُلطة في العراق ضمن مسارها الكمي على مدى خمسِ هباتٍ احتجاجيةٍ تأسيسيةٍ؛ انتفاضة البصرة الطلابية في آذار/ مارس 2005 ضد سُلطة الميليشيات الدينية، انتفاضة الحريات العامة 2011 المُتزامنةُ مع "الربيع العربي"، انتفاضة مُدن غرب العراق 2013 ضد سُلطة الانحياز الطائفي، انتفاضتا البصرة 2015 و2018 المُمهدتان لانتفاضة تشرين الأول/أكتوبر 2019. لم تُفضِ هذه الحركات إلى إحداث تغييرات جوهرية أو هيكلية في بُنية نظام موروث بقوة احتلال أجنبي مباشر وإرادات تدخليّة إقليمية ما بعد 2003، بقدر ما حَسَّنَت من ظروف الاستجابة الاستيعابية من قبل السُلطة للاحتجاجات والنشاط العمومي. إذ إنَّ المجال العام - طبقاً لفهم يورغن هابرماس - عبر دينامياته الحُرَّة والعفوية؛ بيْنما يُمتِّن قوة الحراك الاجتماعي، يعمل في الوقت نفسه على تفكيك ثقافة العنف، باتجاه تبديد سرْديات المراكز والقوى المُتحكمة والمتسلطين السِّياسيين، الذين يسعون وظيفياً وسياسياً الى استملاك الحيّز الاجتماعي وتأبيد "استراتيجيات الهيْمَنة" و"العُنف الرَّمزي" وفقاً لبيير بورديو، خصوصاً ما يتعلق بـ"إعادة إنتاج السُلطة"، وتَشْفير المجال الافتراضي (وسائل التواصل الرَّقمي)، بخطابٍ مغايرٍ للمطالبات العامة، بما يُحافظ على علاقات الهيْمَنة والتراتبية والتَسلط.

إزاء الصعود التدريجي والجنيني لديناميات المُسائلة العمومية، صَمَّمَت قوى السُلطة استجابتها الاستيعابية، نحو تكْسير أدوات "الحراك الاجتماعي"، وتَدّجين الرَّفض الشعبي عبر سلسلة طويلة من المعالجات السُلطوية العُنفية التعسفية، وتوسعة زبائنية الفساد، وتمكين السِّلاح غير الشَّرعي، وصولاً إلى التآمر على الإرادة الانتخابية العمومية، وتقييد القُدرة السِّلمية على التغيير بمعاول شديدة التأثير من بينها المُعاقبة بالحرمان من الخدمات والتمويلات العامة، وقضم مساحة حُرية الرَّفض والتعبير تدريجياً، قُبالة تعزيز إنتاج "الهلع الأخلاقي" و"التفاهة"، فضلاً عن إغلاق الفضاء العام بممارسات جائرة تنطوي بعضها على توظيف "التنمية" و"الازدهار الرَّيعي" ومتطلبات اقتصاد السوق، من أجل خنق التفكير الاجتماعي على إنتاجِ حراكٍ جديد يؤدي إلى تغيير النظام/ السُلطة/ هياكل الانتفاع غير المشروع من المال العام. 

تفكيك الحراك الاجتماعي: المعْوَل والصَّدمة

صُدمت الهياكل الاجتماعية ما بعد 2003، بالتشوهات العميقة التي أنتجتها عقود مريرة من تغييب المجال العام والمجتمع الأهلي المنظم عن وظيفة بناء الدَّولة والهوية الوطنية، إذْ سادت السِّياسات الهوياتية المُتمركزة حول الفئوية والطائفية (Identity Politics) خلال المرحلة الأولى من انهيار مفهوم الدَّولة (2003 - 2014)، وأَطَلَّت خطابات شديدة الكراهية والانقسام على مجتمعٍ مهزومٍ ومفكك، تَجَلَت مؤثراتها العُنفية على موجتين؛ الأولى: مواجهات الثأر الطائفي (2006 - 2007). الثانية: صعود الجَّماعات الخلاصية الدِّينية، تنظيم الدَّولة الإسلامية [داعش]، وقبالتها فصائل السِّلاح الشيعي المُضادة [الحشد الشعبي]، ما بعد حزيران/ يونيو 2014. يُمثل هذا الصعود، المرحلة الثانية من انهيار مفهوم الدَّولة، وبداية أوسع لابتزاز الحركة الاجتماعية السِّلمية بـ"البنادق".

إزاء هذه التكتلات العُنفية، كان الأفق مُقفلاً أمام نشوء حركة اجتماعية خارج "تفكير الأزمة"، مع بُروز هويات فئوية أكثر تعقيداً انبثقت من حالة تنازعٍ طائفيٍ - عرقي مُزمنة. لكن؛ ثَّمةَ عاملٍ كامنٍ كان يتدحرج ويكبر يوماً تلو آخر بانتظار لحظة هدوء أمني، أو فسحة خارج الاضطرابات العسكريتارية المعهودة، حتى تستعيد الهياكل الاجتماعية بعضاً من الزخم إثْرَ تراجع الخطاب الفئوي الديني، بدءاً من العام 2018 صعوداً وما بعده. 

المطالبة بـ"الخدمات" الغائبة والتوزيع العادل للثروة، كان العامل الكامن الحاسم في تحريك وتفعيل قوة المطالبة الجماهيرية (Mass Society)، نحو صياغة هوية جديدة قائمة على الانحياز والاهتمام بالقضايا الوطنية المعيارية الكُبرى، تَمَثَلت مطالبها بـ: إزاحة نظام الطُغمة الكليبتوقراطية الفاسدة، إنهاء البيئة السِّياسية المَسْمومة، تفكيك السِّلاح المفروض طائفياً لحراسة النظام الذي يرتفع ما فوق مفهوم الدَّولة وقوتها، ليحميه من أي تغيير تقوده المطالبات العمومية والرفض السِّياسي من طرف المجتمع الحيّ والمجال العام. فيما تقترح المطالبة الجماهيرية، تأسيس سُلطة جديدة تُنهي عقدين من التنافس البشع والدموي على الثروة/ السُلطة مدعوماً بتدخلات خارجية وتبعية إقليمية ووصاية إيرانية. سُلطة جديدة كُلياً تمتثل للحوكمة والمراقبة والمحاسبة، وتحقق قدراً معقولاً وفعالاً من العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة، بما يؤدي إلى تحقق شعار الهوية الوطنية المُتَشَكِل عبر المسار الاحتجاجي العام في تشرين الأول/ أكتوبر 2019: "نريد وطن".

اهتز النظام الـ"ثيو-كلبتوقراطي" في العراق بشدَّة إثر انتفاضة البصرة صَيْف 2018، والاحتجاج العام في تشرين الأول/ أكتوبر 2019. لكن؛ بالمقابل، لم يُطلق النظام مراجعات عميقة باتجاه فهم مطالب الحراك الاجتماعي، او حتّى التفكير بتغيير نمط إنتاج السُلطة، بل تحايلت منظومة سُلطة الرؤوس المتعددة على الرغبة الشَّعبية بالتغيير، التي طالبت بصياغة عقد سياسي جديد قد يُفضي إلى قيام دولة مؤسساتية أكثر استقراراً وعدالة ومواطنية. 

تم تجاهل المطالب العمومية عبر إنتاج السُلطة لنفسها مُجدداً على مرحلتين كاستجابة خبيثة للمسار الاحتجاجي العام في تشرين الأول/ أكتوبر 2019. الاولى؛ عبر تشكيل حكومة مؤقتة برئاسة مصطفى الكاظمي، قادت "الحراك المُضاد" - رُغم اعتبارها حكومة صديقة لقوى الاحتجاج -. والثانية؛ عبر عقدِ انتخابات مبكرة في تشرين الأول/ أكتوبر 2021، بعد تفكيك المجتمع وحراكه عبر "تنظيف السَّاحات"، ما قاد بنتيجته إلى تشكيل "حكومة حماية مصالح" من طرف قوى اليَمين المُسلح القامعة للحركة الاجتماعية السِّلمية على مدى العقدين الماضيين. 

عَقِبَ أسابيعَ قليلةٍ من اندلاع الاحتجاج العام، تشرين الأول/ أكتوبر 2019، والتضحية بالقرابين الشبابية العظيمة، سَخَّرَت قوى السُلطة إمكاناتها لشراء ساحات ونُشطاء في بغداد والمحافظات المُنتفضة. بات لكلِ فصيلٍ سياسي أو مُسلح "جماعته الثورية" التي تَتَناطحُ مع المجموعات المناوئة، مُستهدفةً أي حراكٍ شبابيٍ حقيقيٍ، تُضعفهُ وتخترقهُ، تُكسِّر قوة الاحتجاج وتَحطُّ من سُمعته، وتوفرُ فَرشَةً معلوماتية لتفكيك النشطاء وتصفيتهم. بالمُحصلةِ، عمِلت الفصائل والجماعات جميعها على تكييف الاحتجاج، وإعادة السَّيطرة مُجدداً على السَّاحات، والتخلص من الأصوات التغييرية الراديكالية، لذا اشْتَدت حملاتُ الاغتيال والاختطاف وتصفية المجموعات النَّشِطة. وبصرفِ البحث عن القاتل، الجَّميع تخادمَ في تفكيك الحراك. 

قِوى "محور واشنطن" استثمرت دعائياً انتهاكات قوى "محور السِّلاح" بقتل المُحتجين السِّلميين للحطِّ من الشَّعبية وتشويه السُّمعة "الجهادية" التي اكتسبتها خلال الحرب مع (داعش). بينما محور السِّلاح المدعوم إيرانياً، تخلص من عبء نشطاء مؤثرين لديهم القدرة على التأثير الانتخابي تحت طائلة التخوين والصِّلة بـ"محور واشنطن". أخضع المحوران الشَّارع، وفككا قوة الحراك الاجتماعي عبر "تنظيف السَّاحات".

لم يكن الاقتراع المُبكر في تشرين الأول/ أكتوبر 2021، ممراً لإحداث تغيير في الجسم السِّياسي من طرف قوى الرَّفض الاجتماعي والمُحتجين، بقدر ما كان مَخرجاً آمناً لقوى السُلطة بإعادة إنتاج نفسها مُجدداً. إذ أشَّرت المقاطعة الواسعة إلى تفاقم اليأس العام في ظل استمرار تغذية "العملية السياسية" من البئر المالحة ذاتها منذ 2003. 

حالة الانقسام والتشظي في العراق، هي السِّمةُ البارزةُ التي تنبثق منها التناقضات المُتممةُ لعجز النظام السِّياسي. كل جماعة شَكَّلَت لنفسها خطاباً فئوياً تَتَحرك عبره داخلَ حقلٍ مُنعزلٍ عن الآخر. فحتَّى "احتجاجات تشرين"، هي لحظة انفجار شعبي انفعالية هائلة أيضاً، لكنها لم تُثمر سوى عن طاقةِ غضبٍ ويأسٍ تشتبك بلا برنامج مع حُزمة القوى المكونة للنظام، دون أن تتجاوزها إلى صياغة بديل يُسقط تلك القوى بما يمهد لنشوء ديمقراطية أكثر انفتاحاً من النسخة الانغلاقية الراكدة. لذا كان من السَّهل اصطياد الحركة الاجتماعية، وشَنِّ حراكاً مضاداً، بعدما استحوذت جماعات "الإطار التنسيقي" السِّياسية والمسلحة على السُلطة. 

"العَجزُ" و"الرَّداءةُ" هما الفاعلان الرئيسيان اللَّذان يُنقذان النظام/ المجتمع/ قوى السُلطة دائماً من الانهيار الكامل في العراق. بهذه الصيغة يَستَتِبُ النظام في هدوء وشراسة، بينما يستمر التعايش الاجتماعي هشاً حول المكاسب دون تناحرٍ دام، ينطوي ضمناً على حراك معارض مطيع (Dutiful dissent). هذه الصيغة أخطرُ من الفوضى التي وِلِدَ منها النظام، واعتاش على تحولاتها وفَضَلاتِها لنحو عقدين، وقد تؤدي بتراكم "الرَّداءةِ" الى انهيارٍ، قدّ يَحدثُ فجأة وعلى نحو مُتسارع. 

السُلطة الجديدة: التَّغولُ على المجال العام

يُفسر إميل سيوران في كتابه [Histoire et utopie - تاريخ ويوتوبيا]، تغوّل المُتسلطين السِّياسيين على الحياة العامة والمجال الحيوي للحركات الاجتماعية، بأن المُتسلط السِّياسي، إنْ "لم تغوه الرَّغبة بأن يكون الأول، لنْ يفقه شيئاً من السَّياسة، ولن يَفهم شيئاً من إرادة إخضاع الآخرين لتحويلهم إلى أشياء"، متوافقاً مع نظرة بورديو، بأن السُلطة تشترط الاعتراف بشرعيتها من قبل من تُمارس عليهم "الهيْمَنة"، بوصفهم الأدوات الحادَّة التي تُعيد إنتاج الممارسات والتمثلات السُلطوية داخل السرْديات المُنتجة من قبل النظام على شكل "دعاية" أو "مُخبرٍ عام"، ضمن الأُطر المُستحدثة لفرض "الضبط الاجتماعي"، أو دينامية "المُراقبة والعقاب"، كما فسّرها ميشيل فوكو.

فَقَدَ الحراكُ الاجتماعي بصيغته الوطنية، مَجالهُ الحيويُ مَرَّتينْ؛ مرَّةً حين اختطف مُقتدى الصَّدر الاحتجاجات العمومية بكاملها لفرض مشروعهُ السِّياسي الإلغائي، وفَشِل. ومرَّةً حين وَظَّفَ "الإطار التنسيقي" كلاً من القضاء والسِّلاح لحيازة الإدارة الحكومية، ونجَح

حين أطاحَ "الإطار التنسيقي" بالصَّدريين، عَقِبَ صراع ما بعد الاقتراع المُبكر في تشرين الأول/ أكتوبر 2021، كُشِفَ عن عمقِ الانقسام الشِّيعي - الشِّيعي، وهشاشة النُظم المُتحكمةُ بـ "العملية السِّياسية" العراقية المُرتكزة على محاصصة الدَّولة، والمساحات الاستعيابية العرقية والطائفية عبر الإبقاء على التوازنات التقليدية. لذا أعادت القوى ذاتها إنتاج نفسها مُجدداً. لم يُلتَفت إلى مطلب الحركة الاجتماعية الكمِّي والتراكمي بالتغيير ولا إلى نتاج الاقتراع. بل أصرَّت قوى النظام على تشكيل "حكومة حماية مصالح" فقط، لاغيةً الإرادة العامة للناخبين، ما أضافَ طبقةً جديدةً من خيبة أملٍ مُدمِّرة لثقة المُصوِّتين أو الجمهور العام المُقاطع والمتطلع إلى تغيير جذري. وحتَّى تَكتَمل تطلعات النظام في تصفية أصول إدارة الدَّولة، انتهجت السُلطة الجديدة استملاك الدَّولة عبر "تأميم الحكومة"، بجعلها مُحتكرةً ضمن فضائها الإقصائي، وتسمية أضعف السِّياسيين (محمد شياع السوداني) كرئيس للوزراء، لتفادي صعود مفاجئ لمتسلطٍ سياسيٍ جديد قد يُفسد على النظام بُنيتهُ الصامدة. هذه اللَّحظة التي استمرت زُهاء عامٍ تقريباً، أَنْتَجَتْ مُتسلطيَّن سياسيين اثنيَّن من الخامة المُشوهة نفسها، التي تُكيل احتقاراً مُريعاً لإرادة الناس: "الإطار التنسيقي" و"مُقتدى الصَّدر".

لحظة صعود السوداني، الذي يحتفي بعنوانه القبلي وامتداداته العشائرية تعويضاً عن ضعفه سياسياً، مَثّلت ذُروة "عَجْزِ" النظام و"رَداءةِ" خياراته، بمقابل انسحاب الحركة الاجتماعية الاحتجاجية من المواجهة إثر مناورة مُقتدى الصَّدر بإزاحة قوى السُلطة عسكرياً. أثّر فَشل مُناورة الصَّدر المُسلَّحة على نحوٍ بنيويٍ بالغ في ثقة الحركة الاجتماعية السِّلمية بقدرتها على صَدِّ ترتيبات النظام بإعادة إنتاج نفسه عبر تسمية "رئيس وزراء" من نفس الطَّاقم العاجزِ والرديء. لذا، انكفأ الحراك الاجتماعي، من صيغتهِ الوطنية الأوسع، إلى حراكاتٍ مطلبية ومَصلحية صغيرة هامشية، مُجزأة ومُشتَّتة. لكنها؛ قدّ تلتئم وتَصْعَد إلى المنطقة المطلبية الوطنية الكُبرى مُجدداً، بما يُشكل نواة الوجهة المُستقبلية نحو صياغة حركة اجتماعية جديدة أكثرُ نُضجاً من سابقاتها.

فَقَدَ الحراكُ الاجتماعي بصيغته الوطنية، مَجالهُ الحيويُ مَرَّتينْ؛ مرَّةً حين اختطف مُقتدى الصَّدر الاحتجاجات العمومية بكاملها لفرض مشروعهُ السِّياسي الإلغائي، وفَشِل. ومرَّةً حين وَظَّفَ "الإطار التنسيقي" كلاً من القضاء والسِّلاح لحيازة الإدارة الحكومية، ونجَح. 

خَدَمَت حكومة مصطفى الكاظمي المؤقتة عبر هِراوة مُقتدى الصَّدر وشبيحتهُ "القبعات الزُرق"، مآل قوى السُلطة المدججة بالسِّلاح (الإطار التنسيقي) بتفكيك الحركة الاجتماعية وتفتيتها. إذْ ليس فقط سلاح الميليشيات الإيرانية من كان موجهاً ضد الحركة الاحتجاجية السِّلمية، بل ثَمةَ معاولَ إضافيةٍ من داخل جسم الحراك نفسه عَمِلَت بالإجهازِ على ما تبقى من قوة الرَّفض الاجتماعي. لَعِبَ الصَّدريون أدوارَ ابتزازٍ وتحايلٍ لحماية النظام المهترئ، بدءاً من مشروع "الإصلاح"، والتحالف مع الشيوعيين بالدعوةِ إلى "الدَّولة المدنية"، ومن ثم الانخراط في الحركة التشرينية ودعمها، انتهاءً بالانقلاب عليها، والعودة إلى ضفاف المشروع الانعزالي بتأسيس "سُلطة صَّدرية" خالصة من أجل الانفراد بالسُلطة. بالنهاية أُقصي الصَّدريون. 

بعد استعصاءٍ سياسيٍ دامَ عاماً (تشرين الأول/ أكتوبر 2021 – تشرين الأول/ أكتوبر 2022)، تَمَكنت قوى السُلطة اليمينية بنزوعها الإسلاموي العدائي للحركة الاجتماعية من احتكار الحُكم في العراق، وأسَّسَت لحوكمة كالفينية بتحويل "السُلطة إلى ربح"، عبر تشكيل ما أسمته "حكومة الخدمات" المُحصَّنةُ بدرعٍ قداسوي – طائفي مُسلحٍ من طرف فَصائل عُنفيةٍ مُصنفةٍ كـ"مجاميع إرهابية" لارتكابها انتهاكات إنسانية واسعة في سورية والعراق؛ من بينها "عصائب أهل الحق"، "كتائب حزب الله"، "كتائب جُند الإمام" ومنظمة بدر، مُعتبرةً التوافق على تسمية (محمد شياع السوداني) لإدارة الوزارة، جاء محروساً بتطويبٍ من الشَّخصية المُعتبرة لدى الجمهور الشِّيعي، فاطمة الزَّهراء، ابنة النَّبي مُحمد. وفقاً لتعبيرهم: الحكومة ولدت بـ"بركة أنفاس الزهراء"، بمعنى توطين المُعتقد الجَّماعي للمقهورين داخل سياق وسرْدية "الهيْمَنة" التي ترتكبها السُلطة بما يخلق حتْميات سياسية مُتعالية، لا يستطيع الحراك الاجتماعي عزلها عن حقيقة أن أفراده أيضاً مُلزمين بـ"الهيْمَنة" العقدية الجَّماعية للإيمان بنفس الموروثات الدِّينية لمُتسلطي النظام. 

تُؤشر محاولة الرَّبط بين المُتخيل الدِّيني الأيديولوجي الشِّيعي وبين عملية إجرائية سياسية دنيوية لتنظيم هيكل إدارة الدَّولة والمجتمع، على النزوع المُستمر لقوى السُلطة لحيازة الشَّرعية المفقودة عبر حوكمة طائفية تعزز إنتاج "الهلع الأخلاقي - Moral panic"، من أجل حماية أصول المُجتمع من التغيرات العاصفة غير المتوقعة التي يُنتجها الفضاءُ الحُر لحرية الرَّفض والتَّعبير، مثلما تُقوض في الآن نفسه، مكاسب الحركة الاجتماعية التي تسعى إلى تحرير سُلطات الدَّولة من النزعة الدِّينية.

بالمقابل، باتت سُلطة "الإطار التنسيقي/ حكومة السوداني"، تُنتجُ كمّاً هائلاً من "التفاهة" و"الدعاية" عبر تمويلات غير خاضعة للرقابة من المال العام، لإغراق الفضاء الإلكتروني الاحتجاجي بسرْديةٍ ضدّيةٍ مُضللةٍ. بالتالي؛ أحدثت تغوّلاً على الحيّز العام. إذْ ينطوي غياب النقد الحُر أو المؤسسي من قبل النشطاء الأفراد/ المجتمع الأهلي المنظم/ المنظمات غير الحكومية، للديناميات السُلطوية، على تخلٍ صادمٍ للدور الرقابي للحركة الاجتماعية، وتسييلاً ومحواً لطبيعة "المجال العام" بوصفه مصدّاً يمثل القوة الاجتماعية السِّلمية تجاه "حُزم السُلطَة" المُحتكرة للعنف والإفلات من المُحاسبة.

سُلطة ترسيخ الفشل عبر الخدمات الفوضوية

مع شيوع الفساد في هياكل الدَّولة/ الحكومة/ قوى السُلطة المتعددة الرؤوس، وتراجع قدرات الاقتصاد الوطني عن سد العجز الكبير في التمويلات العمومية، وسط تنامي البطالة، وبروز اعتلالات تنموية خطيرة بسبب الاعتماد على الاقتصاد الرَّيعي – النفطي الأحادي، والنهج الحكومي العشوائي بتوسعة اقتصاد السوق دون تخطيط، فضلاً عن المؤثرات الكارثية للتغير المناخي، وإنكار مخاطر الملوثات الهيدروكربونية؛ كانت "الوصْفَةُ الناجحةُ" لسُلطة "الإطار التنسيقي/ حكومة السوداني"، هي تقييدُ المجال العام وتضليل الذاكرة الجَّمعية للحركة الاجتماعية، وشراء الرَّفض عبر تسويق "الاستقرار المُزيَّف". 

لا بد من تعريف سُلطة "الإطار التنسيقي/ حكومة السوداني"، على أنها سُلطة لـ"ترسيخ الفشل عبر الخدمات الفوضوية"، تكديس أكبر قدر من المشاريع في الذاكرة الجَّمعية عبر الدعاية، بينما القُدرة الوظيفية لتلك المشاريع والخدمات هشَّة ومهترئة، لكونها قائمة على هيكلٍ متداعٍ من بُنيةٍ تحتيةٍ مُنفلشةٍ، وسياسات اقتصادية مُشبعة بالانهزامية التي يُرسخها الرَّيع النفطي عبر ابتزاز الناس معاشياً مقابل استمرار النَّهب العام، ومُحاصصة السُلطة، والتعرض إلى مزيدٍ من التلوث. 

يعاني العراقيون تحت سُلطة "الإطار التنسيقي/ حكومة السوداني" من شيزوفرينيا الواقع المُتخيل. بمعنى، يُطحن المواطن في الماكنة اليومية لانهيار الخدمات، مَشاق التنقل، تغوّل الفساد المُستشري في الجسم الحكومي، تعدد أقطاب القرار الأمني والسياسي، الجَّفاف والتلوث، اليأس العام. بيّنما في الآن نفسه، ينغمسُ العراقيون بواقع آخر مُتخيل تُغذيه ماكنة الدعاية الضَّخمة لسُلطة الفشل/ قوى النظام/ سُلطة السوداني، في الفضاء الإلكتروني، كمنتج تُديره وتموله وتغرقهُ بمتونٍ هامشيةٍ ترفعُ من قيمة "سُلطة ترسيخ الفشل عبر الخدمات الفوضوية"، مقابل ملاحقة أي محتوىً مضادٍ أو معارضٍ، عبر أداة "مكافحة المحتوى الهابط" وإشاعة "الهلع الأخلاقي". 

الأداة المُبتكرة والعملانية، "مكافحة المحتوى الهابط"، التي أطلقها النظام في شباط/ فبراير 2023، حوَّلت المُجتمع إلى "مُخبرٍ عام" يَشتغل لدى السُلطة التي تسعى إلى تشكيك المجال العام والحركة الاجتماعية بقدراتهما على المساءلة والتحشيد، على اعتبار أن الاحتجاج بدءاً من العام 2015، كان نتاجاً لتلك القدرة التي تم تحطيمها عبر تخليق مسوخ تُنتج التفاهة اليومية. لكنها - أي المسوخ - تحوَّلت إلى غيلان كشفت عن تفاهة السُلطة وطبقات الفساد الكامنة.

لذا تبرزُ إشكالية استبدال الفضاء المادي المفتوح بالفضاء الالكتروني المُتخيل. إذْ يشهدُ العراق وفقاً لهذه الدينامية استبدالات مُريعة عبر ثُنائية مركزية: الأولى؛ استبدال الفضاء الالكتروني الاحتجاجي بفضاء يُنتج التفاهة والمحتوى الدعائي المُضاد عبر توجيه المال العام إلى المنفعة الاستبدادية لقوى السُلطة. الثانية: استبدال فضاء بغداد الجَّمالي والوظيفي المفتوح، بفضاء إسمنتي رهيب مُغلق أمام الحركة الاجتماعية المُقبلة.

"سلطة ترسيخ الفشل عبر الخدمات الفوضوية" التي يحتكرها "الإطار التنسيقي/ حكومة السوداني"، أطلقت حُزمة معالجات لتفكيك فضاء الاحتجاج الذي تستثمره الحركة الاجتماعية، ومن بينها "مشاريع شبكة الطرق المُجسَّرة" في بغداد، ما مَثَّلَ اعتداءً قمعياً على الفضاء الجَّمالي والوظيفي المفتوح للعاصمة. فلسفة العُمران في بغداد تقوم على أساس الفضاءات الحُرَّة المفتوحة، والهندسة الأفقية المُنخفضة لمنح العاصمة امتداداً رؤيوياً يتسق مع الأفق دون عوائق.

قمع الفضاء المادي للحركة الاجتماعية

فكرة السَّاحات العامة في بغداد، وهي فضاء الحركة الاجتماعية للاحتجاج ورفض السُلطة، قائمة أيضاً على هذا الأساس، فيما التأثيث الجمَّالي لتلك السَّاحات يوظف النُصُب والتماثيل العمودية النحيفة التي لا تأخذ حيزاً كبيراً في مجال الرؤية. من ناحية وظيفية مجاورة، السَّاحات العامة المفتوحة هي عقدٌ تفاعليةٌ تربط مناطق العاصمة ببعضها البعض، وصلاتٌ حرةٌ تؤشر على خصوصية الانتقال من مكان إلى آخر، من عقدةٍ إلى أخرى، دون عوائقَ إسمنتيةٍ ضخمةٍ ومانعة. تلك العُقدُ التفاعليةُ كانت ضروريةً للتعبير عن خصوصية عمران بغداد وفضائها الجَّمالي والاحتجاجي المفتوح، لكن مع شبكة الطرق المُجسَّرة، أجهزت سُلطة "الإطار التنسيقي/ حكومة السوداني" على فضاء العاصمة لغايات تخدم النظام السِّياسي ومشروعه الأمني بخنق حركة المجال العام.

قطَّعت الغاية الأمنية والسِّياسية للنظام أوصال العاصمة، وحَطَّمت العُقد التفاعلية - السَّاحات وقَتَلَتْها، بوصفها المساحة الحيوية للرَّفض. تَنَبهَ النظام السياسي إلى المكانة الوظيفية التي تمتلكها السَّاحات العامة في أجندة الاحتجاج، وكيف يُمكن لتلك العُقد أن تتفاعل مع بعضها عبر خلق امتدادات احتجاجية ما بينها كبدائل عن السَّاحات التي يُغلقها النظام الأمني؛ ساحة التحرير/ حديقة الأمة هي المجال الاحتجاجي الأول، لكن مع محاصرتها وإغلاق المسارات المؤدية إليها، تفتح العاصمة فضاءات احتجاج بديلة. بالنتيجة، يفشل النظام الأمني/ السِّياسي بتفكيك قوة الاحتجاج، نظراً لأن فضاء بغداد المفتوح يُعد صديقاً ثورياً، يعزز زخم وحيوية كل أنشطة المجال العام. 

بالنتيجة، خَسِرت بغداد الفضاء الجَّمالي المفتوح، واكتسبت نمطاً مُشوهاً وتعسفياً مارسهُ التعنيف الرَّمزي، بتحويلها إلى عُلبة إسمنت لحل مُشكلة معيارية قائمة على فشل خيارات سُلطة ما بعد 2003. فالاختناقات المرورية زادت في قلب العاصمة أكثر من ذي قبل، لأن "شبكة الطرق المُجَسَّرة" تَحَوَّلت إلى شبكة صرف مروري ومكبٍ كاربونيٍ ضخمٍ، في قلب مدينة تعاني ارتفاعاً مُفرطاً في الاحترار والضوضاء والهواء المُكرْبَنْ.

فكرة قَتل فضاء بغداد المفتوح، تمنح النظام "شرعية" فض الاحتجاج بحجة إعاقة التدفق المروري، شَل الاقتصاد وغلق الممتلكات العامة، بالتالي السَّيطرة على الحشود في شوارع ممتدة طويلة. خيارٌ مثاليٌ لحجب الاحتجاج عن بقية أجزاء المدينة وتطويقه. 

تَستمدُ سُلطة "الإطار التنسيقي/ حكومة السوداني"، قتل الفضاء المادي للحركة الاجتماعية، من المخيال الإسمنتي لنظام عبد الفَتّاح السيسي الأمني في تفتيت فضاء القاهرة المفتوح. حَرَّرَ السيسي سُلطة الإسمنت عبر قتل عُقد القاهرة التفاعلية/ السَّاحات، ومحا الإرث المشترك للسكان المتنقلين في القاهرة الكبرى، بهدف إعاقة نمو أي مسار احتجاجي مستقبلي على شاكلة احتجاج يناير 2011. 

جُزر استدامة الفساد

أيضاً؛ واحدة من الإلهاءات السياقية التي توظفها سُلطة "الإطار التنسيقي/ حكومة السوداني" لقمع المطالبات الخدمية للحركة الاجتماعية، فكرةٌ قائمةٌ على استثمار الأرض والفضاء المفتوح من أجل توسعة حقل الفساد والزبائنية. إذ لم تعد موارد الدَّولة الرَّيعية كافية لإشباع التنافس الشرس على المصالح. موارد النفط مُستنزفة تماماً عبر خطوط متنامية من الحصص المتوارثة أو المُستدامة. الموارد الرَّيعية الأخرى موجهة نحو تمويل الزبائنية التقليدية. وبيّنما ينهشُ اقتصاد السوق ما تبقى من التمويلات العامة، تحوَّل البنكُ المركزيُ إلى بائعِ عملاتٍ صَلَفٍ يرعى تهريب وغسل الأموال دون محاسبة. لذا بات من الأساسي، فتح سياقات تلاعبية لتمويل الزبائنية الجديدة بزعم "التنمية والازدهار الرَّيعي" بناءً على المتطلبات الحُرَّة لاقتصاد السوق. 

خلق الفساد في العراق، اقتصاداً هائلاً موازياً ومُستداماً. عبر المال الرَّيعي المنهوب يتم تخليق أموالاً أكبر، لا يمكن استيعابها في الاقتصاد الرَّسمي. ومن المخاطرة أيضاً تسريب المال المتضخم عبر أقنية الاقتصاد غير الرَّسمي تجنباً لعقوبات دولية، لذا ابتكرت السُلطة، غلافاً مضللاً من اقتصاد منظور/ مرئي بأموال غير مرئية، عبر تمويل مشاريع الإسكان الجديدة، الطَّفرة الجديدة في البناء العمودي في قلب العاصمة وأطرافها، وهو أيضاً جزء من التَّنكر لفضاء بغداد الجَّمالي المفتوح. تمنح مشاريع الإسكان، المُلاك والمنتفعين قدرة هائلة ومرونة خارقة في إعادة تدوير المال المُتضخم من نهب الاقتصاد الرَّيعي وغسل الثروات، عبر مشروعات فك الاختناق السَّكني، التي غالباً ما تمتلكها جماعات سياسية نشطة داخل سُلطة الفشل، إما أفراداً أو جماعات أو شركات أو حلفاء غير محليين يُجلبون كواجهات برّاقة لسرقة المال العام والأراضي العامة. 

فَورة المجمعات السَّكنية الجديدة، امتدادٌ للطبقة نفسها من زبائن المال الرَّيعي المُتضخم، ولا تَستهدف رفع رفاهية موظف حكومي أو عاملٍ أجير، بل تستهدف تضليل طبقات الحركة الاجتماعية بزخمٍ من "الاستقرار المُزيَّف"، وإحراج المطالبات الاحتجاجية عبر "تعبئة موارد بشرية ورمزية ومادية من أجل عرقلة التغيير الاجتماعي" وفقاً لتعريف تاي موتل (Tahi L. Mottl) لـ"الثورة المُضادة". لذا، المُدن الجديدة والمشاريع الاستثمارية، هي جُزر مصنوعة بعناية لضمان استدامة الفساد، وتغذية سُلطة الفشل بأطواق جديدة من المنتفعين الذين يحرسون النظام بحراب قاسية لتكسير الحركة الاجتماعية المحرومة، التي تنتفعُ من الدعاية وتَغرقُ بالبؤس.

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬