[النص مستلّ من كتاب «مجرد وقت وسيمضي: يوميات السرطان» الذي صدر مؤخراً عن دار الرافدين، بيروت، 2025].
من النصائح الرئيسية والهامة التي تقدم لنا نحن المصابين بسرطان المعدة أن نبتعد عن التوتر والشد العصبي أو الانشغال بقضايا تسبب متاعب مباشرة وأول انعكاساتها يكون على المعدة التي ستعمل على إفراز إنزيمات وهرمونات تكون بيئة صالحة لنمو الخلايا السرطانية وتعزيز إمكانية انتقالها من مكان إلى آخر.
الانقطاع عن متابعة الأخبار من شاشة التلفزيون أو من الكومبيوتر والهاتف النقال، نصيحة أساسية نتبادلها فيما بيننا، حتى مباريات كرة القدم لا ينصح بمتابعتها لأنها تسبب حالة من التوتر الشديد، خصوصاً لمن يفضلون أو يشجعون فرقاً أو نواديَّ معينة. أما من يهتمون بالسياسة وشؤونها وشجونها، وقضوا سنوات طويلة من أعمارهم في السياسة والانخراط بالعمل الحزبي، كما هو الحال معي، فهناك نصيحة ثابتة وأساسية أن تبتعد عن أخبار السياسة وحافظ على هدوء معدتك ولا تدفعها لأن تساهم في تدمير حياتك. ولكن بعض الوقائع والأخبار لا يمكنك تجاوزها أو إهمالها، وما يحدث في غزة والأراضي الفلسطينية من جرائم ومجازر وحشية ينفذها الكيان الإسرائيلي ضد سكان عُزَّل بهدف تهجيرهم وتدمير مدنهم، بل محوها من الوجود، لا يمكن لأي بشر منصف وصاحب ضمير أن يتجاوزها وكأنها تحدث في كوكب آخر. هذه المجازر التي تحدث وتُرتكب يومياً، وتُنقَل عبر الشاشات والمحطات الفضائية الإخبارية، وسط تواطؤ العالم وصمته، بل خرسه المطبق إزاء ما تفعله إسرائيل، من انتهاكات ومذابح وتهجير وتدمير البنى التحتية وقصف المستشفيات والمدارس، ولا أحد يعلم متى ستتوقف آلة القتل الإسرائيلية، وهل ثمة عدد محدد من الفلسطينيين يجب أن يُقتلوا حتى يسترد هذا الكيان الفاشي ثأره بعد العمليات العسكرية التي نفذتها حماس داخل مناطق الكيان الاحتلالي؟
الكيان الاحتلالي الإسرائيلي هو سرطان مدمر، إسوة بكلّ جرائم وسياسات الاحتلال التي مورست بحق الشعوب الأخرى وتدميرها وإذلالها. كل الشعوب التي تشعر بوطأة الاحتلال وإجرامه لها الحق المطلق في مقاومته وبكل الطرق التي تناسبها. زُرع الكيان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية، ومارس أبشع أنواع الجرائم ضد الفلسطينيين، وعلى الرغم من مرور عقود طويلة على إنشاء هذا الكيان السرطاني لكنه لم يتمكن من دفع أهل فلسطين لنسيان بلدهم وأرضهم وثقافتهم وتاريخهم، ولم يتمكن كذلك من إطفاء جذوة المقاومة بكل أشكالها، مقاومة الاحتلال ومحاولات المحو وتزييف التاريخ والتهجير إلى دول أخرى وإنشاء موطن بديل عن فلسطين. الكيان الإسرائيلي كيان مسخ ومشوَّه وغير قادر على البقاء إلا باستخدام العنف وتدمير الشعب الذي يحتل أراضيه، تماماً، مثل الخلايا السرطانية التي تخرج عن النظام الطبيعي لجسم الإنسان وتتحول إلى خلايا طافرة وشديدة التكاثر بما يدمر كل عضو تصادفه أو تنتقل إليه في جسم الإنسان.
الجرائم الإسرائيلية في غزة، لم تكشف زيف العالم الغربي وموقفه الداعم لإسرائيل، بل أسقطت كل الأكاذيب التي يروّجها هذا العالم عن الديمقراطية وحقوق الإنسان وقضايا السلام والأمن والثقافة الإنسانية وقيم التحضر والتمدن والعالم الخالي من العنف والحروب والقتل والتدمير، هذا العالم كان يشاهد، بسادية مُفرِطة جرائم الجيش الإسرائيلي بحق الفلسطينيين، وبحق أطفالهم الذين كانوا يحترقون داخل منازل أو في المستشفيات والمدارس، ويتحولون إلى هياكل عظمية محترقة. كان هذا العالم يشاهد ما يحدث للنساء الفلسطينيات من تعذيب وتشرد وقتل متعمد، لكنه يواصل الحديث عن حقوق النساء في الشرق الأوسط والوقوف ضد كل أشكال العنف التي تمارس ضد النساء والحديث المتهالك عن رجعية القيم الاجتماعية والدينية والقوانين التي تكبل النساء وتنتهك حقوقهن وتسحق حرياتهن! أكدت المجازر التي تحدث في غزة أن العالم الغربي، بكل قوته وجبروته وترساناته العسكرية وتاريخه الحافل بالخداع والزيف، لا يمكن أن يقف مع الفلسطينيين أو يُوقف المجازر التي ترتكب بحقهم، بل هو يقف بكامل غطرسته مع الكيان الإسرائيلي ويعمل على تعزيز وجوده وقوته كأي ورم سرطاني يحظى بالعناية والرعاية حتى يجتاح كل ما يحيط به. وحتى الحلول السياسية التي يتكلمون عنها والمقترحات التي قدمت سابقاً وماتت وتلاشت ووضعت على رف دهاليز السياسة والدبلوماسية فيعاد إحياؤها من جديد، حل الدولتين على سبيل المثال، فإنها لا تقدم من أجل الفلسطينيين ومصالحهم وكرامتهم وحقوقهم، بل من أجل إسرائيل فقط وقدرتها على فرض الحلول التي تناسبها وتحمي أمنها ومصالحها وتزيد من ضعف الفلسطينيين وتشتتهم وانهيار قدراتهم على المقاومة، حتى السلمية منها وفي أضعف أشكالها، عملياً، وبفعل الإجرام الإسرائيلي، فإن مشروع حل الدولتين قد مات وانتهى إلى الأبد.
ومثلما شاهدنا مواقف دول العالم الغربي، كبيرها وصغيرها، ووقوفها بصراحة ووضوح قل نظيره مع الكيان الإسرائيلي ودعمه عسكرياً وسياسياً ودبلوماسياً، فإننا شهدنا حجم الانحطاط والتفاهة والجبن وانعدام الكرامة والخنوع في العالم العربي المنهار والمحكوم بقمع الأنظمة الديكتاتورية واستبدادها وسجونها وأجهزتها القمعية المتوحشة، هذه الأنظمة التي تكشف عن خضوعها الصريح للإرادة الأمريكية والقبول بكل مخططاتها ومشاريعها في فلسطين والعالم العربي عموماً. انحطاط الأنظمة العربية وعجزها عن اتخاذ خطوات جدية في مواجهة إسرائيل دفعها للتذرع المستمر بإلقاء اللوم على حماس وإيران وحزب الله والمليشيات الموالية لإيران، وهذه المواقف ليست جديدة على الإطلاق فتاريخ هذه الأنظمة وسياساتها وتعاملها مع فلسطين والقضية الفلسطينية كان تاريخاً حافلاً بالمزايدات والمساومات الرخيصة التي ساهمت في تعزيز قوة إسرائيل واستفرادها بالفلسطينيين والإيغال في تدميرهم وتشريدهم، وبالتالي تحوُّل القضية الفلسطينية إلى ملف مهمل لن ينفض التراب عنه إلا إذ صعدت حركات المقاومة الفلسطينية من عملياتها العسكرية ضد إسرائيل أو ردت على انتهاكاتها المتواصلة.
إن موقف الغرب من إسرائيل واحد وثابت منذ أول يوم لإعلان هذا الكيان وحتى هذه اللحظة، لا يمكن للغرب وخصوصاً أمريكا وتوابعها أن يتخلوا عن إسرائيل أو حتى لومها جراء المجازر التي ترتكب في غزة والأراضي الفلسطينية، بل إنهم يقفون مع هذا الكيان ويفتحون مطاراتهم وموانئهم لإرسال السلاح والذخيرة الفتاكة ويرسلون كذلك بوارجهم وسفنهم الحربية وقواتهم الخاصة للمشاركة في القتال ضد الفلسطينيين، هذا عدا عن عشرات الآلاف من المرتزقة الذين يقاتلون في صفوف جيش الكيان الإسرائيلي وهم يحملون الجنسية الأمريكية والفرنسية والبريطانية والكندية وغيرها الكثير. بينما تمارس الأنظمة الحاكمة في العالم العربي دور التابع والمساوم الذليل والقامع للتحركات الجماهيرية والمظاهرات المؤيدة لفلسطين والمنددة بجرائم الإبادة الجماعية والمحو الشامل التي تمارس بحق الفلسطينيين ومدنهم.
جرائم الكيان الإسرائيلي والصمت المخزي للعالم، وذَيليّة الأنظمة العربية، أثبتت أن الفلسطينيين سيكونون لوحدهم في مواجهة الإجرام المُفرِط الذي تمارسه إسرائيل وكل ما يقال حول الدعم والمساندة التي تقدمها هذه الأنظمة للفلسطينيين فإنها مرهونة بقبولهم بكل ما تريده إسرائيل وفرض منطق قوتها وهيمنتها عليهم وعلى هذه الأنظمة.
رعب الكيمياوي
8 نيسان ٢٠٢٤
يبدو أن مقولة السرطان أهون من علاجه باتت تحقق حضورها وأصبحت أقرب للواقع بالنسبة لي على الأقل. فكلما اقترب موعد بدء المرحلة الثانية من العلاج الكيمياوي، مرحلة ما بعد العملية، ورغم كلّ التطمينات التي أسمعها من أصدقاء يعملون في المجال الطبي في الدنمارك، بأن العلاج الكيمياوي في المرحلة الثانية سيكون أخفَّ وأقلَّ قسوة من المرحلة الأولى، أو سيكون علاجاً وقائياً يستهدف الخلايا السرطانية التي يمكن أن تكون في أماكن أخرى من جسدي، ولن يسبب لي المتاعب والإرهاق الذي عشته خلال المرحلة الأولى، عشتُ حالةً من الذعر واستذكر تلك الأيام التي عشتها وأنا تحت رحمة وتأثير الجرعات الأربع الأولى وما سببته من آلام وعزلة وانكسار نفسي ومعنوي ومرارة أجدها في كلّ شيء، الطعام والشراب، وكراهية شديدة لرائحة الأكل والابتعاد عن المطبخ الذي أحب التواجدَ والوقوفَ فيه كما أجيد تحضير الكثير من وجبات الطعام لي ولعائلتي. الجرعات الأربع التي تلقيتها أكدت لي أن العلاج الكيمياوي واحد ولن يتغير، هو ذاته العلاج الذي يتلقاه المصاب بالسرطان في بداية رحلة علاجه أو بعد العمليات الجراحية التي تجرى له وتستأصل أعضاءه التي استوطنها السرطان، ولا يوجد كيمياوي وقائي أو بلا متاعب وأكثر رحمة، ربّما يقللون نسبة تركيزه ويخففونها لكنه يبقى، كما هو، العلاج الأشرس والأشدَّ فتكاً بالمريض وجسمه.
في كتابه "تجربة الألم بين التحطيم والانبعاث" ينقل دافيد لوبرتون ما كتبته سيدة تدعى نادين وكانت مصابة بسرطان الثدي وقد أجريت لها عملية إزالة الثدي بالكامل، إذ تقول: "ما هو مؤلم في مرض السرطان هي الأدوية، هو العلاج، أو حين يصل المريض إلى المرحلة النهائية….. الأدوية عبارة عن سم. ليس السرطان هو ما يجعل المرء مريضاً، إنها الأدوية."
لذلك أجدني، الآن، وأنا أعيش حالة من التوقعات والحسابات التي تتعلق بالجرعات التي سأتلقاها بدءاً من الأيام القادمة وتستمر طوال شهرين، هل ستنتكس حالتي النفسية والمعنوية، وهل ستتكرر رغبتي في سجن نفسي في غرفة النوم والرغبة في عدم سماع أي صوت، بل والانزعاج من صوت أي شخص يتحدث معي، هل ستتكرر الرغبة بالعزلة عن العالم وكل الأشياء المحيطة بي، بينما يتحول الاتصال الهاتفي إلى امتحان عسير، لن أخرج منه إلا بإطفاء جهاز الهاتف النقال أو إخماد صوته نهائياً ووضعه في مكان بعيد؟
قد يكون ما أكتبه هنا مكرراً ومملاً وأنا أتحدث عن تأثيرات العلاج الكيمياوي وما يفعله بأجسامنا، نحن المصابين بالسرطان، وأي واقع، صحي ومعنوي، سيفرضه علينا. وأي أيام سوداء ومخيفة ومرهقة يفرضها علينا. من يتلقى العلاج الكيمياوي سيشاهده كيف ينزل من أكياسه الصفراء ويتسرب إلى جسده، يشبه بالسم البارد، لكنه لا يشعر بما يحدث داخل جسده للوهلة الأولى، وحتى انتهاء السائل ونفاده من الأكياس المعلقة، ولكنه ما أن يغادر مكانه في المستشفى حتى يشعر بما يحدث في جسده، أطرافه العلوية والسفلية، البرد الشديد والصاعق الذي يشل حركة أقدامه، وحالة الاضطراب التي يصاب بها فجأة وكأنه يعيش نوبة من الهلع والخوف مما سيحدث له بعد لحظات، وبحثه عن زاوية يحشر يديه فيها لعله يشعر بالدفء وينتهي الألم الذي عشعش وبشكل مفاجئ في أصابع يديه وأقدامه. كانت المضخة التي أحملها معي بعد نفاد أكياس الجرعة في المستشفى ومغادرته إلى البيت، وتضخ العلاج الكيمياوي في جسمي طوال ٢٤ ساعة متواصلة تزيد من حالة البؤس والإرهاق والترقب الذي أعيشه بعد كل جرعة من هذا العلاج. هل هو علاج فعلاً، أم هو قنبلة نووية سائلة تضخ داخل أجسامنا فتحيلها إلى أجساد زرقاء ومتيبسة وبعضنا يتحول إلى هيكل عظمي غير قادر على الحركة والمسير لعدة خطوات؟
لا أدري ما الذي سيحدث لجسمي وأنا أتلقى جرعات المرحلة الثانية من العلاج الكيمياوي، ولا أعرف كيف سيكون نوعه أو درجة تأثيره وقسوته، لكنها هواجس تتزايد كلما اقترب الموعد. الموعد المقبل في المستشفى، وسيكون بعد أربعة أيام من الآن، سيشرحون لي عن جرعات المرحلة الثانية، وتأثيرها على الجسم الذي تداعى كثيراً وأصيب بالضعف والوهن، وعلى قدرتي على تناول الطعام كوني أعيش بلا معدة، وكذلك على حالتي النفسية ونشاطي اليومي داخل البيت أو خارجه. ولعلّي أكرر ما قاله مظفر النواب: "إن لي أمنية أن يرجع اللحن عراقياً وإن كان حزيناً"، فإنني أقول إن لي أمنية أن يكون السم الذي سيضخ في جسدي أرحم، وأقل قسوة، وأن يكون وقائياً مثلما حدثني الأصدقاء عنه.
سنان أنطون وفلسطين وحراك طلاب الجامعات الأمريكية
كنت في أوج متاعب الجرعة الخامسة من العلاج الكيمياوي، وفي أدنى حالات تركيزي، عندما شاهدت المشهد القصير الذي كان يوثق اعتقال الصديق الشاعر والروائي العراقي سنان أنطون والأستاذ في جامعة نيويورك من قبل الشرطة الأمريكية في حرم الجامعة في بداية موجة احتجاجات طلاب الجامعات الأمريكية على المجزرة الوحشية التي ينفذها الكيان الإسرائيلي ضد الفلسطينيين في مدينة غزة المدمرة، وبدعم صريح ومباشر ومشاركة عسكرية، لوجستية وقتالية، من القوات الأمريكية. مشهد أعاد إلى الأذهان مواقف الكثير من الكتاب والشعراء والمفكرين والمثقفين الذين لا يساومون، ولا يهادنون، ولا يزيفون الحقائق حول القضايا المصيرية والإنسانية والمبدئية التي يؤمنون بها وتشغل حيزاً من مشاغل العالم، رغم كل محاولات تمييعها وطمسها وتشويه حقائق التاريخ وإنكار الإجرام الدموي الذي يمارسه الكيان الإسرائيلي في فلسطين منذ أكثر من خمسة وسبعين عاماً. لم يكن سنان أنطون وحده من تعرض للاعتقال، بل كان مع عدد من أساتذة جامعة نيويورك يقيمون جداراً فاصلاً ما بين الشرطة التي جاءت بناءً على طلب رئيسة جامعة نيويورك وما سطرته من أكاذيب حول التخريب الذي يقوم به الطلبة واحتلال الجامعة وتعطيل الدراسة، والمزاعم التي تدعي بأن التحركات الطلابية "معادية للسامية"! وبين الطلاب الذين يطالبون بوقف الهمجية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين وتشريدهم وقتل الآلاف منهم، ووقف الاستثمارات الجامعية في إسرائيل وإنهاء كل أشكال التعاون والدعم التي تقدمها جامعة نيويورك للجامعات الإسرائيلية التي تحولت إلى أداة صريحة في فرض جرائم الاحتلال ودعمه والدفاع عنه.
تذكرت سنان ومرحه ونكاته وسخريته عندما جاء إلى زيارتي في كوبنهاكَن والساعات التي قضيناها في شوارع المدينة وليلها وباراتها، فكوبنهاكَن مدينة ليل ساحرة صيفاً، وسنان من الأشخاص الذين يتوقون للمرح والأحاديث التي تبعد الغم والشجون، لذلك كنا نضحك بصوت عال وكأننا نريد أن نتمسك بتلك اللحظات ونؤبدها. لكن، ما الذي يريده إنسان مثل سنان أنطون، خريج هارفارد وأستاذ في جامعة نيويورك وأستاذ زائر في العديد من الجامعات والمعاهد الأوروبية، أليست هذه رفاهية يحلم بها كل من كرس حياته للبحث عن المناصب والشهادات، والجامعات المرموقة، والمكانة الاجتماعية، والأكاديمية؟ أدرك تماما، بل أنا على يقين أن الكثير من العراقيين والعرب قد أزعجهم موقف سنان الصلب والمبدئي، وأزعجتهم تصريحاته حول مجازر الاحتلال الإسرائيلي ونازية بايدن وتساقط أكذوبة معاداة السامية التي تحولت إلى فضيحة مدوية في أروقة الجامعات الأمريكية والأوروبية، وكذلك في أروقة المؤسسات التشريعية في أمريكا، حيث أعدوا العدة لفرض قوانين جديدة تدافع عن فضيحة "دعوى معاداة السامية" واتهام كل من يقف مع الحق الفلسطيني، أو يرفع شعار فلسطين حرة، بمعاداة السامية وكراهية اليهود والوقوف مع حركة حماس. وقد نجد من يتهمه بخائن العشرة، وعظ اليد التي امتدت له، وصلت إلى أمريكا ودرست فيها وحصلت على شهادة جامعية مرموقة، ما الذي تريده منها، هل هذا جزاؤها على ما قدمته لك؟. ليست المرة الأولى التي يكشف فيها سنان عن مواقفه المبدئية ورفضه لسياسة القتل والتهجير والاحتلال، بل كان ومنذ اليوم الأول لمشروع احتلال العراق من قبل أمريكا ضد هذا المشروع، ولم يتوقف لحظة واحدة عن فضح من أيده ودافع عنه من المثقفين والأكاديميين العراقيين، الذين كانوا بصفة دائمة ضيوفاً على وسائل الإعلام الأمريكية المحتشدة خلف بوش ورامسفيلد وكولن باول لتبرير ما سيحدث في العراق، والاسطوانة المكررة "عن مخاطر صدام وأسلحته البيولوجية والكيمياوية وصواريخه وترسانة سلاحه وضخامة جيشه" ثم عن "ديمقراطية أمريكا" التي ستحل في العراق انطلاقاً من البوارج والصواريخ والأسلحة المتنوعة. كانوا يتحدثون كأن الأمر يتعلق بصدام حسين ونظام حكمه وديكتاتوريته، وأن كل ما تقوم به أمريكا وجيوشها والدول الحليفة معها هو إزاحة صدام حسين عن كرسي الحكم وإسقاط نظام حكمه، عملية جراحية بسيطة، كما وصفها أسوأ من أنتجتهم الحياة السياسية في العراق، مشعان الجبوري وموفق الربيعي، عندما كانا يتحدثان، سوية، بعد مؤتمر صلاح الدين في أربيل عشية شن الحرب الأمريكية على العراق، ثم تعود الأمور إلى مساراتها؛ حياة طبيعية وديمقراطية وحقوق إنسان!
عندما كان سنان أنطون يفضح سياسات أمريكا ومشروعها المدمر في العراق، كان العديد من المثقفين والأكاديميين العراقيين والإعلاميين يقدمون النصائح للمخابرات الأمريكية وقوات المارينز حول كيفية التعامل مع العراقيين، وساهموا في تصميم قرى خاصة مشابهة لقرى الجنوب العراقي لتدريب قوات المارينز، وكذلك ساهموا في تجهيز الملابس التي يرتديها العراقيون في قراهم ومدنهم حتى يكون لدى جنود المارينز الأمريكان تصورات واضحة عنها عندما يحتلون تلك القرى والمدن. لم يكتفوا بهذا، بل حشدوا أعداداً كبيرة من العراقيين للعمل في هذه القرى، بل أن الكثير تطوع للعمل كمترجم ومستشار للجيش الأمريكي ورافقهم عندما تم احتلال العراق.
عادت بي الذاكرة وأنا أشاهد مشهد اعتقال سنان أنطون، إلى تلك المشاهد العظيمة التي حدثت إبان الحرب الأمريكية الاجرامية على فيتنام، والمواقف المشرفة والعظيمة، التي أبداها كم هائل من المثقفين والأكاديميين والفنانين والعلماء من أجل وقف تلك المجزرة وانسحاب أمريكا من فيتنام، ومنهم، وأتمنى أن لا تخونني الذاكرة طارق علي وفانيسيا ريدغريف وستيفن هوكنغ وأسماء أخرى كان لها حضورها في مجال الفن والفلسفة والأدب، ومنهم أساتذة جامعات معروفين، في أمريكا وأوروبا، نعوم جوميسكي الذي اعتقل بسبب موقفه من تلك الحرب الاجرامية وبعد نشر مقاله "مسؤولية المثقفين"، وكيف كان هؤلاء المثقفين والفنانين والشعراء المحركين الأساسيين لكل الحركات الاحتجاجية والمظاهرات المنددة بالحرب والداعية لوقفها، والتي عمت كل أرجاء العالم وتسببت بإثارة الرأي العام ولفتت الانتباه إلى سياسات الحكومات الغربية التي حشدت كل قواها وأجهزتها الأمنية من أجل التصدي للتحركات الطلابية والعمالية التي تركت أثرها السياسي والتاريخي الذي لن يمحى، أو ما سيعرف لاحقاً بحراك مايو/أيار ١٩٦٨ في فرنسا وأوروبا ومختلف دول العالم. كانت الحرب الأمريكية على فيتنام حرب إجرامية بكل تفاصيلها وخططها وبكل الأسلحة المدمرة والمحرمة التي استخدمت فيها من أجل إبادة الفيتناميين، وكسر مقاومتهم ودفاعهم الشديد ضد مهانة الاحتلال وذلّه. وما يحدث في غزة وفلسطين من إجرام وتدمير وإبادة جماعية لا يختلف كثيراً عن كل ما حدث في فيتنام، حرب ممنهجة ومدمرة ودموية بهدف محو شعب كامل وإخضاعه وإنهاء كل أشكال مقاومته وتهجيره. لكن هذه الحرب لم تكن كسابقاتها، لأنها وضعت فلسطين وقضيتها وحريتها وكرامتها في واجهة المشهد السياسي العالمي، ولن تتمكن أي قضية أخرى من التغطية عليها أو إعادتها إلى الهامش مجدداً حتى لو تمكنت إسرائيل من تدمير غزة وتهجير سكانها وقتل الآلاف منهم. الاحتجاجات الطلابية الآخذة بالاتساع في جامعات العالم ترسم تصوراً جديداً عن فلسطين وحقها بالحياة كدولة وشعب، عانى ويعاني من ذل الاحتلال والسجون والفصل العنصري وجرائم الإبادة الجماعية وتفضح جرائم الكيان الاحتلالي الإسرائيلي وأكاذيبه، وكذلك تفضح كل من يدعمه ويساهم في تعزيز آلته الحربية واستمراره في قتل الآلاف من الفلسطينيين.
لقد سقطت أكذوبة "معاداة السامية"، وسيتعمق سقوطها، كلما كُشف عن زيفها وتحريفها، باعتبارها أداة لقمع الحريات وتهديداً صريحاً ضد كل من يدافع عن فلسطين وحريتها وكرامة شعبها. وهو ما يحدث الآن في الجامعات الأمريكية والأوروبية والكندية؛ سقوط مريع لسردية "معاداة السامية".
لقد حقق سنان أنطون وزملاؤه في الجامعات الأمريكية وطلابهم الكثير لفلسطين، وفضحوا سياسات أمريكا وإدارة بايدن وانحطاط الإدارات الجامعية، إذ تحولت فلسطين إلى قضية رأي عام في أمريكا، والعالم أجمع، وهذا ما تخشاه الطبقات الحاكمة هناك وهذا ما تخشاه شركات تصنيع الأسلحة ومعاهد تخطيط السياسات الأمريكية حول الشرق الأوسط، وكيفية إخضاعه مجدداً وتحويله إلى سوق للسلاح وساحة للحروب وتصفية الحسابات.