كنت أحسب أن طفولتي اتّسمت بالسعادة. هل كنت أخادع نفسي؟ هل كنت أهرب من الحقيقة أم أنني حقًا لم أدرك أو لم أُرِد الاعتراف بأنني لم أعش طفولتي من الأساس كما تخيلتها.
قبل بلوغي في التاسعة من عمري، غمرت السعادة أغلب أيام طفولتي. أقول ذلك رغم الصفعة التي وضعها أبي على وجهي أثناء شجاره مع أمي في سن الثالثة من عمري، ودفعه لي للبكاء بشكل متواصل في كل مرة رأيته فيها بسبب سمنتي. حتى إذا ما اعتُبِر ذلك كله ألماً، لكنه على الأقل كان طفولة. إلا أنّ ما حدث لي بعد التاسعة من عمري هو أنني ما عدت أرى نفسي طفلة. كنت أنظر لنفسي كأم لكل زملائي في المدرسة لأنني بلغت بينما لم يبلغوا هم. لم أكن أتعامل مع الآخرين كطفلة على الإطلاق. كنت ألعب مع زملائي، وبقيت ألعب معهم حتى وصلت المرحلة الإعدادية لكنني كنت ألعب، وأنا أراني كبيرة. حتى أنّ ملابسي كانت ملابس جدتي، وأمي، كنا نتشاركها معاً.
لطالما تعاملت مع كل زملائي كأم. كان لدي مدرس قال إنني أمتلك مواصفات الأم. لا أتذكر تبريره لذلك في وصف طفلة في العاشرة من عمرها لكن هل كنت أصدّر هذه الصورة؟ هل كان السبب جسدي الذي كَبُر جداً بعد بلوغي نسبة لسنّي؟ لم يقتصر الأمر على اكتمال ملامح جسدي بل كان كذلك وزني، وطولي. والأهم كانت صورتي عن نفسي. رأيت أنني أعرف ما لا يعرفونه، أن طفولتي انتهت مبكّراً أو انتُهكت، أنني صرت امرأة، وأعرف ما لا يجب أن يعرفه الأطفال، لذلك يجب أن يكون قدري أن أتحوّل إلى أمهم. لدي صورة مميزة من الفصل في سن العاشرة، كنت أحتضن فيها كل تلاميذ الفصل كأني أمهم.
كنت أعدّ الأيام حتى أكبر. أقرأ كل ما يسبق سني من الكتب السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية المختلفة مدفوعة بالسجال السياسي الذي كان قائماً بقوة في ذلك العصر. كنت أحضر اجتماعات الجمعيات النسوية مع والدتي. قالت لي نسوية شهيرة مرة: "أنا خايفة عليك تشيلي الهم بدري"، لأنني كنت أتحدث عن المجتمع الذكوري في سن الحادي عشرة في أحد اجتماعات الجمعيات النسوية، لكنني رددت عليها بابتسامة: "أنا شلت الهم خلاص، مش لسه هأشيله".
أمي كانت تريد تنمية هذا الميل الأمومي لدي كطفلة لأنها كانت تريدني أن أكون والدتها لا ابنتها فقط.
لا يوجد ما يصف ثأري مع أمي التي اغتصبت طفولتي مني. للأمانة، كانت تعطيني في كل مراحل طفولتي كل ما أحلم به. كانت تعطيني كل الألعاب التي أريدها. ذهبت معي لمسابقات سيارات اللعبة التي نظمتها قناة سبيستون لمنتجات السيارات المشابهة لسيارات مسلسلات الأنمي. لم تقل لي في أي وقت "لا" طالما كان الطلب الذي أطلبه في سعتها المادية مهما غلي ثمنه. كنت أمتلك مئات الألعاب، وكنت ألعب بجميعها حتى الثالثة عشر، لكن ما وفرته لي لم يحمِ طفولتي. ما فعلته بي يوم بلوغي - والذي حكيته في جزء سابق - كان كافياً ليُعلن انتهاء طفولتي.
لم يقتصر مصدر القمع الذكوريّ على أمي، إذ كانت مدرستي الابتدائية تقوم بدورها أيضاً. عندما ارتديت بنطالًا لأول مرة في المدرسة أثار ذلك جدلًا، وهجومًا من المعلمات لأنني بذلك أتحدّى الزي التقليدي للفتاة، وكانت معركة صعبة خسرتها في النهاية بعد عام من المقاومة. حاولت كثيراً إقناع الأساتذة في أن أردد أنا تحية العلم لكنهم أصروا أن يرددها الذكور.
في الثالثة عشرة دخلتُ القسم الإعدادي من المدرسة الذي كان صدمة بكلّ المعايير. لقد كان يشبه مدرسة حكومية لا مدرسة خاصة. كان يفرض على البنات ارتداء تنّورة تصل للقدم، ورأيت لأول مرة كيف تتلاعب النساء بالقواعد القمعية حيث دأبت الفتيات على تضييق التنّورة لدى الخياط، وحرصن على وجود فتحات في التنورة تصل للركبة من الجانبين. بدا لي الأمر مقززًا جدًا لأني لا أحب هذا النفاق. وكان المدرسون يضربون الطلاب بسادية، ورأيت تلميذًا يتحرش بفتاة أمامي بجذب ثديها، وعندما اعترضت قال لها: "هو فيه أصلًا؟!" وذات التلميذ تلاعب بشعري الطويل وسط الفصل.
اتّسم أسلوب المعلمين في التعامل معنا عموماً بالسوقيّة، الأمر الذي صدمني وأخرجني من عالم قواعد الذوق الذي تربيت فيه.
كما أنّ الفتيات الأكبر سناً في المدرسة لم يرحمن الفتيات الأصغر وتحرشّن بهن. قامت فتاتان بالتحرش بي، حيث حاولتا دفع باب المرحاض عليّ، وأنا بالداخل بينما تردد إحداهن: "بتعملي الخفيفة ولا التقيلة؟".
لكن في هذه المدرسة التي أنهت تمامًا براءة طفولتي أخذت أول فرصة حقيقية لممارسة تحدي الذكورية حيث سمح لي بتحية العلم بصوت عال بسبب امتناع أغلب التلاميذ الآخرين عن تحية العلم. صرت أضحوكة المدرسة لحرصي على تحية العلم، وهو ما استمر معي في المدرسة الثانوية.
في المدرسة الثانوية كنت أتصرف بتلقائية، في مرة مثلًا حاولت تسلق ساري العلم لأضبط شكل العلم، فرأيت المعلم يجري خلفي ومعه تلميذة أخرى لشد ملابسي حتى لا يظهر شيء من ظهري. ونفس التلميذة ذهبت لمدرّسة التربية الرياضية لتخبرها أنني يجب أن أغير نوع حمالة الصدر التي أرتديها لأن النوع الذي أرتديه يجعل ثديي غير ثابت، ولا مرفوع! حدثت لي حوادث مماثلة في المدرسة الابتدائية حيث كلمتني معلمة، وهاتفت أمي عندما رأتني لا أرتدي حمالة الصدر، وشرحت لها أمي أنني أعاني مرض جلدي أسفل ثديي، والطبيب أوصى بأن أخلع حمالة الصدر لشهر كامل حتى أتعافى.
رغم المعاناة، لم أكن استثناء. لا يحق للفتيات في هذا المجتمع أن يعشن طفولتهن بمجرد بلوغهن. يعاملن بمجرد نزول هذه الدماء معاملة "الآنسات"، لا يحق لهن الاستمتاع بطفولتهن أو حتى أن يعاملن كبشر مجددًا. جعلني حظي العاثر أخسر ثلاثة أو أربعة أعوام من طفولتي لأنني بلغت صغيرة جدًا.
أكره كل ما سلبني عمري، الطفولة والمراهقة والشباب. أكره أنني فقدت الطفلة داخلي، وفقدت المرأة داخلي، وفُرِض عليّ فقط أن أكون الأم. الطفلة لا نفع لها للمجتمع، والمرأة تهديد للمجتمع. المجتمع لا يريد إلا الأم لتخدم احتياجات الرجل.
مراهقتي هي الأخرى لم أعشها لأنني كنت خائفة، وسجينة. لم أجرب أي مشاعر أو تجارب عاطفية أو جنسية. لم يكن لي حبيب أو حبيبة. كنت سجينة أحكام أمي التي تنصّ على عدم الارتباط بأحد قبل الزواج. أول علاقة حب في حياتي من أي نوع كانت في سن الحادية والعشرين. طوال مراهقتي لم أكن أعرف أو أفهم حتى مشاعريّ الجنسية. لم أكن أفهم معنى الرعشة التي تأتيني كل ليلة وأنا نائمة بدون أحلام. لم أكن أفهم لماذا سروالي مبلل يوميًا بالإفرازات الكثيرة التي تمزّق قماشته مع الوقت بسبب كثافتها. عرفت بعد مضي خمسة أعوام من الإفرازات والرعشة في نومي أن ذلك يتطلب اغتسالًا للصلاة. فصرت أغتسل يوميًا قبل الفجر. ذهبت لطبيبة أسألها الحل لاحتلامي اليومي، وإفرازاتي لترد عليّ بكل سماجة، وأنا ما أزال في السادسة عشرة: "إتجوزي!".
لم أزر طبيبًا بعد هذه الحادثة المستفزة لمدة عامين مهما حلّ بي من مرض، ولم أزر طبيب نساء إلا بعدها بما يزيد على عشرة سنوات. لم أكن أربط حينها بين احتلامي اليومي وإفرازاتي الشديدة ورغبتي الجنسية. تعاملت مع الأمر بدون وعي. لم أكن أدرك أن ذلك يعني أن لدي رغبة جياشة. لم أدرك عمق رغبتي إلا عندما وعيت أنني إنسانة يحق لها أن تشعر، وترغب، وتستمتع، وعندما أدركت ذلك بدأت رغبتي الشديدة تخرج رغمًا عني في صورة رعشات تلقائية بدون أية إثارة أو أفعالٍ جنسية.
لم أندم على الامتناع عن مخالفة مبادئي. أفخر أنّ رغبتي لم تتحكم فيّ قط أو في أفكاري أو في أفعالي. لم أندم على إدراكي المتأخر لرغباتي، لأن هذا التأخر ساعدني على اختيار ما أفعله طبقًا لأفكاري الخاصة المستقلة، والمختلفة تمامًا عن سجن أمي، وعن أحكام المجتمع، وعن تهور الرغبة الجامحة. لكنني نادمة على ضياع أيام مراهقتي، وعدم إدراكي لمشاعري في الوقت المناسب. أشعر بالغضب من أمي، وكل السجانين الذين فصلوني عن جسدي، وسلبوا مني طفولتي ومراهقتي. أنا نادمة على ضياع الطفلة التي لم تأخذ وقتها في العالم، ونادمة على عدم تذوق طعمي كامرأة.
"شوهوا الإحساس فينا والشعورا
فصلوا أجسادنا عنا عصورا وعصورا"
كلمات نزار قباني تبقى صارخة اليوم بألمنا، فقمعهم يستمر مهما مرّ الزمن.