«ولكن هل تعرف من أين يأتي
الموت، من فوق أم من تحت؟
من الجراثيم أم من الجدران
من الحروب أم من الشتاء؟»
بابلو نيرودا
أول خبرٍ قرأته صباح هذا اليوم، السادس من تشرين الثاني/نوفمبر 2020، هو إقدام شاب من محافظة الديوانية على شنق نفسه في إحدى غرف البيت الذي يسكن. آخر خبرٍ قرأته هذا المساء، هو استشهاد المتظاهر عمر فاضل في مدينة البصرة بنيران عنصر أمن أثناء "تفريق" جمع للمحتجين هناك.
في العراق، يطلع علينا الموت من كل مكان، بل هو يعشعش بيننا.
ومن يقرأ المنشورات الدعائية التي كتبها بعض الصعاليك الذين هللوا لتنصيب القائد الجديد على رأس الحكومة المؤقتة، يخيل له أن الأخير "خليطٌ من الرب وجائزة البوليتزر وجيش الخلاص"1 – أحدهم أطلق سيلاً من الرصاص في مكان ما في المدينة – وأنه سيحارب الفساد ويضرب بيدٍ من حديد ليضع حداً أمام تفرعن مجاميع "اللادولة" ويحقق ما يبتغي المواطن الفقير ويريد.
كتب هذا الأخير، نهاية الشهر الماضي، تغريدةً على حسابه في تويتر يشكر بها "شبابنا" المتظاهرين على تعاونهم لفتح ساحة التحرير "وإعادة الحياة الطبيعية" إلى المدينة. وأنا لست هنا بصدد التطرق إلى المهرّجين الذين ظهروا في مقاطع فيديو يقبلون أستاه رجال أمنٍ ربما شاركوا في قتل محتجين خلال الانتفاضة. كما أنني لن أعلق على الطريقة التي هُشّ بها المحتجين من ساحات التظاهر في البصرة مثلاً، أو كيف كُنست صور الشهداء – أو العدو، كما لمحت إليه بيانات السلطة لأشهر طويلة بتوصيف المحتجين كخارجين عن القانون – من ساحة التحرير.
ما يقززني هو وصف الجحيم المستعر الذي يهرب منه انتحاراً مئات العراقيين كل سنة بالحياة الطبيعية. وطبعاً، كان المخلوع عبد المهدي، الذي يقال إنه كان تائهاً تنقل سابقاً بين الشيوعية والبعثية قبل أن يستقر ويشرف على نحر الشباب العزل في الأشهر الماضية التي سبقت "التبادل السلمي" للسلطة – ما أجمله! –، كان قد دعى أيضاً في بيان له في تشرين الثاني/نوفمبر 2019 إلى عودة "الحياة إلى طبيعتها" بعد أن أقلقتها تململات العبيد وتبطرهم على سخاء الدولة وحنو قادتها على العامة.
هذه الرطانة اليوتوبية ليست بغريبة على فرسان الديمقراطية الذين مكنتهم جيوش الاحتلال من الإنقضاض والتشبث بقيادة الدولة العراقية كمفجوعة أمام شبابيك الأئمة، فعائلاتهم لاتسكن محلة المربعة، ويعيش هؤلاء الـ... الذين يتمتع الكثير منهم بجوازات سفر أجنبية بمعزلٍ عن المواطن الفقير ويسحقوه بأحذيتهم لو طالب بكسرة خبزٍ وخرقةٍ تقيه وأطفاله برد الشتاء.
لكن كيف هي الحياة حقاً في بغداد؟
في "غابة الخوذ الحديدية"2 هذه، يكاد لا يمر نهار دون أن تنزل هراوةً على رأس متظاهر ما، ولاتنقضي ليلة إلا وقفز/ت أحدهم/إحداهن من جسرٍ ما إلى قاع دجلة أوالفرات إذا ما شنق/ت نفسه/ا لتدلى من السقف ساقاه/ا وسط غرفة الجلوس حتى طلوع الصبح3. كيف لا، والفقر والمرض يستشريان في البيوت كالسم في جسدٍ عليل. وأمام الجوع وشح الأمل وتعطل توفير الرواتب للملايين من موظفي الدولة، تنقض هذه الأخيرة على المتسولين فتعتقلهم لتقضي على ما تسميه "الظواهر السلبية"، في بلدٍ أصبحت المظاهر المسلحة فيها جزءاً من الحياة اليومية، طائرات عمودية تحوم في سماوات بغداد، ورجال مدججون بالسلاح على أرصفة الشوارع، ولا مفر من صور الحرب التي لا تمحى من أدمغةٍ دوختها الصدمات المتتالية.
وربما أكون مخطئاً، سامحوني، فالقطار المعلق قادم لا محالة، وربما لن نضطر لتصليح شبكة الكهرباء في الحي على نفقتنا الخاصة مرة أخرى، فقريباً سيكون لنا محطة نووية!
بعيد شنق يوسف سلمان يوسف، الشيوعي الأبرز المعروف بفهد في ساحة المتحف الجديد في شباط/فبراير 1949 قال سكرتير المفوضية السوفييتية أركادي سوفوروف لبعض زواره: "هل ظنَّ نوري السعيد أو الطبقة الحاكمة أن شنق هؤلاء الرجال أو غيرهم سيضع نهاية للحركة الشيوعية في العراق؟ ليسوا أكثر من حمقى (...) والأوضاع المتعفنة ستدفع الشعب بالضرورة، وليس الشيوعيين فقط، إلى الإحتجاج، ثم الثورة في النهاية"4.
مثل أقرانهم في السنوات التي سبقت ثورة تموز 1958، يفتقر الشباب العراقي اليوم إلى المُثُل، فهناك شح في كل شيء، إلا الموت واللصوص، وأن انتفاضة تشرين، كما الشيوعية في العهد الملكي الذي اتسم بالقمع والمجازر، صارت "محاطة الآن بهالة الاستشهاد"5، وإذ يبحث الشباب العراقي المستقل اليوم عن مثل يحتذون بها، لا يجدون غير وجوه الشهداء البهية، صفاء السراي وعمر سعدون ورفاقهم، الذين استقبلوا الرصاص بصدورٍ عاريةٍ، رفضاً للظلم ونعيق الحكام، ليصبحوا رموزاً وطنية، تزين الجدران وقلوب الملايين، وحتماً لن يطول الزمن حتى تحذو أجيال تشرين حذوهم، لتملأ سوح الاحتجاج من جديد.
***
1- هانتر تومبسون في رواية «مذكرات الرم» واصفاً واحدة من شخصيات الرواية. Hunter S. Thompson, The Rum Diary
2- من قصيدة للسياب، عنوانها «ليلة في العراق»، كتبت في البصرة سنة 1963.
3- أكثر من 300 مواطن عراقي أقدم على الإنتحار وفق ملف شاركني إياه الدكتور علي البياتي، عضو المفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق.
4- حنا بطاطو، العراق: الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية، ترجمة عفيف الرزاز.
5- المصدر السابق.