تقدم "جدلية" للقراء العرب مقالات مختارة تشكل إضافة فكرية في حقلها، في مجال الفكر والفلسفة والسياسة والأدب، تحت عنوان "مقالات تأسيسية".
المقالات تتجاوز الكتابة الصحافية إلى كونها تحليلاً فكرياً يحفز على طرح أسئلة جديدة حول الموضوع المناقش، ويهدف إلى تقديم فكر تنويري مختلف يقدم للقارىء مادة تضيء له مساحات في الفكر والواقع غير مألوفة. وهذه المقالات التأسيسية التي يشرف عليها أسامة إسبر، ستُترجم من لغات مختلفة كالإنكليزية والإسبانية والفرنسية والإيطالية، كي تقدم فكرة متكاملة عن الفتوحات الفكرية في هذه البلدان وتطور فن المقالة الذي يقدم أفكاراً جديدة في حقول مختلفة. ستنشر جدلية المقالات بشكل منتظم، من أجل تعميم الفائدة على القراء وبناء جسور مع ثقافة الآخر.
المقالة الأولى، الثانية، الثالثة، الرابعة، الخامسة.
[راشيل كاريسون (١٩٠٧- ١٩٦٤) عالمة أحياء أمريكية، ومن الشخصيات البارزة في الحركة المدافعة عن البيئة، ويُسجَّل لها نضالها ضد استخدام المبيدات في الزراعة والذي تتوج بصدور قانون يحظر استخدامها. من أهم كتبها "البحر الذي حولنا". وهذا المقال اختير من مجلد ضخم صدر بعنوان "المقالة الأمريكية المجيدة، مئة مقالة من الأزمنة الاستعمارية إلى الوقت الحاضر"، وهو من تحرير وتقديم فيليب لوبيت، وصادر عن "بانثيون بوكس"].
حافة البحر مكانٌ غريبٌ وجميلٌ وكان طوال التاريخ الطويل للأرض منطقة عدم استقرارٍ تتحطّم فيها الأمواج وهي تلطم الأرض بقوة، ويضغطُ المدّ منداحاً على القارات مندفعاً إلى الأمام وضاغطاً وهو ينحسر مرتداً، ثم يقفل راجعاً من جديد. لا يبقى خط الشاطئ على حاله لمدة يومين. ولا يقتصر الأمر على المد والجزر في تقدمهما وتراجعهما في إيقاعهما الأبدي، بل إن مستوى البحر نفسه لا يبقى أبداً مستقراً، فهو يصعدُ ويهبط كما تذوب المجالدُ أو تتشكّل، وكما تتغيّر أحواض أرض المحيط العميق تحت حملها المتزايد من المواد الرسوبية، أو مثل قشرة الأرض على طول الهوامش القارية التي تندفع إلى الأعلى أو الأسفل في تكيف مع الجهد والتوتر. واليوم يمكن أن ينتمي المزيد من اليابسة إلى البحر، وغداً يمكن أن تنتمي مساحة أقل منهاإليه. ذلك أن حافة البحر تبقى على الدوام حداً مخادعاً وغير قابل للتعريف.
للشاطئ طبيعةٌ مزدوجة، تتغيّر مع حركة المد والجزر، فهو ينتمي في هذه اللحظة إلى الأرض، وفي اللحظة التالية إلى البحر. وفي وقت الجزر يشهد حالات التطرف القاسية لعالم اليابسة، بما أنه يتعرض للحرارة والبرودة، وللريح والمطر والشمس المجفِّفة. وفي وقت الجزر يتحول إلى عالم مائي، ويعود لوقت وجيز إلى الاستقرار النسبي للبحر المفتوح.
إن الأكثر قوة وتكيفاً فحسب يمكن أن يعيش في منطقة متقلبة كهذه، مع ذلك إن المنطقة بين خطوط المد مزدحمة بالنباتات والحيوانات. ففي عالم الشاطئ الصعب هذا، تكشف الحياة خشونتها وحيويتها الهائلة عن طريق احتلالها لجميع المنافذ القابلة للإدراك تقريباً، فهي تغطي، كما هو مرئيٌّ، الصخورَ التي يغمرها المدُّ، أو تنحدر نصف مختبئة داخل الشقوق والصدوع أو تختفي تحت الجلاميد، أو تكمن في الظلمة الرطبة للكهوف البحرية. كما أنها تكون لامرئية أيضاً، حيث إنَّ ملاحظاً عابراً سيقول إنه لا توجد حياة تتغلغلُ عميقاً في الرمال، ولا في الجحور ولا الأنفاق ولا الممرات ولم تشق أخاديد في الصخور الصلبة ولم تنفذ في النسيج النباتي ولا الطين، وسينفي أنّها غلّفت الأعشاب أو الأوتاد المندفعة أو الأصداف القاسية الصلبة لجراد البحربقشرةٍ. ولن يرى أنها توجد على نحو متناهي الصغر، كمثل غشاء من الجراثيم ينتشر على سطح صخرة أو تتراكم على أعمدة المراسي في رصيف المرفأ، كأجواء الكائنات الأولية. إنها صغيرة كوخزات الدبوس، وتتلألأ على سطح البحر، وتسبح ككائنات لامرئية عبر البرك المظلمة التي تقع بين حبات الرمل.
إن الشاطئ عالم قديم وطالما كانت هناك يابسة كان هناك مكان يلتقي فيه البحر واليابسة. لكنه عالم يُبقي الإحساسَ بعملية الخلق المستمرة واندفاع الحياة الذي لا يلين حياً. وكلما أتيت إليه، اكتسبتُ وعياً جديداً بالجمال ومعانيه العميقة، وشعرتُ بذلك النسيج المعقد للحياة الذي عن طريقه يرتبط كل كائن بآخر، وكلٌّ بمحيطه.
حين أفكّر في الشاطئ يخطر في ذهني مكان واحد فريد لأنه يكشف الجمال الفائق. إنها بركة مخفية داخل كهف لا يستطيع المرء أن يزورها إلا نادراً ولوقت وجيز حين ينخفض المد وينحسر عنها، وربما بسبب هذه الحقيقة ذاتها تكتسب البركة مسحةً من جمالها الفريد. وكنت أختار وقتَ مدٍّ كهذا يحدوني أمل بمشاهدة تلك البركة. عرفت أن الجَزْر سيحدث باكراً في الصباح، وأنه إذا لم تهب الريح من الشمال الغربي ولم تتدخل موجة عالية من عاصفة بعيدة فإن مستوى البحر سينحسر كاشفاً مدخل البركة. لقد تساقطت أمطار مزعجةٌ في الليل وكان صوت هطولها مثل صوت حفنات من الحصى تُرمى على السطح. وحين نظرتُ إلى الخارج في الصباح الباكر بدت السماء مغمورة بضوء فجر رمادي لكن الشمس لم تكن قد أشرقت بعد. وكان الماء والجو شاحبين، وفوق الخليج لاح القمر كقرصٍ مضيء في السماء الغربية يتدلى معلقاً فوق الخط المعتم للشاطئ البعيد.كان بدر شهر آب يدفع المد إلى المستويات المنخفضة لعتبة عالم البحر الغريب. وفيما كنت أراقبُ حلّق نورسٌ قربي فوق أشجار التنوب. وكان صدره وردياً من ضوء الشمس التي لم تُشرق بعد، ما أشار إلى أن النهار سيكون في النهاية جميلاً.
فيما بعد وأنا أقفُ فوق المد قرب مدخل البركة، كان وعدُ الضوء الوردي متواصلاً. ومن قاع الجدار المنحدر للصخرة التي وقفتُ عليها، ظهر نتوءٌ تغطيه الطحالب داخلاً في البحر في المياه العميقة. وظهرت في الدفق على حافة النتوء السعفات الداكنة للأعشاب المجذافية وهي تتأرجح، ناعمةً ولامعة كالجلد. أحياناً كانت تعلو موجة أقوى من البقية وتتدحرج منسابةً فوق الحافة وتتحطم زبداً على الجرف. لكن الفواصل بين أمواج كهذه كانت طويلة بما يكفي ما سمح لي بالوصول إلى ذلك النتوء ومنحني وقتاً طويلاً كي أتفحص تلك البركة الجميلة التي نادراً ما تظهر للعيان إلا لوقت وجيز.
ركعتُ على السجادة المبللة لطحالب البحر ونظرتُ إلى الخلف داخل الكهف الذي يحجز البركة في حوض ضحل. كانت أرضية الكهف على بعد بضع بوصات فقط تحت السقف ورأيتُ المرآة التي تشكلت وانعكس فيها كل ما نما على السقف في الماء الهادئ في الأسفل.
تحت الماء الذي كان شفافاً كالزجاج كانت البركة مفروشة بإسفنج أخضر. ولمعت بقع رمادية من نافورات البحر على السقف وتكشّفتْ مستعمرات من مرجان ناعم بلون المشمش الشاحب. وفي اللحظة التي نظرتُ فيها داخل الكهف تدلى نجمُ بَحْرٍ بالخيط الأوهى، ربما بقدم أنبوبية واحدة، ونزل كي يلمس انعكاسه، وكان مرسوماً بشكل تام حيث لا يمكن أن يكون هناك نجم بحر واحدٍ، بل نجمان. وكان جمال الصور المنعكسة والبركة الشفافة نفسها من النوع الذي يثير المشاعر لدى رؤية الأشياء العابرة، والتي لا توجد إلا قبل أن يعود البحر كي يملأ الكهف الصغير.
كلما نزلتُ إلى هذه المنطقة السحرية للمياه المنخفضة لمد وجزر الربيع، بحثتُ عن الأجمل والأكثر رقةً بين كل سكان الشاطئ، عن أزهار ليست نباتات بل حيوانات، تتفتح على عتبة البحر الأعمق. وفي ذلك الكهف الأسطوري لم أشعر بخيبة أمل. كانت الأزهار المعلقة لهدارات الماء وردية باهتة ومهدبة ورقيقة كوردة الريح وهي تتدلى من سقف الكهف. وكانت هناك كائنات مخلوقة على نحو فريد فبدت غير واقعية، وكان جمالها في غاية الهشاشة بحيث لا يمكن أن يوجد في عالم من القوة الباطشة. مع ذلك كانت جميع التفاصيل مفيدة وظيفياً وكانت كل السويقات والهدر الزهري والمجسات التي تبدو كالبتلات مصاغة للتعامل مع حقائق الوجود. كنت أعرف أنها تنتظر فحسب، في ذلك الوقت من انحسار المد، عودة البحر، وأنها حين تندفع المياه، ويعلو الموج ويشتد ضغط المد القادم سترتعش رؤوس الأزهار الحساسة بالحياة، وستتأرجح على سويقاتها النحيلة وستفتش مجساتها الطويلة المياه العائدة وتعثر فيها على كل ما تحتاجه للحياة.
في ذلك المكان المسحور على عتبة البحر كانت الحقائق التي استحوذت على ذهني بعيدة عن عالم اليابسة الذي غادرته منذ ساعة. وجاءني الإحساس نفسه بالبعد وبعالم منفصل بطريقة مختلفة في ساعة غسقية على الشاطئ العظيم على ساحل جورجيا. أتيتُ بعد الغروب وتمشيت مسافة بعيدة فوق الرمال المبللة والمتوهجة، إلى الحافة نفسها للبحر المنسحب. وحين سرت عائدة عبر ذلك المسطح الضخم، الذي تعبره أخاديد متعرجة مليئة بالماء وتتناثر فيه برك ضحلة خلّفها المد، أدركتُ أن هذه المنطقة المدية، رغم أن البحر هجرها لوقت وجيز وبشكل منتظم، كان المد المرتفع يعود إليها دوماً. وكان الشاطئ هناك عند حافة المياه المنخفضة بأشيائه التي تذكر باليابسة ولقد بدا بعيداً جداً. وكانت الأصوات الوحيدة المسموعة هي أصوات الريح والبحر والطيور. وسمعتُ صوت ريح تهب فوق المياه، وصوتاً آخر للمياه وهي تنزلق فوق الرمال وتقلب أوجه أشكالها الموجية الخاصة. وكانت المنبسطات تعج بالطيور، وصوت طائر الويليت يعلو باستمرار. ووقف أحد الطيور على حافة الماء وأطلق صرخته الملحة الصاخبة فجاءه الجواب من مكان بعيد في أعلى الشاطئ وحلّق الطائران كي يلتقيا.
تلونت المسطحات بجو من الغموض حين خيّم الغسق وانعكس آخر ضوء للمساء من البرك والجداول المتناثرة. ثم تحولتْ الطيور إلى مجرد ظلال سوداء ولم يكن بالإمكان تمييز أي لون. واندفعتْ طيور الطيطوي عبر الشاطئ كأشباحٍ صغيرة ونتأت الأشكالُ الأدكنُ لطيور الويليت في أمكنة متفرقة. وكان بوسعي الاقتراب منها جداً في غالب الأحيان قبل أن تجفل وتحلق مذعورة. وكانت طيور الطيطوى تجري، وطيور الويليت تحلق صائحة فيما الطيور المائية السوداء تحلق على طول حافة المحيط، وقد تبدت صورها الظلية في ما يشبه التوهج المعدني الباهت، أو تتقافز فوق الرمال كفراشات ضخمة مرئية بصعوبة. وفي بعض الأحيان "تفتش" الجداول المتعرجة لمياه المد حيث تشير التموجات الصغيرة المنتشرة على السطح إلى وجود الأسماك الصغيرة.
إن الشاطئ في الليل عالمٌ آخر، تسود فيه الظلمة نفسها التي تخفي مشاغل النهار وتبين بتركيز ووضوح وقائع عالم العناصر والطبيعة. وفي إحدى المرات، وبينما كنت أستكشف الشاطئ الليلي، فاجأت شبح سرطعون صغير بشعاع مصباحي اليدوي. كان يستلقي في حفرة حفرها تماماً فوق منطقة الموج، كما لو أنه يراقب البحر وينتظر. سطا سواد الليل على المياه والجو والشاطئ. كانت ظلمةَ عالمٍ أقدم، سبقَ الإنسان. ولم يكن هناك صوت إلا الأصوات الطاغية البدئية لريح تهب فوق المياه والرمال، وأمواج تتحطم على الشاطئ. ولم تكن هناك حياة أخرى مرئية: فقط سرطان واحد صغير قرب البحر. ولقد شاهدتُ مئات السرطانات الأشباح في خلفيات أخرى، لكن فجأة انتابني إحساس غريب بأنني أعرف للمرة الأولى هذا الكائن في عالمه الخاص، وأنني فهمت، كما لم يحدث أبداً من قبل، جوهر وجوده. ولقد كان الزمن معلقاً في تلك اللحظة، فالعالم الذي أنتمي إليه لم يكن موجوداً، وكان يمكن أن أكون مُراقِباً من الفضاء الخارجي. وصار السرطان الصغير وحده مع البحر رمزاً للحياة نفسها: القوة الحيوية الحساسة، القابلة للدمار، لكن الحيوية على نحو غير قابل للتصديق، والتي تحتل مكانها أحياناً وسط الحقائق القاسية للعالم اللاعضوي.
يأتي إحساس الخلق مع ذكريات شاطئ جنوبي حيث البحر والأيكة الساحلية (أشجار المانجروف) الاستوائيّة يعملان معاً ويبنيان شاهداً من آلاف الجزر الصغيرة مقابل الشاطئ الجنوبي الغربي لفلوريدا مفصولة عن بعضها بعضاً بنموذج مُتْعبٍ من الخلجان والبحيرات والممرات المائية الضيقة. أتذكر يوماً شتوياً كانت السماء فيه زرقاء ومغمورة بضوء الشمس، ورغم أنه لم تكن هناك ريح وكان المرء يتنسّم الهواء المتدفق كمثل كريستال بارد صاف. نزلتُ على الرأس الصخري لإحدى تلك الجزر الذي غسلته الأمواج وشققتُ طريقي حوله إلى جانب الخليج المحمي. وهناك رأيت المد بعيداً وقد كشف المنبسط الطيني الواسع لخليج صغير تحده الأيكة الساحلية بأغصانها الملتفة، وأوراقها اللامعة وجذورها الطويلة الداعمة التي تمتد إلى الأسفل، وتمسك بالطين وتتعلق به داعمة الأرض أكثر قليلاً، وموسعة لها أكثر.
كانت أصداف الرخويات، الرخويات الوردية الصغيرة ذات الألوان الدقيقة، والتي تبدو مثل بتلات من الورود القرنفلية تتناثر على المسطحات الطينية. يبدو أنه كانت هناك مستعمرة في الجوار، تعيش مدفونة تحت سطح الطين. في البداية كان المخلوق الوحيد المرئي هو مالك الحزين بريشه الرمادي والذي بلون الصدأ، وبدا محمراً قليلاً وهو يخوض عبر المسطح بحركات متسللة ومترددة تميز نوعه. لكن كانت هناك كائنات أرضية أخرى، ذلك أن خطاً من المسارات الجديدة كان يلتف داخلاً وخارجاً عبر جذور الأيكة الساحلية، معلّماً مرور راكونٍ يتغذى على الرخويات البحرية التي تعلق بالجذور الداعمة بنتوءات من محاراتها. وشاهدتُ في الحال آثار طيور بحرية، هي طيور زمّار الرمل كما رجّحتُ، وتبعت الآثار قليلاً، ورأيت أنها اتجهت نحو الماء وضاعت، ذلك أن المد محاها وجعلها كأنها لم تكن أبداً.
وأنا أنظر فوق الخليج الصغير شعرتُ بإحساس قوي بالتبادلية بين اليابسة والبحر في العالم الهامشي للشاطئ، وبالصلات بين حياة الاثنين. وجاءني أيضاً وعي بالماضي وبالتدفق المتواصل للزمن، الذي محا الكثير مما وُجد من قبل، كما غسل البحر في ذلك الصباح آثار الطيور.
إن وجود مئات الحلازين الصغيرة، حلازين البحر التي تعلق على أغصان الأيكة الساحلية وجذورها يلخص اندفاع الزمن ومعناه بدقة. كان أسلافها مرة سكاناً للبحر، تربطهم بالمياه المالحة جميع روابط سيرورات حياتها. لكن الروابط انقطعت بالتدريج على مدى آلاف وملايين السنين، وتكيفت الحلازين مع حياتها خارج الماء، وهي الآن تعيش على ارتفاع بضع أقدام فوق المد الذي تعود إليه أحياناً فحسب. وربما (من يعرف بعد كم من العصور؟) سينسى المنحدرون منها أيّ إيماءة تذكر بالبحر.
تركتْ الأصداف الحلزونية لحلازين أخرى (تلك الصغيرة جداً) مسارات متعرجة في الطين وهي تتنقل بحثاً عن الطعام. كانت رخويات، وحين شاهدتها تملّكني الحنين إلى الوقت الذي تمنيتُ أن أرى فيه ما رآه أودوبون، منذ أكثر من قرن. ذلك أن هذه الرخويات كانت طعام طائر البشروس، والذي كان مرة يوجد بكثرة على هذا الشاطئ، وحين أغمضتُ عينيَّ نصف إغماضة استطعت أن أتخيّل تقريباً سرباً من طيور اللهب البارعة هذه تتغذى في ذلك الخليج، وتملؤه بلونها. وُجدت ليوم واحد في حياة الأرض هو يوم أمس، ذلك أن الزمان والمكان مسألتان نسبيتان في الطبيعة، وربما يمكن إدراكهما بدقة أكبر بصورة ذاتية في ومضات من البصيرة تحدث بين الحين والآخر، تثيرها ساعة ومكان سحريان.
ثمة خيطٌ مشترك يربط بين هذه المشهد والذكريات: مشهد الحياة في جميع تجلياتها المتنوعة كما حدثت وتطورت وانقرضت أحياناً. وينطوي جمال المشهد على معنى وهدف، لكن روغان هذا المعنى هو ما يسكننا، ويرسلنا مرة بعد أخرى إلى داخل العالم الطبيعي حيث خُبئ مفتاح اللغز، ويعود بنا إلى حافة البحر حيث أدتْ دراما الحياة مشهدها الأول على الأرض، وربما أدت حتى مقدمتها الموسيقية، حيث تعمل قوى النشوء، كما كانت تعمل منذ ظهور ما نعرفه كحياة، وحيث مشهد الكائنات الحية التي تواجهها الحقائق الكونية لعالمها في غاية الوضوح.
[ترجمة: أسامة إسبر].