المولد:
ذهبت إلى المولد. ذهبت إلى الماضي. كنت أبحث عن جبر. كنت أبحث عن علاج. كنت أبحث عن مواجهة أخرج فيها غضبي. كنت أود أن أعالَج، وأطوي صفحة الماضي. الذكرى التي كتبتها عن التحرش الأول في حياتي عندما وصلت إلى ثلاثة عشر عاماً هي ذكرى المولد. كنت في المولد حين وضع ذلك المتحرش الخمسيني يده في مؤخرتي، لأعيش بعدها ليلة من أصعب ليالي عمري.
كانت هذه هي اللحظة الأولى التي تنكسر فيها علاقتي بالدین. لم أدرك لسنوات طويلة، لم أدرك لتسعة عشر عاماً بعدها أنّ تلك كانت الخطوة الأولى في طريق طويل من التخبّط، والصراع، والمحبة. ذهبت لأجبر علاقتي بالدين، ذهبت لأجبر علاقتي بنفسي، ذهبت لأجبر علاقتي بأمي، ذهبت للجبر بالمواجهة. استعددت جيدًا؛ تدرّبت على الأيكيدو، وارتديت جلابية مشابهة للجلابية التي كنت أرتديها عندما تحرّش بي، وذهبت لأسير في المولد.
أحتاج أن أعود خطوة للوراء لأحكي قصة المولد. جدُّ جدي من أشهر الشيوخ المتصوفة في الشرقية، وهي ثالث أكبر محافظات مصر. كان شيخاً متصوفاً شهيراً ليس في مصر فقط، وإنما حول العالم العربي بأجمعه. تربّيت في بيت متصوف، كنت أذهب كل عام لأقضي أسبوعاً كاملاً وأحياناً مدداً أقصر بقليل في مولد جدّ جدي، وأبقى في بيت العائلة، بيت المشيخة مع إخوة وأخوات جدي.
كانت أجمل لحظات حياتي هي هذا الأسبوع من كل عام. أتذكر المروحة القوية التي كانت تأتي بالهواء فجراً لهذا البيت المشيّد على طراز العمارة القديمة. أتذكر صياح الديك كل صباح قبل الإفطار، وأتذكر وجبة الإفطار الجماعية الممتلئة بالأصناف البسيطة، وبدفء العائلة. أتذكر أخا جدي الذي كان طبيباً مشهوراً، مثقفاً، وعالمًا في التصوّف. كنت أستمتع بالحوار معه، ولم يكن يستخفّ بعقلي قط رغم صغر سني. كنت أحب المولد.
أحب التصوف. أحب بيتنا. هناك بعض الأماكن التي تتعلق فيها روحنا. تعلّق قلبي ببيت المشيخة في الشرقية. وتعلّق قلبي بمقر المشيخة في القاهرة. هذا المقر كان بيت أخت جدي. كانت أخت جدي تطعم الآلاف في المولد النبوي، مولد السيدة زينب، مولد الحسين، ومولد جد جدي. كنت أنبهر بهذه المرأة. كانت تعاني من الروماتيزم، من السمنة المفرطة، من الكولسترول، ومن مشاكل في القلب. لكنها كانت قادرة حتى الثمانين أن تطعم الآلاف بأيديها. كنت أفرح بـ"النفحة"، وهي الأكل الذي أتناوله كل خميس في الحضرة. كنت أستمتع كذلك بالنفحات في المولد كل عام. كانت جدتي تسمي النفحة "بركة". كانت حقاً بركة؛ فطعمها لم أذق مثله قط.
هذان البيتان (بيت المشيخة، وبيت أخت جدي) كانا دفء روحي، وكلاهما راح. البيوت هي الناس، والناس راحوا، فراحت روح البيوت.
لم أع أنني بعد حادثة التحرش تلك سينكسر شيء بيني وبين هذه البيوت للأبد. لم أدرك أن شيئاً بيني وبين ديني سيذهب للأبد. ليس للأبد، ولكن شيئاً سينكسر.
عندما عدت هذا العام، بعد سنوات عدة من انقطاعي، عدت لأنني أردت أن أواجه المولد. عدت لأنني أردت أن أقاوم وأحارب. عدت إلى المولد لأجده بلا روح. لم أجد خيماً للمولد، والتي أتذكر أنها كانت مجلساً للآلاف من الرجال والنساء. علمت أن المولد تحجّم لاعتبارات أمنية. كان المولد يتسبب في إغلاق شوارع رئيسية في ثالث أكبر محافظة بمصر من حيث عدد السكان. أتذكر أن أحداً لم يكن يستطيع أن يسير بالمولد في ليلته الكبيرة، وكان عدد المريدين يصل إلى نصف مليون شخص. هذا العام لم أجد إلا عشرين شخصاً. صدمت. كنت كمن أخذ جيشه، وذهب للمعركة، فوجد الصحراء فارغة، ولا يوجد جيش ليحاربه. كنت كمن ذهب للانتقام فوجد من ذهب للانتقام منه قد مات!
شعرت حينها أن الصدمة لا تعالَج. شعرت حينها أن الصدمة قد كُتبت عليّ. حينها، هجستُ في فكرة التسامح. ما معنى أن تُسامِح أو ألا تسامح إن كان كل شيء يتغير؟ أمضيت سنوات أعمل على فكرة التعويضات عن فترات الاستعمار، وفكرة التصالح، وفكرة تخطي الصدمات الثقافية. فعلت ذلك لأنني كنت أفكر في صدمتي أنا، وأن علاجها دائماً سيكون بالمواجهة ثم الغفران، لكنني وجدت أن الأمر أعقد، فالمجرمون يموتون لكنّ الجريمة لا تموت.
لم أستطع التعبير عن غضبي. اشتعل داخلي. اشتعل، واحترقت به. كيف نتخطى الألم؟ إن كان لا يمكننا المواجهة. يطلب مني الكثيرون أن أنسى. يقولون لي إنني مخطئة، أنني لا أستطيع أن أتخطى الماضي لكنّ هذا الماضي هو واقعي. هذا الماضي هو الواقع بالنسبة لي. أنا أرى أن العالم يتغير ولكن الجوهر لا يتغير. ما يزال ذلك المتحرش طليقاً في الموالد الأخرى التي سُمِح لها أن تُقام. ما يزال الدين غطاء لاستغلال الجسد. ما يزال جسدي مُلكاً للرجال في رأي الدين، وما يزال الدين أقوى مبرّر لكلّ إجرام في حق جسدي. ما يزال الدين جزءاً أصيلاً من مؤسسة الذكورية، وما يزال الجرح غائراً بلا علاج. الصدمة لا تُعالَج إلا بالمواجهة. من عاشوا التعذيب والإبادة ثم سقوط معذبيهم، مثل من مروا بنظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، ثم التصالح هم من استطاعوا أن يتخطّوا الأمر، بسبب المواجهة ثم التصالح.
أن يُطلَب مني أن أنسى، هو أن يُطلَب مني أن أترك النار داخلي تشتعل وتحرقني دون أن أراها. هذا ليس إخماداً للنيران أبداً.
المجرمون يموتون، والضحايا سيموتون ذات يوم لكن بدون جبر، ستموت الضحية كل يوم قبل أن يُكتَب لها الموت الحقيقي. الجبر بالنسبة لي أن أُسمَع. الجبر هو أن تُسمَع صرخاتي. الجبر هو أن يسمع أحد ما أقوله عن حقيقة الدين والمجتمع. الجبر هو ألا أخرس. الجبر صوت.
كان المولد الرمز الأول لحقيقة الدين بالنسبة لي، فقد كان رمزاً لستر الدين لفكرة تملّك الرجل، واستغلاله لجسدي؛ فمثلما استتر ذلك المتحرّش وسط زحام المريدين، واكتسب فرصته لانتهاكي من التجمع الديني، فالدين بكل حكم فيه يخصّ المرأة أو النكاح هو الفرصة المثالية لتبرير، وإكساب المشروعية، لاستغلال أجساد النساء. لقد عرّاني المتحرش في المولد، وعري الدين أمامي.
المولد هو الجرح الغائر الأول في علاقتي بالدين، لكنّ عمقه لم يظهر بالنسبة لي. لم أدرك قط عمق ذلك الجرح. رأيت جروحاً أخرى، وهي التي سأرويها هنا. الدين قصة طويلة في حياتي، قصة عميقة لها جذور قاسية تمتد داخل روحي، داخل وعيي، وداخل ألمي.
العبادات:
عندما كنت في السابعة، قررت أن أصوم. أحببت الصيام، وأحببت الصلاة التي تعلمتها في المدرسة. عشقت مناجاة الله في سجودي.
في مراحل مراهقتي تحولت العبادات لدي إلى وسواس قهري. كنت أصلي الصلوات عدة مرات، وأعيد وضوئي عدداً لا نهائياً من المرات هو الآخر. وكنت أسهر ليلاً لأنني كنت أصلي كثيراً في الليل، وأعيد أداء صلواتي.
الحيض:
تعقدت علاقتي بالدين لأول مرة بعد بلوغي. قيل لي إنه لا يسمح لي بالصلاة ولا بالصيام في أثناء حيضي. زرع ذلك داخلي فكرة أنني نجسة، وصرت أشمئز من جسدي، ومن إفرازاتي، ومن حيضي.
رأيت الأمر فيما يخص الصوم على شكل ادعاء يفيد بعجزي عن فعل ما يستطيع فعله الرجال ولا أقوى على الصيام بسبب الحيض، فأصررت على الصوم في أثناء الحيض، لكني لم أتجرأ على الصلاة. كنت أشعر بالخزي من حيضي فلم أستطع أن أواجه الله به. شبّ في داخلي صراع وغضب لأول مرة من الله.
كيف تخلقني بشيء، وتكره أن ألقاك بسببه؟!
كيف تكره أن تقابلني بشيء خلقتني به؟
الحجاب:
بالنسبة للحجاب فأنا رفضته حتى قبل أن أبلغ، لكن بعد البلوغ أصبحت أكثر إصراراً على رفضه. لم أع السبب حتى كبرت. فأدركت أن السبب في ذلك هو علمي جيداً أن الحجاب عبارة عن نظرة لجسدي لا تختلف عن نظرة أمي له. الحجاب هو نظرة لي على أنني جسد مملوك لرجل واحد يتزوجني، ومحجوب عن سواه. رأيت كل حجاب كأنه أربطة تلتف حول جسدي. رأيته قيداً لرغبتي، لوجودي ذاته. رأيته أداة محو لوجودي. رأيت الحجاب كأنه يمثّل خزياً من جسدي، وتجريماً لي على وجوده.
لم أكن لأقبل الخضوع قط، ولو متّ دون ذلك. عندما صعد الإخوان بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، ساد شعور عام بالتخوّف من لجوئهم إلى فرض الحجاب. لم أتردد، لأن الأمر كان بسيطاً للغاية بالنسبة لي. إن فرضوا الحجاب، سأسير دون حجاب حتى لو قُتلت لأنني أفضّل الموت على أن أصير عبدة جنسية لأحد وتستّتر عمّن سواه.
سأضيف سبباً أخيراً لكراهيّتي للحجاب، فقد رأيت أنه لا يعترف برغبتي كمزدوجة الميل الجنسي. الحجاب يفترض أن الرجل وحده يشتهي المرأة، بينما المرأة لا يحق لها أن تشتهي لا رجلاً ولا امرأة. لا يعترف الحجاب بشهوة المرأة من الأساس. فالمرأة تختفي أمام الرجل، ولا تختفي بنفس الدرجة أمام المرأة الأخرى لأن شهوة المرأة في المرأة وجودها مُنكَر من الأساس.
ميلي الجنسي والدين:
كرهت ميلي الجنسي بسبب ديني. كنت أحتلم كل ليلة بكثير من النساء، فأستيقظ فجراً في أيام شديدة البرودة لأغتسل بماء مثلج لأطهّر نفسي من نجاستي، ومن خزي رغبتي. اتصلت بدار الإفتاء لأسألهم —بدون أن أصف ما أحلم به— إن كان بإمكاني ألا أغتسل بعد الاحتلام الكثير اليومي لأن شعري يتساقط بسبب الاغتسال كل يوم، فرفضوا أن يعطوني فتوى بعدم غسل شعري. خسرتُ شعري تماماً في تلك السنوات، وأصبت بنزلات برد متعددة بسبب الاغتسال فجراً يومياً في الأيام شديدة البرودة، وفقدت قدرتي على الإحساس بالبرودة في المياه؛ لأن جسدي تبلّد من شدة التعرض للماء المثلج. كنت أعتبر تعذيبي بالماء المثلج والضرب أحياناً عقوبة أستحقها لاحتلامي، وشهوتي بالنساء.
لكن عندما قبلت جنسانيتي كرهت الدين لأنه شيء أدانني، وملأني بالخزي على كل شيء لم أختره، وعذبني بسبب كل شيء هو طبيعتي. حينها، غضبت من الله لأنه لم يشأ أن يقابلني بسبب حيضي، ثم كرهني ورفضني بسبب شيء اختاره لي، وهو رغبتي في النساء. في البداية، لم أعلم أن الدين لا يضع حداً للمثلية النسائية. لم أدرك في البداية أن الدين لا يعترف بوجودي من الأساس!
لم أعرف أن الدين لا يعترف إلا بالقضيب الذكري، وبالإيلاج. لم أعرف أن الدين مبنيّ على فكرة سيادة الإيلاج، سيادة القضيب، الإخضاع. لم أعلم أنه لا يعترف إلا بالإخضاع وبالكسر دليلاً على الجنس؛ فما ليس ذلاً ليس جنساً. تلك هي القاعدة. عندما أدركت ذلك مقتّ الدين لأنني أفضّل أن أكره، وأن يُحكَم عليّ بإلقائي من شاهق كذكر مثليّ على ألا يُعترَف بوجودي من الأساس.
الجبر:
لكن الله جبر جرحي. قابلت امرأة أحببتها، وكانت أول حب عميق مثليّ عايشته. لقد شعرت بحب حقيقيّ، ووجدتني أشعر بالله، وأمرّ بأول تجربة روحانية في حياتي مع الله في هذا الحب. حينها أدركت أن الله يقول لي "لست أنا"، سمعته يقول لي إنه ليس هو الذي يرفضني أو يتركني أو يرفض رغبتي ومحبتي أو يعتبر أي شيء خلقه فيّ مدعاة للخزي. تلك المحبة جبرت علاقتي بالله لكنها لم تجبر علاقتي بالدين.
اللادينية:
أمضيت سنوات طويلة وأنا لادينيّة. رأيت أن الله قد أثبت لي وجوده لكنّ الدين لم يثبت لي إلا تحطيمه لعلاقتي بالله. كلما مرت السنوات رأيت المزيد من الغضب بيني وبين ديني. كلما قرأت آيات القرآن عن النار، والجنة احترق قلبي غضباً من كمية السادية في تعذيب المختلف لمجرد أنه اختلف. رأيت صورة تُرسَم عن الله كشخص يريد أن يشعر بقيمته من خلال إذلال البشر بالسجود له، ومن لا يُذِلّ نفسه أمامه يعذبه عذاباً أليماً بأقصى درجات القسوة.
رفضت كلمة عبد. لم أقبل قط كلمة عبد الله. لم أقبل أن يكون الله فوقي، ويمارس سلطانه عليّ، فحتى الرحمة رفضتها لأنها تأتي من سيد يمتلك السطوة على من هو أقل، ويفخر بأنه يعفو عنهم. الرحمة لا تأتي ممن يتبنّى علاقات القوة، والفوقية، والسيطرة. كشخص يكره كل ديكتاتورية، كل نرجسية، كل استعباد، كل سلب للحرية. كرهت هذه الصورة، وأمضيت سنوات بعيدة عن الدين، سنوات طويلة ولكنّ شيئاً من روحي كان يُدهَس ببُعدي هذا.
البحث:
أمضيت وقتاً في المسيحية. ذلك هو الوقت الذي جربت فيه الإحساس بالله لأول مرة في قصة الحب المثلي. أحسست بالله في ترنيمة وأنا أحب. قضيت عاماً أو عامين في هذه الرحلة. لم أصر مسيحية قط، ولكنني جربت زيارة الكنائس، القراءة في الفلسفة المسيحية، قراءة الإنجيل كاملاً، وعشت تجربة المشاعر المرتبطة بالرب كأب أو إنسان. أحببت المفاهيم المرتبطة ببشرية الإله لأنها منعدمة الفوقية، لكنني في المسيحية وجدت رفضاً شديداً، وكراهية عميقة لميلي الجنسي.
لكني احترمت رفض المسيحية لي أكثر من إنكار الإسلام لوجودي! احترمت المسيحية لأنها — على الأقل — ساوت بيني وبين الرجل المثلي في كراهيتنا نحن الاثنين! ولم تنكر وجودي من الأساس. علّمتني هذه الكراهية أنني لن أجد محبة لي في أي دين، فرحلت، ولكنّ جزءاً من روحي بقي معلّقاً بشيء من سلام ومحبة المسيحية.
قرأت في الديانات الشرقية. لم أتقبل فقط تعدد الأديان، وإنما لم أستطع التعامل مع تعدّد الآلهة. روحي التي تربّت بشكل محدد لم تستطع التعامل مع ذلك لكنني تأثرت بشكل خاص، وتبنيت فكر "اليانية" الرافض للعنف تماماً، وتبنّيت "الثمريّة" كنظام غذائي. رأيت أنني وجدت في الكون ما يتسق مع أفكاري، ومبادئي الأخلاقية لأنني وجدت في اليانية فكرة احترام كل صنوف الحياة، والامتناع عن قتل أي شيء حتى النباتات. فالثمرية لا تقبل حتى أكل النباتات الجذرية كالجزر، والبطاطس، والبطاطا، وغيرها. اليانية ترفض كل أشكال المقاومة العنيفة، وترفض كل قتل، وكل إيذاء، وهذا ما اعتنقته منها.
فكرت في اليانية، وقرأت عنها، وتساءلت داخلي إن كنت سأقابل شخصاً يانيّاً في حياتي، ثم ذهبت في بعثة مسيحية طبية لغانا. لم أكن حينها مسيحية على الإطلاق، بل كنت لادينية لكنني حاولت أن أساعد بالطريقة التي أقدر عليها، وفي هذه البعثة الطبية قَبِلْتُ اليانيين. حينها، شعرت أن الرب يقول لي إنني عندما أسعى إليه بالمساعدة، فسيساعدني هو لأجد ما تحتاجه روحي، فسيساعدني لأزيد من قدرتي على العدالة. بعد هذه الرحلة عدت لأتبنى الثمرية دون تردد.
لست مستغربة قط أن الله يلهمني الإجابات في ديانات عدة لأن هذا هو الله الذي أعرفه، وأحبه.
العودة والصراع:
بعد سنوات طويلة عدت للإسلام بإرادتي، وبمجرد عودتي وقعت حرب غزة! حرب غزة كانت الضربة الأولى في علاقتي المباشرة بالله، وليس بالديانات. حرب غزة هي أكبر ضربة في فكرة وجود الله بالنسبة لي. حرب غزة هي أكبر ضربة مباشرة تؤكد مشكلة الشر، والألم. حينها، أدركت الأزمة الحقيقية في غياب الله. الأزمة الحقيقية في فكرة عدم الإيمان بإله ليست في أنه لا يوجد من نعتمد عليه أو نثق في جماله، بل الأزمة الحقيقية أننا لا نجد من نتشاجر معه. خفت ألا أجد من أتشاجر معه. التشاجر مع الله شيء علمتني إياه صديقتي المسيحية الأولى في حياتي.
في قصة سبايا أوطاس، رأيت الرسول شخصياً يأمر باغتصاب النساء المتزوجات لأنهن "مشركات". رأيت في قصة سبايا أوطاس أن الدين يرى اغتصاب النساء هو أكبر دليل على هزيمة الجيوش غير المسلمة. الإيلاج هو طريقة الاسلام لإعلان سيادته على الشرك باقتحام أجساد المشركات، وانتزاعها من المشركين، وإخضاعهم بنكاح زوجاتهم.
تأثرت؛ لأن مفهوم الإيلاج، والاغتصاب، والاستعباد الجنسي أيقظ عندي صدمتي العميقة من مفهوم العذرية، وامتلاك الجسد، والإيلاج، والتي ناقشتها في أول مقال من هذه السلسلة.
هل أترك الدين ثانية؟ أم أتحمل كوني مسلمة، وأنا أعرف حقيقة أحكام الدين، وتاريخه الاستعبادي، والاستعماري، والذكوري، والقمعي، والتمييزي؟
هل يمكنني أن أدين الدين، وأنا داخله؟
لا أحد يقبل أن تنتمي وتُدين في ذات الوقت ما تنتمي إليه. أن تنتمي يعني أن تدافع، وتكون في صف محدد لكنّ هذا ليس مفهومي عن الانتماء. الانتماء عندي لا يعني فقدان الحرية، ولا الضمير الذي ينحاز لكل مظلوم أمام كل ظالم.
أنا مسلمة مثلما كان المعري مسلماً قادراً على نقد الإسلام، والدفاع عن حقوق الحيوان. أنا مسلمة لكنني قادرة على النقد، والغضب، وتعرية حقيقة كل ظلم سببه الدين في الماضي أو في الحاضر، لكنني لا أريد قط أن أفقد روحي ثانية ببُعدي عن ديني، أريد أن أستمتع بالصلاة. هناك موقف لا أنساه؛ طلبتْ مني فتاة في الجامعة أن أوصلها للمصلى، فأوصلتها، ووقفتُ أمامه. وقفتُ أمام سنوات طويلة لم أدخله فيها. تذكرت كيف كنت أجري لألحق الصلوات بين المحاضرات، وقبل رحيل حافلة الجامعة. تذكرت روحي التي كانت تصلي. لم أدخل لأصلي يومها لكن بقي داخلي صوت يسألني: "ألا تحنين؟" شعرت بالحنين. واستجبت له، فهناك شيء في السجود لا تصفه الكلمات.
والصوم كان لي منذ طفولتي مدرسة الحرية. أعرف كيفية الاستغناء عن كل شيء لأنني أعرف أن أصوم.
جزء من حنيني هو حنين نفسي، وهويتي، لكنّ أغلب الحنين هو حنيني لروحي.
الدين روح.