"على مدى 60 عامًا، سعت الولايات المتحدة الأمريكية، إلى تحقيق الاستقرار على حساب الديمقراطية في هذه المنطقة هنا في الشرق الأوسط - ولكننا لم نحقق أيًا منهما".
بهذه الكلمات، لخّصت كوندليزا رايس، وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، أثناء كلمتها في الجامعة الأمريكية في القاهرة عام 2005، مجمل سياسات الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط وواقعه السلطوي غير المستقر في ذلك التوقيت. ولكن مبادلة الديمقراطية بالاستقرار، وإن كانت مقنعة بالنسبة للإدارات الأمريكية المتعاقبة، لم تكن مقنعة بالقدر الكافي للجماهير التي خرجت في 2011 من مختلف العواصم العربية، تطالب بالديمقراطية. ورغم الحماس الذي أبدته إدارة أوباما في البداية تجاه ما أُطلق عليه وقتها، من قِبل دوائر الأكاديمية والإعلام الغربي، "الربيع العربي"، إلا أن ذلك الحماس امتزج لاحقًا عند التعاطي بالتخبط والفشل الناجم عن المفاجأة، والأحداث التي كانت أسرع وأعقد في تحولاتها من استجابة الإدارة الأمريكية، كذلك محاولة إدارة أوباما صنع توازن يشوبه الكثير من التناقض بين استقرار الشرق الأوسط والمصالح الأمريكية المرتبطة بأمن الاحتلال الإسرائيلي، كذلك بقوى معادية للديمقراطية في المنطقة مثل السعودية والإمارات والمؤسسة العسكرية في مصر، وبين تطلعات الجماهير العربية نحو الديمقراطية.
اليوم، وبعد أكثر من عشر سنوات على اندلاع ثورات 2011، يظهر الشرق الاوسط أبعد ما يكون عن الديمقراطية أو الاستقرار. وربما في وضع أسوأ مقارنة بما قبل 2011، إذ فشلت معظم تجارب التحول الديمقراطي وتحولت إما إلى مزيج من حروب أهلية وإقليمية، كما حالة سوريا واليمن وليبيا، أو صعود أنظمة ديكتاتورية لا تقل في سلطويتها ولا انتهاكاتها لحقوق الإنسان عن الأنظمة السابقة، كما في حالة مصر. وما ارتبط بذلك من صعود للتنظيمات الارهابية، وزيادة غير مسبوقة في أعداد الهجرة، وتراجع فرص التنمية والتمكين الاقتصادي. وهو ما انعكس طبعًا في كيفية إعادة قراءة وتقييم المواقف تجاه ثورات 2011. على شكلين مختلفين، تُعاد صياغة المواقف اليوم، إذ يستعيد الموقف الأول الكتابات التقليدية التي ترى الشرق الأوسط غير قابل للديمقراطية لأسباب ثقافية ودينية، ويُبرهَن على ذلك بما آلت إليه الأمور بعد 2011 في العالم العربي، وبالتالي يبرر أهمية وجود نظام حليف مستقر حتى ولو كان سلطويًّا، بصفته ضمانة لاستقرار المنطقة ومصالح القوى الغربية ووضع الأقليات الدينية. أما الموقف الثاني فهو ذو نزوع ديمقراطي واضح يتجاوز الخطاب التقليدي حول الشرق الأوسط، ويبحث في أسباب فشل التحول الديمقراطي في مصر والشرق الأوسط.
رغم اختلاف الروايتين إلا أنهما لا يستطيعان أن ينظرا إلى ما حدث في الشرق الأوسط و مصر بعيون غير التي ترى الهزيمة على أنه حدث رئيسي، وربما وحيد، وهو تحول الربيع العربي - تلك التسمية التي تنمّ عن قدر كبير من المركزية الغربية في فهم تحولات المنطقة، فبجانب أنها تحاول إسقاط تجربة سابقة في تاريخ أوروبا علي واقع منطقتنا العربي، تتصور أن ذلك الواقع المعقد التي كانت القوى الغربية سببًا رئيسيًّا في تعقيده، عبر الاستعمار والتحالف لاحقًا مع الأنظمة الاستبدادية قادر على الانتقال من وضع يجمع ما بين الشمولية والسلطوية إلى وضع يتحلى بالديمقراطية، كما تتحول فصول السنة - إلى خريف السلطوية.
تجادل المقالة أن ما حدث في مصر في العقد الماضي، هو أكثر من مجرد ثورة مهزومة، كما لم يكن ربيعًا في البداية، لم تزهر أوراقه لحظيًّا، بل موجات من التحولات السياسية والاجتماعية غيرت وجه مصر للأبد، وأزاحت معها أنظمة ومشروعات حكم سلطوية تنافست على حكم مصر، فمع كونها السبب الرئيسي في سقوط نظام مبارك وما يمثله من تصورات عن حكم مصر، وإسقاط مشروع الإخوان في الحكم، تقدّم ثورة يناير دليلًا لاستشراف مصير سلطويات اليوم، لا سيّما سلطوية نظام السيسي، وأعطتنا يناير منهجية وأسئلة للتفتيش ومساءلة الاستقرار الاقتصادي والأمني المزعوم من قبل النظام الحاكم حاليًّا في مصر ومدى قابليته للديمومة، كما أخبرتنا بالدليل أن مفاضلة الاستقرار على الديمقراطية، غالبًا ما يجعلك تخسر كليهما.
الهزيمة الأولى، مشروع التوريث
تبلور في العشر سنوات الأخيرة من حكم مبارك مشروع التوريث، والذي كان أكثر تعقيدًا من فكرة نقل السلطة لأول مرة من رئيس قادم من المؤسسة العسكرية إلى رئيس مدني - وهو أمر ليس باليسير في مصر حتى لو كان المدني هو ابن الرئيس - بل شمل المشروع نقل سلطة الدولة على الشأن السياسي الداخلي والاقتصاد والموارد، إلى مجموعة من رجال الأعمال الذين سيشكلّون التحالف السياسي والاقتصادي الجديد للحكم. نجح ذلك التحالف، مع تكثيف حاد للسياسات النيوليبرالية، في تحقيق معدلات نمو غير مسبوقة في تاريخ مصر، حظيت بإشادة المؤسسات المالية الدولية فيما سُمي بـ"التجربة المصرية"، ولكنها على الجانب الآخر ساهمت في تراجع الإنفاق الاجتماعي، وخصخصة شركات القطاع العام، وتراجع الدولة عن التوظيف.
ساهمت هيمنة ذلك التحالف على الحياة السياسية والاقتصادية عبر الحزب الوطني، مع تضاعف آثار السياسات النيوليبرالية على المواطنين وأصول الدولة في تآكل شرعية مبارك شعبيًّا، وامتعاض البيروقراطية العسكرية والاقتصادية من تلك التحولات.
بالتوازي مع ذلك، كانت ضغوط إدارة بوش قد تزايدت على مصر فيما عُرف بـ" أجندة الحرية" والتي شكلت ضغطًا على ملفات الديمقراطية وحقوق الإنسان. اضطرت تلك العوامل مبارك إلى قيادة انفتاح سياسي "مراقب أمنيًّا" سُمح فيه بهامش من الحريات للمجتمع المدني والإعلام والأحزاب السياسية، وهو ما انعكس في صورة صعود غير مسبوق لجهاز أمن الدولة ولعبه أدوارًا جديدة، سعى من خلالها إلى إحكام هيمنته على المجال العام، لمراقبة وقمع وأحيانًا التفاوض مع الفاعلين السابقين، وهو ما ضاعف من امتعاض المؤسسة العسكرية نتيجة شعورها بالتهميش في تحالف الحكم. ولكنّ مبارك على الجانب الآخر وفّر لها قدرًا من الامتيازات سمحت للمؤسسة بتوسّع اقتصادي غير مسبوق، وحصل أفرادها على أعلى وظائف البيروقراطية المصرية عند تقاعدهم، كانت تلك جزرة مبارك للجيش لكي يبقى بعيدًا عن السلطة السياسية، ويتم استيعابه داخل مشروع التوريث.
لم تمنع تلك التركيبة المتقنة لإدارة السلطوية في عهد مبارك الجماهير من الخروج في 25 يناير، كما لم تستوعب المؤسسة العسكرية داخلها. واضطرت المؤسسة للانصياع لمطالب الجماهير بإزاحة مبارك عن السلطة. بسقوط مبارك، سقطت معه أوهام السلطويات الرشيدة، وإشادة المؤسسات المالية الدولية بتلك السلطويات باعتبارها ضمانة للاستقرار الاقتصادي، والتي اختزلت التنمية بمفهومها الشامل إلى المعدل الحسابي لنمو الناتج القومي، والنظر إلى القبضة الأمنية باعتبارها حلًّا لأزمة الشرعية.
الهزيمة الثانية، الإسلام السياسي
حاولت جماعة الإخوان المسلمين ترميم المشروع المباركي بنفس طابعه السلطوي وتوجهاته الاقتصادية الاجتماعية. بدا للجماعة أن مشروعها أكثر تماسكًا لأنه ارتكز على قاعدة تنظيمية واجتماعية لم يمتلكها نظام مبارك، تضم معظم تكوينات الحركة الإسلامية وليس الإخوان فقط، بالإضافة إلى سعيهم للوصول لاتفاقات مشتركة مع أجهزة الدولة، وخاصة المجلس العسكري الذي كان مسؤولًاعن إدارة المرحلة الانتقالية. ولكنّ نفس التوجهات السلطوية - وإن كانت بهوىً إسلاميّ الطابع - كانت سببًا في فشلهم في بناء تحالف اجتماعي واسع من خارج جمهور الإسلاميين، من القوى السياسية والاجتماعية المؤيدة للثورة، كما كان المكون الإسلامي في السلطوية سببًا في تزايد قلق الأقليات الدينية، لا سيما الأقباط، من استمرار الإخوان في الحكم.
وقفت طبيعة الإخوان كتنظيم محافظ ليس فقط دينيًّا وأخلاقيًّا، وإنما اقتصاديًّا واجتماعيًّا أيضًا، عقبة أمام التنظيم في تجذير مطالب الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وبالتالي توسيع قاعدتهم الاجتماعية. عمّق ذلك من أزمة الحكم الخاصة بهم في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية لمشروعهم في السلطة. داخليًّا، فشل الإخوان في إدارة والسيطرة على البيروقراطية المصرية، لا سيّما المؤسسة العسكرية وجهاز الشرطة وباقي الأجهزة الأمنية، رغم محاولتهم احتوائها والاستجابة لكافة مطالبها، التي عُبّر عنها في دستور 2012. كما دخلوا في مواجهة مباشرة مع مؤسسات أخرى على رأسها القضاء، وموظفي وزارة الثقافة، بدون قاعدة شعبية من خارجهم.
كما فشل الإخوان المسلمون خارجيًّا أيضًا في قراءة تعقيدات المنطقة وفي طمأنة دول الخليج، لا سيّما الإمارات والسعودية، أن الربيع العربي لن يطولها وأن صعود الإسلام السياسي في الحكم ما بعد الربيع العربي لن يهدد عروش الخليج. في المجمل، لم يقف الإخوان في صف الثورة ولا مطالبها، ولم يستطيعوا ترويض الثورة المضادة، فانقضّت عليهم الثورة والثورة المضادة في حراك مشترك في 30 يونيو. لم يعبّر ذلك الحراك فقط عن هزيمة الإخوان المسلمين كتنظيم، ولكن انهيار مشروع الإسلام السياسي ككل في حكم مصر، وشهدت السنوات التالية تراجعًا كبيرًا لوجود ونفوذ وشعبية الإسلام السياسي في الشارع المصري.
سلطوية السيسي: السيطرة والاستمرار لا يعنيان الاستقرار
تبدو الكلمة المفتاحية في فهم نظام السيسي هي الولع الشديد بالسيطرة، الناتج عن قراءة إشكالية لأسباب سقوط نظام مبارك تتلخص في أن السبب الرئيسي وراء ذلك كان هامش الحرية المراقب أمنيَّا الذي سمح به، لذلك عمد السيسي إلى تدمير ممنهج لهذا الهامش، وقاد هجمة أمنية عنيفة حاصر بها الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، واعتقل كل من قد يشكل تهديدًا سياسيًّا له، سواء قَدِم من داخل المؤسسة العسكرية (كما في حالة سامي عنان)، أو المدنية (كما في حالة عبدالمنعم أبوالفتوح وتحالف الأمل وآخرين)، ولم يَسْلم الحقوقيون والصحفيون من ذلك بالطبع.
و بينما حافظت بعض المؤسسات على جانب من استقلالها في عهد مبارك، وهو ما سمح لها بتجاوز نظامه عندما صار وجوده عبئًا عليها، قاد السيسي انقلابًا داخل البيروقراطية أخضع به كافة المؤسسات تحت سيطرة رجاله المقربين، لا سيّما المخابرات العامة التي وضع على رأسها مدير مكتبه رئيسًا. كما تخلّص من العديد من قيادات المجلس العسكري السابق الذي لم يبق منه اليوم سوى وزير الدفاع الحالي ومساعد وزير الدفاع للشؤون القانونية والدستورية. كما قونن هيمنته على القضاء عبر التعديلات الدستورية الأخيرة، وتعديلات قانون السلطة القضائية. وبينما سعى مبارك لنقل السيطرة على الاقتصاد من الدولة إلى رجال الأعمال، يستعيد السيسي هيمنة الدولة على الاقتصاد عبر المؤسسة العسكرية وشركاتها كمقاول مصر الأول، الذي يقوم بتوزيع الأدوار والمهام على القطاع الخاص.
إنّ جوهر ما فعله السيسي هو الانتقال من تمثيل تحالف واسع مدعوم خليجيًّا من البيروقراطية وبعض القوى المدنية وبعض رجال الأعمال، قاده للوصول إلى السلطة ما بعد يونيو 2013، إلى تأسيس نظام محوره الوحيد هو السيسي، فالرجل يحكم اليوم من خلال هذا التحالف وليس على أنه ممثل له.
ولكن نجاح السيسي في السيطرة لا يعني أبدًا نجاحه في الحكم، إذ يواجه النظام الحالي أربع أزمات بنيوية تجعله غير قابل للاستقرار حتى لو كان مستمرًا. الأولى أزمة الشرعية السياسية، بمعنى القدرة على دمج وتمثيل القطاعات الأوسع من الشعب داخل منظومة الحكم، وهو بالقطع ما فشل فيه نظام السيسي. نتيجة هيمنته الكاملة على منظومة الحكم، لم يسعَ السيسي إلى الآن لتشكيل حزب سياسي يمثل السلطة رسميًّا، ويحكم من خلاله على غرار الحزب الوطني، ما أدى إلى غياب شبكات زبونية لتوزيع الموارد على الجمهور الأوسع لضمان التأييد أو على الأقل عدم المعارضة، كما كان الحال في عهد مبارك. ولم يجد الرجل من يترشح أمامه في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وتُركت الانتخابات البرلمانية في 2015 للمنافسة بين الأجهزة الأمنية والأحزاب المرتبطة بها. ولاحقًا، لم يرضَ النظام نفسه عن أداء ذلك البرلمان، وفي محاولة منه لتخفيف وطأة الأزمة السياسية، سعى النظام إلى إجراء تعديلات عديدة على شكل برلمان 2020، أملًا منه في احتواء الإحباط العام تجاه الوضع السياسي والاقتصادي في مصر.
ولكن يظل جوهر الأزمة السياسية في مصر هو عدم رغبة السيسي والدائرة الصغيرة التي حوله في التنازل عن احتكار القرار السياسي على كافة المستويات، وتبقى أي تحركات نحو خلق مجال سياسي هي إجراءات شكلية تستهدف استكمال شكل المؤسسات، وتسعى إلى إضفاء صبغة ديمقراطية على عملية اختيار النواب وتفاعلهم داخل البرلمان. ولكن يبقى البرلمان وربما الحكومة في بعض الملفات بمعزل شبه كامل عن عملية صناعة السياسات، مما يعمّق من أزمة التمثيل السياسي، ليس فقط بالنسبة للمعارضين وإنما لمؤيدي الرئيس أيضًا، الذي يبحثون عن موقع في علاقات زبونية مع النظام السياسي توفر لهم بعض النفوذ السياسي، في مقابل أن يضمنوا ولاء قطاعات اجتماعية يقومون بتمثيلها لصالح النظام على غرار نظام مبارك.
أما الأزمة الثانية فهي أزمة التنمية الاقتصادية. رغم ما حققته عملية الإصلاح الاقتصادي التي نفذتها الحكومة المصرية بدعم من صندوق النقد الدولي منذ العام 2016 من تحسن في المشهد المالي واستقرار اقتصادي، إلا أن هذا الاستقرار شكليّ وشديد الهشاشة، ونُفّذَ بكلفة عالية على الطبقات الفقيرة. نعم انخفض عجز الموازنة في الفترة من 2015 إلى 2019 من 12.5% من إجمالي الناتج المحلي، إلى 6.7%، ولكن في المقابل انخفض الإنفاق الاجتماعي في نفس الفترة، إذ انخفض الدعم في نفس المدة الزمنية من 4.1% إلى 1.2% من إجمالي الناتج المحلي. إلى جانب تراجع مخصَّصات رواتب القطاع العام من 8% إلى 5% من إجمالي الناتج المحلي. كما انخفض الإنفاق العام على الصحة والتعليم ليصل إلى 4.5% من إجمالي الناتج المحلي في موازنة 2019. حدث ذلك بالتوازي مع تحرير سعر صرف الجنيه المصري، مما انعكس على ارتفاع معدل الفقر إلى 32.5% بنهاية العام المالي 2017/2018، مقابل %27.8 لعام 2015/2016.
على الجانب الآخر، لم تأتِ خطة الإصلاح بالمرجو منها على مستوى تحفيز الاقتصاد وزيادة معدلات النمو، إذ يتوقّع صندوق النقد الدوليّ الآن تراجُعَ معدّل النموّ من 5.5% إلى 2% في عام 2020، مدفوعًا بالقطع بأزمة كورونا وبأسباب عديدة على رأسها اعتماد النظام على المؤسسة العسكرية والقطاع العام كمحرك للنمو الاقتصادي، الأمر الذي لم يسمح بمشاركة حقيقية للقطاع الخاص، إلى أن وصلنا إلى أن صادرات مصر غير النفطية، وعلى عكس المتوقع بعد تحرير سعر الصرف، تبلغ 6% فقط من إجمالي الناتج المحلي، وهو ما سينعكس على شكل زيادة في نسبة البطالة من جديد، لتصل إلى 12% على الأقلّ في العام المالي الحالي.
من المهم هنا التأكيد أن تلك الهيمنة على الشأن الاقتصادي من قبل المؤسسة العسكرية، والتي تظهر آثارها السلبية بوضوح على الاقتصاد المصري، ليست مدفوعة بتعظيم المكاسب الاقتصادية للمؤسسة فقط، وإنما هي التجلي الاقتصادي لرغبة السيسي الانفراد بالمشهدين السياسي والاقتصادي، وعدم الدخول في أي صيغة شراكة سياسية أو اقتصادية كما فعل مبارك مع رجال الأعمال، وبالتالي تصبح سيطرة المؤسسة العسكرية على المجال الاقتصادي ضرورة سياسية لتعزيز هيمنة واستقرار نظام السيسي.
أما الأزمة الثالثة تتمثّل في أنه رغم نجاح النظام الحاكم في السيطرة على معظم أجهزة الدولة الأيديولوجية وتسخيرها لصالحه، بما فيها الإعلام والمؤسسات الدينية، إلا أن تلك السيطرة على هذا النحو، وفي ظل الأزمات السابقة، تُضعِف من قدرة تلك المؤسسات على توجيه الرأي العام، وبالتالي لا يجد النظام الحاكم غير استعمال العنف والترهيب والاعتقالات كضمان وحيد للاستمرار، كما حصل في احتجاجات سيبتمبر 2019 و2020، التي نجحت – بالرغم من نجاح النظام في قمعها - في كسر الصورة الشعبية للمؤسسة العسكرية المرتبطة بالنزاهة، والربط بين النشاط الاقتصادي للمؤسسة العسكرية وبين تنامي معدلات الفساد، وتنامي مساءلة الإنفاق الحكومي والرئاسي. وهي كلها أمور لم تعتدها مصر في السنوات الأخيرة، لا داخل المؤسسات ولا خارجها. أما تظاهرات 2020 فقد نجحت على الأقل مؤقتًا في تعطيل خطط السيسي الطموحة في التعاطي مع المناطق غير المخططة.
وهو ما ينقلنا إلى أزمته الرابعة التي تتمثّل في تحوّل القمع في عهد السيسي، من أداة ضمن أدوات أخرى مهمة لتأسيس أي نظام سلطوي، إلى أداة الحكم الرئيسية، وأحيانًا الوحيدة، للنظام في التعاطي مع التحديات السابقة. انعكس هذا التحول في انهيار أوضاع حقوق الإنسان في مصر، والوصول إلى مستويات غير مسبوقة تاريخيًّا من الانتهاكات تتم بشكل شبه يومي. ورّطت تلك الانتهاكات النظام مع العديد من القوى الدولية، لا سيّما الولايات المتحدة، في وفاة المواطن الأمريكي مصطفي قاسم في سجون مصر، وإيطاليا في مقتل الباحث الإيطالي جوليو ريجيني بواسطة أجهزة الأمن المصرية.
ورغم تواطؤ المجتمع الدولي مع انتهاكات حقوق الإنسان في مصر، المدفوع بالطبع بنجاح نظام السيسي بربط استقراره بالمصالح الاقتصادية للعواصم الغربية، عبر التوسع في الاستدانة الخارجية، والزيادة غير المسبوقة في مشتريات الأسلحة حيث حلت مصر كثالث مستورد للسلاح على مستوى العالم، والشراكة الاقتصادية مع العديد من الشركات الدولية في قطاع الغاز المصري، بالتوازي مع الخطاب التقليدي المرتبط بمواجهة الإرهاب والهجرة غير الشرعية. ولكن تظل معضلة قوية تواجه النظام الحاكم، لا سيّما في ظل وجود إدارة أمريكية جديدة تعيد ملف حقوق الإنسان والديمقراطية كأحد أولويات التعاطي مع مصر. وما يستتبع ذلك من تأثير على المعونة العسكرية ومن الموقف الأمريكي من سد النهضة وإثيوبيا، إذ تواجه مصر تحديات شديدة الخطورة فيما يخص أمنها المائي مع تعثر المفاوضات مع إثيوبيا.
تبدو أزمة سلطوية السيسي في ذروة هشاشتها وعدم قابليتها للتأسيس على هذا النحو القائم الآن، وهو ما يفسر النزوع المتزايد نحو السيطرة والعنف. ولكن لا يجب أن نقرأ العنف والسيطرة باعتبارهما آليات لعلاج الهشاشة أو ضمانة للاستقرار. ولكن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال، بشائر سقوط النظام أو احتمالات تداعيات قريبة، فالمعارضة المصرية هي الأخرى مأزومة ربما أكثر من النظام، ولكن الأكيد أن سلطوية السيسي مليئة بالعديد من الثقوب التي لم تجد من يستغلها بعد، وما تظهر عليه سلطوية السيسي اليوم من استقرار ما هي إلا إحدى سمات الدكتاتورية التي يبدو كل شيء فيها على ما يرام، إلى حدّ الربع الأخير من الساعة الأخيرة على حد وصف حنا أرندت.
كيف نفكر في يناير اليوم
اختبرت مصر في العقد الماضي كافة الخيارات السلطوية المتاحة للحكم، من مبارك إلى الإخوان إلى نظام السيسي، وأثبت الجميع بنجاح منقطع النظير فشلهم في سؤال الحكم. وللمفارقة، لم يعد لدى مصر اليوم بدائل سلطوية كثيرة للحكم في حالة اهتزاز النظام الحالي، بل تبدو أنها المقامرة الأخيرة، ما يجعلنا نعيد التفكير في "يناير 2011" على مستويين؛ الأول، باعتبارها نقطة البداية لصيرورة تاريخية أعادت تشكيل واقع مصر السياسي والاجتماعي إلى الأبد، من دونها لظلت مصر إلى الآن رهينة التصورات استشراقية الطابع، التي تقول إن الديمقراطية وحقوق الإنسان لا تتناسب وثقافة الشرق الأوسط. لظلت مصر حبيسة سلطوية مبارك ومشروع التوريث باعتبارهما الصيغتان الأفضل لحكم هذا البلد، ولبقي الكثيرون يعتقدون أن حكمًا إسلاميًّا أو عسكريًّا من الممكن أن يكون البديل المناسب لحكم مبارك. كما أن يناير وما بعدها أحدثت تغييرات شديدة العمق مست المجتمع المصري، وطرحت عليه فيضًا من الأسئلة والنضالات تخصّ وضع الدين والتدين، وحقوق المرأة، وموقع الأخلاق في المجتمع. وليست المعركة التي تخوضها اليوم المرأة المصرية ضد العنف الجنسي ببعيدة عما أحدثته يناير في المجتمع المصري. كل تلك الأسئلة والتحولات هي تحولات وثيقة الصلة بتعزيز فرص انتقال ديمقراطي في المستقبل.
أما المستوى الثاني، فهو كيف تلهمنا يناير في التفكير في مستقبل سلطويات اليوم، فما يُهيّأ للبعض بأن نظام السيسي يعيش استقرارًا الآن، هو وهم تهيّأ سابقًا لمن اعتقدوا باستقرار نظام مبارك. كما أن الإشادة التي يحظى بها نظام السيسي من المؤسسات المالية الدولية اليوم، حظي مبارك على أفضل منها في عهده. من المؤكد أن نظام السيسي ليس مثل نظام مبارك كما وضحنا، ولكن ما أخبرتنا به يناير أنه لا استقرار أو استدامة حقيقية في حكم مصر دون الإجابة على الأسئلة الأربعة؛ سؤال الشرعية السياسية، والتنمية الاقتصادية، وإعادة صياغة علاقة الأجهزة الأمنية، والأجهزة الأيدولوجية، بالمجتمع، وانعكاس ذلك على وضع حقوق الإنسان والحريات العامة. لذلك، مع الاعتراف بهزيمة ثورة ومشروع يناير في الوصول إلى الحكم، وهي في ذلك لا تختلف كثيرًا عن تاريخ الثورات التي كانت الهزائم المتتالية سمتها الرئيسية كما تخبرنا لوكسمبورج، "الثورة هي النوع الوحيد من الحروب التي لا يمكن تحقيق النصر النهائي فيها إلا بعد سلسلة من الهزائم". ولكن يناير بصفتها مشروعًا للحكم ما تزال الأجدر بين مختلف البدائل التي حكمت مصر في العقد الماضي. من هنا، ينبغي التعامل مع مشروع وأسئلة يناير التي أثبتت انتصارها على أنها دليل للتفكير في مستقبل مصر القريب والبعيد، من يمتلك الإجابة الديمقراطية عليها سيكون القادر على بناء نظام حكم ديمقراطي مرشح للاستدامة والاستقرار.