محادثة بين اصدقاء. . . وليست بالضرورة للجميع.
في مقال كتبته قبل ثلاثة أشهر، انتقدت قسماً من اليسار الذى واصل دعمه للنظام السوري وقمعه الوحشي للمتظاهرين على أساس سجل النظام في المقاومة ومعاداة الامبريالية، سواءً كان هذا السجل مبالغاً فيه أم لا. منذ ذلك الحين، إتسّعت الانتفاضة في سوريا (وازدادت أعداد القتلى وأغلبيتهم من المدنيين) وتكاثرت الانشقاقات في صفوف الجيش وتصاعدت الضغوط الإقليمية و الدولية بشكل كبير. قرأ البعض هذه التطورات ، ولا سيما زيادة التدخل الإقليمي والدولي، كدليل على أن سوريا مستهدفة من الخارج من قِبَل كل القوى الإقليمية والعربية والتركية من جهة، والقوى الغربية من جهة أخرى. ومن اللافت بأنّ المسؤولين الاسرائيليين منقسمون، في أفضل الأحوال، و حذرون إزاء فكرة رحيل النظام السوري.
من الصحيح أنّ مجموعة القوى الإقليمية والدولية التي تضيق الخناق على سوريا ليست معنية بشكل جدي بمصلحة الشعب السوري أو بالديمقراطية. فالعقود الطويلة التي أمضتها الولايات المتحدة فى دعم الدكتاتوريات العربية التي تقوم الآن بتوجيه الإتهامات و فرض العقوبات على سوريا، تلخص الموقف بأكمله.
لطالما شددت على حقيقة أن هذه الجهات (أي الولايات المتحدة والأنظمة العربية كلها تقريبا) ليست مؤهلة للتدخل باسم الديموقراطية في أي مكان في المنطقة. كما عارضت دوماً أىّ تدخل دولي مهما كان الثمن لما قد يترتب عليه من فوضى،- فوضى تبدو ليبيا كنزهة بالمقارنة معها. في الوقت نفسه ، على الرغم من أنّ الذين يعيشون منّا خارج سوريا قد يتمتعون بترف التنظير عن المثل وعن بنى الهيمنة (حتى و لو كنّا مصيبى الرأى) ، فإننا لا نملك الحق في أن نملى على أولئك الذين يواجهون الرصاص يومياً كيف يجب أن يكون رد فعلهم و ما يجب أن تكون مطالبهم (حتى لو كانت "قصيرة النظر" أو "ساذجة".)
بالرغم من مجموعة الدوافع الإشكالية والجهات الرجعية التي حُشِدَت ضد النظام السوري ، فلا يمكن ، من منطلق مبدأي، يساري، أو غير يساري، تجاهل الاضطهاد والتهميش وهي الأسباب البنيوية الحقيقية التي أضرمت الانتفاضة السورية. فهذا هو الواقع حتى لوكان الهدف حماية سوريا (سوريا من؟) من " المؤامرة الدولية" أو من محاولات إضعاف محور المقاومة الذي تدعمه سوريا. ما هو الخطأ في التنديد بالطرفين (معظم الأطراف الخارجية المتورطة وكذلك النظام السوري) وترك المعارضة المنظمة والآخذة في الاتساع وشأنها؟
في المقالة السابقة ، جادلت بأن الموقف اليسارى الموالي للوضع الراهن لا يمكن دعمه من حيث المبدأ،لا سيما عندما ينتهك النظام السوري بشكل سافر تلك المبادئ نفسها التي تقوم عليها المعاداة للإمبريالية ومقاومة كافة أشكال الاضطهاد البنيوي (الإحتلال والفصل العنصرى والتطهير العرقى. إلخ). و عليه، فكل ما يبقى في النهاية هو الأساس الأيديولوجي السياسي لدعم الوضع الراهن في سوريا. فما يقال هو الآتي: على الرغم من الاتفاق على أن النظام السوري ينتهك هذه المبادئ محلياً، ولكن آخذين بنظر الاعتبار الصورة الكبرى، من حيث الزمان والمكان، فإنّ إزاحة النظام السوري سوف تعكس هزيمة ساحقة للمقاومة، وانتصارا للقوى الرجعية إقليميا ودولياً، أى إسرائيل والولايات المتحدة والدكتاتوريات العربية المحافظة.
هناك عدة أسباب لرفض مثل هذه الادعاءات، وبالأخص من أجل الموضوع الأساس: المقاومة المستمرة والناجحة. سأناقش هذه الأسباب بإيجاز في هذه المقالة. قد يبدو هذا النقاش غير ذي أهمية لأول وهلة، ومع ذلك ، فإنه في الواقع واحد من أهم أسباب الخلاف السياسي في أوقات الحرب و السلم في هذا الجزء من العالم العربي. وسوف يظل الحال على ما هو عليه ، طالما استمرّ دعم الولايات المتحدة للتوسع العدواني والنظام الشبه عنصري في إسرائيل، وطالما ان الموارد الطبيعية للمنطقة والعمق الجغرافي والاستراتيجي تجذب المطامع الامبريالية والإحتلال والحروب.
الحجج التالية تنطلق من الموقف الرافض للتدخل الدولي في سوريا كحل، والذى تقل شعبيته مع إرتفاع عدّد الموتى داخل سوريا.
أولا، ليست هناك مؤامرة : ما يحدث استمرار لصراع معلن على أهداف عمرها عقودٌ طويلة ، ومعظمها معروفة. هذا لا يعني أن جميع المخاوف التى يدعيها اليساريون المذكورون غير قائمة، بالتأكيد البعض منها وارد. من المفروغ منه أنّ إضعاف سوريا لن يبشر بالخير بالنسبة للشكل الحالي لـ "المقاومة" و/أو لـ "حزب الله" ،على سبيل المثال. فالدعم المطلق الذى أعطاه حزب الله لنظام الأسد في رده الوحشي على الاحتجاجات لم يكن هباءً أو بدون سبب، وهو يعلم تماما أن هذا الموقف سيضر بمصداقية "حزب الله" فضلا عن التأييد المعنوى الذى اكتسبه بشقّ الأنفس من اليساريين وغير اليساريين على حد سواء في معسكر المقاومة . لكن بينما تكتسب معارضة هذا الجهد الواضح لإضعاف المقاومة شرعية، فإنّ معارضته من وجهة نظر النظام السوري لم تعد مقبولة أو مُجدية كما سنبين أدناه.
ثانياً، لو كان وجود النظام مبنياً على "المقاومة،" لكان من المعقول والضروري أن نعمل على إيجاد حل للخروج من هذه المعضلة. ولكن لو كانت هذه هي الحال بالفعل ، أى إذا كان وجود النظام السوري مرتبطاً في الواقع بالمقاومة ، لكان المجرى الطبيعي هو العمل للدعوة إلى هدنة في وقت مبكر، والانخراط في عملية تقاسم السلطة مع الشعب الثائر، والاستعداد لقيادة العالم العربي في حملة جادة وشُجاعة تؤيّد المقاومة علناً و تشُن حملة لصد العدو الإسرائيلى وأنصاره دولياً. ولوقف الكل من اليمن إلى موريتانيا وراء الأسد ( وكان سيصبح معبود بعض الجماهير) ولكان قد بدأ فعلا في الدعوة إلى إسقاط الدكتاتوريات الفاسدة الأخرى. ولكن للأسف هذا لم يحدث. أعطنا شيئاً من "المقاومة" أيها الأسد حتى يمكننا أن نقول. . . شيئا ما.
وعلاوة على ذلك، فالفقدان الشبه كامل لشرعية النظام السوري بعد أن سفك الدماء بهذه الوحشية يجعله غير جدير البتة للنضال من أجل حماية الحقوق الفلسطينية، كما يدّعي، من الاحتلال العسكري الاسرائيلي الغاشم. إذا ظل النظام السوري على قيد الحياة ، فكل ما سيظل من "المقاومة" المزعومة هو محض "استراتيجية لبقاء النظام" ، وهو شكل من أشكال "المقاومة" الخالية من أي مضمون أخلاقي. وسوف يفشل و بالشكل الذى قد يسمح لإسرائيل أن تنفض الغبار عن بعض من صورتها التي تشوهت بشكل كبير في عالم أخذ وقتا طويلا كي يرى عنصريتها الكامنة خلف الواجهة الديمقراطية (ديمقراطية للسكان اليهود). وهكذا فإن "انتصار" الجهات الخارجية البغيضة قد يكون إشارة حقا لإنتصار القوى الرجعية، لكن ما هي التسمية التي ستطلق يا ترى على "إنتصار" النظام السوري بعد دفن و إهلاك الآلاف من السوريين على أيدى النظام. إنتصار الشعب؟ وماذا الذي سيعنيه بالضبط بالنسبة لأولئك الذي يدافع عنهم اليسار ويكافح من أجلهم؟ هل من المقبول قتل الآلاف من شعبك من أجل تمريغ أنوف الغرباء في الوحل؟ من سيبقى لتكافح من أجله؟ ماذا سيبقى لتدافع عنه ؟ أين اليسار من كل هذا؟
أين هو اليسار في كل هذا؟ لقد دار النظام السوري دورة كاملة فى الفترة ما بين 1963 إلى2011 من حيث تغيير التحالفات والولاءات والسياسات والقوى الاجتماعية من اليسار إلى الجانب الآخر. وقد أثرى النظام قطاع الأعمال وسمح بالزحف الليبرالي الجديد للدخول خِفيةً منذ أواخر الثمانينيات. وكل هذا أدى إلى تدمير مختلف شبكات الأمان الاجتماعي وترك الريف في وضع مزر بينما انعش طبقة البرجوازية الجديدة والمراكز الحضرية، وهذه هى القوى التى قام حزب البعث لمواجهتها فى المقام الأول في الخمسينيات والستينيات. ولقد كتبت عن هذا في موضع آخر. إذاً ما هي القوى والإرهاصات التقدمية في الوضع السوري التى مازال البعض فى اليسار يحارب من أجلها؟ لقد إنفصل جزء من اليسار عن اليساريين منذ فترة وانضم إلى القوى الرجعية والقومية المتطرفة (و لست أقصد أنّ القومية غير المتطرفة تقدمية). حتى تلك اللحظة ، ومهما كان سجل النظام السوري من حيث دعم المقاومة حتى مطلع العام 2011 ، الذي كان يسمح لليسار بتبرير القمع الداخلي ، فقد انهار كل هذا عندما شرع النظام السورى في قتل شعبه. إذاً ما الذي نحاول انقاذه في هذه اللحظة بالذات في شهري نوفمبر وديسمبر 2011؟ النظام السوري الذي سينهض من رماد مواطنيه القتلى لدعم حقوق المواطنين الباقيين ، بينما يقوم بـ " التضحية و المخاطرة بالسلطة" لمحاربة إسرائيل؟ ولماذا نفترض أن رحيل النظام السوري هو رحيل المقاومة ذاتها؟ فجأة ، أصبح اليسار العلماني مغرماً بالفكرة المقدسة التي تقول : " لا معارضة بدون النظام السوري". هذا يعيد إلى الأذهان النقص المشابه الذي نجده في خيال وشجاعة البعض من "المؤمنين". و هذا ليس خبرا سارا، بالتأكيد ليس لليسار التقدمي.
كلُ هذا الذى تقدم هو للتنويه بأنه اذا كنا لا نزال نعتقد بأن النظام السوري هو ينبوع المقاومة ، فنحن مخطئون تماما. فليست سوريا ينبوع المقاومة الأوحد أو الأفضل ، تماما كما أن الدين ليس ينبوع الأخلاق الوحيد أو الأفضل بالضرورة. لقد صار واضحاً بأن النظام السوري لا يقاوم إلا بمعنى مقاومة إرادة معظم شعبه. لقد حان الوقت لنكون قادرين على رؤية ما هو أبعد من البنى التي نسجتها هذه الأنظمة المتهرئة حول حيواتنا وأذهاننا. حتى أنها سجنت أرواحنا، لا بل مخيلتنا. هناك مقاومة خارج سياق النظام السوري كما أن هناك أخلاق خارج الدين وربما بنتائج أفضل في الحالتين. على الأقل بالنسبة لليسار.
وأخيرا ، فإن الأصوات الحرة وغير المقيدة للجماهير العربية هي ينبوع المقاومة (بدون علامات الاقتباسات) ضد القمع الداخلي وضد المخططات والهيمنة الخارجية. إن شجاعة أجساد المحتجين الذين يقفون أمام البنادق والرصاص، تكفي ليرتجف الظالمون والمحتلون خوفا. على المرء أن يكون قادرا على أن يتخيل من جديد. على المرء أن يكون قادرا على الاعتراف بأن التغييرات التى تعصف بالعالم العربي ليست مجرد نهاية لحقبة من الدكتاتورية ، ولكن أيضا بداية الرغبة الكاملة لحرية التعبير عن إرادة سياسية غير مقيدة موجودة بالفعل و قائمة على المقاومة والبناء. كانت هذه الإرادة السياسية قد شملت دائما قدراً من المقاومة الشرسة ضد الاستعمار والإمبريالية كأي محور للمقاومة حالياً ، إلا أنه تم سحقها لعقود وتدجينها لصالح أنظمة فاسدة برعت في المقاومة البلاغية وأكثرها براعة هو النظام السوري، بغض النظر عما قدمه من دعم للمقارمة. ولكن هناك فرق بين تمكين جهات فاعلة غير حكومية ، وبين دمج المقاومة المسلحة مع إرادة الشعب، محليا وإقليميا ، في مسيرة مثابرة ومبدئية نحو نهاية حتمية لهيكلية الاضطهاد والعنصرية. هذه الفرصة آتية ، حتى لو كنا في خضم فوضى بداياتها. يجب علينا ألا نتوقع الكثير في أي وقت قريب بالنسبة للوعي الدقيق بتعقيدات الهيمنة الدولية من قبل شعب منكوب. لا ينبغي أن نتوقع أن تكون لرغباتنا السياسية والفكرية الأولوية قبل أن تتحطم سلاسل القمع التي حطمت كرامة كل فرد تقريباً. مقاومة الاضطهاد ستنبع من النفوس النبيلة. كل شئ سيتم فى وقته. و هناك الكثير مما يجب أن نعمله الآن.
[في الجزء الثالث ، سأناقش التحديات الهيكلية التي تواجه سوريا ، بغض النظر عمن يكون في موقع القيادة.]
[المقال نشر لأول مرة باللغة الإنجليزية على موقع جدلية وترجمته إلى العربية هند الطويل]