كان الصمت السبيل الأنجح في إدارة وتوجيه الرأي العام في العراق. وإن شئتم الدقة فإن فرض الصمت هو التعبير الأمثل، كان هذا شأن وزارة الداخلية دائما، وبالأخص في العهود الجمهورية "المجيدة" ولا شك. وفي التحديد إشارات سائبة يمكن أن تُفيد أني بصدد أن أكتب مدحا مجانيا لحكومات العهد الملكي؛ على الاقل إن كلامي لن يتعلق بتلك العهود، وما كانت عليه حال وزارة الداخلية فيها. مع ذلك، فإن ورقة مهملة محفوظة في وزارة التخطيط، كان لصديق عمل هناك، في عقدين متتاليين، أن يطلع عليها، وهي عبارة عن مطالعة كتبت لصالح موظف عراقي ذيلت المطالعة باسمه، وهو جبار "السايس". المطالعة مرفوعة إلى أمين العاصمة: المفتي. ونقرأ في المطالعة: "لقد عدت بالحصانين إلى الإسطبل، بعد يوم طويل من العمل. وفي الطريق عض الحصان الأسود الأبيض. واستلزم الأمر مني أن أذهب بالحصان المصاب إلى البيطرة. ولقد دفعت من جيبي الخاص أجرة النقل والتطبب... راجيا اتخاذ ما يلزم". وفي وسط الصفحة، نجد تهميشا موقعا باسم أمين العاصمة: المفتي: "جبار، سد الموضوع"!. مثل هذا الأنموذج اختفى في عهود الجمهورية المجيدة. فلم يعد هناك أمين عاصمة يتساهل مع "السايس"، مثلما لم يعد هناك رغبة بقول أي كلام؛ فما كان بوليس الملكية يمارسه ضد أفراد أو أحزاب معينة صارت "الجمهورية" تمارسه ضد الشعب كله. وأخذت الحكومات الجمهورية بالتحول تدريجيا من صيغة الشعب والحكومة، إلى الحكومة الشعبية. وعندي أن هذا الأمر جعل رأسمال "الدولة" الرمزي" مشاعا أمام الجميع، وبإمكان الأقوى أو الاكثر جرأة أن يحوزه حوزا. شخصيا أتصور أن الرغبة في امتلاك هذا "الراسمال"هي التي فتحت أبواب جهنم أمامنا. فصار على الحكومة الجمهورية، بعد قاسم بصورة مشددة، أن تعمد إلى إسكات الأصوات المعارضة. ثم كان عليها أيضا أن تخترع وزارة جديدة، هي الأهم والأخطر برأيي، وزارة لم تتجرأ أية حكومة "جمهورية" على الاعتراف بها والإعلان عنها، إنها وزارة الصمت الوطني. نعم، معظم وزارات العهد الجمهوري قد اعتمدت التسمية الأشهر لهذه الوزارة، وسمتها بـ"وزارة الداخلية"، لكن جوهر عمل هذه الوزارة كان يقوم على أمر آخر، هو فرض الصمت على الجميع. وبتصوري ان اخطر مظاهر هذا الصمت الوطني هو فرض النسيان على مصائر الناس والحكايات والوطن برمته. ثمة عمل منظم رسَّخته هذه الوزارة المرعبة لعقود وعقود ينهض بعمل جوهري هو المحو المنظم لذاكرة الناس، إجبارهم على الاقتناع أنهم بلا ذاكرة، بلا أرشيف. فصار الناس يتقبلون منطق النهي الذاتي: لا تسأل ولا تتذكر. ومن هنا بدأت الصيغة الأهم لمراقبة الذات: هفواتها، أسئلتها، هواجسها، كل هذا يجب أن يتوقف، وبتشديد خاص يجب أن يتوقف الناس عن تذكره. حكاية "أبو طبر" مثلا كانت الصدمة الأعنف بعد مذبحة شباط. واذا كانت المذبحة الأولى صراعا على السلطة، فان حكاية "أبو طبر" هي المروية الأولى لحياة بلا ذاكرة، بلا أرشيف، بلا قصص. والأصل عندي أن "المواطن" صار فرعا لسلوك مؤسسات الحكومة، فهو بلا أرشيف، بلا صور، بلا حكايات. والآن ماذا كتبت سجلات وأرشيف وزارة الداخلية، على سبيل المثال، عن حوادث القتل والتنكيل بعد مجزرة ٦٣؟ هل يجد الباحث في أرشيف هذه الوزارة كلمة أو ورقة هناك؟ اشك! وقبلها نقل لي أحد معاصري اأداث تموز وإسقاط الملكية ما جرى مع صديق له، وكان شيوعيا واعتقل في حملة قاسم ضد الشيوعيين، ولقد أودع السجن عدة سنوات حتى استلمه الحرس القومي. مشهد سريالي بامتياز يذكرني بفيلم عادل إمام «احنه بتوع الاوتوبيس.» تعال إلى السبعينيات، ولنتحدث عن حوادث الانتحار، وهي كثيرة، وذات منطق أو تأويل سياسي، فماذا كتبت سجلات وزارة الداخلية؟ الحق ليس سوى الصمت والتجاهل، وقد يكتب في ورقة تحفظ في سجل، إن سبب الوفاة: قضاء وقدر! وهل سمعت أو قرات أو نقل إلى جنابك أن صحفيا أو باحثا أو مخرجا قد تمكن من قراءة ملف «أبي طبر»، وهل أجرت وزارة الداخلية تحقيقا فعليا بالأمر؟ ثم ما هو مصير الشكاوى، في البدء، على الاقل، عن تغييب الآلاف من العراقيين ممن جرى اختطافهم من الشوارع؟ ماذا بشأن حوادث آذار عام ٩١، أن يخرج إياد السعيدي، مثلا، وهو مدرسي في إعدادية الفيحاء بالحلة ليبحث عن علبة حليب لإبنه الرضيع وقتها، ويعتقل ويغيب، هل فتحت الداخلية تحقيقا بالأمر، وهل كان بإمكان الاهالي أن يشتكوا؟ ولن اتحدث عن مئات الالاف من حوادث القتل الجماعية بعد عام ٢٠٠٣ مما جرى تغليفه تحت كلمة كريهة وتافهة، وهي: الإرهاب..! قبل أشهر قليلة مثلا نُشرت نتائج التحقيق في مذبحة الكرادة، واللجنة التي أعدت التقرير هي لجنة مكلفة من البرلمان، فهل فتحت الداخلية تحقيقا موازيا بحادثة كبرى كهذه؟ بيقين إننا سنكون إزاء نتائج كبرى فيما لو كشفت الداخلية يوما عن أرشيفها الجنائي، وسنرى العجب العجاب. نحن نعرف أن المرة الوحيدة التي كشف بها هذا الأرشيف كان بتوصيات دولية «استعمارية» كانت بصالح أهم دراسة عن العراق السياسي الحديث، وهي دراسة حنا بطاطو، بعدها فإن كل ما يقال ويكتب هو محض استنتاجات واقاويل.. خلا ما كتبه فاضل البراك في كتابه عن المدارس اليهودية والإيرانية، وقد تحول لاحقا إلى دليل اعتمده كثير من القضاة في التحكيم بأصول الملكيات المتنازع عليها في العراق؛ والسبب أن البراك اعتمد أرشيفا مؤكدا هو أرشيف الأمن العام. وسأنقل لكم حادثة شخصية، فبعد السقوط، ألحت شقيقتي علي أن أجلب لها ورقة تؤيد أن لدي ملفا أمنيا وهي تريد أن تفيد منه في إعادتها للوظيفة شأن غيرها، ولأنها أختي الكبيرة، فقد رضخت لها، وذهبت لمقر السجناء السياسيين في الكاظمية، وسالت هناك، فلما كتبوا اسمي لم تظهر أمامه أية نتيجة، عندها سألني الموظف: هل أنت متأكد أن لديك ملفا عند الأمن في بابل؟ أجبته: كل التأكد. قال عندنا ثلاثة جملونات فيها ملايين الملفات والأوراق، تعال بعد ستة أشهر ربما نكون قد انتهينا منها، كل عملنا الآن يخص من وصلت ملفاتهم للمحاكمة وصدر بحقهم حكم.. وبالطبع لم أذهب إليهم مرة أخرى على الإطلاق. فمن وصل إلى ذلك الأرشيف، وعندي أن دولة البعث فقط كانت الوحيدة التي تمتلك مثل هكذا أرشيف للأسباب المعروفة، وعندما نعرف أن أرشيف البعث قد نقل إلى أمريكا، نعرف عندها أن لا سبيل لأن نعرف ما حدث.. وفي كل الاحوال، فإن ذلك الأرشيف هو بالتأكيد أرشيف البعث، وهو ليس أرشيف وزارة الداخلية!
والآن هل يرغب هذا الموطن أن يعرف بالضبط ماذا حدث؟ شخصيا أنا أشك!!