كانت اللحظات الأولى في السماء قبل الهبوط في مطار أو أر تامبو الدولي في مدينة جوهانسبيرغ توحي بأن شيءً ما تخبئه "مدينة الذهب"، أكبر مدن جنوب أفريقيا مساحة، وصاحبة النضال الطويل ضد الاستعمار الأبيض ونظام الفصل العنصري الذي استمر ستة وأربعون عامًا، جئت إلى هنا مع مجموعة من شباب وشابات فلسطينيين من ثمانِ دول مختلفة لنتعرف على قصة نضال الجنوب أفريقيين من السود ضد الاستعمار ممن مازالوا على قيد الحياة، ونستمع إلى قصص من رحلوا منهم وتركوا خلفهم إرثًا نضاليًا يتعلمه العالم أجمع، ولنتعلم منهم ما يمكن تطبيقه في صراعنا -نحن الفلسطينيون- المستمر مع الاستعمار الصهيوني لبلادنا. على مدار عشرة أيام متواصلة سيكون كل شيء نعيشه مُدهش ومثير للاهتمام، أحداث كثيرة سنسمع بها لأول مرة ومشاهد قد لا نعيشها مرة أخرى في الحياة.
"هل يأذن الحرّاس لي بالانحناء
فوق القبور البيض يا إفريقيا؟
ألقت بنا ريح الشمال إليك
واختصر المساء"
محمود درويش
"مستوطنات" على الطريق
صعدنا إلى الحافلة التي ستقلنا إلى "ميزانزي" وهو اسم نُزلنا في إحدى ضواحي جوهانسبرغ ويعني "أفريقيا" باللغة الأفريكانية، كان سهلًا علينا في الطريق إلى "ميزانزي" تمييز مظاهر الاستعمار دون أي يلفتنا إليها أحد، مقود السيارة على اليمين والبيوت على شاكلتين إحداهما مصطفة بجانب بعضها البعض في مشهد يشبه المستوطنات الصهيونية في فلسطين المُحتلة والنوع الآخر أشبه بالعشوائيات التي يسيطر الفقر على سكانها. الهواء نقي جدًا في الخارج ليس كالمدن المزدحمة التي جئنا منها "بيروت، رام الله، إسطنبول، الدوحة، أثينا" وغيرها، في السيارة شغلت أغنية "waka waka" الشهيرة التي غنتها المغنية الكولومبية شاكيرا في افتتاح مونديال 2010 بجنوب أفريقيا، فهي الأغنية الوحيدة التي أعرفها عن جنوب أفريقيا فهي الأغنية الوحيدة التي أعرفها عن هذه البلاد، لنعرف لاحقًا أن السود الجنوب أفريقيين ينفرون من هذه الأغنية خصوصًا ولا يعتبرونها تمثلهم، لأن مغنيتها "البيضاء" جاءت من آخر العالم لتُغني لافتتاح أهم حدث رياضي عالمي في بلادهم، فهم -أصحاب الأرض الأصليين- أولى بالغناء منها، ولديهم ثقافتهم الخاصة ورقصهم التقليدي المعروف، لكن ما معنى الاستعمار إن لم يختبئ في التفاصيل ؟
انعطفت الحافلة عن الطريق الحُر باتجاه الأحياء المصطفة بيوتها جنبًا إلى جنب وشاهدنا بوضوح كيف تُغطى أسوار البيوت هُنا بالأسلاك الشائكة والمكهربة وكان من السهل علينا مقارنتها بالمستوطنات الصهيونية في فلسطين من خلال طريقة اصطفافها وبنائها. واستمر شكل البيوت هكذا حتى وصلنا إلى النُزل المُعلق على بابه علم فلسطين الذي ظننّا بدايةً أنّه عُلِّق ترحيبًا بنا، ثم عرفنا لاحقًا أنهم فلسطينيين الأصل.
نضال طويل
على مدار عشرة أيام قضيناها في "ميزانزي" متنقلين إلى أماكن مختلفة، تضمن برنامج وفدنا الشبابي المُنظم بواسطة حركة الشباب الفلسطيني PYM جولات بين أحياء جوهانسبرغ ومراكز أبحاث ومؤسسات حقوقية والتقينا بتجمعات شبابية وسياسة متنوعة الأفكار والاتجاهات وزرنا متاحف المدينة التي تُخلد الإرث النضالي لجنوب أفريقيا، و استمعنا إلى قصص النضال بأشكاله المُتكاملة، سياسيًا، مدنيًا، وعسكريًا. بالإضافة إلى تجارب حركة المقاطعة التي قادها النشطاء الجنوب أفريقيين ضد نظام الأبارتهايد الذي شمل فناني وكتاب العالم ومؤسساته الثقافية لمطالبتهم بمقاطعة جنوب أفريقيا ثقافيا في القرن الماضي.
استمعنا إلى محاضرات عدة ناقشت المراحل المختلفة لجنوب أفريقيا منذ أن قدم إليها المستعمرين الهولنديين في القرن السادس عشر وتبعهم البريطانيون في القرن الثامن عشر وصولًا إلى تطبيق نظام الفصل العنصري من العام 1948 حتى عام 1993 الذي شكل علامة فارقة في تاريخ النضال الجنوب الأفريقي ثم تحول النضال من شكله السلمي إلى المُسلح انتهاءً بالمصالحة التاريخية بين البيض والسود و تنظيم أول انتخابات تعددية بتاريخ جنوب أفريقيا عام 1994، التي فاز بها المؤتمر الوطني الأفريقي بزعامة المناضل الجنوب أفريقي نيلسون مانديلا الذي أمضى أكثر من ربع قرن في سجون الاستعمار.
"ألقت بنا ريح الشمال إليك يا إفريقيا..
ألقت بنا ريح الشمال لنكون عشاقا وقتلى.
وبدون ذاكرة ذكرنا كل شيء
عن ملامحنا ووجهك
فوق خارطة الظلال"
محمود درويش
عشوائيات
تجولنا لعدة أيام بين أحياء السود في جوهانسبرغ للتعرف على طبيعة حياتهم وحالهم بعد انتهاء الفصل العنصري منذ والي عشرين سنة والذي يبدو في الحقيقة عكس ذلك حيث يتضح الأمر في التفاصيل الصغيرة لحياة الناس.
يتكون عدد سكان جنوب أفريقيا من حوالي 57 مليون شخص يشكل السود غالبيتهم بنسبة 80% والبيض بنسبة 8% وهم الطبقة الغنية وأصحاب النفوذ الاقتصادي، بينما يتكون البقية من الملونين، والهنود الذين جاء بهم الاستعمار البريطاني لاستخدامهم أيادي عاملة في جنوب أفريقيا وتعتبر الجالية الهندية هناك أكبر جالية لهم خارج الهند ويشكلون ما نسبته 2.5% من تعداد السكان العام، يسكن حوالي 14 مليون من هؤلاء السكان في ولاية غوتينج Gauteng التي تتبع لها جوهانسبرغ.
ومثالًا على الفصل العنصري الذي تعرض له السود في بلادهم، منعهم قانون الأراضي لعام 1913 من امتلاك أو استئجار الأراضي خارج "المحميات" المحلية التي كانت مخصصة ليسكنوا فيها ورُحل إليها من لا يملكون وظائف في الشركات أو بيوت في المناطق الحضرية وسط المدن، وكانوا بحاجة لاستصدار تصاريح لدخولهم تلك المناطق المركزية بحثًا عن العمل، وبعد إلغاء قوانين الفصل العنصري في التسعينات نمت المدن الكبرى مثل جوهانسبرغ وبريتوريا وأصبحت مختلطة أكثر عرقيًا لكن بعض السود مازالوا يسكنون في نفس الأماكن التي كانوا فيها وتعتبر تجمعاتهم الخاصة بهم وهي في وضع أشبه بمناطق العشوائيات في المُدن. ومن سطح بناية في هذه الأحياء الفقيرة يمكن رؤية البنايات الشاهقة والأبراج وسط جوهانسبرغ حيث يرتاد البيض الذين يشكلون نسبته 12.3% من عدد سكان المدينة.
سُويتو الانتفاضة
ذهبنا إلى بلدة سويتو Soweto إحدى ضواحي جوهانسبرغ الشهيرة و التي أقيمت عام 1930 من قبل حكومة الفصل العنصري "البيض" لينقلوا إليها السود بعيدًا عن مركز المدينة، وتجمّع فيها أعدادًا كبيرة من الطبقة العاملة التي استمرت في نضالها ضد هذا النظام لسنوات طويلة، كان أبرز نضالاتهم أحداث "انتفاضة سويتو" في يونيو/ حزيران 1976 التي اندلعت نتيجة لفرض الحكومة التعليم بلغة "الأفريكانا" وهي لغة الأقلية البيضاء، إذ خرج سكان البلدة في احتجاجاتً واسعة قادها الطلاب مطالبين بأن يتعلموا بلغتهم الأم، لتواجههم الشرطة بإطلاق النار المباشر في انتفاضة استمرت لأسابيع قُتل فيها حوالي 600 متظاهر وجُرح الآلاف، كان أبرزهم
الطفل هيكتور بيترسن Hector Pieterson (١٢) عامًا الذي انتشرت صورته مُدمّيًا حول العالم وهو محمولا بواسطة صديقه الذي تنهمر الدموع من عينيه، حيث ساهمت الصورة الشهيرة في تعريف العالم بالنضال المستمر في جنوب أفريقيا، ولاحقًا اعتبر يوم مقتله يومًا وطنيًا للشباب.
بعد حوالي أربعة عقود من انتفاضة سويتو الشهيرة، تجولنا داخل الحي وبدت الحياة لنا بسيطة بقدر تعقيدها في الواقع، يجلس السكان أمام منازلهم، وعلى أعمدة الشارع يتكئ شبابًا تُقهرهم البطالة التي تبلغ نسبتها أكثر من 30% في سويتو حيث يبدو الحصول على فرصة عمل أمرًا صعبًا، تظهر رسومات جرافيتي من الثقافة الأفريقية على الجدران، ويلعب الأطفال كرة القدم بمشهدها البسيط على تقاطع شارعين، تمامًا كما كنّا نلعبها في المخيمات الفلسطينية، وتنتشر صالونات شعبية لتصفيف الشعر داخل خيم قماشية صغيرة ومكعبة الشكل، يبتسم الناس لبعضهم وزوارهم بشكل لطيف وليس في سويتو فقط بل في جنوب أفريقيا بشكل عام، وتزداد ابتسامتهم جمالًا عندما يعرفون أننا من فلسطين التي تشبههم في المظلومية وتتشارك معهم في أساليب النضال.
وصلنا إلى منزل صغير في إحدى شوارع سويتو المُمتدة حتى نهايتها، وتصطف فيها البيوت المغطاة بألواح الكرميد والصفيح بجانب بعضها البعض، التقينا في المنزل بأشخاص من الحزب الشيوعي الجنوب أفريقي "SACP" لنسمع منهم وجهة نظر مختلفة حول رأيهم في تجربة "المناضلين" في بلادهم في المصالحة مع حكومة الفصل العنصري، وتشعب النقاش حول نقاط الالتقاء بين قضيتهم والقضية الفلسطينية، استمعنا لحديث "أبو سمرة" وهو شاب عشريني من شبيبة الحزب الشيوعي الجنوب أفريقي سُمي بهذا الإسم أثناء إقامته لفترة في مدينة الخليل المُحتلة جنوب الضفة الغربية، حدّثنا عن التشابه بين القضيتين من حيث معاناة أصحاب الأرض الأصليين من الاستعمار ونتائجه على حياتهم اليومية مستخدمًا التعقيدات الكبيرة للحياة اليومية والفصل العنصري الذي يمارسه الاحتلال تجاه الفلسطينيين في مدينة الخليل المُحتلة، وأطلعنا على تجربة أهالي سويتو في تنظيم الحياة اليومية للسكان ومشاركتهم في التجربة السياسية المحلية، ثم بعد ذلك استمعنا لقصائد بالإنجليزية عن النضال ضد الاستعمار كتبها أصدقاء الحضور.
بمثابة خاتمة
أريد ميلادًا جديد
وأريد نافذة جديدة
لأحبّها سرّا وتقتلني علانية
وأرحل عنك.. يا إفريقيا!
محمود درويش
لا يمكن اختصار هذه التجربة بتدوينة أو تدوينتين، ولا يُمكننا معرفة البلاد من زيارةٍ أو أكثر، فعلى اتساع جنوب أفريقيا جغرافيًا وحضاريًا، وملئ تاريخها بالنضال ضد الاستعمار، تتنوع النجاحات والإخفاقات التي تخللت تجربتهم لتنتقل إلى من يحتاج أن يقتدي بها في أول طريقه في النضال مقارنة بما جرّبوه.