كتبتُ عن رياض الصالح الحسين مرتين. المرة الأولى حين كنتُ في الخامسة والعشرين، أي أصغر من رياض بثلاث سنوات. والثانية حين صرتُ في التاسعة والعشرين، أكبرُه بسنة. والآن أكتب عنه للمرة الثالثة وأنا أكاد أنهي الرابعة والثلاثين، وهو ما يزال في الثامنة والعشرين. نكبر ويبقى رياض في الثامنة والعشرين. نقل إلينا رياض عدوى الهوس بالأرقام، فبتنا نحسب أعمارنا مقارنةً بعمره، فيما كان يحسب عمره بالبرتقال وبالخيبات وبالحب. ولكن لو أردنا الالتزام بمنطق الواقع البغيض، سنجد أنّ رياض سيكون في الخامسة والستّين الآن لو لم يختطفه الموت فجأةً قبل سبعة وثلاثين عامًا. حتّى الخمسة والستّين تبدو رقمًا باهتًا بالمقارنة مع الحياتين اللتين عاشهما رياض حين كان حيًا وبعد رحيله المبكّر. إذ أنجز في حياته الأولى ثلاث مجموعات شعريّة، وأنجز بعد رحيله مجموعةً أخيرة وحضورًا يكاد لا يضاهيه حضور أيّ شاعر آخر في الشّعر السوريّ واللبنانيّ على الأقل. أعرف شعر رياض منذ أكثر من خمسة عشر عامًا، ولكن لم أجرؤ على الكتابة عنه برغم قراءاتي العديدة لأعماله التي لم تكن قد طُبعت بعد في مجلّد واحد. لم أكتب عنه إلا حينما بقيتُ وحيدًا معه. كانت قصائده الكتابَ الوحيدَ الذي قضيتُ معه ليالٍ طويلةٍ في الخدمة العسكريّة. كانت سلواني الوحيد في مدينة مجهولة لم أُحببها يومًا. كتبتُ مقالةً ساذجةً عن افتتاحيّاته: عن القصائد الأولى في كلّ مجموعة من مجموعاته على أمل أن أستكمل الكتابة عنه لاحقًا. سرقتنا الحياة كما سرقه الموت، ولازمني سلوانه لسنوات أخرى إلى أن عاودتُ الكتابة عنه بعجالة كما لا يليق به، وإنْ كنتُ قد ظننتُ وقتها أنّني التقطتُ سرّ تفرّده: رياض لا يكبر، مثله مثل حنظلة ناجي العلي. ولكنّ رياض يباغتنا دومًا، حتى حين نظنّ أنّنا نعرفه. ولهذا ربّما بقي غريبًا وبعيدًا من النقّاد الذين اكتفوا بكتابات سريعة عنه، وكما كنتُ سأفعل هنا. كنتُ أريد أن أكتب مقالةً واحدةً عن رياض أحاول فيها تسديد دَيْني حيال حضوره البهيّ في حياتي. ولكنّه تمرَّد كعادته، وسيكون محور مقالات عديدة؛ وستتناول هذه المقالة مجموعته الأولى «خراب الدورة الدمويّة».
ربّما لا يكون الشّعر شعرًا إلا حين يمزّق ويحطّم. وربّما لا يكون الشّاعر شاعرًا إلا حين يقلب طاولات الشّعراء السّابقين ممّن أدمنوا خَدَر الجلوس واعتادوه. ولعلّ الفارق بين الشّعراء هو في مدى الوعي بوجوب التّحطيم وقلب الطّاولات. كان أدونيس أشدّ الشّعراء السوريّين وعيًا في وجوب التّحطيم، ولذا بقي رقمًا صعبًا في المشهد الشعريّ السوريّ والعربيّ في القرن العشرين، إذ لم تعد القصيدة على ما هي عليه بعد تحطيمه لكلّ ما ومَنْ سبقه، ولم يجد مريدًا يُعادِل قوّته ووعيه فبقي بلا مدرسة فعليّة، وإنْ خلط النقّاد بينه وبين مقلّديه الأدنى منه بدرجات. كان محمد الماغوط أقلّ وعيًا واكتراثًا، ولكنّه لم يغفل عن وجوب شقّ طريق جديدة في الشّعر، فكان الماغوطُ وكانت قصيدتُه التي تسلّلت إلى قصائد الآخرين كما خرجت منه: جارحة، خشنة، قاسية، ما لبثت أن ترهّلت مع ترهّل شاعرها، فحافظت على الشّكل الظاهريّ وتفتَّتَ جوهرها إلى أن تلاشى تقريبًا مع رحيل صاحبها. أما رياض فلم يأبه للتّحطيم ولا للطاولات ووجوب قلبها. ولكنّه – من دون أن يقصد على الأغلب – كان يهمس قصائده ويمضي بصمت، فتنقلب الطاولات للمرة الأخيرة لأنّ رياض آخر شاعر متفرّد في تاريخ الشّعر السوريّ، وكلُّ مَنْ بعده كانوا أفرادًا ضمن تيّارات فيما كان هو تيّارًا لوحده. قلَّد كثيرون أدونيس وأخفقوا، وقلَّد كثيرون الماغوط فانكشفوا، وقلَّد كثيرون رياض فانطلت الحيلة على المتلقّين بغالبيّتهم، نقّادًا وقرّاءً، لأنّ قصيدة رياض تُتيح التّماهي في ظاهرها ولكنّها قصيدةٌ لا تكتفي بالشّكل أو المفردات أو المزاج، بل تلتحم بشاعرها وقارئها لتكون قصيدةً أصيلةً. قرأتُ مرةً تعليقًا على قصص تشيخوف من قارئةٍ سئمت القصص لأنّها «مُقتَبَسةٌ من حكايا المسلسلات». لم تدرك القارئة ربّما أنّ الاقتباس هنا معكوس، لأنّ تشيخوف أقدم من المسلسلات، ولكنّها مُحقّةٌ في الوقت ذاته لأنّ المسلسلات سرقت ظاهر قصص تشيخوف فكان التّشابه. ولكنّها كانت ستتخلّى عن رأيها العابر لو غاصت في تشيخوف وأعماله، لتدرك أنّه لا يُقلَّد. وكذا الأمر بالنّسبة إلى رياض الصالح الحسين وقصائده: سيجد قرّاء كثيرون بأنّ قصائده مبثوثةٌ في قصائد من جاؤوا بعده، ولذا ستبدو القراءة الأولى لقصائده متعثّرة؛ نحن نقرأ ما نعرفه أصلًا، ولكنّ إعادة القراءة (والشّعر لا يعترف ولا يقبل بقراءة واحدة) ستكسر هذا القناع المهلهل، بحيث نرى الجوهر الفعليّ. سندرك أنّ تفرّد قصائد رياض يكمن في استعصائها على التّقليد برغم سهولة اقتباسها. ليس القالب ما يجعل القصيدة قصيدةً، بل الجوهر. ثمّة معجمٌ كاملٌ بات ملكًا لرياض بمعنى ما، كما بات العشب ملكًا لوالت وتمن: القمر، البرتقال، الأوكسجين، الأشجار، التانغو؛ بل وحتّى القُبلة والقلب والحبّ. لم تعد هذه المفردات كما هي عليه بعد أن كتبها رياض، ولذا فإنّ كلَّ قصيدةٍ كُتبت بعد رياض ستكون قصيدةَ رياض قبل أن تكون قصيدة شاعرها، أو ستكون – في حالات نادرة – قصيدةً تسعى عمدًا لأن تصبح غريبةً عن جوّ قصائد رياض بالمطلق.
لعلّ أبرز ما تبثّه قصائد رياض في القارئ هو إحساس الدّهشة. هذه هي السّمة المُلازِمة الأبرز منذ مجموعته الأولى «خراب الدورة الدمويّة» (1979). يبدو عالمه غرائبيًا مدهشًا برغم عاديّته وواقعيّته، وبرغم مفرداته المتداولة. ما الذي نقرؤه إذن في هذه القصائد؟ نقرأ رياض الصالح الحسين. يكتب رياض انطلاقًا من نفسه وينتهي في قصيدةٍ شخصيّةٍ بقدر ما تكون قصيدةً شاملةً. ويستند هذا الانتقال إلى حساسيّة مرهفة باللغة وبالمفردات وبالحياة وبالموت. لا يكتفي رياض بقلب معاني الكلمات أو بمضاعفة دلالاتها، بل يسعى دومًا إلى التّماهي مع الأشياء من أجل الكتابة عنها. يتماهى مع الأشياء ولا يتماهى مع الأشخاص لأنّه لا يودّ كسر عزلته. يُشبّه نفسه بالأشياء، ويصبح جزءًا منها، ويحسب ساعات وأيام عمره بها. ولكنّه يبقى بعيدًا من الأشخاص، بل وحتّى من نفسه، فيحكي عن نفسه وكأنّه آخر، وكأنّه يتأمّل نفسه لا في مرآة بل عبر واجهة زجاجيّة أو على خشبة أو شاشة. الأشياء في عالم رياض لا تعني الجمادات، بل هي كائنات حيّة بمعنى ما، تُبَثّ فيها الحياة عبر النّعوت والتّشابيه. الأشياء كائنات حميمة عنده ولا «تتشيَّأ»؛ فالتشيُّؤ يكون لكلّ ما لا يستسيغه (ورياض لا يُبطن مشاعره، ولا يتوانى عن التّصريح بما يحبّ وبما يكره). الجمادات ليست الأشياء بل هم الأغنياء والسّلطويّون والقادة الذين يكونون جزءًا جامدًا من أشيائهم الحيّة: «بعد قليل ستتقدّم البذلة الأنيقة/ التي تحتوي رجلًا لامعًا»؛ «لوحات تشكيليّة فاشلة/ ربطة عنق ناجحة». أمّا البسطاء فلا معنى للأشياء في دنياهم؛ الأشياء متماهيةٌ معهم كما تماهت مع شاعرهم، أو خرجت من دنياهم تمامًا لتبقى الأجساد فقط بكلّ رهافتها وهشاشتها: «أحبّ صبيّةً بعيون وأضراس وأنف وقدمين/ صغيرتين مُقشَّرتين بمساحيق غسل الثّياب/ وفي إحدى زوايا غرفتي قميصٌ وبنطالٌ/ وحذاءٌ للرقص زائد عن الحاجة».
عالم رياض الصالح الحسين عالم حبّ وعالم مدينة في آن، ولذا فهو عالمٌ محكومٌ بالخيبات. لا يمكن حتّى للشّعر أن يزاوج البراءة والوحشة، ولا يمكن حتّى لرياض أن يُناغِم بين همسَيْن متناقضين: همس الحب وهمس الرعب المدينيّ. يمكن لنا ببساطة أن نلتقط خلّو قصائده من الصّوت ومن الصّراخ، وكأنّ رياض ارتضى أن يبقى (كما كان في حياته الواقعيّة) بلا صوت نُطقًا أو سمعًا حتّى في عالمه الشّعريّ. ولذا كان عالمه يضجّ بالألوان والأشكال وبالكلمات المكتوبة لا المنطوقة، حتّى في الحوارات التي نحسّ مباشرةً أنّها مرسومةٌ أو منقوشةٌ بحيث تُرى وتُمَسّ فقط. نقرأ القصائد ولا نحسّ بالصوت لأنّه – ببساطة – غير موجود، وكأنّما القصائد مشاهد صامتة على شاشة. ولن يولد الصوت إلا بعد الموت. الاختلاف هنا أنّ الموت ليس نهايةً لدى رياض بل هو بدايةٌ لعالم آخر قد يكون أكثر حريّة. موتى رياض يرقصون، ويغنّون، ويتسامرون، ويتلوّثون؛ والموت صديق يمرّ أحيانًا ليشرب القهوة، فإنْ لم يجدها غادر ببساطة بلا إزعاج، ولكنّه سيترك وحشةً نتلمّسها بعد رحيله، حين ندرك تفاهة حياتنا التي لا تُغري أحدًا بالاقتراب منها حتّى لو كان موتًا. عالمٌ موحشٌ يُلهب الجراح ويذكّرنا بها على الدّوام، عالمٌ «لا نبكي فيه ولا نبتسم»، عالمٌ ملعونٌ بالرماديّ الذي لن يهشّمه إلا الحب والرقص والموت. يترافق الحب دومًا عند رياض بالهمس وبالموت: «أن تضغط على الزّناد مثلما يضغط عاشقٌ بائسٌ بكفَّيه على كتف حبيبته». ويحاول رياض دومًا الهرب من رماديّة حياته بالحب وإنْ كان الحب مُلازِمًا للموت: «العدالة هي أن آكل رغيفي بهدوء/ أن أذهب إلى السينما بهدوء/ أن أغنّي بهدوء، أن أُقبّل حبيبتي بهدوء وأموت بلا ضجّة». لا مكان للريف أو الجبال أو البحر في عالم رياض المدينيّ إلا على نحوٍ عابر. كلُّ ما يبقى للهرب هو السّماء فقط، ولا فرق هنا إنْ كانت تدلّ على الطيران أو الموت. مدنٌ تعجُّ بالقطارات والجنود والسلطويّين والجدران والعمّال والقنابل والقهر، مدنٌ ليست أكثر من صناديق تضيق وتضيق إلى أن تسحقنا. هذا ما حاول رياض إفهامنا إياه منذ عام 1979، وما أعاد سعد الله ونّوس تذكيرنا به عام 1996 حين كتب مسرحيّته بعنوانها القاسي الموحي: «بلاد أضيق من الحب».
يكتمل ثنائيّ الحب والموت، أو ربّما يتقاطعان، بكلمة ترد صراحةً وضمنًا في قصائد «خراب الدورة الدمويّة»: الحريّة. نحسّ بالنّقص الذي يُخلّفه غياب الحريّة من عنوان المجموعة: «خراب الدورة الدمويّة»، الذي يعني انتهاء الجسد، ويعني بالتالي انتهاء عالم الأشخاص ورهافتهم. وتتضاعف الدّلالة مع الإهداء الذي يبدو عامًا للوهلة الأولى، ولكنّه يصبح أشدّ خصوصيّة كلّما توغّلنا في القراءة وإعادة القراءة: «إلى الدنيا والناس». مدينة قصائد رياض مدينةٌ كابوسيّة تعجُّ بالقهر والكبت والعسكرة والرعب. مدينة مصيدة تقبض على أعناق الجميع. مدينة متاهة لا نعلم ما الذي تُخفيه لنا أزقّتها وجدرانها. مدينةٌ ظالمةٌ لا تسمح لنا حتّى بأن نسأل الأشجار «عن نكهة الفؤوس في الخاصرة». مدينة يلفُّها صمتٌ قاتلٌ كالسّجن. ربّما نجد مفاتيح هوس رياض بالحرية (أكانت حريّة شخصيّة في الحب أو حريّة عامةً للبلاد) في فترة اعتقاله التي سبقت نشر مجموعته الأولى، وربّما نجدها في المناخ الكابوسيّ العام الذي خيَّم على سوريا في نهاية السبعينيّات. وما السبعينيّات في سوريا إلا نتائج الكوارث التي تلاحقت منذ فترة الانقلابات. سنجد العالم الكابوسيّ ذاته والحساسيّة اللغويّة العالية ذاتها لدى زكريّا تامر في مجموعتيه «صهيل الجواد الأبيض» (1960)، و«ربيع في الرماد» (1963)، حيث الشّوارع متاهات وفِخاخ، وحيث العالم بلونين شرسين: أسود وأبيض لا ينتجان إلا رماديًا كالحًا. وسنلاحظ لدى تامر ولدى رياض أنّ المرأة والحب هما المهرب الوحيد، وهما مصدرا اللون الوحيدان. ومن هنا كان التّماهي بين المرأة وحرية البلاد في قصائد «خراب الدورة الدمويّة»، حيث البلاد كسكّانها مُشوَّهة، جرداء، عطشى، تنتظر الحرية-النّهر: «ونحن أيضًا – أردتُ أن أجدّد كآبتي أمامه – نبكي على نوافذ تعاستنا/ منتظرين أن يأتي نهر الحريّة/ لنشرب منه إلى الأبد»؛ «أيّتها الرائعة الخاوية حتّى من جسدي/ أيّتها البلاد المثقوبة كالخرز أو كالجراح/ ها أنذا أعطيكِ نهرًا قبل أن أغتسل فيه».
نصل إلى أعذب القصائد، وإلى أقصى درجات امتزاج المرأة والحب والموت والحريّة والبلاد، وإلى تجلّيات الأغاني والأصوات والألوان، وإلى المرة الأولى التي يتخلّى فيها رياض عن مراقبته لنفسه عبر شاشة ليتماهى مع ذاته، وإلى فسحة الطيران الوحيدة خارج قفص المدينة، حين نقرأ القصائد التي نتعرّف فيها إلى «الآنسة س». يَرِدُ اسمها مرةً واحدةً: سمر. ونعرف من أصدقاء رياض بأنّها سمر المير. ولكنّ هذا ليس مهمًا، لأنّ س هي س، وهي أكبر من حصرها في امرأة واحدة. «س» هي نعيم الأسئلة في جحيم الضّيق الخانق. يتوازى حضور «س» مع الأسئلة التي تعني ضمنيًا وجود حوار في بلاد الصوت الواحد، واللون الواحد، والواقع الواحد. يبلغ رياض أعلى مستوى رهافة في مجموعته الأولى حين يكتب عن «س» وإليها. يتعرّف إليها، ويعرّفنا بها. يتعلّم منها، ويتركنا نتعلّم منها. نتلقّن منها معنى الأرض التي تكون سريرًا وجرحًا، ومعنى القُبلة، ومعنى البحر، ومعنى الحب، ومعنى الجسد. ونتلقّن منها في الوقت نفسه معنى الموت، ومعنى الفراق، ومعنى الانتحار، ومعنى الوحشة. يبدأ الزمن بـ «س» وينتهي بها، فيعود رياض ونعود معه إلى واقع المدينة القاسي. ما من شيءٍ قبل «س»: كانت «س» فكانت القصائد. وقصائد مجموعة رياض الأولى كلّها تمهيدٌ لقصائده عن «س». مع «س» يتغيّر معنى الموت للمرة الأولى: «كانت يداها تضيقان تضيقان/ حتّى تصبحان بحجم جثّة/ وعيناها تتّسعان تتّسعان حتّى تصبحان بحجم قُبلة». ومع «س» سيشهد رياض، ونشهد معه، تدفّق مياه الحريّة: «حينما كنتُ صغيرًا كغرسة الحمّص وأليفًا كالهرّة/ سألتْني سيّارةٌ هرمةٌ/ بعد أن لطَّختْ وجهي بالطّين:/ بماذا ستغتسل في المستقبل؟/ آنئذٍ، فتحتُ البابَ ودخلتْ س». وبما أنّ الوِصال متداخلٌ مع الفراق، وبما أنّ القرب متداخلٌ مع البعد، وبما أنّ المرأة تعني الحب وتعني البلاد، كانت «س» لرياض بقدر ما كانت ليست له. كانت له وكانت للجميع كالحريّة وكالطّيران. بدأ رياض يحسّ بخيباته أكثر حين تذوّق نعيم «س»، بات يتلمّس خواء الحياة حين غمره بهاء «س». وبما أنّ «س» أقصى تجلٍّ من تجلّيات الحب والموت والحريّة، كان ينبغي أن تكون عابرةً مثل حلم مهما طال حضورها.
بدأ رياض كتابة قصائد مجموعة «خراب الدورة الدمويّة» حين كان في الثّانية والعشرين، حين كان عمره «اثنتان وعشرون برتقالةً قاحلةً»، وحين كان يردّد لنفسه: «أنا الرجل السيئ/ كان عليّ أن أموت صغيرًا». وانقضى عام وصار في الثّالثة والعشرين وغرق في «س» ثم ودّعها وترك على عنقها «دمعةً حارّةً كالفلفل». مات رياض صغيرًا ولكن بعد خمس سنوات، بعد أن انتهى جحيم السبعينيّات وبدأ جحيم أشرس في الثمانينيّات. أربعون عامًا مضت منذ صدور «خراب الدورة الدمويّة» التي بشّرت بولادة شاعرٍ متفرّد علَّمنا كيف نهمس حين نحبّ وكيف نهمس حين نخاف. أربعون عامًا مضت منذ نشر قصائد غيَّرت رؤيتنا للقصيدة، وتسلّلتْ إلى مفرداتنا اليوميّة بحيث بات لها نكهةٌ أخرى تعبق بالدّهشة. علَّمنا رياض الصالح الحسين الدّهشة والحب. ولعلّه مات صغيرًا لأنّه أدرك معنى الحب في مدن رماديّة تضيق بالحب وبالحريّة وتلاحقهما باللعنات.