كايلي بروديريك
أسامة مقدسي، عصر التعايش: الإطار التوافقي وقيام العالم العربي الحديث (بيركلي: جامعة كاليفورنيا للنشر، 2019).
يسعى أسامة مقدسي، في كتابه "عصر التعايش: الإطار التوافقي وقيام العالم العربي الحديث"، إلى تغيير وجهة المفاهيم عن الفروقات الطائفيّة في مشرق الشرق الأوسط، خلال القرنين التاسع عشر والعشرين.
ويعارض مقدسي الرأي الاستشراقي الذي يعتبر بأن النزاع الطائفي متجذّر داخل المجتمعات العربية على شكل ظواهر متكررة، مبنية على أحقاد تاريخية ثابتة لا تتغير. وهو، في الوقت عينه، يرى إشكالية في إسقاط الرومانسية على تاريخ الشرق الأوسط على أساس أنّه كان متعايشاً بشكل متأصل، وذلك حتى بداية الإمبريالية.
عوضا عن ذلك، يعتبر الكتاب أن التعايش المذهبي كان يتكون من التسامح والتفاعل المشترك بناء على لامساواة أساسيّة بين الأتباع. وقد تغير هذا التوازن مع التدخل الأوروبي في أواخر الفترة العثمانية، متحدّيا سيادة الإمبراطورية.
وفيما كانت الإمبريالية الأوروبية تزداد توغلا في العالم العثماني، كان الباب العالي يصارع الاحتجاجات الفلاحية من جهة، ومن جهة أخرى اندلاع نزاعات مذهبية هزّت الإمبراطورية العثمانية السابقة.(1)
وأدّت محاولاته في تلك الفترة لتهدئة الإمبرياليين الأوروبيين من جهة، وأبناء رعيّته من جهة أخرى، إلى عواقب دائمة على التعايش.
وفي ظلّ تلك الظروف، تبنّى العثمانيون، إزاء رعاياهم، سياسة مساواة اجتماعيّة وقانونيّة في موازاة تبعيّة سياسة للسلّطان المطلق-في تجسيد مبكر لـ "الإطار التوافقي" عبر "التنظيمات". وأدّى ذلك التعايش القانوني والاجتماعي إلى تشابك "الأدوات" العثمانيّة والأوروبيّة والعربية لتطبيق بنود المساواة (7). وكانت لذلك أيضا أبعاد حكوميّة، ونخبويّة، وشعبيّة. وتكوّنت تلك الأشكال القانونية والسياسية في الأعلى وفُرضت عبر التنظيمات، ثمّ لاحقا في الدول الوطنية في مرحلة الانتداب. وفي أوجهها الشعبيّة، نشرها المثقّفون المشارقة كل في مجتمعه. واستمرّ "الإطار التوافقي" كفكر وأسلوب حكم ونظام سياسي وقانوني جديد، حتى قضت نكبة العام 1948 على قابليته للوجود بصورة نهائية وتامّة. وتُعتبر مداخلة مقدسي، في نبذ فكرة أنّ الطائفيّة هي عنصر مكّون (بنيوي) لتاريخ الشرق الأوسط، ملحّة تاريخيا وسياسيّا. ويفتح عمله الباب للمزيد من البحث والاستكشاف حول كيفيّة قيام الناس العاديين بتنفيذ الإطار التوافقي، وتحدّيه وتشكيله.
في الجزء الأوّل، يحاجج مقدسي أن المزيج الفريد من الأزمات الّتي أُثيرت في القرن التاسع عشر أدّى إلى قيام الإطار التوافقي. أمّا أزمة السيادة العثمانيّة (2) في منتصف القرن التاسع عشر كما جيوب العنف المذهبي، لاسيّما في العام 1860 في سوريّا ولبنان، فقد أدّت إلى قيام موجبات ملحّة جديدة للتعايش في المشرق. دفعت تلك التطورات إلى بناء إطار توافقي انتشر عبر الامبراطوريّة. وكان التصّور العثماني لـ "التعايش" يتضمّن مفاهيم محافظة حول الحدود والركائز الهرمية الدينيّة والاجتماعيّة والعرقيّة إلى جانب مفاهيم جذرية. (10) تتخطى الانشقاقات السياسية الاجتماعية. وشجّعت إعادة إحياء الإطار التوافقي بصورة جذريّة أشكالا من المساواة والتضامن نبذت الأهمية السياسيّة للتديّن (8) تساهلت البنى المحافظة مع الاختلاف الاجتماعي إلا أنّها أكّدت على الهيكليّة التسلسليّة القائمة.
وفي هذا الجزء، يبرز عنصران هما دور الذاكرة بالإضافة إلى أهميّة النهضة في "الإطار التوافقي". ويشدّد مقدسي على أن نجاح الإطار اعتمد على قراءات انتقائيّة من الماضي للحفاظ على الروابط الطائفية المشتركة، وللتعافي من سلسلة أحداث عنف طائفية، ولإعادة بناء الثقة. ولأنّها كانت معاصرة وبحد ذاتها توافقيّة، فقد عبّرت النهضة عن التضامن المناهض للإمبرياليّة في العالم العربي وكانت محور انتشار الإطار. وشجّعت الإنتاجات الأدبيّة والفنيّة خلال النهضة الذاكرة الانتقائيّة الّتي كانت أساسيّة بالنسبة للإطار و "لم تساهم في كشف الماضي فحسب، وإنّما أيضا، وفي محاور جوهريّة، في دفنه عميقا وفي خلق محظورات قويّة ودائمة حول المزاعم الطائفيّة ". (90). وعلى سبيل المثال، كتب مطران الموارنة في بيروت، يوسف دبس، في كتابه المؤلّف من أكثر من جزء، "تاريخ سوريا" (1903- 1905)، حول الوسط الثقافي في عصر النهضة في سوريا على أنّه "حميم" يجمع "رجالا من أديان مختلفة". (90).
ولكن المطران "أعرض، في الوقت عينه، عن الخوض في مجازر العام 1860" في الجزء الأخير من "تاريخ سوريا"، معتقدا أن الإشارة إليها من الممكن أن "توقظ أحقادا دفينة وتذكّر بأحداث لا يرغب أي طرف بتذكّرها".(90) وهكذا، يبدو أن بناة الإطار التوافقي كانوا يرونه هشا، قابلا للكسر تحت ثقل ذكريات النزاع الطائفي.
بالإضافة إلى ذلك، شدّد البرنامج السياسي للنهّضة، الرامي إلى إنشاء نخب متعلّمة من المدرّسين، والساسة المحليين، والفنانين الملتزمين بالهوية العربيّة، على فضيلة اللاطائفية وهو موقف يراد نشره بين طلابهم وأنصارهم.(90- 91) بهذه الطريقة، يقترح مقدسي أن الإطار التوافقي كان ممارسة تعليمية تتطلّب رعاية النخب، وإرشادهم.
يظهر الجزء الثاني مركزيّة الإطار التوافقي في تحديث عصرنة المشاريع الوطنية في القرن العشرين في كل من العراق ولبنان ومصر. ويركّز مقدسي، من بين عدد من الشخصيّات المؤثّرة التي يقدّمها، على بطرس البستاني من لبنان، وساطع الحصري من العراق على أنّهما إثنين من أوائل بناة الإطار. ويشبك مقدسي أحداث تاريخية منفردة مميّزة ليصف تراجع الإطار التوافقي في القرن العشرين. وهو يؤكد أن كلا من النكبة، وحرب البلقان (1912-13) والمجزرة الأرمنيّة (1915)، وطرد اليونانيين من تركيا ( 1922) ساهمت في كسر الإطار. فقد دمّرته حرب البلقان في الشمال العثماني، أمّا المجزرة الأرمنية وتبادل المسلمين والمسيحيين مع اليونان فقد كسرته في تركيا. وكانت النكبة هي التفكك الأخير في المشرق. وكشفت هذه الأحداث كيف أدّت التفاعلات الناتجة عن الانقسامات الداخلية المشرقية من جهة، والقوى الخارجية الامبريالية والاستعمارية من جهة ثانية، إلى تحطيم التعايش. كما أنها كلّها أيضا انبثقت عن برامج وطنيّة كانت تسعى إلى توحيد تجانس الشعوب التي أضحت منضوية في الدول الوطنية. وعبر تركيزه على الاختلافات العثمانية في الحكم بين المناطق التابعة له، يجادل مقدسي أنّ تخليّ الباب العالي المباغت عن الإطار التوافقي في البلقان ساهم في "تعبئة عرقية- دينية- قومية في كل من البلقان، وإسطنبول والأناضول" (76) . في المقابل، ولمنع انتشار انهيار طائفي في المشرق، استمرت الامبراطوريّة في فرض عدم التفرقة الطائفية عبر التنظيمات هناك. ودام ذلك الوضع حتّى القيام العنيف لإسرائيل في العام 1948.
يركّز الجزء الثالث على الانتداب ونظام الدول الوطنية التي قامت في أعقاب الإمبراطورية العثمانية، لاسيّما على كيفيّة عمل البناة الأساسيين على توطيد نسج التوافق في تلك الدول الجديدة. ويقدّم مقدسي منعطفين تاريخيين. أولا، يقوم بالربط بين نزاعات طائفية متفرّقة كان من الممكن أن تبدو ظاهريا متباعدة جغرافيا، على أنّها جزء من التطورات السياسيّة والاجتماعيّة الشاملة للإمبراطوريّة العثمانيّة بالإضافة إلى الحوكمة التوافقية الشاملة للإمبراطوريّة. وثانيا، بيرهن أن الإطار التوافقي لم يكن ثابتا جغرافيا أو زمنيا. فقد تغيّرت أهدافه الرامية للتعايش مع الوقت والمكان. ومع ذلك، وعلى الرغم من أن الإطار لم يكن ثابتا، يتحدّى مقدسي التأريخ الّذي يجعل من الدول المشرقية الناشئة متباينة في سبل تطور استثنائية مختلفة. فعوضا عن تجسيد رؤى متعارضة لبناء الدولة، استند كل من العراق ولبنان على " الركائز المحافظة والمجندرة للإطار التوافقي الحديث". (130) وقاد ساطع الحصري في البرنامج الدراسي العراقي برنامجا سياسيا إلزاميا علمانيا وعروبيا. أما لبنان تحت الانتداب، فقد أعدّ سبيلا للتوافقية الطائفية في الحكم. إلا أنّ الطرفين اعتمدا على إطالة الإبقاء على مفاهيم التوافقية العثمانية. وعلى وجه الخصوص، أبقى كل من العراق العلماني ولبنان التوافقي "على التفرقة الدينية في دوائر الأحوال الشخصيّة".(130) على الرغم من رفضهما للطائفية.
على امتداد المشرق، سعى بناة التوافقية إلى استنهاض خطاب الوحدة الوطنيّة لبناء دول مستقلّة جديدة. في المقابل، موّهت كل من أوروبا وعصبة الأمم مصالحها في خطاب التوافقيّة لحماية مصالحها الخاصّة. الحريّة الدينية، وهي لازمة شائعة على ألسنة قادة الانتداب الأوروبيين، "أضحت مرادفا للسيطرة الاستعمارية". (116) وقد أضعف ذلك معنى، وغاية، وصدقيّة الإطار التوافقي بالنسبة للمشرقيين. ومع ذلك، وبالرغم من حدود الإطار ومحدوديته، إلا أنه لم يتصدّع تماما إلا بسبب التطهير العرقي التأسيسي لإسرائيل وطردها للفلسطينيين. وقد انهار الإطار في نهاية المطاف لأن الدولة الصهيونية لم تكن استمرارية للتوافق المشرقي. بل أنها كانت تدخلا لطرق الفهم الأوروبية التي كانت تعتبر التنّوع عائقا وأن لا قيمة تذكر للتعايش المتباين غير المتجانس. (166) \3\
إن الفترة التاريخية الطويلة التي يتناولها الكتاب سوف تهم جمهورا يشكك بحجج الإعلام التي تروّج للطبيعة اللاتاريخية للعنف في الشرق الأوسط. وعوضا عن ذلك، يدعو الكتاب الباحثين لوضع تيارات كل من الطائفية والتعايش في إطار الموجات التاريخية الرئيسيّة الواسعة. وهذا الأمر أساسي تربويا، إذ أن التوصيفات التقليدية والشعبية تطرح الطائفيّة وكأنها المدخل الأساسي الأوليّ لفهم الشرق الأوسط، الذي يبدو وكأنه استثنائي في ميله للحروب والعنف الطائفي. إلا أن مقدسي يعلّمنا بأن للتعايش تاريخ هو على الأقل مؤثر بمقدار الطائفية في المنطقة. كان العاملان متجذرين في التطورات الاجتماعية والقانونية والسياسية التي اتخذت شكلا نهائيا محددا خلال التنظيمات ومن ثم تضررت مع تفكك الإمبراطورية العثمانية بالإضافة إلى أحداث محلية من المقاومة والتمرد، وإقامة نظام الانتداب، وحركة الاستيطان الأوروبية اليهوديّة في فلسطين وأحداث محليّة تكوينيّة بنيويّة أخرى وقعت في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.
"زمن التوافق" هو عمل تاريخي مكتمل. فهو يعيد قراءة تيارات تاريخية بطريقة مبتكرة ومقنعة في سبيل إثبات وجود الإطار التوافقي. كما أن الكتاب يعكس نظرة أكثر رحابة للشرق الأوسط التاريخي، ناجحا في صياغة رواية متكاملة للمنطقة، مقدّما في الوقت عينه تفاصيل دقيقة حول عمل الإطار . وهو ينفي السؤال النابع من نوايا سيئة حول سبب ظهور كل هذا القدر من الطائفية في الشرق الأوسط. ويحوّل السؤال إلى آخر مؤرّخ على نحو سليم يسعى في المقابل إلى الإجابة عن كيفية تحوّل تاريخ طويل من التعايش إلى وقائع معاصرة من الطائفيّة.
لقد أسس مقدسي أرضيّة جديدة لأبحاث تاريخيّة أخرى، حول التسامح، والنزاعات، والطوائف في الشرق الأوسط. ويقدّم ذلك مجالا هاما يمكن أن تتبعه البحوث المستقبلية. ويمكن لأبحاث كتلك العمل على توسيع معرفة سبل عمل الإطار التوافقي المقترح على الأرض. ويمكن لذلك أن يساهم في تعزيز شرح عمق اختراق الإطار التوافقي للمجتمعات المشرقية وكيف تشكّل الإطار، بدوره، من قبل المواطنين.
علاوة على ذلك، وفيما يرّكز مقدسي مطّولا على الاعتبارات العرقية، يمكن للأعمال المقبلة أن تتوسع في الشقّين الطبقي والجندري للإطار. ويمكن للأبحاث أن تركّز بشكل خاص على كل من الإناث من بناة التوافق وعلى دور الأشخاص من خارج النخب. ويمكن لهذه الأبحاث المستقبليّة أن تتوافق مع التيارات التأريخية الأخيرة التي تحوّلت نحو تفسير التاريخ العثماني وفترة الانتداب عبر عيون الناس العاديين وعبر اليوميات، عوضا عن عيون الباب العالي والنخب.
يناهض "زمن التوافق" تيار كتابة التاريخ السائد. يشجب الكتاب مساعي المستشرقين لرسم صورة هزلية عن المشرق على أساس أنه استنزف بسبب توترات طائفية موغلة في القدم. (4) إلا أنّه لا يتبنى الروايات التاريخية التي تخلص إلى أن التعايش المشرقي انتهى فقط بسبب التدخل الأوروبي، على الرغم من أن انحلال الإطار النهائي كانت نتيجة الاستعمار الاستيطاني الأوروبي في فلسطين. ونظرا للتصّورات العنيفة التي تكّون الصور النمطيّة (الاستشراقيّة)، فإن هذا الهدف ليس منحصرا فقط في مجال دراسة التاريخ- بل هو أيضا عمل سياسي مهم. "زمن التعايش" يشّجع القراء على أن يؤمنوا بشكل جماعي بوجود أمل للتعايش عبر تقديمه لأمثلة قابلة للتنفيذ جعلت التعايش قائما في الماضي- أمثلة هي في آن حازمة، صعبة التحقيق، محفوفة بالتعقيدات، إلا أنها مع ذلك حقيقية وتجسّدت في مجتمعات كانت موجودة بالفعل.
أشكر زياد أبو الريش وشيرين صيقلي لقراءة المسودات السابقة لهذه المراجعة، وتحريرها وتحسينها.
***
انظر: إي. أتيلا أيتيكين "احتجاجات الفلاحين في الإمبراطورية العثمانية السابقة (أواخر الإمبراطورية العثمانية): اقتصاد معنوي، عصيان تمرد، واصلاحات التنظيمات". " المجلة الدولية للتاريخ الاجتماعي، الجزء 57، االرقم 2.
لاسيما عبر تحديّات المرسلين الأوروبيين وعملاء امبرياليين آخرين (ص 38-39)، أربكتهم التعددية العثمانية وسعوا إلى ترشيدها عبر تصوير المنطقة ضمن شروط طائفية. وكما يلحظ مقدسي، لم يكن الأوروبيون راغبين بانشاء التسامح بين التعددية على قدر رغبتهم بانهائها تماما. (42)
يصف ماثيو فرانك في كتابه "أوهام الفصل العرقية: ترحيل الشعوب وانهيار الإمبراطورية في أوروبا"، أن الأوروبيين في أعقاب الحرب العالمية الأولى كانت تدفعهم "أوهام الفصل العرقي" التي سببت سياسات تقسيمية طبقوها بحرص خاص في المستعمرات.
أسامة مقدسي، "أسامة مقدسي: زمن التعايش : الإطار التوافقي وقيام العالم العربي الحديث" (نصوص جديدة صادرة الآن)، " جدليّة (20 كانون الأول/ ديسمبر 2019)
[نشرت المراجعة على جدلية. ترجمتها إلى العربية هنادي سلمان]