في الوقت الذي تستعر فيه الحرب في كبرى المدن اليمنية، وحيث الصراع من أجل الحصول على الخدمات الأساسية هو الشغل الشاغل للمواطن في حياته اليومية، (1) فإننا نجد أن عدداً من القرى التي تتناثر على قمم الجبال تمر بمرحلة ديناميكية فريدة من نوعها. وهذه المرحلة لم تقتصر على قيام القرى بتنظيم نفسها بهدف الصمود والاستجابة للحالات الطارئة فحسب، بل إنها ذهبت إلى أبعد من ذلك من خلال إطلاقها لمبادرات ذاتية بمشروعات كبيرة متصلة بالبنية التحتية مثل شق ورصف الطرق وحفر الآبار. وهذه المبادرات المنفذة بصورة فردية أو بواسطة تجمعات أهلية تحت مسمى "مجالس القرى" تعكس أساليب محلية جديدة في العملية التنموية والإدارة الذاتية، كما هو الحال في مرتفعات محافظة إب جنوب غرب اليمن (2).
فهل يمكن اعتبار الحرب التي شنها التحالف السعودي منذ عام 2015م في اليمن لمواجهة الحوثيين الذين سيطروا بالقوة على هذه المنطقة هي الدافع الحقيقي لظهور مثل هذه المبادرات؟ من المؤكد أن القصف يتركز على المدن والموانئ بشكل رئيسي ويكون أقل حدة في الاوساط الريفية، وهو ما جعل من مناطق الريف تسارع نحو تشكيل تكتلات مجتمعية تضامنية بين أفراد المجتمع الواحد. وهذه المناطق الريفية قلما تعتمد على الواردات الخارجية إذا ما قارناها بالمدن بسبب اعتمادها على مواردها الذاتية سواء الزراعية أو الحيوانية وهو ما يجعلها قادرة على الصمود في مواجهة آثار الحرب والحصار. تجدر الإشارة إلى أن هذه الحرب لم تكن السبب الوحيد نحو التوجه للمبادرات الذاتية، بل كانت لثورة 2011م آثارها على العمل الفردي والمجتمعي. فقد عكست الحركة الثورية الطموح الشعبي نحو إيجاد مساحات جديدة من الحرية والتعبير كما هو الحال في مناطق أخرى من العالم العربي وسعت إلى إطلاق المجتمع من أسر الحكم الثلاثي (القبيلة والجيش والمؤسسة الدينية). وعلى الرغم من انزلاقها السريع إلى صراع مسلح، إلا أن المرحلة الثورية صاحبها إطلاق العديد من الطاقات المجتمعية والممارسات الإدارية الذاتية بمبادرات شبابية في عموم البلاد. وهو ما شكل نوعاً من التقارب بين المواطنين ومناطقهم الجغرافية التي كانوا قد أهملوها في الماضي القريب. (3) ناهيك عن أن ثورة 2011م أدت أيضا إلى انهيار نظام السطلة المحلية والذي تجسد بفساد النظام السياسي الاستبدادي السابق علي عبد الله صالح (1978م -2012م). وبعيداً عن السياق السياسي، يبدو أن المبادرات التي انطلقت في المرتفعات الجبلية لها ارتباط بممارسات قديمة مرتبطة بالتقاليد اليمنية العريقة التي راجت في ظل حكومات سابقة، لا سيما في فترة الرئيس إبراهيم الحمدي (1974م -1977م) الذي يعد رمزاً للبلد الحر والذي كان حاضرا بقوة في أذهان ثوار 2011م. (4)
الإنهيار الإداري وعدم الاستقرار
عند تناول الإطار العام الذي انطلقت فيه مبادرات التنمية المحلية في القرى، فالحديث لا يقتصر على أحداث 2011م وحرب 2015م فحسب، بل إن الموضوع يتعلق في الأصل بحقيقة أن اليمن هي أفقر دولة في منطقة الشرق الأوسط. فالمواطن اليمني يعاني من غياب الخدمات الأساسية، وخاصة في المناطق الريفية التي يصعب الوصول إليها. فعلى الرغم من الصعوبة في تحديد الإحتياجات الفعلية للمواطنين إلا أن تقرير مكتب الأمم المتحدة للشئون الإنسانية (الأوتشا) يشير إلى أن حوالي 16 مليون يمني محرومون من المياه الصالحة للشرب وخدمات الصرف الصحي، وأن ما يقارب من 18مليون نسمة لا يحصلون على الرعاية الصحية. وعلى الرغم من تحسن الظروف المعيشية في المناطق الريفية بسبب وجود الموارد الزراعية إلا أن الصراع والتدخلات العسكرية منذ عام 2015م أدت إلى تفاقم الوضع المأساوي في البلاد عموما ونتج عنه عرقلة حركة التنقل الكثيفة التي كانت قائمة بين القرى والمدن.
كما أن الصراع الحالي تسبب أيضاً في الإنهيار الاقتصادي واختلال عمل مؤسسات الدولة. فأصبحت دوائر الدولة ممزقة كلياً ولم تعد قادرة على تلبية الاحتياجات الأساسية للسكان. وأدى ذلك إلى ارتفاع معدل الفقر بواقع 85٪، والبطالة 70٪. بالرغم من الحاجة الملحة للدولة المدنية التي تتمتع بالشرعية والتي كانت من أهم مطالب ثورة 2011م، إضافة إلى كونها محور الصراع، يبدو أن غالبية اليمنيين قرروا أخذ زمام المبادرة من دون الحاجة إلى الدولة، أو على الأقل عدم الانتظار من دون القيام بشيء. على المستوى المحلي، نجد أن القرية عادة تدار بواسطة عاقل أو شيخ تولى هذا المنصب بالوراثة، وقانون السطلة المحلية لعام 2000م يعترف بالعزلة (المكونة من عدة قرى) كأدنى كينونة إدارية رسمية للسلطة المحلية وليس على مستوى القرية حيث نجد أن مديرية بعدان تتكون من 14 عُزلة تضم 246 قرية حيث يتم تنظيم الانتخابات المحلية على مستوى العُزل ويتم استبعاد القوى التقليدية عن إدارة القرية وهذا الامر يعزز الفجوة بين السلطات المحلية والمواطنين. ناهيك عن ذلك أنه منذ 2000م تواجه جهود السلطات المحلية في الميدان عراقيل تضعها الدولة المركزية التي عادة ما تكون حريصة على التحكم بجميع "مفاصل الدولة" (5) من خلال تعيينها للمحافظين والقائمين على المديريات، ومن خلال تنفيذها المباشر لبعض المشاريع التي من المفترض أن تقوم بها السلطات المحلية وليس السلطات المركزية. يضاف إلى ذلك ضعف القدرة المالية للسلطات المحلية التي تجعل منها غير قادرة على توفير الخدمات المحلية، كما أن هذا العجز ناتج أيضاً عن التفاوت الكبير في التوزيع السكاني حيث يتركز 70٪ في المناطق الريفية، إضافة إلى التقسيم الإداري (21 محافظة، 333 مديرية، 5،620 عزلة، 36،986 قرية).
تزايد وتنوع المبادرات المحلية
على الرغم من الوضع العام الذي شهد تغيرات سياسية هامة أدت إلى أزمة إنسانية غير مسبوقة وصاحبها أيضا فشل في الإدارة المحلية، إلا اننا لاحظنا خلال السنوات الأخيرة ارتفاعاً في عدد المبادرات المجتمعية الطوعية داخل المجتمع الريفي وبشكل خاص في منطقة المرتفعات الجبيلة وسط البلاد. ففي مديرية بعدان شرق مدينة إب، على بعد 150 كيلومتراً تقريبا جنوب صنعاء، تتسم هذه المنطقة الجبلية بالمدرجات الزراعية الواقعة على ارتفاع قد يصل إلى أكثر من 2000 متر عن سطح البحر. تضم المديرية 246 قرية على مساحة 240 كيلومتراً مربعاً، ويبلغ عدد سكانها حسب آخر تعداد سكاني عام 2004 م 116.045 نسمة، وهو رقم ربما يكون قد زاد بنسبة 50 ٪.
تعد الزراعة والتربية الحيوانية من الأنشطة الرئيسية التي يقوم بها سكان هذه المنطقة إضافة إلى ممارسة العمل التجاري. ونجد الكثير من أبناء المديرية يعملون في الخارج، لا سيما في المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة. ويشكل أبناء المنطقة المغتربين في الخارج مصدرا رئيسيا لتمويل بعض تلك المبادرات المجتمعية. ويمكننا القول إن ما يقارب ثلث العائلات في قرى بعدان لديهم فرد واحد على الأقل مغترب في المملكة العربية السعودية أو الولايات المتحدة. وقد ساهم المغتربون في التمويل من الخارج وخاصة مبادرة رصف الطرق لأن هذا النوع من المبادرات يحتاج إلى قدرات مالية كبيرة يصعب على المواطنين المحليين توفيرها بمفردهم. ومع ذلك، كانت مبادرة رصف الطرق هي المشروع المجتمعي الأكثر انتشارًا في 56 قرية في مديرية بعدان التي هي منطقة الدراسة الميدانية التي قمنا بها، وهذا الأمر يؤكد أهمية أموال الجالية اليمنية في الخارج والمحولة لهذه المبادرات.
فعند قيامنا بدراسة هذه المبادرات وجدنا أنه تم تنفيذ 44 مبادرة، منها 32 مبادرة تم تنفيذها بشكل نهائي. فإذا كانت الحاجة إلى شق الطرق للقرى هي الدافع الأساسي وراء تنفيذ هذا العدد الكبير من المبادرات الخاصة من خلال القيام برصفها إلا أننا وجدنا دافعاً آخر تمثل بعملية حالة التقليد والتنافس بين القرى المجاورة للمبادرة من خلال الاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي في حشد المواطنين نحو المبادرات المجتمعية. وجاءت بعدها مبادرة إنشاء صناديق خاصة بدفع رواتب تشجيعية للمدرسين في المنطقة وذلك بسبب توقف دفع رواتب موظفي الدولة منذ عام 2016م. كما وجدنا أن ما يقارب من عشرين مبادرة ركزت على تحسين الحصول على مياه الشرب وهذه القضية هامة جداً لكثير من القرى اليمنية وهذا النمط من المبادرات أخذ اشكالا عدة مثل صيانة مضخات المياه والخزانات والآبار بشكل رئيسي. وأخيراً، حصرنا مبادرات مجتمعية تمثلت بتوزيع السلال الغذائية على الأسر الضعيفة في 15 قرية. كما تم تنفيذ مبادرات لها علاقة بحل الخلافات المجتمعية وكذا القيام بحملات رفع القمامة في العديد من قرى المديرية وأخرى تمثلت بترميم المساجد (4 مساجد).
الجدير بالذكر أن غالبية هذه المبادرات تميزت بالعمل الفردي التلقائي من دون معرفة مهنية مسبقة في إطلاق المبادرات، وهناك مبادرات أخرى تم تنفيذها تحت إدارة "مجلس القرية". ولاحظنا أيضا أن المبادرات المتعلقة بالبنى التحتية قد تمت في البداية من خلال جمع التبرعات وحشد القوى العاملة التي هي في الغالب طوعية دون مقابل وأن إطلاق المبادرات يتم من دون إعداد دراسات الجدوى اللازمة لها. وقد أخذت مشاركة سكان القرى في المبادرات أشكالاً متعددة منها تقديم الأحجار التي يملكونها وإعارة مواد البناء وإعداد مادة الأسمنت والبعض الآخر تولى إحضار المياه والغذاء للذين يعملون في مشروع المبادرة. ونشير هنا إلى أن الدراسة لم تشمل جميع قرى بعدان وفي نفس الوقت لم نتمكن من تغطية جميع المبادرات المماثلة في جميع أنحاء البلاد. ومع ذلك، وجدنا أن الصندوق الاجتماعي للتنمية وهو مؤسسة حكومية مستقلة تسعى إلى مكافحة الفقر قد حدد ما يقارب 18،657 مبادرة تم تنفيذها خلال الفترة 2011-2016 في 15 محافظة في البلاد.
القرية ملاذ ومورد في نفس الوقت
يعد الإنتماء إلى القرية المحرك الرئيسي لمشاركة سكان القرية في مثل هذه المبادرات المحلية. ولايزال هذا الشعور بالإنتماء قائما على الرغم من موجات الهجرة الكبيرة نحو الخارج والهجرة نحو المناطقة الحضرية (مع ارتفاع معدل التحضر من 10 إلى أكثر من 30 ٪ خلال الفترة ما بين 1969م و 2010م). ويمكن تفسير جزء من ذلك إلى البعد القبلي في موجات الهجرة. فالقبيلة التي تعد النواة الحقيقية للمجتمع اليمني هي بمثابة نقطة البداية لتكوين التجمعات السكانية الريفية. (6) وهذا يعني أن غالبية سكان القرية الواحدة عادة ما ينحدرون من قبيلة واحدة والتي بدورها انقسمت إلى عدة أسر. ولهذا نجد أن مسمى (القرية/ القبيلة) سواء كهوية مناطقية أو هوية المنشأ يبرز جليا عند الإنعدام الكلي للاستقرار الناجم عن الحالة الديناميكية العميقة لعملية التحول الحضري والاندماج في عالم العولمة، ويصبح في نفس الوقت بمثابة ملاذ يتجلى بالتضامن المجتمعي بين الأفراد ومصدرا لتمويل وإطلاق المبادرات المحلية. وهذا الأمر ليس بجديد على المجتمع اليمني بل يعكس بشكل واضح حقيقة العمل المجتمعي في اليمن والذي يعود إلى العصور القديمة. (7) سواء كانت هذه المبادرات المجتمعية تعود بالنفع على المجتمع بأكمله (صيانة الآبار والحقول وبناء وترميم المساجد، وما إلى ذلك) أو أنها تتم بواسطة مجموعة من الأفراد بهدف مساعدة شخص ما أو أسرة بعينها قد تكون عرضة للخطر أو تعرضت لمأساة عائلية (مثل جمع تبرعات مالية لغرض العلاج عندما تكون الاسرة أو الشخص غير قادر على توفيرها). وهذه الأنشطة التعاونية بين المواطنين والتي توارثوها جيلا بعد جيل لا تعكس إلا حالة نشاط مجتمعي تضامني كانت من نتائجه الأولى بناء المدرجات الزراعية على امتداد الجبال اليمنية، والتي ما تزال قائمة حتى يومنا هذا. ومن العادات القديمة التي يتم اللجوء إليها لسد الثغرة في الموارد المادية والمالية مساهمة المواطنين في تقديم الدعم البشري والمادي في الأنشطة التعاونية كجمع التبرعات وإقراض الحيوانات للقيام بمهام يصعب على الانسان القيام بها. وهنا نجدها عادت إلى الظهور ولكن هذه المرة بصورة قوية، كما هو الحال في عهد الرئيس إبراهيم الحمدي الذي يعد آخر شخصية سياسية ساندت بصورة مؤسسية الأعمال التعاونية التضامنية في اليمن. ففي عام 1974م، تم إنشاء الاتحاد العام للتعاونيات على مستوى المديريات بهدف تعزيز مشاركة المواطنين في التنمية المحلية وتشجيع النقاش والتفكير حول حماية الظروف المعيشية للمواطنين. وقد ساهم إنشاء هذا إفي وصول العديد من الخدمات الأساسية حتى المناطق الجبلية النائية في البلاد. وعلى مدار ثلاث سنوات من عمل التعاونيات تم شق ما يقارب 5000 كم من الطرقات وسلفتت ما يقارب 500 طريق، وكذا تنفيذ 852 مشروع خاص بمياه الشرب وتشييد 580 مدرسة. كما أسهم وجود التعاونيات في تسهيل الحصول على المعدات الزراعية الكبيرة وأدوات البناء وخلق شعور لدى المواطنين بالاستقلالية في تنفيذ المشاريع التعاونية. وهنا يذكر الدكتور حمود العودي، نائب وزير الشؤون الاجتماعية في عهد الحمدي، أستاذ علم الاجتماع بجامعة صنعاء، أنه "تم توفير الآلات الثقيلة لأبناء القرى مثل "الجرارات الزراعية والجرافات وبأسعار رمزية "(8). في عام 1976م، عملت الدولة على جمع هذه الأنشطة التعاونية من خلال إنشاء الاتحاد العام للعمل التعاوني من أجل التنمية والذي ضم جميع الجمعيات التعاونية في البلاد. في حين اعتبر بعض المراقبين أن هذا الاتحاد الذي عينت الحكومة أعضاءه أدى إلى فشل العمل المجتمعي وسيطرة الدولة المركزية على الشؤون المحلية من خلال إدخال الممارسات الفاسدة إليه. (9) تجدر الإشارة إلى أن الأماكن العامة في القرية – الأسواق والمساجد والمدارس- لعبت دوراً محورياً في إطلاق المبادرات المحلية، وكذا المجالس التقليدية الخاصة بتناول القات لأنه يتم من خلالها المتابعة اليومية لمسار تنفيذ المشاريع وعقد اجتماعات مجالس القرى.
نحو تحويل المبادرات المحلية إلى عمل مؤسسي؟
نلحظ اليوم وجود نمطين من العمل المؤسسي لإدارة المبادرات المحلية في القرى. النمط الأول الصاعد من الأسفل ويتمثل في تأسيس "مجالس قروية" أو جمعيات تعاونية بهدف ضمان استمرارية المبادرات ومتابعة تنفيذها في وقتها مع تأطيرها بشكل مؤسسي وينصب جهد الجمعيات على البحث عن مصادر تمويل مشاريع المبادرات. أما النمط الثاني فهو النمط الهابط من الأعلى ويتمثل في "الاستحواذ" على هذه المبادرات المحلية من قبل المنظمات الوطنية والدولية عبر برامج تنسيقية.
في أغسطس 2015م، قامت منظمة نبض للعدالة الاجتماعية Pulse for Social Justice ، وهي منظمة محلية غير ربحية، بدعوة أبناء قرية الرباعي في مديرية بعدان للشروع في رصف مدخل القرية وتشكيل مجلس لإدارة القرية. تجدر الإشارة إلى أن السلطات المحلية لم تبادر إلى إطلاق مبادرات كهذه ناهيك عن غياب السلطات المحلية منذ ثورة 2011م، وكذا عاقل القرية الذي يتقاضى مبلغاً سنوياً زهيداً مقابل تطوعه في إدارة القرية. وكان الهدف الرئيسي من هذا المجلس الذي تم إنشاؤه هو الإسهام في تطوير وتنسيق المبادرات وحتى تنفيذ خطط تنموية للقرية على نطاق واسع. وقد وجدنا أنه من بين الـ 56 قرية التي شملتها الدراسة في مديرية بعدان أنه تم تشكيل 25 مجلساً قروياً منذ عام 2015م، وكل مجلس يضم رئيساً منتخباً بالتصويت عبر رفع الأيدي من قبل سكان القرية لمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد ونائبا له وسكرتيراً وأمين صندوق وامرأتان تهتمان بشؤون المرأة وآخران لإدارة شئون الشباب. وشكل رصف الطرق نصف المبادرات المنفذة من قبل مجالس القرى بالإضافة إلى حملات رفع القمامة في القرى التي شملتها الدراسة في المديرية. تظهر الدراسة أن المبادرات الأكثر فعالية هي تلك التي تمت تحت رعاية مجلس القرية، خاصة عندما يكون المجلس هو الذي أطلق المبادرة. وهذا هو الحال في قرية المشاعر، حيث استطاع المجلس الذي شارك فيه عاقل القرية (وهذا الأمر لم يكن موجوداً في مناطق أخرى) تنفيذ العديد من المبادرات في آن واحد: استصلاح بئر، رصف مدخل القرية، صيانة مضخة مشروع المياه وإطلاق مشروع السلة الغذائية وصندوق دعم رواتب المدرسين. ويشكل هذا الكيان المجتمعي الجديد نمطاً بديلاً في مسألة الحكم المحلي ما يزال في مهده ويعتمد بصورة رئيسية على مشاركة السكان في القرارات والإجراءات بعيدًا عن مكاتب السلطة المحلية مع الحفاظ النسبي على النظام التقليدي. بالإضافة إلى ذلك، سارعت العديد من المنظمات الوطنية والدولية إلى دعم هذه النمط من المبادرات المحلية. وتم تخصيص برنامجين رئيسيين في هذا المجال. الأول هو برنامج الصمود الريفي في اليمن بتمويل من الاتحاد الأوروبي والذي يهدف إلى تحسين صمود سكان الريف واعتمادهم على أنفسهم في محافظات أبين وحجة والحديدة ولحج. ففي عام 2018م ، قام هذه البرنامج بإنشاء 213 مجلساً قروياً ضم أكثر من 1900 عضو - 50٪ منهم من النساء (10) وقد تولت هذه المجالس قيادة وإدارة الأنشطة المجتمعية المختلفة والتعامل مع الأزمات المرتبطة بالحرب. وبلغ إجمالي المبادرات المنفذة في هذا الإطار 414 مبادرة. واليوم يقوم كل مجلس بتنفيذ خطته الخاصة باستعادة الخدمات الاجتماعية الأساسية في القرى. والبرنامج الآخر هو برنامج تمكين التابع للصندوق الاجتماعي للتنمية، والذي يعد أكثر البرامج إتقانا في تفعيل العمل المجتمعي الطوعي مقارنة بالبرنامج السابق، ويهدف إلى تمكين السلطات المحلية والمجتمعات القروية من تبني "التخطيط التشاركي" بما يتماشى مع الموارد المحلية المتاحة ويتوافق مع السياسات الوطنية. فخلال عام 2018م قام برنامج تمكين بالعديد من الأنشطة في 37 مديرية في 18 محافظة استناداً على 1420 مجلس قروي (بعضها تم إنشاؤها مباشرة بواسطة برنامج تمكين) وبلغ إجمالي أعضاء هذه المجالس 11360 عضواً. 50٪ منهم من النساء. وعلى غرار الجهات العاملة في هذ الميدان، قام مسؤولو برنامج تمكين بدعم هذه المجالس في وضع "خطط الصمود" لقراهم مع مساندتهم في الحصول على الخدمات الأساسية. ومما لا شك فيه أن هذين البرنامجين قد لعبا دوراً محورياً في إضفاء الطابع المؤسسي للمجالس القروية، لكنهما قد خلقا في نفس الوقت نوعاً من اعتماد القرى عليهما. وبالتالي وجدنا الكثير من القرى ظلت تتنظر وصول مسؤولي هذه البرامج قبل أن تشرع هي بنفسها في إطلاق المبادرات المجتمعية. وأدى أيضاً إلى عدم استمرارية مثل هذه المبادرات. ففي محافظة ريمة مثلا، تم إنشاء 136 مجلس قروي بدعم من الصندوق الاجتماعي للتنمية في عام 2016، لكن 16 مجلساً فقط ما تزال قائمة حتى اليوم.
طريقة جديدة في إدارة القرى
من خلال ملاحظة مسألة توسع المبادرات المحلية إلى مسألة إضفاء الطابع المؤسسي عليها فإننا نجد أن هناك علامات واضحة على صمود المناطق والتجمعات السكانية اليمنية في مواجهة الحرب. فقد أدت عودة المواطنين إلى المستويات المحلية والقروية والقبلية إلى عودة التضامن الذي مكّن من تنفيذ مشاريع إعمار كبيرة لم يعد في مقدور الدولة المركزية والمحلية القيام بها منذ ثورة 2011 وكذا بعد اندلاع الحرب. فعلى الرغم من وصول المساعدات الإنسانية إلى اليمن (تقدر بنحو 11 مليار دولار بين 2015م -2019م)، إلا أنه يمكن لهذه المبادرات أن تشكل فرصاً للسلطات العامة، وأيضا للأطراف المتصارعة والمنتظرين حتى هذه اللحظة لأنها تدفع المواطنين أنفسهم لبذل الجهود الخاصة لتوفير الخدمات الأساسية لهم. وقد ترى فيها السلطات العامة طريقة في توفير الموارد أو على الأقل وسيلة لإضفاء شرعيتها من خلال دعم استمرارية الأنشطة الاجتماعية عبر تقديم الدعم البسيط وتنسيق لمبادرات المواطنين. في هذا السياق، تظهر المجالس القروية بمثابة مساحة جديدة لإدارة القرى نستند على أنماط قديمة في إدارة المناطق الجبلية في اليمن. ومع ذلك، لا يزال من السابق لأوانه القول ما إذا كانت هذه الكيانات المجتمعية ممثلة بمجالس القرى ستستمر، وما إذا كانت دولة (دول) المستقبل اليمنية ستعترف بها وكيف سيتم ربطها مع الإدارة المحلية التي لا تزال حتى اليوم في طور النمو. وفي غضون ذلك، يمكن للحكومة والمنظمات غير الحكومية والجهات المانحة الدولية اعتبار أعضاء المجالس القروية الاهلية بمثابة "وسطاء تنمية محليين" فعّالين (11) من أجل استمرار انشطتهم في المستقبل.
الهوامش
1. مقابلة مع بشرى المقطري "العيش في اليمن في زمن الحرب"، إن بونت رقم 13، 2019م.
2. تمت كتابة النص بناء على دراسة ميدانية قام بها الباحث بشير المهلل في مديرية بعدان بين عامي 2016م و2019م في 56 قرية أطلقت مبادرات مجتمعية محلية. وقد أجريت المقابلات مع المواطنين وعقال القرى الذين كانوا شهودًا أو فاعلين في المشاريع الجارية، وكذلك مع القادة السياسيين في صنعاء
3. لوران بونفوا، اليمن: من العربية السعيدة إلى الحرب، فايارد، 2017م.
4. فرانسوا جزافييه تريجن، "اليمن: أسطورة الحمدي"، صحيفة لوموند، 12 سبتمبر 2013؛ أيمن نبيل ، الباهوت الحديث : دراسات نقدية في أسطورة الحمدي، المدنية، 10 أكتوبر2019م.
5. وضاح العولقي وماجد المذحجي، "الحكم المحلي في اليمن وسط الصراع وعدم الاستقرار" ، إعادة التفكير في اقتصاد اليمن، CARPO ومركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية، يوليو 2018م.
6. بول دريش، القبائل والحكومة والتاريخ في اليمن، مطبعة كلارندون ، 1994.
7. شيلا كارابيكو، المجتمع المدني في اليمن: الاقتصاد السياسي للنشاط في الجزيرة العربية الحديثة، مطبعة جامعة كامبريدج، 1998.
8. مقابلة مع بشير المهلل، 29 ديسمبر 2019.
9. سارة بن نفيسة، ماجي غرابوندزيجا وجان لامبرت، المجتمع المدني والجمعيات والسلطات المحلية في اليمن، CEFAS، 2008م.
10. إذا فرض البرنامجان حصة مشاركة النساء في إدارة المجالس الاهلية بواقع 50 % إلا أن الواقع يقول أن مشاركتهن ضئيلة جدا.
11. جان بيير اوليفر دو ساردان وتوماس يبريسشنك" وسطاء التنمية المحليين"، مجلة APAD رقم 5 1993م.
الصور والاشكال
[صورة 1 : رصف طريق في ذي قحم (بعدان) 2017. © Bashir al-Mohallal (Pulse for Social Justice)]
[صورة 2 : اجتماع مجلس القرية في مدرسة السناحي (بعدان) 2018. © فهد قاسم (منظمة نبض للعدالة الاجتماعية)]
حصر بالمبادرات التي تم تنفيذها في 56 قرية في مديرية بعدان 2019م |
||||||
رقم |
طبيعة المبادرات |
عدد المبادرات |
مصدر المبادرات |
مصدر التمويل |
||
مجلس قرية |
افراد |
مغتربين |
مقيمين |
|||
1 |
رصف طرق |
44 |
23 |
21 |
90 |
10 |
2 |
صندوق رواتب المدرسين |
20 |
3 |
17 |
50 |
50 |
3 |
إعادة تأهيل مصادر مياه الشرب واستصلاح مضخة المياه |
17 |
8 |
9 |
80 |
20 |
4 |
سلل غذائية للأسر الضعيفة |
15 |
7 |
8 |
30 |
70 |
5 |
حل قضايا نزاع |
12 |
7 |
5 |
0 |
100 |
6 |
حملات رفع القمامة |
6 |
5 |
1 |
0 |
100 |
7 |
ترميم مساجد |
4 |
0 |
4 |
غير متوفر |
غير متوفر |
8 |
تنظيف واستصلاح خزانات المياه |
3 |
2 |
1 |
0 |
100 |
9 |
حفر ابار مياه |
1 |
1 |
0 |
80 |
100 |