ناتاشا بيساران
مراجعة كتاب كاتايون شافيه، "آليات صناعة النفط: تاريخ بنيوي لبريتيش بتروليوم في إيران" (جامعة "أم آي تي" للنشر، 2018)
[نشرت هذه المراجعة في عدد خريف العام 2020 من "مجلة الدراسات العربية"]
تشهد الدراسات الأكاديميّة حول قطاع النفط في إطار مجال العلوم الاجتماعية، تحوّلا ملموسا. فقد كانت المقاربات السابقة تميل إلى تحليل النفط بناء على ارتباطه بشيء آخر: الدخل مثلا، أو الجيوسياسة، أو الحداثة – ولذلك لم تولي اهتماما يذكر بمنظومة صناعة النفط وأدواتها المادّية بذاتها. في المقابل، بات الباحثون المعاصرون يفكّرون بشكل متزايد بالأبعاد المادّية للنفط كونه "تركيبة نفطية" أو "مجمّع نفطي" يضمّ عوامل فاعلة متنوعة، وهيكليات تحكمه، وجغرافيات، ومؤسّسات وأنماط عمل خاصّة به.
وتأريخ كاتايون شافيّه لصناعة النفط الإنجليزية- الإيرانية في النصف الأول من القرن العشرين، يضعها في مقدّمة المقاربات الجديدة ويقدّم مساهمة هامّة لفهمنا لعوالم النفط الاجتماعية- التقنية.
يدرس كتاب "آليات صناعة النفط" الترتيبات، والأدوات والبنى التحتيّة التّي مكّنت "شركة النفط الإنجليزية- الإيرانية" (آي أي أو سي – لاحقا بريتيش بتروليوم) من إنتاج النفط في جنوبي غربي إيران وتحويله إلى مصدر للدخل.
يبدأ الكتاب بمناقشة السبل الّتي لجأت إليها الشركة للحصول على الامتياز وتثبيت حقوق ملكيّة المعادن في خوزستان، ثم ينتقل إلى النظر في كيفية تمكّن الشركة من الحفاظ على السيطرة على امتياز النفط في النصف الأول من القرن العشرين عبر اللجوء إلى خبرات علمية تكنولوجية، وأنظمة تفرقة عرقيّة في العمل، وآليات التحكيم القانوني الدولي.
أمّا الفصلين الأخيرين فيركّزان على أزمة تأميم النفط الإيراني في 1951-1952 وتسويتها على أساس اتفاقيّة الائتلاف في العام 1954.
وفيما يتّبع الكتاب سياق التسلسل الزمني، إلا أنّه ينطلق لـ "إعادة صياغة التحليل التاريخي كمسار اجتماعيّ-تقنيّ (240) عبر التنبّه إلى المجمّعات الاجتماعية-التقنيّة المبنيّة على النفط وكيفية تشكيلها للنتائج السياسيّة. وتعتمد هذه المقاربة بدرجة كبيرة على الأبحاث الأكاديميّة في مجال " دراسات العلم والتكنولوجيا" (أس تي أس)، مستخدمة بشكل مكثّف منهاجياتها ومقارباتها الفكرية (النظريّة).
وعلى وجه الخصوص، يستند الكتاب على "نظرية شبكة- الأطراف الفاعلة" بالإضافة إلى نظريات مثل إدائية الاقتصاد والصياغة الاجتماعيّة للتكنولوجيا. ومع أنّ هذه الأنواع من "الاختصاصات المتداخلة" لا تُناقش باستفاضة، إلا أنّها تشكل أساس مقاربة الكتاب التحليليّة واستخدامه لمصطلحات ولغة خاصة على امتداد صفحاته.
وأدّى التعاطي مع التاريخ على أساس أنه مسار اجتماعي- تقني، إلى تنظيم كل فصل حول سلسلة من النزاعات الّتي اندلعت حول حقوق الملكيّة، والمعرفة النفطية، والأرباح، والعمل ومستويات الإنتاج.
وفي حين أن الباحثين في مجال "دراسات العلم والتكنولوجيا" أبرزوا "انهيار" تكنولوجيا ما أو بنى تحتيّة ما على أنّها تدّل على سبل عمل النظام ككلّ، قام كتاب "آليات النفط" بتطبيق المنطق ذاته على تاريخ شركة "بريتيش بيتروليوم" في إيران: فالتركيز على أوقات التناقض والخلاف يكشف الاستراتيجيات والآليات الّتي مكنّت بريتيش برتروليوم من الحفاظ على سيطرتها على النفط الإيراني وعلى الشروط التي تعتمد لإنتاجه.
وكان أحد الأساليب الّذي تستخدمه الشركة باستمرار هو تحويل القضايا السياسيّة، بما فيها مطالب التأميم والنزاعات العمّاليّة، إلى مسائل تقنيّة وتجاريّة. وتشدّد شافيّه على وجه الخصوص على استخدام الشركة لوسائل وصيغ حسابية كتقنيات وأدوات للإدارة السياسيّة. وأعادت كتابة تاريخ أزمة 1932-1933-، عندما أدّى نزاع حول حقوق الامتياز إلى قيام الحكومة الإيرانيّة، أحاديّا، بإلغاء رخصة الشركة الإنجليزية الإيرانيّة- على أنّه تاريخ حول "الإمكانيات المتاحة" لصيغة لاحتساب قيمة الامتيازات.
وفي مواجهة مطالب الحكومة الإيرانيّة بزيادة كل من الإنتاج والعائدات، قام محاسبو الشركة الإنجليزيّة الإيرانيّة بابتكار عوامل متغيّرة ونسب مقيّدة ضمن صيغة احتساب الإمتيازات في سبيل وضع حد لأي إمكانيّة لسيطرة أكبر للحكومة الإيرانيّة. وتتكرّر الصيغ على امتداد النصّ، مقدّمة وسائل للتحكّم بوتيرة "فرسنة" القوى العاملة، ومشرّعة قيام نظام عمل تراتبي ومنظّم عرقيّا، كل ذلك بالإضافة إلى إعادة هندسة تأميم النفط الإيراني لجعله يتوافق مع اتفاقيات الاحتكار الخاصّة بمؤسّسات النفط متعدّدة الجنسيات التي قامت بعد الحرب العالمية الثانية.
والصيغ التي اعتمدت ليست إلّا نموذجا من بين عدد من "العناصر غير المتوقّعة وغير المألوفة"(199) الّتي تشكّل جزء من الشبكات الاجتماعية-العرقيّة التّي يسعى الكتاب إلى إعادة جمعها وهي تشمل كل من شروط عقود الامتيازات، والقانون الدولي، والخبرة العملية التكنولوجية، والأمن القومي الأميركي. وهناك مستويات متفاوتة من قوة الفعل تنسب إلى تلك العناصر غير البشريّة. فمثلا، لا تكتفي صيغ الشركة الانجليزيّة الإيرانية بوصف العالم فحسب، بلّ هي تؤدّي دورا فاعلا في بلورة النتائج السياسيّة والاجتماعيّة.
وعلى نحو مماثل، تظهر شافيّه كيف قامت كل من الشركة الانجليزيّة الإيرانية والحكومة البريطانيّة، عملا بالنيابة عن الشركة حيث لهما حصّة غالبة، بالتذرّع بآليات القانون الدولي لحماية حقوق الامتياز في الشركة.
في تحليلها، تنظر شافيه إلى القانون الدولي ليس كأداة للسياسة البريطانيّة فحسب، بل كعامل فاعل استطاع إعادة ترتيب العالم الاجتماعي عبر التصاقه بالناس وبالأحداث.
وتنتمي هذه المقاربة بشدّة إلى "نظرية شبكة- الأطراف الفاعلة" عبر تقديم قوة الفعل على أساس أنها متعدّدة المراكز، وممتدّة عبر عوامل بشريّة وأخرى غير بشرية، ضمن شبكات وتجمعات.
وقوّة الفعل المنسوبة إلى العناصر غير البشريّة في "نظرية شبكة الأطراف الفاعلة" أثارت قدرا لا بأس به من الجدل، فيما لا تواجه شافيه مباشرة مخاطر التفكير بقوة الفعل ضمن هذه الظروف في سبيل التحليل التاريخي.
ومن دون مناقشة المزايا أو المحدوديّة الأوسع هنا، فإن أحد فوائد فرص تطبيق "نظرية شبكة- الأطراف الفاعلة" على تأريخ النفط هو كسر الثنائية بين شركات النفط وبين الدول، والّتي طغت على العديد من الأبحاث الأكاديمية.
أمضى الباحثون وقتا طويلا في محاولة إثبات إذا كانت الشركات هي التي كانت تتحكم بالحكومات أو أن الشركات كانت أدوات للسياسات النفطية والخارجية الغربية.
عوضا عن ذلك، تظهر شافيه كيف أن سلطة الحكومات والشركات بنيت سوية عبر الارتباطات وبناء- التحالفات.
وبدلا من اعتبار كل من شركة النفط الإنجليزية الإيرانية والحكومة البريطانية، ككيانين قائمين مسبقا ومن ثم السعي إلى إظهار العلاقة القائمة بينهما، يترك كتاب "آليات النفط" هذا السؤال مفتوحا ويركّز على تتبع كيف بنيت المصالح المشتركة ثم سُجلت وتم تطويعها وتوظيفها ضمن النزاعات.
يقدّم كتاب "آليات النفط" مساهمة هامّة في إثبات كيف عملت هيئة النفط متعدّدة الجنسيات كـ "آلية تحافظ عن بعد على قيود توفير النفط." (228) وعلى عكس العديد من الأبحاث، التّي تتضّمن حججا متكرّرة حول الأهميّة الاستراتيجيّة لتأمين تدفق مستمر للنفط من الشرق الأوسط، تظهر شافييه كيف انتهجت الشركة الإنجليزية الإيرانية للنفط سياسة شح في الإنتاج وسعت إلى الحدّ من مستويات الإنتاج الإيراني مقارنة بنسب الإنتاج العالمي، وذلك لكي تحمي مصالحها الخاصة.
فقد اتبع مسؤولو الشركة الإنجليزية الإيرانية سياسة إزاء النفط في إيران تعتبر أنّه مجرد "وحدة جيولوجية واحدة" (148) من بين مجموعات إنتاج عالمية، واتفاقيات تحديد الأسعار، انضمّت الشركة إليها مع شركات دوليّة رئيسيّة أخرى.
لذلك السبب، ترى شافييه أن ائتلاف (كونسورتيوم) العام 1954 كان مكسبا ناجحا للغاية بالنسبة للشركة الإنجليزية الإيرانية في أعقاب أزمة التأميم. فقد كان وسيلة مكّنت "الأخوات السبع"، وهي شركات النفط السبع الأكبر عالميا، من الإبقاء على السيطرة الحصرية على مستويات انتاج النفط الإيراني، ومن منع تأميم النفط الإيراني عبر إعادة ترتيب أشكال سابقة من السيطرة الاحتكاريّة، كما أنّه ألغى إمكانيّة قيام أي بديل، وحتى أن شافييه تقترح أنّه ربّما منع قيام أشكال أكثر ديموقراطية من انتاج النفط في إيران.
يستند كتاب "آليات النفط" أساسا على أبحاث في أرشيف شركة "بريتيش بيتروليوم"، وفي الأرشيف الحكومي لكل من بريطانيا، إيران، والولايات المتّحدة. وعلى الرغم من أن أفعال ومصالح عمّال قطاع النفط، وأعضاء الحزب الشيوعي، والساسة الإيرانيين تظهر بشكل بارز في سرد شافييه، إلّا أنّ تناولها يميل لأن يكون بتعابير مصطلحات عامّة أكثر من قرارات مدراء الشركة الإنجليزية الإيرانية والمسؤولين البريطانيين والأميركيين.
وعلى عكس تأريخ العديد من شركات النفط، فإن "آليات النفط" لا يحتفي بمدراء النفط ومسؤوليه التنفيذيين الغربيين، كما أنّه لا يضعهم في مركز القضيّة. إلا أنّه في الوقت ذاته لا يقدّم تاريخا اجتماعيا للنفط يبدأ من الأسفل. عوضا عن ذلك، يعيد الكتاب تجميع هذه العوامل المختلفة في إطار شبكات الطاقة الأوسع الّتي سمحت لبريتيش بيتروليوم ببناء عالمها الاجتماعي التقني، وبالتأثير على النتائج السياسية لمصلحتها.
وكان يمكن لالتزام أكبر بالتيارات المتناميّة التي تسعى إلى وضع الائتلافات ضمن إطار نظري، أن يدّعم القيمة التفسيريّة لمناقشات الوسائل والاستراتيجيات التي استخدمتها الشركة، إلا أن آليات النفط مع ذلك، يقدّم إضاءات جديدة على كيفية عمل قوى الائتلاف النفطي.
وبذلك، فإن الكتاب لا يقدّم فقط مساهمة هامّة حول تاريخ النفط في إيران، بلّ أنّه أيضا سيكون مفيدا للباحثين الساعين للحصول على فهم أعمق لقوة (سيطرة) شركات النفط العالمية في القرن العشرين، وكما أنّه يقدم نموذجا للراغبين في تطبيق مقاربات "نظرية شبكة- الأطراف الفاعلة" في التحليل التاريخي.
[نشرت المراجعة في جدلية. ترجمتها هنادي سلمان.]