صديقتي العزيزة،
ستدركين فور قراءتك لاسمي على ظرف هذه الرسالة بأن هناك خطباً عظيماً قد حدث. لقد تجاهلت إخبارك عبر وسائل التواصل كلّها لأنها لا تقول شيئاً، لأنها ليست فمي ويدي. منذ أن حدث ما حدث قررت أن أراسلك بشكل أصيل، بشكل يليق بالحياة. المكالمة الهاتفية ستدفعنا للثرثرة والرسائل النصيّة ستجعل الأمر العظيم مجرد خبر عاجل مبتور، أما البريد الإليكتروني فهو ليس تواصلاً روحيّاً، ديناميكي وحديث للغاية. لذا زرت مكتبة القرطاسية التي تقع على بعد أمتار من متجري، ابتعت من هناك قلم حبر علامة باركر وحزمة أوراق قياس A4 وهذا الظرف ذا الحواف المقلّمة بالأزرق والأحمر. رغم أني _كما تعرفين_ لم ارتَد المكتبة منذ سنين ولم أستعمل الورقة والقلم. لقد كان قراري حازماً تلك المرة ولكن انظري لما حدث، ها أنذا أعود بنهم طفوليّ.
هل عندك فكرة عمّا آلت إليه حياتي منذ أن قررت ترك الكتابة؟ هناك شعور حاد بأن رئتيّ تسحبان أوكسجيناً أكثر، عينيّ غير متشنجتين وفكري يجري ببُعدٍ واحد فقط. عمومًا، قمت بافتتاح متجر خاص بي. هو ليس متجراً بل لنقل مقهى أو مطعم، ولكن بسبب جهلي باللغة الفنلنديّة آنذاك اسميته بالمتجر. متجر الحساء.
فبعد قرار تركي للكتابة كان عندي متسع ضخم لتعلم الكثير، أول هذا الكثير الاستجابة لولعي بفكرة تركيب المواد لتكون النتيجة نشوة حسيّة لا تضاهيها أخرى. تعلّمت في البداية أطباقًا مختلفة. بدءاً بالأسهل، بالمعكرونة ثم تصاعداً حتى الأطعمة التي يصعب إعدادها كالحليم الباكستاني والتيت دي ڤو الفرنسيّ. وكان الأمر اكتشافاً ممتعاً أكثر منه تعلماً. أذكر أن أولى أطباق المعكرونة التي أعددتها كانت مجرد معكرونة قلم مع معجون وصلصة الكتشب، ثم قمت بعدها بإضافة الثوم أو الريحان والجبنة، أما الآن فيعرف المقربون أن اشهى طبق معكرونة أقوم بصنعه هو حين أضيف اليها جبن البارميزان وصلصة الكمأ.
كان الأمر ولعاً فريداً، لعبة. راودتني في أحيان كثيرة فكرة أن أقوم بدراسة الطبخ كما توفره المعاهد الحكومية هنا كإختصاص، ولكنها ما لبثت أن خفتت. إن في روح المهاجر هاجس مضطرب غير مبرر تجاه الزمن.
ولكني قررت أن اختصر تلك الطرقات بأن أضع ما عندي من المال في متجري البسيط هذا. لست بحاجة لمعرفة سبب اختياري للحساء كهوية للمطعم! كم مرّ من الوقت؟ هل عشرون سنة أم أكثر. نعم لا أزال تلك المراهقة التي لا تتناول سوى الحساء كي لا يزيد وزنها.
كنتُ أفكر أن أرفق صوراً للمتجر ولكن دعيني أكمل هذا التواصل الأصيل كما بدأته.
المتجر ليس كلاسيكياً بالمرّة كما كنت أفضّل فيما مضى. بل قمت بشراء كراسٍ ملوّنة وطاولات طعام بيضاء، وجعلت الحجز أو اختيار المكان يتم تصنيفاً للون. ما لاحظته طوال السنين أن الأحمر هو أكثر الألوان تفضيلاً. علقت رفوفاً بشكل متدرج على الجدران بشكل عشوائيّ ووضعت عليها أصصاً لنباتات اصطناعيّة وكتباً خفيفة ككتب باولو كويلو ودانييل ستيل. أضع عادة موسيقى جيبلي الحالمة وأرى أن لا بأس بها بالتأثير على ملامح الزوّار.
أكثر ما أحبه في هذا العمل هي فقرة الزيارات المدرسية. تزورني بين الحين والآخر مجموعة طلاب من المدارس الابتدائية بصحبة معلميهم، وحينها تبدأ الفوضى والبعثرة وهمسات الكلمات الممنوعة وأتفاعل معها جميعها، ذلك أنه حين ينظر الإنسان للأطفال فهو لا يرى في الحقيقة سوى طفل واحد.
كنت هاربة من الكثير ولكن روحي خفيفة. ما حدث وما قد لا تصدقيه هو ظهور جدتي فجأة. كان مساءاً شتوياً خاملاً وكنت قد وضعت الموسيقى بشكل خافت للغاية وجلست لكتابة الفواتير التي عليّ دفعها. ولج من الباب، التي تصدر صريراً عالياً في فترة الشتاء، رجل تبدو ملامحه شرقيّة وخلفه امرأة عجوز بالكاد تقف هناك. بدا أنه لا يعرف شيئاً بخصوصها، أخبرني أنها جدتي وأرادت بشدة الوصول لهذا العنوان ثم غادر. تسمرت أنظر إليها وإذ بها تخرج علبة صغيرة من حقيبتها وتوجهت نحو الباب، ثم راحت تدهن مفاصل الباب الحديدية بما تخرجه من العلبة. عادت بعد ذلك تتمشى ببطء واتخذت من احدى الزوايا مكاناً لها. وضعت حقيبتيها وخلعت رداءها ومددت قدميها بشكلٍ مستقيم ثم تنهدت بشيء يشي بلذّة الوصول. كنت على يقين تام بأنها أخطأت المكان ورحت أحدّثها بأني سأبقيها هنا حتى تجد من تبحث عنهم. كانت عيناها مثل شقّين غير مرئيين في وجهها ولكن ما أن تمتعض حتى تبدآن بالاتساع رويداً رويداً وتصيران جحريّ ملامة وشؤم. رمقتني بتلك النظرة وقالت أنها جدتي شفق زوجة الهنديّ.
كنّا قد تزوّجنا في العقد الثالث من القرن الماضي زواجاً سريّاً دون دراية عائلتينا، حيث رفضت عائلتي زواجي من جدك لأنه كان ذا حسب بريطاني هنديّ. كانوا قساة حتى باستعمال اللغة وكانوا يسمونه الهندي الذي بلا أصل. كان جدك وسيماً وطالباً لا بأس به في معهد الفنون. اختصّ بدراسة النحت وظهرت منذ السنة الأولى بوادر أسلوبه الخاص في نحت ما يراه. آه لو أن عندي صوراً لأعماله لأريتك إياها ولكني لا أحمل معي في الحقائب سوى ثوبي ووشاح شعري والأعشاب والأدوية. ولكن.. لا تقاطعيني، ولكننا كنا زوجين مناسبين ولم أندم كثيراً أنني تخليت عن حياة لأجله. هل أخبرك أبوكِ عنا؟ لأنني لا أرى على وجهك سوى نظرة بليدة. أبوكِ سعدون أبننا الوحيد، كان وحيداً حقاً ولم يطل العيش كثيراً في منزل والديه. ربما كان في التاسعة أو العاشرة عندما لم يعد من المدرسة، كنت قد وبخته الليلة الفائتة لأنه رسم على الحائط ثم وصل الجدال حتى والده الذي قال إنها بوادر فنان.. المهم غادر ولم نسمع عنه إلا بعد سنين. كان علينا أن نفطن أنه سيغادر لأنه رسم قوارباً كثيرة في تلك الفترة. كان علينا أن نفطن لإننا فنانان. هل أخبرتك أن والده فنان؟ كان نحاتاً وتعارفنا في الجامعة..
وما لبثت أن غفت بشكل غريب حتى ليظن الناظر أنها لم تكن على قيد الحياة يومًا.
لم تكن عندي أدنى رغبة بأن أنمّي بيننا رابط الحفيدة والجدة ولكن كان لها رأي آخر. فهي لم ترغب بالبقاء في منزلي ولم تستمع لي حين عرضت عليها جلب ممرضة خاصة، على عكس ذلك أقامت في المتجر، تحديدًا في الزاوية التي اختارتها. غير أنها لم تكن تصدر صوتًا دون أن أبادر للحديث معها، كانت تبقي عينيها مغلقتين ويديها حول حقيبتها. لم يعلق المارة على الأمر واكتفوا بأن يحدقوا بها حتى تمتلىء أعينهم بالزمن. ولكني رغم ذلك شعرت بالحرج الشديد وبالحاجة لتبرير وجودها، وقد راودتني فكرة سهلة بأن أخبر الزوّار أنها الشحّاذة النائمة. وصرت أمرر هذا الادعاء بالحديث مع الزوّار دون أي رد فعلٍ منها.
ولكن الأمر لم يكن بهذه البساطة، فهذه العجوز لم تكن بالإنسان اليسير الذي يُرمى في زاوية المكان. كانت إشارتها لبدء الحديث هي تلك الحركة التي تقوم بها بعينيها، وفتحهما على اتّساعهما وتنظر لثوان ثم تفضي بما تفضي به. فعلت ذلك أمام رجل كان يضع ثقله على عربة طفله. نظرت إليه لفترة وجيزة ثم زحفت بمؤخرتها بضع مرات حتى غطت بجسدها لائحة اليوم، وحين دار جدال بيني وبينها لتبتعد غادر الرجل المتجر ساخطاً. حينها فقط أطبقت جفنيها وارتسم السلام على محياها مجدداً.
بدت حادثة عابرة، حركة طفولية للفت انتباه لا أكثر. مرت أيام دون أن تقوم بأي شيء عدا تناول ما أقدمه لها من أطعمة وذهابها إلى الحمام. وقد طمأنني هذا السكون الذي يرافقها، كما تعرفين لا أفضّل الحديث كثيراً ولكن وجود الآخر يجعل من أصابعي آلة فنيّة خارقة. كنت أنشغل حينها بإعداد أحسية متنوّعة لمجموعة طلابية ستزورني بمناسبة انتهاء الفصل الدراسيّ، لذا حجزت يوماً كاملاً لتواجدهم. كنت أقوم بإعداد المكوّنات وصفّها والحديث مع جدتي، أخبرتها أن الأطفال يحبون حساء السلمون كما أنه مفيد وذو ألوان مرحة. وأن نظام التغذية في فنلندا صحيّ عموماً وأن ذاكرتي متعبة، كأنها لوحة لبولوك، وإني لا أذكر تحديداً متى استسغت الطعام الفنلندي لأول مرة ومتى توقفت عن وضع الملح بكثرة في طعامي، وإني لا أعرف متى رأيت ما رأيت. وأن الحب ليس سوى محطة استراحة من الوجود، حتى تقعين في حب من يضع في جيبه خريطة العالم وفي قلبه حنجرة البلابل، فتصيرين أمّاً، امرأة مبالية لا يفوتها شيء، تعرف عدد قطرات المياه التي تسيل ليلاً في الصنابير وتعرف الآخرين من وقع خطواتهم. نظرت إلى جدتي وشعرت حينها لوهلة بأنها موجودة حقاً، فمددت سبابتي ولمست خدها الدافئ والمتعرج كالعجينة.
أوصيتها بالحذر أثناء ذهابي لتبضع بعض الأشياء إلى حين قدوم الطلاب.. كانت المرة الأولى، مرة وحيدة ، بأن هنالك شخص حقيقي في عالمي. اتعرفين ما حدث؟ لن أطيل ولكن الحديث بتفصيل ينظف هذا البدن. حين عدت كانت رفوف المتجر قد امتلأت بعلب زجاجية تحفظ داخلها أعشاباً ووروداً مجففة وهناك أكياس قماشيّة تتدلى على الحائط وعطر بخور يملأ المكان. أما الجدة فكانت جالسة إلى اللابتوب تحاول كتابة شيء ما.
-ألا يقول شوبنهاور إن الموسيقى ليست شيئاً يضاف إلى العالم بل هي عالم قائم بحد ذاته؟ دعيني أضع أغنية.
انصرفت عنها منشغلة بعجلة لإطفاء البخور وطرد رائحته من المكان. كنت مذعورة جداً ورغبت أن أجري اتصالاً هاتفياً معكِ لتساعديني ولكن الوقت لم يتسع. حين دخل الطلاب المتجر راحت الجدة تتحرك بخفة شابة. كومة اللحم تلك! وضعت أمامهم صحوناً ومعالق وراحت تصب لهم حساء عدس! حساء عدس تخيّلي! وجهت المعلمات لي نظرة لوم وتساؤل وما فعلته هو أن اختبأت خلف ظهرها. لحسن الحظ أن الأطفال استساغوا الحساء وطلبوا المزيد. كنت أراقب ما يجري وأتعلم أن اللغة الأم للإنسان هي وجهه.
لم يحدث أن أحبني الأطفال لذلك الحد، لم يستجيبوا لأوامر المعلمات وراحوا يرمون بثقلهم على ظهر وحضن الجدة، بدت مثل آلهة هناك وخفت أنها لو فرحت أكثر لبزغت من كتفها أيادٍ أخرى.
طلبت من أحد الأطفال أن يجلب حقيبتها. أخرجت منها أوراقًا وراحت تصنع زوارق ورقيّة بأشكال مختلفة، مرة بأشرعة ومرة مجرد قارب صيد صغير. والتفّ الصغار حولها يقلّدون ما تصنعه.
حين غادر الأطفال كانت عيناها مفتوحتين دون ذعر. وراحت تبتسم ثم تضحك بصوت مسموع. كانت نحيفة لدرجة أني سارعت لعناقها حتى لا تتبعثر على الارضيّة.
لا تظني أنها المحبة، بل الفخ الذي ملأ قلبي بهذه العاطفة. بعد ذلك اليوم صارت الموسيقى الشرقية تصدح في المتجر وامتلأت هذه الجدة بنشاط لتقوم بإعداد أطباق دسمة للغاية. تغيّرت الرفوف وصارت مجرد مسند للأعشاب والنباتات، أما الكتب فقامت باستبدالها بكتبٍ أخرى عن التاريخ والأدب كتلك الكتب التي كنت اقرأها فيما مضى، حتى أنها غيّرت مواضع الكراسي ولم تعد الطاولات بتصنيف لونيّ بل جعلتها عشوائيّة. وكأن أحداً هزّ رأسي بعنف ثم حرره.
عليكِ أن تعي تماماً أنني لم أكن ذات صلة بما جرى، كل ما في الأمر أنني كنت مستسلمة لما تقوم به. في تلك الفترة لم يعد يزورنا الزبائن بكثرة، غالباً يمرون صدفة فيدخلون لتجربة الطعام أما الآخرون فاختفوا تماماً. لم يزرنا أي طفل ولكن ما تقوم به الجدة كان يعوّض عن ذلك حقاً.
كانت مذهولة بما آل إليه العالم، بفكرة طباعة صورة على كعكة الميلاد فقد كانت مشغولة بإعداد شيء ما لعيد ميلادي القادم. واظبت على وضع اللابتوب أمامي لتطلب مني وضع كلمة كعكة ميلاد في محرك البحث، ثم تدير الجهاز عني. لم يحدثني بابا سعدون عنها، ربما ذكر شيئاً بخصوص أمه ولكنني كطفلة لم أدرك أن لوالدة أبي علاقة بي. لم أرَ لها أو لجدي صورة أو ذكرى عند أبي ولكنه كان يحتفظ بقارب ورقيّ، لا أدري، ربما هو من صنعه. ربما ورثت عن أبي ذلك الهاجس الذي يقول أنني لست في المكان الذي أريد، لقد ترك والدتي بعد ست سنين دون أن يخبرها بشيء والآن أعرف من أمه أنه غادرهما في صغره. ما الذي يدفع الإنسان لفعل أمر مماثل؟ اسألك يا صديقتي لأنني كذلك ولأنني لا أعرف.
في يوم عيد ميلادي، اصطحبتني الجدة لبحيرة هنا في هلسنكي. كانت الساعة الخامسة فجراً. جلسنا على صخرة متلفعتين بوشاح صوفيّ واحد. قالت لي إن الأطفال قادمون. لم أفهم حتى سمعت صوت ركض وضحك. جاءت مجموعة أطفال إلينا وعانقوا الجدة التي سحبت من حقيبتها زوارق ورقية ووزعت واحداً لكل طفل. صديقتي العزيزة، أعتذر بشدّة. غادر الأطفال لوضع الزوارق في البحيرة وما بها إلا تزداد ضخامة حتى صارت زوارق تتسع لإنسان حقيقيّ. ركب كل طفل قاربه وانطلق يبتعد عنّا. أعتذر منكِ، لم يكن بيدي حيلة لمنع ما جرى. عرفت لاحقاً من سجل أسماء الأطفال المختفين أن أحدهم كان طفلك. لقد سرق مني الغياب ذاكرتي وجعل من الصور جدراناً. سأزوركِ قريباً. هل ستتعرفين عليّ إن رأيتني؟
نلتقي قريباً، رغم أسفي أن أبلغك عن مكوث جدتي معي حتى الآن. هي غير قابلة للرحيل ولكنني لست على صلة بها. حدث ذلك عندما عدنا من البحيرة. كلانا لم يعد يسأل الآخر.
سأعود، لأنني فطنت لحقيقة مهمة اليوم، وأنا على درجات سلّم الميترو المتجه لمركز المدينة محاطاً بعشرات الأقدام ، ذلك أن الإنسان ليس سوى قدمه في لحظات العجلة، وهي أني قد انتهيت من رغبة الخلود، أدركتُ ذلك في لحظة صفاء كامل؛ إن تمشى الإنسان في مدنهِ الكبيرة وبين أفكاره دون قلق من رؤية من يحب وما يحب، يعني أنه قد تخلّص من قيده الكبير للأبد.