لا يختلف اثنان على ثورية أدب غسان، إلا أن هناك تقييماً شائعاً مفاده أنّه أدب ذكوري بسبب تقصيره في تناول قضايا المرأة وحركيتها ودورها الطليعي. يعتذر لأدبه أصحاب المنهج الاجتماعي بأنه يعكس ذكورية المجتمع والمؤسسة التي أنتجته، في حين يرى البعض أن رواية أم سعد تمثل نموذجاً استثنائياً لأنه أفرد باسمها وشخصها وبطولتها رواية التزمت بالاشتراكية الواقعية. أعود إلى أم سعد لاستقراء إبداع غسان لغة كتابة يقطع فيها مع الأدب الذكوري في فضاء غير مسبوق في عصره.
في اللوحة الأولى، تجلس أم سعد في مقعدها واضعة كفيها المتشققتين مطويتين إلى بعضهما على حضنها في عناق حميم. تمد نظرها نحو غسان الذي يجلس ويستمع لامرأة فلسطينية مسحوقة وفقيرة ومرمية في مخيمات البؤس في لبنان. تزم أم سعد شفتيها ثم تنفرج أساريرها بابتسامة عفوية وهي تقص على غسان قصة المختار الذي طلب من سعيد ورفاقه أن يكونوا أوادم. يغالطها غسان لوقوفها بوجه المختار، فيرتجف جسد أم سعد ويجتاحها غضب، تنظر إلى غسان مباشرة وتسدد من عينيها رمحاً يخترقه، وتقول: «تتكلم أنت على الحبوس؟ طول عمرك محبوس.. أنت توهم نفسك يا ابن العم بأن قضبان الحبس الذي تعيش فيه مزهريات؟ حبس، حبس، حبس. أنت نفسك حبس». وفي كل حوار، تواصل أم سعد تحديها، تنهي حديثها وهي تشير بذراعها السمراء وتدورها إلى كل شيء، ثم تصوبها نحو غسان كجسر ممدود أو كحاجز وتسأله: أتفهم؟ أرأيت؟ فهمت؟ وفي كل مرة، ينتفض غسان للسؤال: كيف يمكنه استعادة كل ما قالته أم سعد؟ كيف يكتب زمن حكاياتها المدور بتعدد أبعاده وتكسر خطيته وتداخل الأحداث وتقاطعها دون ضوابط منطقية وترتيب وتسلسل زمني؟ هل يلهث وراء النظريات القومية واستعاراتها المثالية وأساليبها النمطية التي تضفي على أم سعد طابعاً أسطورياً يتجاهل ويهمش خبرتها ودورها، أم وراء تحليل طبقي منحاز للفقراء ولكن بإجاباته الواضحة عن تقدم قضايا الصراع الطبقي على قضاياها؟ هل يترجم هذه الانشغالات بلغة الصالونات الثقافية والسياسية المعقدة والحاسمة أم يكتب بلغة رحمها التي ظلت فلسطينية رغم تراكم الزمن والانكسارات والتجارب صعوداً وهبوطاً؟
من لوحة للوحة، يرقى غسان لمستوى التحدي؛ يذيب صوته في السرد فيعلو صوت أم سعد، وبهذا تحقق تمثيلها لنفسها، وتنتصر لحقها في تأريخ الخطاب الصهيوني الذي استبعدها ونفاها من الحضور، كما في تأريخ الخطاب الوطني الذي استبعدها من المشاركة في إنتاجه ودفعها إلى خلفية المشهد الفاعل وأنكر دورها. تنتزع أم سعد حقها في إعادة انتاج الخطاب من خلال أصوات غير مركزية ودون أن تزعم أنها تمتلك الحقيقة أو تستأثر بها، فتنتصر باللغة التي تكرست فيها أصلاً سياسات التغييب والتفضيل والتفرقة والتمييز ضدها. وما كان هذا ليكون لولا تحدي أم سعد لغسان وتحرر غسان من حبس لسان الأب الذي يمثل السلطة والنفوذ، وزعامة الخيال الذكوري القائم أساساً على أحادية صوت الراوي وتحكمه المطلق والعارف بكل شيء، وسلطة الخطاب الثقافي الذي يفرض على المرأة أن تظل دوماً في موضع التابع والهامش ويحكم على صوتها بالصمت أو التهميش. هنا يستبق غسان كنفاني مقالة غياتري سبيڤاك «هل يمكن للتابع أن يتكلم؟»، هذا المقال الذي شغل مدارس فلسفية وفكرية وأشعل جدالات طويلة بين المثقفين. تحاجج سبيڤاك أن فئة التابع، أي الطبقات المهمشة غير المسموعة في المجتمع أو «معذبو الأرض» بتوصيف فرانز فانون، غير قادرة عن التعبير على اضطهادها وحاجاتها وتطلعاتها ورؤيتها لأن قوة التبعية للتقاليد الدينية أو الثقافة الأبوية أو الثقافة الاستعمارية تحول دون انبثاق صوتها والتعبير عن استغلالها، ولأن صوت التابع هو أيضاً صوت محكوم بالصمت بسبب طبقات النخبة والمثقفين الذين يساهمون في تغييب صوتها ويحتجزون لأنفسهم حق تمثيلها. تأتي رواية أم سعد بالرد القاطع أن صوت التابع وسبر أغوار كلامها وكتابته إبداعياً مطمح ممكن من خلال لغة كتابة تعيش في منفى لغوي، خارج حدود وطاعة لغة الأب بقواعدها ومنظوماتها الدلالية، تماماً كما يعيش اللاجئ منفياً خارج مكانه وزمانه.
يبدع غسان ما يسميه جيل دولوز «لغة أقلية»، التي لا تعني لغة المجموعات الإثنية العرقية، وإنما لغة كتابة تشق عصا الطاعة على بيت لغة الأكثرية، ومركزيتها القائمة على التمايز والتعالي وسيادة الذات في امتلاك المعرفة والسلطة، وتشتغل على تفكيكها من خلال إبداع آليات وأساليب وتقنيات جديدة. ليس هدف هذه الآليات الكشف عن حقيقة جوهرية معتمدة على قدرة الراوي، ذات تتملك القول، على تمثيل التابع، ذات يتملكها القول، وتطويع كلامها للكشف عن معنى أحادي أو جوهري منبثق من كلامها وإشاراتها، أو لعرض الذاكرة كحفنة ذكريات حدثت في الماضي. الهدف هو فتح أبواب التأويل على مصراعيها من خلال الاستعداد لتلقي الإشارات المنبعثة من صوت وايقاع كلامها واستمراريته وتدفقه وصمته وسكونه وانقطاعه وإيحاءات وحركات جسدها، الإنصات والإصغاء والتواضع في تعلمها، واتقانها ابداعياً بإفساح المجال لانبجاسها وجدلنتها في عملية زئبقية تثير الماضي والمختزن في الذاكرة كمادة مفجرة لاحتمالات التحول في الوعي والواقع الحاضر ولاستشراف المستقبل. باعتماده آلية إعلاء صوتها على صوته، تحقق أم سعد تعبيرها وتمفصلها وإدراكها وتمثيلها لذاتها في لغة كتابة تشاركية وتحايثية، غير متعالية وأكثر مرونة وأقل بطشاً بالكبت وبكل الإكراهات الاجتماعية.
ينحت غسان في اللغة، فينتهك محارم البناء التقليدي للرواية؛ يحل السرد محل الدراما في متتاليات مروية تنسجها أم سعد من تجربتها الطويلة والقاسية، والتي تمتد من زمن الشقاء في البلاد إلى زمن التهجير وواقع التراجيديا الفلسطينية الحي في المخيمات، وتحيكها من مفردات العذاب الفلسطيني، ودون جعلها أسيرة تلك اللحظات وبغية الوصول إلى شيء آخر: إلى إنتاج وإعادة انتاج معان ومفاهيم وعلاقات غيرية بين التجربة والوعي، اللغة والجسد، بين الذاكرة وحركة التاريخ. يكتب غسان كنفاني لا ـ رواية، يكتب عشر لوحات متفرقة تتبعثر الأحداث على امتدادها، ويتقاطع فيها الماضي مع الحاضر والمستقبل، وتمزج بين اللغة العربية الفصحى واللهجة العامية، وتتأرجح بين الواقعية الاشتراكية والواقعية السحرية وبنهاية استشرافية متفائلة. يأتينا صوت أم سعد كالشعر، الذي، بوصف أوكتافيو باث، «يتعذر اختزاله إلى مجرد أفكار وإلى نظام (مغلق). إنه الصوت الآخر. فهو ليس كلمة التاريخ أو التاريخ المضاد، لكنه الصوت، الذي في سياق التاريخ يقول شيئاً آخر». تتبدل سرديات أم سعد عدة مرات، وتتقطع في المكان والزمان، وتتداخل وتتشتت في مونتاج مترع بالجمل الاعتراضية والاستطرادات وحكايات وقصص وثرثرات وتجارب وذكريات وفعاليات في حركة حيوية مستمرة، فتستكشف ذاتها فيهم ومن خلالهم، وتنتج المعاني حد توليد الوعي وتفعيله وتصعيده وتعميقه وتصويبه وتجديده. من لوحة للوحة، ترتقي أم سعد إلى مستوى أكثر تعقيداً في صناعة الهوية رافضة تكريس هوية أحادية مغلقة، وفي نفس الوقت تبعثر تعدديتها، لتعيد تشكيلها كثورة مستدامة تتكون ذاتاً في قلب الحدث، وتنتج صيرورتها في تعدديتها ودورها الفعال في العيش المشترك والنضال الجماعي. بلا حبكة هرمية أو تصاعدية، يطارد غسان عالم أم سعد حتى تجبره أن يتخلى وينقلب ويتبرأ ويتحرر من لسان وصوت وخيال ولغة الخطاب الذكوري، فتعيد معه تفكيكه وتقويضه كشرط من شروط تمكين التحرير من الخطاب الاستعماري والصهيوني والتحرر من أطر هيمنة أصواته الثقافية والسياسية.
لا يتحرر غسان من الخطاب الأبوي، بل يتحرر أيضاً من حبس النظام الأبوي وكافة أشكال تمركزه على القطيعة مع جسد المرأة/ الأم. ينادي أم سعد «يما» ليغدو غسان، كما سعد، «ابن أمه». يعرف غسان نفسه كنقطة انطلاق من المرأة التي تحول خيمة اللجوء إلى خيمة مقاومة وتربي فدائيين، لا كما تعرّف المرأة كنقطة انطلاق من الرجل ومن ضلعه الأعوج. يمد غسان من ذراع أم سعد وساعدها الأسمر القوي الموشم بجرح عتيق جسراً لا حاجزاً، ويعلن عودته لجسد هذه الأم الفلسطينية وللعلاقة الغيرية التي تجسدها، كما أعلن سعد انتماءه للأم الجليلية التي تنقذه ورفاقه الفدائيين من الجوع والعطش وكما يعيد أبو سعد نسب سعيد إلى أمه، وبهذا يعيد غسان تقييم الأمومة بعيداً عن معطياتها البيولوجية والنفسية والاجتماعية الوظيفية. هنا يستبق غسان نقد النسوية الفرنسية المابعد حداثية لمؤسسات التحليل النفسي واللغة والثقافة والحركة النسوية لإقصائهم للأمومة والحط من قيمتها وإخراجها من دوائر اهتماماتهم. تحضر جوليا كريستيڤا لتفجر الطبيعة النسوية في وجه الصنم الفكري الغربي الذكوري من خلال الكشف عن التباين بين الذات الذكورية والذات الأنثوية في علاقتهم مع السلطة واللغة والمعنى. تميز كريستيڤا بين المجال السيميائي، كلام ما قبل اللغة، المرتبط بـالأم والتفكير والتذكر والأحلام والغرائز والأصوات والجسد والاشارات والموسيقي والشعر والإيقاع، والذي يفتقر إلى البنية والمعنى الواحد ويسكن في الشقوق اللغوية؛ وبين النظام الرمزي لعالم اللغة والمعنى والفكرة والفعل والكلمات المرتبط بالقانون والبنية وسلطة الأب وديكتاتورية رموزه. تقول كريستيڤا إن دخول الطفل إلى عالم اللغة يتطلب التمييز بين الذات والآخر وتطوير هوية منفصلة عن جسد الأم. يفرض النظام الرمزي الأبوي السلطوي على هذا الانفصال أن يكبت أصوات وكلام الأم، ويكرس رفض واستنكار جسدها وطمسه وإقصائه وتهميشه كتذكرة للدخول إلى عالم المعنى والثقافة والقانون. في النظام الرمزي الأبوي، تحرم الأم/المرأة من تمثيل ذاتها ليتم تمثيلها ضمن قطيع نسوي واحد متشابه ومتجانس بلا فوارق، وتصبح رمزاً للغياب والسلبية والداخلي المأزوم والمهزوم والمهمش والمخجل واللاوعي وكل ما هو غير عقلاني. في «نساء بصيغة المفرد»، تحرض كريستيڤا النشاط الإبداعي على البحث عن وسائل كفاحية لتحرير هذا المكبوت للسيميائي وللجسد الأمومي وكتابته في الرمزي كدخول «الموسيقى إلى الحروف»، بتوصيف مالارميه، وكأنها بعنوانها تحاور وصف غسان لأم سعد، التي هي «ليست امرأة واحدة» بل تجمع كثيف لتعددية ملتحمة بطبقة البؤس الواطي في الصف العالي من المعركة.
وفيما تنفى الأم من الحضور الفاعل كما في ملحمة الخليقة الكنعانية، فلا يتم الوصول إلى قمة السلطة لدى الأحفاد الذكور إلا بإطاحة سيادة الأم الأولى، يمو، وتمثيلها كرمز للشرور وقتلها ليصنع الإله الذكر، بعل، من جسدها النظام/اللغة، تتأرجح أم سعد بين السيميائية والرمزية، بين اللغة وشاعرية الكلام، فينفلت جسدها الأمومي من معناه البيولوجي الأحادي لتصنع من رحمها مكاناً أعقد من كونه مجرد حاضنة، «كوارة وأفرغت» كما في المثل الشعبي، أو مكاناً غامضاً يهدد اتزان المجتمع، إلى إمكان خارق دائم الامتلاء بالغرائز والهواجس والنكبات والرغبات والأحلام، وتجسيد لغيرية باهرة، وحبل سري بين سبيل الحياة اليومية بمعاركها ودموعها ودمائها وبين إرادة الحياة الكريمة وإن بالموت سبيلاً. تفجر أم سعد أمومتها لتسترد قداسة المرأة/الأم الفلسطينية وعبقريتها لا بالحنين لشكلها الأسطوري أو بالنكوص نحو أم بدائية، بل من خلال سعيها الثوري لإنتاج وإعادة إنتاج ذات وذوات أكثر تمرداً وأكثر عصياناً للنظم المعرفية الذكورية، وقادرة على تقويض نظمها الرمزية وبناها الاجتماعية والثقافية والسياسية، وعلى تفجير مركزية وهياكل السلطة الاستعمارية والصهيونية بكل تمثيلاتها وهيمنتها وفحولتها الذكورية التي تفرض على الشعب الفلسطيني والمرأة التموضع في موقع التابع والهامش والمغيب، وعلى تمكين المرأة/الأم الفلسطينية من أن تخلق هويتها وتكتب تاريخها وتاريخ شعبها وأرضها بجسدها.
يهدي غسان الرواية «إلى أم سعد، الشعب والمدرسة»، يهديها إلى هذه الشهرزاد الفلسطينية التي لم تعش في القصور بل على أرض المخيمات ولم تنزلق في وحلها، بل ارتقت من شقائها وانتصرت على الخرافة والأسطورة والنكبة والنكسة وحولت على مسرح جسدها خيمة اللجوء إلى خيمة مقاومة وثورة..هذه الشهرزاد الفلسطينية التي تستثمر فعالية سردها لتسرب العبرة الجبارة أن التحرير يلزمه التحرر وخيمة مقاومة ترفع عمادها امرأة على أوتاد ثوابت الإجماع الوطني في ثورة وعودة بتاء التأنيث.