من «عائد إلى حيفا» إلى عائدون إلى حيفا (1 - 3)

[بوستر للثورة الفلسطينية] [بوستر للثورة الفلسطينية]

من «عائد إلى حيفا» إلى عائدون إلى حيفا (1 - 3)

By : Hanadi Loubani هنادي لوباني

بعد عشرين عامًا يصل سعيد (س) وزوجته صفية إلى بيت كان يومًا لهما في حيفا(1). يصعدان الدرج المؤدي إلى بيتهما في الطابق الثاني. يجاهد سعيد (س) ألا ينظر إلى الأشياء الصغيرة: البوابة الحديدية الخضراء، وشبابيك المصاطب ذات الحديد المتصالب، وخربشات أقلام الرصاص على الحائط، وصندوق الكهرباء، وحاجز السلم المقوس، والدرجة الرابعة المكسورة من وسطه، والباب الخشبي المغلق المدهون حديثًا بلاقطته النحاسية، وتغير جرسه والاسم عليه. يقرعان الباب، وتدخلهما ميريام، اليهودية البولونية ومالكته الحالية. بمجرد دخوله، يستكشف سعيد (س) تحول المنزل وتفاصيله: المدخل أصغر قليلًا مما تصوره وأكثر رطوبة، صورة للقدس وسجادة شامية ما تزالان معلقتين حيث كانتا، مقعدين من أصل خمسة مقاعد من الطقم الذي كان له، الطاولة المرصعة بالصدف في محلها، خمسة أعواد من أصل سبعة من ريش الطاووس في مزهرية خشبية بدل مزهريته الزجاجية، ستائر زرقاء بدل الستائر السكرية التي اشتغلتها صفية بالصنارة. في نظرات صفية الحائرة وصمتها، يدرك سعيد (س) أنها أيضًا تجرد محتويات الغرفة، ما تبقى من أشيائهم وأعاد الإسرائيليون استخدامها، وما فُقد أو تم استبداله.

بموجب "قانون أملاك الغائبين"، الذي أقره "الكنيست" في 1950، استولى الإسرائيليون على البيوت التي تركها الفلسطينيون وقت المعارك، وأصبحت بموجب قانون حيازة الأراضي لعام 1953 من أملاك "الدولة" ويحق لها التصرف بها(2). أعطت البيوت بما فيهما من أشياء للمستوطنين الجدد: أثاث وأجهزة ونقود، كتب وألبومات صور وملابس ومجوهرات، وسجاد ومصابيح ولوحات، معدات ثقيلة وشاحنات وقطعان الماشية وحصاد. «أخذوها مفروشة»، كما يختصرها الكوميدي الفلسطيني عامر زهر، ومملوءة بالذكريات. وفي الواقع، كانت معظم هذه الأشياء والممتلكات الشخصية قد فُقدت قبل سن القانون في أعمال نهب وسرقة علنية وجماعية. يشهد "الوصي على أملاك الغائبين" في ذلك الوقت على أنه: «لم تصل الملابس، والأمتعة المنزلية، والمجوهرات والمفروشات ـ بخلاف المراتب ـ أبدًا إلى مستودعات سلطة الحراسة»(3). ويوثق صحفي إسرائيلي في العام 1949 أن جميع شرائح المجتمع الإسرائيلي شاركت في السرقة: «الرغبة في النهب والسرقة استحوذت على الجميع.. اندفع الأفراد، والجماعات والمجتمعات، الرجال والنساء والأطفال، إلى خطف الغنائم. الأبواب، والنوافذ، والعتبات، والطوب، وبلاط الأسقف، والخردة وأجزاء الآلات»(4). وتروي يهودية من سكان غربي القدس، كانت فتاة مراهقة في تلك الفترة، عن النهب في القطمون دون أي شعور بالخجل: «في ذلك الوقت، كانت عائلتي تعيش في "رحافيا"، [حي يهودي مجاور للقطمون].. لأيام، كان بإمكانك رؤية أشخاص يمشون وهم يحملون الأشياء المنهوبة. كنت أحدق من نافذة شقتنا وأرى عشرات الأشخاص وهم يمرون ومعهم المنهوبات.. ليس الجنود فقط، وإنما المدنيين أيضًا. كانوا ينهبون مثل المجانين. كانوا يحملون حتى طاولات السفرة. وكانوا يفعلون ذلك في وضح النهار، بحيث يمكن للجميع أن يروا.. ذات ليلة أخرجني جندي ورافقني في جولة في الحي العربي المجاور. وأذهلني جمال المنازل. دخلت أحدها ـ كان جميلًا فيه بيانو وسجاد وثريات رائعة.. أراد أحد الجنود أن يُرضيني فجلب لي منديلًا وأقراطًا»(5). حتى الفلسطينيون، الذين بقوا في فلسطين بعد حرب 1948، عادوا إلى قراهم ومدنهم ليجدوا أن بيوتهم قد صودرت وأشياءهم سرقت، ووجدوا أنفسهم مجبرين على استئجارها، أو استئجار بيوت جيرانهم المهجرين من الحكومة. إذًا، قوننة هذه الممتلكات بـ"أملاك الغائبين" جاء بعد ممارسات السرقة الجماعية وبمثابة مصادقة رسمية على ثقافة السرقة الصهيونية. 

يذكرنا الأنثروبولوجي آرجون أبادوراي أن المقتنيات الشيئية العينية التي يمتلكها الأفراد لها حيواتها الاجتماعية والسياسية من لحظة إنتاجها، ثم استخدامها، إلى مرحلة تبادلها أو تداولها أو انتقالها في سياق الفعل الإنساني(6). وبالتالي، اكتسبت الأشياء التي تركها أهالينا خلفهم حيوات جديدة بسبب سرقتها وانتقالها من الاقتصادات الفلسطينية إلى الاقتصادات الإسرائيلية، لم تظل على ما كانت عليه قبل النكبة. في نظر اللاجئين، تجاوزت هذه الأشياء قيمتها ووظيفتها، واكتسبت في وعيهم المنكوب قيمة غالية الثمن وحيوات إضافية، ولكن من خلال اقتصاداتهم التمثيلية فقط وبصورة رمزية: شحنت بقيمة عاطفية كبيرة، وأصبحت أوعية للحنين والذاكرة والرغبة، ومنصة لانطلاق حكاياتهم الشخصية، والتي تقاطعت مع الرواية الفلسطينية الجماعية لتمثيل وإدراك النكبة، وتدفق المضمر وما ترسب وتراكم فيهم بشبكية تداخل فيها قطبا جدلية الماقبل والمابعد، المرئي واللامرئي، الذاتي والموضوعي، الشعور واللاشعور، البوح والصمت، العقلانية والفوضوية، الاغتصاب والهروب، الفقدان والانتماء. وجود وهوية هذه الأشياء في هذا الموقع البرزخي هو ما مكنها دائمًا من أن تتجاوز دلالاتها في ذاتها، أن تكون قابلة لأن تكون شيئًا آخر بالتمثيل، أي بتشخيص الأشياء الغائبة وابتكارها بقوة الذاكرة والخيال كحاضر في صورتها الرمزية، ودائمًا في ارتباط بما يتجاوزها في المخيال، وحدّ ارتقاء القداسة المفقودة والمفتقدة. يقول جان بول سارتر: «إن فعل الخيال.. فعل سحري. فهو دعوة موجهة إلى استظهار الموضوع الذي يفكر فيه المرء، والشيء الذي يرغب فيه، بشكل يمكنه معه امتلاكه»(7). وبفعل تموضعها بين تعيين اللامرئي والإمساك بالمرئي، صارت هذه الأشياء تورث للأجيال التي ولدت في الشتات، تؤتمن لحفيظة ذاكرتهم لا كصور التقطت لأشياء مرئية، بل كصور ذهنية، كتلك العلامات الفارقة في خانة دفتر النفوس التي توثق الجرح الأكبر في هوية صاحب الحفيظة، وتحدد مكانه في الجسد، وتشهد على الجريمة. صرنا نحن الأحفاد نجمع ونؤرشف صور هذه الأشياء في الذاكرة، وكأنها كانت معنا يومًا، وكأنها في لحظة اللقاء ستشهد على حقنا فيها.

انتقلت ملكية هذه الأشياء من الاقتصادات الفلسطينية إلى الاقتصادات الإسرائيلية؛ لم تبق هويتها كما كانت عليه من دون تغيير، بل اكتسبت حيوات أخرى جردتها من هويتها الأصلانية الفلسطينية. تحولت هذه الأشياء في منازل المستوطنين في أحسن الأحوال إلى تحف جمالية مسلوخة عن سياقها السياسي وصداها التاريخي، وبالتالي إلى تموضعها في إطار وعي مبني على "النسيان"، أو بالأحرى تناسي النكبة، ولا تثير أي شعور بالندم على الجريمة، أو الخجل من السرقة، أو أدنى إحساس متوجس من أطياف ماضيها الفلسطيني. صارت أشياؤنا أشياءهم، صارت تمتلك هوية سياسية جديدة، ومرجعية جديدة قائمة على حيواتها في الحاضر الإسرائيلي، وقادرة على أن تستوعب ذكريات إيجابية مع المحتل. صارت هويتها سطحية وفردية، في أحسن الأحوال، تُمارس فقط في السياق الاستهلاكي أو الاجتماعي أو الجمالي الذي فرغها من معانيها ودلالتها. إلا أن هذا السلخ/المحو، وإن كان يُمارَس فرديًّا ـ أي يجيء من رغبة داخلية تصبح ملزمة، فهو أيضًا إلزام خارجي بناء على طلب من سلطة معينة ـ أي نتاج سياسة مفروضة وعنف تأسيسي يمثل لب المشروع الصهيوني في محو التاريخ الفلسطيني. في حيواتها الجديدة، ألبست بعض هذه الأشياء حلة النوستالجيا والأكزوتيكا في عملية تعويض لما ينقص البيت الإسرائيلي من تاريخ. ومثل هذه الأشياء مئات المنازل والأحياء والمعالم التي محيت أصولها لمصلحة تاريخ وتراث مزعوم لليهود في فلسطين. سرقت مجموعات صهيونية حجارة مسجد قرية معلول المهجرة، ونقلتها لبناء منزل يهودي ليظهر وكأنه بناء يهودي قديم. وما زال الكيان يسرق بلاط حارات القدس القديمة وينقلها لحارة اليهود في البلدة القديمة لإبرازها وكأنها ضاربة في جذور التاريخ، لا كحي استُحدث في 1967 على أنقاض خمس حارات مقدسية دُمّرت بمعظم منازلها ومتاجرها وآثارها وبنايتها، وبعد طرد ثلاثة آلاف من سكانها الفلسطينيين. وسرقت الحجارة والعقود القديمة من منازل القرى المهجرة في أراضي 48، وتم إعادة بنائها هندسيًّا في يافا و"تل أبيب" والعفولة والخضيرة وغيرها. وخلال النكبة، استولى اليهود على العديد من القدور الفخارية العائدة لأهالي القرى المهجرة، بالإضافة للكثير من الأواني النحاسية والمعدنية، بعضها نُقل لمتاحف شيدها الكيان وعرضها منسوبة إليه، والبعض الآخر عُرض في متاحف عالمية بصفتها تراث إسرائيلي. وسرق الكيان الأزياء (الثوب والقمباز والكوفية)، ومأكولات فلسطينية (الفلافل والشكشوكة والمفتول)، وشارك بها بمعارض دولية على أنها تراث إسرائيلي. وأعلنت "إسرائيل" أن الحمّص "طبقها الوطني" وتسوقه كطبق تراثي من الماضي اليهودي.

تجنيس وتطبيع هذه الأشياء إسرائيليًّا بعث فيها حياة جديدة-قديمة من خلال عملية محو/استكتاب لإثبات "حق" و"أحقية" الوجود اليهودي في فلسطين. عملية المحو/الاستكتاب هذه ليست علاقة خطية ومستقيمة، أي بنزع ملكيتها ومحو ماضيها الفلسطيني، بل علاقة بمسار دائري مركب، من الحاضر إلى الماضي ومن الماضي إلى الحاضر، لاستملاكها زمانيًّا ومكانيًّا وبعثها صهيونيًّا. إذًا، لا يقتصر هذا المسار الدائري على مجال الملكية الفردية للأشياء واستيعاب الشعور فيها والذاكرة فحسب، بل أيضًا على مستوى استملاك الأرض الفلسطينية، بكل ما فيها، مكانيًّا وزمانيًّا، وإعادة تشكيلها وفق التخطيط والأهداف والأيديولوجية الصهيونية، كما على مستوى شروط إنتاج وممارسة الهوية القومية وتجربتها المؤسسة على استبدال شـعب بشـعب، وثقافـة بثقافـة، وتاريخ بتاريخ؛ وحتى حين تكتسب هذه الأشياء صدى تاريخيًّا، فإنه يتردد ضمن سياسة بغيضة قائمة على الاستعمار الإحلالي، أي نفي وجود شعب فلسطيني والتنكر له لإحلال حاضرـماضي صهيوني باطل تسيّجه أسطورة يهودية زائفة، ويقويه جيش إرهابي.

قضية العدالة في نزع الملكية تستوجب تقييم وقلب موازين القوة المادية، العسكرية والسياسية، التي تمكّن اللامساواة بين الخطابين/الذاكرتين المتحاورتين، والثقافة المعيارية، الأخلاقية والاجتماعية، التي يتم تحديد قواعدها من قبل من هم في موقع القوة.

ولنا في دوف عبرة. تنتهي رحلة سعيد (س) وزوجته صفية لاسترداد طفلهما خلدون، الذي تركاه على مهده في بيتهما في حيفا أثناء اندلاع الحرب في العام 1948 ولاذا بالفرار، بتنكر الابن لوالديه الأصليين. خلدون صار دوف، صار ضابطًا احتياطيًّا في الجيش الإسرائيلي، بعد أن تبنته ميريام مع زوجها إيفرات كوشن بالرعاية والتربية. حين تعرف دوف على الضيفين في صالة البيت على أنهما والديه الأصليين، يتجه بحديثه لميريام أولًا: «أنا لا أعرف أمًّا غيرك، أما أبي [إفرات] فقد قتل في سيناء قبل 11 سنة، ولا أعرف غيركما»، ومن ثم يخاطب سعيد (س) وصفية قائلًا: «أنا لم أعرف أن ميريام وإيفرات ليسا والدي إلا قبل ثلاث أو أربع سنوات. منذ صغري وأنا يهودي. أذهب إلى الكنيس وإلى المدرسة اليهودية وآكل الكوشير وأدرس العبرية. وحين قالا لي ـ بعد ذلك ـ إن والدي الأصليين هما عربيان، لم يتغير أي شيء.. إن الإنسان هو في نهاية الأمر قضية» (كنفاني: 65). يضحك سعيد (س) ويقهقه وكأنه يدفع بكل ما في صدره من أسى وتوتر وخوف وفجيعة إلى الخارج، فاستنكار دوف لوالديه يأتي استكمالًا لتنكّر كل ما عاشه في ذاكرته طويلًا، والتصق في رأسه كقطع من لحمه وعظامه، وعاد لحظة دخوله لحيفا بصخب مجنون وبكل ضجيجه الراعب، وسقط عليه «حادًّا مثل سكين». قبل أن يقابل دوف، كان سعيد (س) قد استشرف النكران في أحاديثه مع صفية: «أي خلدون يا صفية؟.. انتهى الأمر. سرقوه.. ألم ينتابك ذلك الشعور الرهيب الذي انتابني وأنا أسوق سيارتي في شوارع حيفا؟ كنت أشعر أنني أعرفها وأنها تنكرني. وجاءني الشعور ذاته وأنا في البيت، هنا. هذا بيتنا!.. إنه ينكرنا!.. إنني أعتقد أن الأمر نفسه سيحدث مع خلدون وسترين!» (كنفاني: 48). قبل أن يتنكر له دوف، كان سعيد (س) قد أدرك أن ابنه، كما كل أشياءه المسروقة، وطنه ومدينته وبيته، صاروا لا يشبهونه وتنكروا له في زمانهم الصهيوني الجديد. هذا التنكر هو ما يعبر عنه الشاعر طه محمد علي في قصيدة «عنبر»:

الأرض خائنة

الأرض لا تحفظ الود

والأرض لا تؤتمن

الأرض مومس(8)

في المواجهة مع هذه الأشياء خلال رحلات الزيارة إلى هذه البيوت، نشعر بالغضب من انتقالها من الاقتصادات الفلسطينية إلى الاقتصادات الإسرائيلية، ويتملكنا السخط لملامحها المشوشة وكيف طبعها المحتلون بمسمياتهم وروائحهم وغبارهم، ونبعث في تفاصيلها ضجيج أحداث وذكريات وحكايات النكبة وآلامها وآثارها وكأننا نعيشها من جديد ـ آثار لا يمكن إزالتها من أعماق الشعب الفلسطيني، ولا بمرور الأجيال. وبدون سابق إنذار، تفجر هذه الأشياء في وجوهنا تناقضات المكان والأشياء ما بعد النكبة، فهي أوعية النوستالجيا ودلالة الفردوس المفقود في المخيال وفي الحكاية، وهي أيضًا ما لا يشبهنا، ولا بد من أن تتنكر لنا. تتكثف فيها مآسي الحضور والغياب: في بيتهما المملوك من إسرائيلية، يشعر سعيد (س) وصفية بأنهما حاضران غائبان. 

في دراستها «الاستيلاء: إسرائيل، النكبة، و"الأشياء"»، تتبع ريبيكا ل. ستاين، أستاذة الأنثروبولوجيا الثقافية، الآثار المادية والأشياء العينية التي بقيت داخل حدود "إسرائيل" وفي الحياة اليهودية الإسرائيلية اليومية، وأثرها على ممارسات الذاكرة الفردية والجماعية الإسرائيلية، وعلى المساحات والتجارب التي يتم من خلالها تعزيز الخيال القومي والسرديات التاريخية السائدة وتحديها على حد سواء. تدعي ستاين أن اهتمامها بالحياة الاجتماعية للأشياء الفلسطينية في المجتمع الإسرائيلي اليهودي يمثل تحولًا في حقل الدراسات الإسرائيلية/ الفلسطينية من التحقيق في شروط الاستيلاء على ممتلكات الفلسطينيين، إلى الطرق غير المتوقعة التي يستمر بها تاريخ الفلسطينيين وحياتهم من فترة ما قبل 1948 في استيطان "الدولة" الإسرائيلية ومطاردتها في أكثر تقاطيع الحياة يومية للأماكن والأشكال، وبالتالي تنادي بـ«الابتعاد عن مسائل "نزع الملكية" إلى تلك المتعلقة بـ"إعادة الامتلاك"» على مستوى الكيفية التي تم بها تداول هذه الأشياء وإعادة تقييمها في السياق اليهودي الإسرائيلي(9). توظف ستاين ما تسميه "الزمانية المزدوجة للذاكرة"، والتي في تلخيصها تسمح لأشكال التاريخ التي تتواجد في الأشياء نفسها أن تستحضر في أفعال ذاكرة الحاضر زمن الحادثة الأصلية المعنية وتدمجها في زمن الأعمال اليومية، على المستويين الفردي والجماعي، لاختراق أفعال النسيان(10). تخلص ستاين إلى استنتاج أن استحضار المعاني المضادة للهيمنة التي تتم إدامتها في الآثار المادية والأشياء العينية التي سرقت وبقيت داخل حدود "إسرائيل" تعني «أن "صدمة" تجريد الفلسطينيين من ممتلكاتهم هي أيضًا صدمة إسرائيلية ـ أي، قوة تأسيسية في تصنيع الدولة القومية؛ في تصنيع المواضيع والحساسيات السياسية الإسرائيلية»(11).

بالابتعاد عن مسائل نزع الملكية إلى تلك المتعلقة بإعادة الامتلاك، تنحدر ستاين بفعل التذكر نحو، ما يسميه بول ريكور، «واجب الذاكرة» بعيدًا عن سياق المستوى الأخلاقي والسياسي المتعلق بـ«عدالة الذاكرة»(12). يذكرنا بول ريكور أن الاهتمام بالذاكرة يجب أن يقوم بالأساس على مجابهة وتجاوز عقبة النسيان، وبخاصة انمحاء الأثر، وصعوبة تذكر التجارب المؤلمة أو المخزية. وإذ كان هذا يتوجب تفكيك شروط قيام وتحقيق نفي أو فقدان الذاكرة والآليات التي تحجب علاقتها بالعنف التأسيسي، فإن الهدف من فعل التذكر، ما يسميه بول ريكور بـ«عمل الذاكرة»، هو تحويل واجب الذاكرة إلى مشروع «استخراج قيمة مثالية» من الذكريات المؤلمة أو المخزية، والتوجه بالذاكرة «نحو مستقبل مرتبط بفكرة العدالة»(13). عندها فقط يجد واجب الذاكرة مغزاه ويتحرر من الإكراه والحساسية والمنفعة لمصلحة الحقيقة والعدالة ـ أي أن الذاكرة الإسرائيلية الموصومة بماضي النكبة ودلالاتها في الحاضر لن تداوى خزيها بفعل الذاكرة وواجب الذاكرة فقط (دمج زمانية حاضر الذاكرة الإسرائيلية بزمانية ماضي الذاكرة الفلسطينية)، وإنما أيضًا بما يسمح بإعادة «استملاك مستنير للماضي» مع تحمل مسؤولية عبء خزيها ضمن مشروع عدالة «يتعذر ترميمه وإصلاحه» وهو في ملكية الاستعمار الصهيوني وحيازته(14). إذًا، وبعكس ما تدعي ستاين، عدالة الذاكرة تستوجب عدم إقصاء قضية نزع الملكية من المسائل المتعلقة بإعادة الامتلاك.

إلا أن قضية العدالة في نزع الملكية تستوجب تقييم وقلب موازين القوة المادية، العسكرية والسياسية، التي تمكّن اللامساواة بين الخطابين/الذاكرتين المتحاورتين، والثقافة المعيارية، الأخلاقية والاجتماعية، التي يتم تحديد قواعدها من قبل من هم في موقع القوة. وهذا بالذات ما تغيبه ستاين من دراستها، كما ميريام التي تقترح على سعيد (س) ترك الاختيار لدوف ليقرر بنفسه في أمر أبوته وانتسابه. وتوافق صفية، الأم الغارقة في الحنين واليقين الرغبوي، على أنه "خيار عادل" لأن خلدون برأيها «لا يمكن أن يتنكر لنداء الدم واللحم»، يضحك سعيد (س) بقوة ممزوجة بمرارة الأسى والخيبة، ويسألها بما يشبه الجواب: «أي لحم ودم تتحدثين عنهما؟ وأنت تقولين إنه خيار عادل» (كنفاني: 48). والواقع أن تهكم سعيد (س) من اقتراح ميريام مرده أنه اكتشف من أول الحديث أنها وإفرات تعايشا مع ماضي النكبة وأحداثها: في مشهد ميناء حيفا الصاخب وشوارع حيفا المتوترة، «والتي كانت تدوي فيها طلقات نارية متقطعة بين الفينة والأخرى»؛ والمعارك التي يسمع إفرات أصواتها «ثم يقرأ أخبارها في "بالستاين بوست" كل صباح ، [وكأنما] تجري بين بشر وبين أشباح، ليس إلا»؛ وقصف صباح جمعة 23 نيسان 1948 حين تأكد إفرات تمامًا «أن الأمر في حيفا قد انتهى، وأن الهاغانا سيطرت على الموقف كليًّا»، ومعلوماته أن الإنجليز «مهتمون بتسليم حيفا للهاغاناه.. [و]أن البريجادير ستوكويل.. كتم الخبر عن موعد انسحابه ولم يسر به إلا للهاغاناه. فأعطاهم بذلك عنصر المفاجأة في اللحظة المناسبة»؛ وآثار الدمار التي لاحظها، وأخذت شكلًا جديدًا ومعنى آخر في نظره، «ولكنه رفض بينه وبين نفسه أن يجعل من ذلك مبعثًا جادًّا للقلق، أو حتى للتفكير» (كنفاني: 37-41). حتى ميريام التي صدمها مشهد الطفل الفلسطيني المقتول والمكسو بالدم، ورماه شابان من الهاغاناه في «شاحنة الموت كقطعة خشب رخيصة»، واستعادت فيه مشهد والدها الذي مات في أوشفيتز، ومداهمة الجنود الألمان للمنزل الذي كانت تعيش فيه مع زوجها، وإطلاق الجنود الرصاص على أخيها الصغير، استطاعت أن تتعايش مع النكبة، ودون أن تتذكر أحداثها تمامًا (كنفاني: 41). نسيان ميريام هو، في الواقع، شرط من شروط تمكين تنظيف مسرح الجريمة، والتصالح مع وجودها بلا ذنب أو عار، وتوظيف سردية الهولوكوست كمبرر أيديولوجي لرأب التنافر بين صورة الصهيونية الأسطورية القديمة، التي كان يقرأها إفرات في الكتب الدينية المسيحية الملونة المخصصة لقراءة الأطفال في أوروبا ويصر على الاحتفاظ بها في فلسطين، وبين جوهرها الدموي. صارت ميريام تزور روايتها كما زورت لدوف قصة والديه وكيف تركا ابنهما وهو في شهره الخامس وهربا.

من هنا يتضح أن ما تسميه ستاين بـ"الزمانية المزدوجة" للذاكرة الإسرائيلية ما هي في الحقيقة إلا ذاكرة ازدواجية إحلالية، قادرة على أن تتعايش مع ماضي النكبة بعد أن تقطع سيرورتها بالتناسي، وتغير دلالاتها وتزورها على مستوى الوعي والخطاب، وتطبعها وتؤسرلها بروايتها وتجاربها، وتقطع صدمة الشك بالرواية التأسيسية الإسرائيلية بيقين "الحق" و"أحقية" و"الانتصار المطلـق" لليهود فـي أرض فلسطين. «أنا أعرف أبوه، وأعرف أيضًا أنه ابننا»، تقول ميريام قبل أن تقترح بأن دوف «وحده صاحب الحق في أن يختار» (كنفاني: 48). تتحول النكبة، كما وجود سعيد (س) وصفية في بيت ميريام ودوف، إلى «مشكلة»، كما تصفها ميريام، في حاضر الذاكرة الإسرائيلية ـ مشكلة لا بد أن تنتهي حسب من يمتلك الهيمنة في ساحة الصراع، ومعيار قانونه الأخلاقي، وتحكمه بوجوه الاستدلال المتاحة ومنها موقف "الخيار الحر"، كما تتحكم ميريام بعملية "حرية" اختيار دوف ونتيجتها بما تعود عليها بمكاسب استحقتها بالحرب والسرقة والتزوير وسلطة العائلة التأديبية. 

نعرف من ميشيل فوكو أن الخطاب هو سلطة مادية وساحة صراع، وليس فقط انعكاسًا للصراعات السياسية، بل هو المسرح الذي يتم فيه استثمار الرغبة، وهو ذاته مدار الرغبة والسلطة ـ أي أنه وسيلة ساحة لممارسة هيمنة الخطاب السلطوي من جهة، وتحديه من خلال تفكيك ما يروجه كحقائق تاريخية من جهة أخرى. عند مواجهته لسردية ميريام المدعومة باستراتيجيتها الماكرة للتذكر والنسيان، يفند سعيد (س) ما توجهه ذاكرة ميريام من تلاعب واستغلال وتشويه وتزوير وتحريف ومحو، ما يسميه بول ريكور بـ«الذاكرة المعاقة» و«الذاكرة المتلاعب بها» و«الذاكرة الإلزامية»(15). يفجر سعيد (س) في وجه دوف وميريام المسكوت عنه، ويغوص في البواطن واللاشعور، ويلاحق الحقائق المستترة وراء إنكار الحق والحقوق، وفي تضاد وندية لما تسرده ميريام، وكشف عن تموضعها داخل منظومة الخطاب الصهيوني، وكتوثيق للرواية الصهيونية عن قصة هروب الفلسطينيين، ويكشف زيفها وتشويهها ومحوها لجريمة تشريد نحو 700 ألف فلسطيني صاروا لاجئين غير مسموح لهم بأن يعودوا؛ أما الذي تجرأ منهم على محاولة العودة، فواجه خطر الموت أو الطرد على يد الجيش الإسرائيلي. يتهم سعيد (س) ميريام محقًّا: «إنه يتساءل كيف يترك الأب والأم ابنهما الرضيع في السرير ويهربان.. أنت يا سيدتي لم تقولي له الحقيقة، وحين رويتها له كان الوقت قد مضى، أنحن الذين تركناه؟ أنحن الذين قتلنا ذلك الطفل قرب كنيسة بيت لحم في الهادار؟ الطفل الذي كانت جثته، كما قلت لنا، أول شيء صدمك في هذا العالم الذي يسحق العدل بحقارة كل يوم..» (كنفاني: 68). وهنا بالذات يرقى سعيد (س) بخطابه عن عمل الذاكرة من واجب الذاكرة إلى عدالة الذاكرة، والتي لا يمكن أن تستقيم سياستها إلا بإعطاء الأولوية لسردية الضحايا وروايتهم التاريخية، وتفكيك لعبة القسمة بين تاريخ وذاكرة رسمية وهوية مسموح بها، وبين تاريخ وذاكرة مرفوضة وهوية أخرى يتم نفيها أو تشويهها، وتفعيل إمكانية تقويضها من خلال مواجهة تؤسس لمشروع مستقبلي ينصف الضحايا ويسترد حقوقهم المسلوبة وأملاكهم المسروقة. 

في لحظة التماس مع الذاكرة الصهيونية ومواجهة خطابها ومنظومتها الاستعمارية الإحلالية، يتجسد ويتهيكل وعي سعيد (س) بشكل مختلف، ونحو توجيهه إلى فكرة الفاعلية (Agency). ولكن هذا يتطلب من سعيد (س) أن ينخرط أولًا في عملية نقد لسؤال الهوية والجغرافيا: «ما هو الوطن؟ أهو هذان المقعدان اللذان ظلا في هذه الغرفة عشرين سنة؟ الطاولة؟ ريش الطاووس؟ صورة القدس على الجدار؟ المزلاج النحاسي؟ شجرة البلوط؟ الشرفة؟ ما هو الوطن؟ خلدون؟ أوهامنا عنه؟ الأبوة؟ البنوة؟» (كنفاني: 70). كان سعيد (س) قد حاول إقناع صفية بالخروج من بيتهما في حيفا والإقرار بالهزيمة: «لنخرج من هنا ولنعد إلى الماضي. انتهى الأمر» (كنفاني: 49). بعد المواجهة ينقض سعيد (س) مجددًا على سؤال الهوية والجغرافيا، ويطرح استباقيًّا سؤال ميشيل فوكو في كتابه Technologies of the Self: «انطلاقًا من أي أساس سوف أعثر على هويتي؟»(16). يرفض سعيد (س) مبدأ الهوية القائم على حقيقة بيولوجية تمكن الذات من إدراك نفسها وفهمها بواسطتها: «إننا حين نقف مع الإنسان فذلك شيء لا علاقة له بالدم واللحم»، يقول سعيد (س) لدوف (كنفاني: 69). كما يرفض أي خصوصية ماضوية للهوية في الجغرافيا لأنه بهذا سيشرعن المشروع الصهيوني القائم على القومية اليهودية بوصفها خصوصية دينية توراتية وتاريخية تسعى إلى استرجاع "أرض الميعاد" التي وعدها الله لإبراهيم ونسله في سفر التكوين: «في ذلك اليوم عقد الله ميثاقًا مع أبرام قائِلًا: «سأعطي نسلك هذه الأرض من وادي العريش إلى النهر الكبير، نهر الفرات. أرض القينيين والقنزيين، والقدمونيين والْحثيين والفرزيِين والرفائِيِين والأموريين والكنعانيين والْجِرجاشِيِين واليبوسِيِين»(17). يفتش عن حقيقة فلسطين في واقعه الحاضر، فلا يجدها في البيولوجيا، ولا في تذاكر الهوية وجوازات السفر، ولا في الذكريات الماضوية، ولا في النوستالجيا لكتالوج الأشياء التي تركها في البيت، ولا في نحيب صفية على ولدها خلدون، ففلسطين «هي أكثر من ريشة طاووس، أكثر من ولد، أكثر من خرابيش قلم رصاص على جدار السلم» (كنفاني: 74). ينتقل سعيد (س) من السؤال عن الماهية إلى الكيفية: «الوطن هو ألا يحدث ذلك كله» (كنفاني: 74). وهنا يحول سعيد (س) سؤال الهوية والجغرافيا إلى منظومة القضية (الإنسان قضية)، والتي هي متصلة بممارسات في سياق تاريخي موجه بعمل السلطة الـتأديبية في الجسد الاجتماعي بصورة ميكروفيزيائية إنتاجية عبر عملية التذويت (Subjectivation)، التي يجسدها دوف: «أليس الإنسان هو ما يحقن فيه ساعة وراء ساعة ويومًا وراء يوم وسنة وراء سنة؟» (كنفاني: 69)، كما بإعادة حوكمة الذات (Governmentality)، ضمن مشروع تتحول فيه الذات إلى ذات فاعلة وقادرة أن تخضع التاريخ للتغير والتحول، وقلب موازين القوة فيه، وتعبيد الطريق لاقتصاد جديد لعلاقات المعرفة والسلطة ليس على مستوى الهوية والذاكرة والتجربة الفردية والجمعية وحسب، بل أيضًا في صلب الجغرافيا بالمعنى الجيوسياسي، والتي يجسدها ابنه خالد الفدائي: «أفتش عن فلسطين الحقيقية.. ما هي فلسطين بالنسبة لخالد؟ إنه لا يعرف المزهرية، ولا الصورة، ولا السلم ولا الحليصة ولا خلدون، ومع ذلك فهي بالنسبة له جديرة بأن يحمل المرء السلاح ويموت في سبيلها.. عشرات الألوف مثل خالد لا تستوقفهم الدموع المفلولة لرجال يبحثون في أغوار هزائمهم عن حطام الدروع وتفل الزهور، وهم إنما ينظرون للمستقبل، ولذلك هم يصححون أخطاءنا، وأخطاء العالم كله» (كنفاني: 74-75).

هذا النقد الذاتي، الجذري والجدلي، هو شرط من شروط تمكين سعيد (س) للأخذ بمعطيات الصراع وإدراك جذوره. يتجلى هذا في تَحول موقف سعيد (س) من محور الانتظار والتقاعس والعجز والإحساس العميق بالحنين والندم والعار والهزيمة إلى محور إدانة كل الذين تركوا الوطن، ثم تباكوا عليه، والشروع في صوغ مكونات وعي وسلوك وممارسات تتبنى الفعل الثوري القادر، وحده، على فتح الحاضر على مستقبل ممكن، الذي يجسده خالد وفارس اللبدة اللذان امتشقا البندقية. وفيما ترى ميريام أن الطرفين المتنازعين بحاجة أن يتحدثوا زيادة عن الموضوع، يواجهها سعيد (س) بحقيقة أنهما ليس أمام تنازع أو خلاف طارئ، بل أمام صراع جذري يحتاج إلى حرب. ينهض سعيد (س) مغادرًا وحين يصل إلى الباب، يقول لميريام ودوف: «تستطيعان البقاء مؤقتًا في بيتنا، فذلك شيء تحتاج تسويته إلى حرب» (كنفاني: 76). هذه النتيجة هي بالذات ما لا تقدر أن تصلها دراسة ستاين عن فينومينولوجيا الذاكرة في كتابة تاريخ "ما بعد" صهيونية، والتي انكشفت أجندتها الهادفة إلى تصالح اليسار الأكاديمي الإسرائيلي مـع ماضي النكبة الفلسطينية كآليـة لامتـلاك الحقيقـة الصهيونية فـي الماضـي وفـي الحاضـر عن طريق إعادة بعث ماضٍ فلسطيني مهزوم ـ أي الاعتراف بالنكبة وعنفها التأسيسي والتوليدي في إنتاج المشروع والذاكرة والهوية والكيان الصهيوني كذاكرة ماضوية، أو كفصل تعيس في الرواية التاريخية الصهيونية، وباعث على الصدمة، ولكن كتحصيـل حاصـل وتسـليم بمـا ترتـب علـى النكبة مـن وضـع استعماري بنسـخته الحصريـة اليهوديـة، وبالتالي دون إقـرار بالأسـس الإثنيـة الإحلالية لـ"لدولـة اليهوديـة"، ناهيك عن تحدي هيمنتها على أرض فلسطين، ودون ربطها بجوهر الصراع مع الصهيونية، ولا بوضع الفلسطينيين في "إسرائيل"، لا بماضيهم فحسب، بل بوضعهم الراهن أيضًا. نحن إذًا هنا بصدد فينومينولوجيا الذاكرة العجائبية في كتابة تاريخ "ما بعد" صهيونية تتقن التفكيك لمصلحة تناسي التقويض!

في آخر مشهد، يخرج سعيد (س) من بيته في حيفا ودوف منكفئًا في مقعده محتويًا رأسه بين راحتيه. والواضح أن وجود سعيد (س) وصفية لم يربك دوف، ولا اكتشافه أن ميريام زورت قصة هرب والديه الأصليين، ولا احتمال أن معركته الأولى ستكون مع أخيه الفدائي خالد. إلا أن آخر حديث وجهه سعيد (س) لدوف ردًّا على اتهامه لوالديه الأصليين/الشعب الأصلي بالعجز والجبن والتباكي قد أربك وصدم دوف وأظهره على حقيقته: متأسرل ومطبّع، حصان طراد يتخفى مهزومًا في صورة منتصر؛ فـ«ثقل الحالة الثورية»، كما يؤكد مجد كيال، يقاس «من النقطة التي استطاعت فيها أن تغير بنية [الخطاب] وشكله»، حين تستطيع ردة الفعل أن تصدم الفعل، بحيث تغير مساره، بغض النظر عن الاتجاه(18). ويتحول حضورها محوريًّا ومؤثرًا في حركة المشهد:

«زوجتي تسأل إن كان جبننا يعطيك الحق في أن تكون هكذا.. ولكن ذلك لا يبرر لك شيئًا، إن خطأ زائد خطأ لا يساويان صحًّا، ولو كان الأمر كذلك لكان ما حدث لإيفرات ولميريام في أوشفيتز صوابًا، ولكن متى تكفّون عن اعتبار ضعف الآخرين وأخطائهم مجيرة لحساب ميزاتكم؟ لقد اهترأت هذه الأقوال العتيقة، هذه المعادلات الحسابية المترعة بالأخاديع.. مرة تقولون أن أخطاءنا تبرر أخطاءكم، ومرة تقولون إن الظلم لا يصحح بظلم آخر.. تستخدمون المنطق الأول لتبرير وجودكم هنا، وتستخدمون المنطق الثاني لتتجنبوا العقاب الذي تستحقونه، ويخيل إليّ أنكم تتمتعون إلى أقصى حد بهذه اللعبة الطريفة، وها أنت تحاول مرة جديدة أن تجعل من ضعفنا حصان الطراد الذي تعتلي صهوته.. وأنا أعرف أنك ذات يوم ستدرك هذه الأشياء، وتدرك أن أكبر جريمة يمكن لأي إنسان أن يرتكبها، كائنًا من كان، هي أن يعتقد ولو للحظة أن ضعف الآخرين وأخطاءهم هي التي تشكل حقه في الوجود على حسابهم، وهي التي تبرر له أخطاءه وجرائمه.. وأنت، أتعتقد أننا سنظل نخطئ؟ وإن كففنا ذات يوم عن الخطأ، فما الذي يتبقى لديك؟» (كنفاني: 72-73). 

يواجه سعيد (س) دوف بحقيقة أن ما يدعوه الأخير حقيقة، أي الهزيمة، هي ليست نتاج عنصر أنثروبولوجي أو باثولوجي نفسي أو سوسيولوجي للشعب الفلسطيني، بل هي نتاج صراع قوى قابل أن يخضع للتغير والتحول، وقلب موازين القوة، وتصحيح خرائط الأمر الواقع. والسؤال هو: هل كان ثمة خيار متاح غير الأسرلة أمام دوف نتاج الأسرة/"الدولة" التي عاش في كنفها، والتي لم يكن قد اختارها أصلاً؟

الهوامش

(1): غسان كنفاني. عائد إلى حيفا. (بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 2004).

(2): رائف زريق. «الذات، والإخضاع، والذاتية والخضوع». مجلة الدراسات الفلسطينية، 120، (خريف، 2019).

(3): ريبيكا ل. ستاين. «الاستيلاء: إسرائيل، النكبة، و"الأشياء" 1/3». ترجمة: علاء الدين أبو زينة. صحيفة الغد (أيار، 2012).

(4): المصدر السابق.

(5): المصدر السابق.

(6): Arjun Appardurai. The Social Life of Things: Commodities in Cultural Perspective. (Cambridge: Cambridge University Press, 1986).

(7): جان بول سارتر. التخيل. ترجمة: نظمي لوقا. (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1982).

(8): طه محمد علي. الأعمال الكاملة. (حيفا: دار راية للنشر، 2011)، صـ 47.

(9): الاستيلاء: «إسرائيل، النكبة، و"الأشياء" 3/3». ترجمة: علاء الدين أبو زينة. صحيفة الغد (أيار، 2012).

(10): الاستيلاء: إسرائيل، النكبة، و"الأشياء" 1/3». مصدر سبق ذكره.

(11): الاستيلاء: إسرائيل، النكبة، و"الأشياء" 3/3». مصدر سبق ذكره.

(12): بول ريكور. الذاكرة، التاريخ، النسيان. ترجمة: جورج زيتاني. (بيروت: دار الكتاب الجديد)، صـ 144.

(13): المصدر السابق.

(14): المصدر السابق. صـ 149.

(15): المصدر السابق. صـ 140.

(16): Michele Foucault. Technologies of the Self. edited by Luther Martin et al. (Amherst: Massachusetts University Press, 1988).

(17): التكوين 13: 14-17.

(18): مجد كيال. «سمات إسرائيل المختنقة». السفير، 13201. (22 تشرين الأول، 2015)، صـ 15.

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • من «عائد إلى حيفا» إلى عائدون إلى حيفا (3 - 3)

      من «عائد إلى حيفا» إلى عائدون إلى حيفا (3 - 3)

      على مشارف حيفا، يقول سعيد (س) لزوجته صفية، التي كانت منصرمة إلى التحديق نحو الطريق غير مصدقة بأنها ستراها مرة أخرى: «أنت لا ترينها، إنهم يرونها لك.. لقد فتحوا الحدود فور أن أنهوا الاحتلال فجأة وفورًا، لم يحدث ذلك في أي حرب في التاريخ.. لسواد عينيك وعيني؟ لا.

    • من «عائد إلى حيفا» إلى عائدون إلى حيفا (2 - 3)

      من «عائد إلى حيفا» إلى عائدون إلى حيفا (2 - 3)

      وقف منصور عباس، زعيم القائمة العربية الموحدة، مبتسمًا بجوار نفتالي بينيت بعد لحظات من تولي الأخير رئاسة الوزراء وتحقيقه أغلبية بسيطة للأحزاب الساعية للإطاحة ببنيامين نتنياهو.

    • القدس: نحو جغرافية ثقافية مقاومة (٣ من ٣)

      القدس: نحو جغرافية ثقافية مقاومة (٣ من ٣)

      في العام ٢٠٢٠، شهدت مدينة القدس ٤٣٠ عملية فدائية، بحسب تقرير الشاباك، تنوعت ما بين عمليات الدهس والطعن، وإطلاق النار، والاشتباك المسلح مع الجنود، وتفجير العبوات الناسفة المصنعة محلياً، والاقتحام المسلح للمستوطنات، واستهداف الحافلات والمنشآت

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬