نجت العديد من الأفلام من الأزمات الإنتاجية بعد عام من الإغلاقات الصارمة، وتمكنت من الظهور على شاشات العرض في مهرجانات سينمائية عالمية وعربية، منها مهرجان عمّان السينمائي الدولي.
يُعتبر مهرجان عمان السينمائي الدولي من ضمن المهرجانات التي تقام سنويًّا وتعمل على استقطاب الأفلام من دول مختلفة. أقيم المهرجان في دورته الثانية هذا العام، في العديد من صالات العرض في عمّان، بالإضافة إلى عروض شملت مناطق أخرى مثل إربد والسلط ووادي رم، وانتهت آخر عروضه يوم 31 أغسطس الفائت. تراوحت الأفلام بين الروائية والوثائقية الطويلة والقصيرة، إلى عدد من المختارات العالمية مثل "الأب"، وورش عمل ونقاشات لمخرجين، شدد معظمهم على التحديات التي واجهتهم بالتمويل والتوزيع. فحظي بعض الأفلام على تمويل بعد سنوات طويلة من الانتظار مثل "200 متر"، بينما مر البعض الآخر مثل "حمام سخن" بعدة مصاعب إنتاجية وصلت إلى توقف تصويره في 2011 في أولى خطواته، فاعتمد على تمويل جماعي من خلال موقع indiegogo والذي يهتم بمساعدة صانعي الأفلام المستقلين في تمويل مشاريعهم.
لم يُعلَن عن ثيمة محددة للمهرجان، إلا أن الأفلام تتنوع في طروحاتها بين السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ولا يخفى التأثر الواضح بما حصل في المنطقة منذ "الربيع العربي"، فالعديد من الأفلام كانت مشتبكة بشكل أو بآخر بالأحداث السياسية التي غزت المنطقة. فتؤكد المخرجة المصرية منال خالد في إحدى لقاءاتها أن فيلمها "حمام سخن" (Trapped) مستوحى من تجربة واقعية وذاتية عاشتها المخرجة أثناء الثورة المصرية، حيث كانت مشاركة النساء في ثورة يناير فاعلة ولافتة في مجتمع أبوي يهمّش دور المرأة ويحرمها الكثير من حقوقها، فحثها ذلك لتحكي من خلال ثلاث قصص حقيقية قصيرة وبوحدات مونتاجية منفصلة، حياة سبع نساء من أعمار متفاوتة وخلفيات اجتماعية متباينة شاركن في الأيام الثلاثة الأولى من الثورة، وقادتهم الظروف ليتواجدن في نهاية المطاف في أماكن مغلقة ومعزولة ومحاصرة كما يوحي عنوان الفيلم بالإنجليزية، اضطررن للتعامل معها.
من الواضح أن شكل التمويل أثر على إخراج ومونتاج الفيلم، فقد اعتُمد على ثلاثة مصورين مختلفين لكل قصة لإنتاجها، مما بدا واضحًا أن القصص تتلاقى فقط بمشاهد من الخوف والقلق والرغبة الملحة لمعرفة ما يدور في الخارج، فطريقة الانتقال بين القصص لم تكن سلسة واعتمدت على مشاهد ثابتة للمكان.
عبّر الفيلم عن علاقة سكان الأماكن المختلفة بالشارع والثورة، إذ كانت القصص جسرًا بين ما يحصل في الشارع وبين مشاركة وتصور الناس عن الثورة في الأماكن المغلقة.
أما فيلم "القصة الخامسة" لمخرجه العراقي أحمد عبد، بدأ بمشهد انفجار قنبلة في إحدى مدن العراق، الذي يشبّه أحمد صوته بصوت بقرة منزعجة وُضع على مضخم.
يسرد أحمد قصته (القصة الخامسة) وهو طفل بعمر 9 سنوات أثناء غزو العراق 2003 بالتوازي مع أربع قصص لأجيال مختلفة عايشت الحروب الأربعة التي مرت بها العراق خلال الأربعين سنة الماضية. ينطلق بداية من قصة الفتى البدوي نصّار الذي يعيش في صحراء الموصل منعزلًا مع أغنامه، والذي يتملّكه الخوف والذعر إثر استمرار تداعي صور الجثث والقتل التي شاهدها سابقًا في أحلامه، ثم ينتقل لقصة أخين وهي فتاة كردية أزيدية تعيش في جبال سنجار، أصبحت مقاتلة مع مجموعة أخرى من الفتيات، بعد دخول داعش إلى مدينتها، ثم ينتقل إلى والده الذي عمل كحانوتي أثناء الحرب العراقية الإيرانية وتعامل مع مواقف صادمة له فأصبح منعزلًا قليل الكلام، نشاهده فقط يرسم وجوه من يتذكرهم من الحرب، لتنتهي القصة بعدنان السبعيني المضطرب الذي شارك في الحرب العراقية الإيرانية وسُجن ثم خرج بعد مدة طويلة وعاش في محطة القطارات المهجورة في بغداد.
ينطلق خط سير الفيلم من الخوف، من خوف أحمد وهو طفل يقابله خوف الفتى نصّار ثم ينتقل لمرحلة المراهقة وازدياد الغضب ورغبته الفعلية بحمل السلاح للقتال ويوازيها هنا قصة الفتاة أخين. ينتهي الفيلم بمشاهد من ثورة تشرين عام 2019 احتجاجًا على تردّي الأوضاع في العراق، والتي شارك بها أحمد لتفريغ جزء من حزنه وغضبه في المكان الصحيح.
أما الفيلم الكيني الوثائقي "سوفتي"، للمخرج سام سوكو فيروي، يبدأ بمشهد جنوني في العاصمة نيروبي لاندفاع المتظاهرين الكينيين بلافتات تحمل عبارات "لا مكان للجشع في كينيا"، و"349 خنزير برلماني جشع مقابل 42 مليون كيني"، و"أعضاء البرلمان يدمون كينيا حتى يكاد يجف دمها". ثم عملوا على إطلاق مجموعة خنازير وحطموا عبوات من الدماء تم تصفيتها وتعبئتها مسبقًا، في مشهد ذو رمزية واضحة.
يعرض الفيلم قصة الكيني بونيفيس موانجي الذي عمل في 2007 كمصوّر صحفي غطى أحداث العنف المرافقة للانتخابات الرئاسية، والتي قتل على أثرها أكثر من ألف كيني. بعد ذلك أصبح موانجي ناشطًا سياسيًّا يحاول "إسقاط النظام" كما يخبر أطفاله في الفيلم، ويشارك في تحريك وتأجيج الشارع العام الذي يتم قمعه بطريقة وحشية، ويعرض الفيلم انتقاله لعالم السياسة وتشكيله حزب أوكويلي ومحاولته غير الناجحة في الترشح للانتخابات البرلمانية والتهديدات التي تعرض لها وعائلته.
الثيمة الأخرى التي تبدو واضحة في المهرجان هي تأثير الهجرات واللجوء على الأجيال المتعاقبة، لم يوفق برأيي فيلم "مقرونة عربي" للمخرجة التونسية ريم التميمي، وهو أول تجربة سينمائية لها، بعرض هذه الفكرة، في محاولة محاولة لتتبع الجذور والإثنيّات المختلفة لعائلتها المكونة من أب جزائري مسلم وأم صقلية مسيحية يعيشان في تونس إثر الهجرات التي حدثت بعد الحرب العالمية الثانية بعد قرابة مئة عام. لم تبحث ريم في جذور عائلة والدها لمشاكل شخصية تتعلق بطبيعة المجتمع الجزائري وطبيعة تدينه، إنما بحثت فقط حول عائلتها الصقلية المشتتة في إيطاليا وفرنسا، لذا لا يمكن اعتبار الفيلم كامل ويروي تاريخ عائلتها. وفي ذات السياق الجزائري وبأسلوب مختلف حاولت لينا السويلم في فيلمها الوثائقي الأول "جزائرهم" والذي فاز بالسوسنة السوداء عن أفضل فيلم وثائقي طويل في المهرجان. فيحاول الفيلم تتبع قصة انفصال جديّها الثمانينيين عايشة ومبروك بعد ستة عقود من زواجهما في بلدة لعوامر في الجزائر، وأثناء بحثها تكشفت قصة المهاجرين الجزائريين الذان يقيمان في فرنسا.
هل كنت تحبين جدي؟ هل كنت مغرمة به؟
ترتفع يدا الجدة لتخفي وجهها تحت ضحكة كبيرة..
لينا أنت تسألين الكثير..
وتستمر بالضحك.
أثناء البحث، تحاول لينا استفزاز ذاكرتهم البصرية والنبش في تاريخ العائلة المهاجرة إلى بلدة تيير الفرنسية لتفهم من خلال الذاكرة الشخصية، الذاكرة الجمعية الأكبر. تريهم صورًا لجذورهم في الجزائر وأرشيفات لمقاطع الفيديو، لكن مبروك يبقى كما هو معتاد في حالة صمت، "لا يتكلم"، إلا حينما أخذته إلى متحف السكاكين في تيير، وهو المصنع الذي عمل به مبروك طوال حياته مع الجزائريين المهاجرين وتم أغلاقه فيما بعد، وبالطبع كتب على جدران المتحف أنه من صنع الفرنسيين أنفسهم دون ذكر للجزائريين. في هذا المشهد تحديدًا يظهر الجد حزينًا ووحيدًا بدون زوجة بدون عائلة بدون وطن، فاقدًا لكل شيء.
على العكس من ذلك تبدو عايشة سعيدة بقرارها بالانفصال بعد 62 عامًا، إذ تعيش هي ومبروك بعد الانفصال قانونيًّا في وحدات سكنية منفصلة في إسكان اجتماعي على بعد 30 مترًا من بعضهما.
من منظور مختلف، لم يعالج فيلم المخرجة التونسية كوثر بن هنية قصة اللجوء بطريقة نمطية في فيلمها "الرجل الذي باع ظهره"، إنما من خلال الفن فهي مستوحاة من عمل الفنان البلجيكي المعاصر ويم ديلفوي. تحكي كوثر قصة معاناة اللاجئ السوري سام في لبنان، والذي عمل في مفرخة دجاج، على أمل أن يلتقي حبيبته السابقة، ولكنه ظل عالقًا في لبنان بلا وثائق سفر، حتى تعاقد معه فنان بلجيكي بأن يسافر كأحد لوحاته، باع سام ظهره مقابل وشم مكبّر لفيزا الشنغن على ظهره وبمبلغ مالي سخي.
أما عن الصراع بين التقاليد المجتمعية والدينية وحداثة العلم، فيأتي الفيلم الهندي والذي فاز بجائزة الجمهور في المهرجان عن أفضل فيلم عالمي. فالمخرج أجيتبال سينغ، وفي أول ظهور له من خلال فيلم "حريق في الجبال"، يخرج عن نمط الأفلام الهندية الميلودرامية، فيحكي عن واقع الهند من خلال قصة عائلة تعيش في قرية أوتارانتشال الريفية على قمة أحد جبال الهيمالايا حيث السياحة هي العمود الفقري لسكان المنطقة، تدير شاندرا وزوجها دارام نزلًا وتستقبل السياح من خلال تطبيق Airbnb، وتحاول ادخار المال لعلاج ابنها ليتمكن من المشي لكن والده يؤمن أن لعنة حلت عليهم وأن طقوسهم الدينية هي التي ستزيلها. في تجربة غامضة ومثيرة، ينسج سينغ سردًا معقدًا بمهارة عالية من خلال الصراع بين القيم المتضاربة بين الحداثة والتقليد وبين العلم مقابل الإيمان الديني لكل من شاندرا ودارام، مما يخلق علاقة ديناميكية تدفع بالسرد إلى الأمام.
يستخدم المخرج بذكاء البث الإذاعي الذي نسمعه لعكس الانفصال بين الادعاءات التي يبشر بها السياسيون عن واقع الهند، وبينما يحتفل من هم في السلطة بالأحداث التاريخية لبلد على وشك أن يصبح "قوة عظمى"، لا يتمتع المواطنون بإمكانية الوصول إلى الخدمات الأساسية.
يأتي فيلم "صبعيات العسل" والذي فاز بالسوسنة السوداء لأفضل فيلم عربي روائي طويل، فكامير عينوز تحكي في فيلمها الأول سيرتها الذاتية في فترة كانت تشهد فيها الجزائر موجة المد الإسلامي عام 1993، من خلال الفتاة سلمى التي تبلغ من العمر 17 عامًا لأبوين جزائريين، يعيشان في أحد ضواحي باريس الراقية.
يبدأ الفيلم بمشهد لسلمى وهي مستلقية بمفردها على الشاطىء في الجزائر، تقترب الكاميرا أكثر، لقطات متعددة وقريبة، وجهها أكثر وضوحًا وتغمره الأمواج، يرافق المشهد اقتباس من رواية لجيلبير سينويه عن التمرد والاستسلام.
يركز الفيلم على تعامل سلمى مع جسدها وحياتها الجنسية وهويتها ضمن عائلة تعاني من أزمة هوية، ومحاولتها للحصول على استقلالها الجسدي بعيدًا عن العادات والتقاليد.
بالتأكيد لم يخلُ المهرجان من إنتاجات للسينما الفلسطينية والتي أصبحت مؤخرًا تنحت لنفسها أسلوبًا بصريًّا وسرديًّا بعيدًا عن المناضل المقدّس، وذلك من خلال تفاصيل تتعلق بحياة الفلسطينيين الروتينية والمشاكل اليومية التي يعايشونها مع وجود الاحتلال، وهذه المرة عبر فيلمي "200 متر" و"غزة مونامور".
يسحب أمين نايفة كاميرته على طول جدار الفصل العنصري، ويروي قصة واقعية عاشها هو فعلًا، من خلال حكاية مصطفى الذي يسكن في الضفة الغربية بالقرب من طولكرم وزوجته سلوى التي تعيش في الداخل المحتل على بعد 200 متر منه على الجانب الآخر من الجدار. إذ يرفض مصطفى حصوله على هوية إسرائيلية ويضطر لخوض تجربة البيروقراطية وتصاريح العمل ونقاط التفتيش، ويتحمل بالمقابل أعباء طريق شاق وطويل شبه يومية نحو الحاجز الحدودي الإسرائيلي حيث تقطن زوجته وأبناؤه.
بذكاء تطرق نايفة لملف شبكة تهريب العمال الفلسطينيين من الضفة الغربية إلى إسرائيل، والصعوبات التي يواجهونها، من خلال انتهاء تصريح مصطفى وتعرض ابنه بذات الوقت لحادث، فأصبحت رحلة 200 متر رحلة مضنية وصعبة.
أما الأخوين عرب وطرزان ناصر فاعتمدا على قصة حقيقية، وهي قصة حدثت عام 2014 حين عثر أحد الصيادين الفلسطينيين، على تمثال أثري إغريقي في البحر مقابل سواحل دير البلح، وقامت السلطات بمصادرته.
عيسى الستيني، صياد يعتمد الكوميديا بعيدًا عن الواقع العبثي. يتسلل ليلًا إلى الشريط البحري في غزة، ويبلغ طوله ثلاثة أميال والذي سمح الاحتلال الإسرائيلي بالصيد فيه، مصطادًا ما يستطيع دون ترخيص. هناك سحر مهم للرجل وهو يبتعد عن أخته المتطفلة، ويصر على أنه سيصلح مستقبله لوحده. يتضمن ذلك التودد لسهام الأرملة، التي تعمل هي وابنتها المطلقة ليلى في محل لبيع العباءات وتصليح الملابس النسائية في محاولة لمقاومة الظروف المعيشية الصعبة في غزة.
لكن يتغير كل شيء في إحدى الليالي المصيرية عندما يذهب عيسى للصيد ويعثر على تمثال للإله أبولو، فهو ليس تمثالًا عاديًّا إذ تبدو أعضاؤه مثارة. تأخذ الطبيعة الجنسية عيسى في رحلة غير متوقعة مليئة بالكوميديا. وتعد مشاهد الفيلم مرآة للأزمات اليومية لسكان قطاع غزة تحت الحصار من انقطاع للكهرباء وكساد وبطالة وصعوبات في التنقل.