يتمثل الانطباع الذي تركه على الجميع فوز عبد الرزاق غورنه بجائزة نوبل في الأدب بالمفاجأة المحضة، فتتعمّد لجنة نوبل على عنصر المفاجأة لتخييب توقعّات المراهنين على الأسماء المرشحة في كل عام، إلا أن إعلان فوز غورنه (عامدًا لا أستخدم هنا اسم "قرنح" الذي اخترعه بعض الكتاب العرب)[1] حدثٌ يطرح عدة مفارقات؛ لقد كانت غالبية الصحافة الثقافية في العالم تستفتح في الحديث عنه على أنه كاتب غامض وغير معروف في خارج بريطانيا. لكن هذا لم يقف حائلًا في أن يخلق ضجة في أوساط الصحافة والنقاد منذ فوزه. لقد احتفل الكتاب الأفارقة بفوز كاتب أفريقي بالجائزة للمرة السادسة، واعتبروها انتصارًا "للقبيلة الأفريقية" الحاصلة على الجائزة، كما كتب وول سوينكا، الحاصل على نفس الجائزة عام 1986. بينما ذهبت الصحافة العربية في نبش نسب أخوال وأعمام الكاتب لتأكيد عروبته، لكنها اختلفت على ترجمة اسمه قبل ترجمة أعماله.
سيأخذ هذا المقال حدث فوز غورنه فرصة للتفكير في أدب المحيط الهندي، ليس للدعوة إلى وضع تصنيف أدبي جديد، وإنما لكشف بعض أهم التحديات النظرية والنقدية التي تطرح قراءة هذا الأدب في داخل نظام الأدب الأفريقي، وتحديدًا من نواحي القصور في المخيلة الجغرافية للممارسات الأدبية الأفريقية المختلفة والتلقي النقدي لها، وكذا طرق تناول تواريخ هذه الممارسات وفضاءاتها وخرائطها التي بدأت منذ الستينيات. وتمكنّنا تجربة غورنه الروائية في كتابة المحيط الهندي عرض بعض تلك الإشكاليات المتعلقة في الطرائق التي يقوم بها النقاد والأكاديميون لقراءة الأدب الأفريقي، ليس فقط في أفريقيا، وإنما من حول العالم.
الأدب الأفريقي، ما وراء تصفية الاستعمار
ارتبط تشكّل مفهوم الأدب الأفريقي، كمؤسسة، في الستينيات في النضال التحرّري في فترة تحقيق الاستقلال الوطني الأفريقي، وهو ما خلق مخيلة عامة تحدد أدبية هذا الأدب وتؤطره بهذا الاتجاه. فقد عمد أول مؤتمر للأدباء الأفارقة الشباب في جامعة ماكيريري، أوغندا، في عام 1962،[2] على حثّ الكتّاب الأفارقة في المساهمة في تصفية الاستعمار (decolonization). أقلّه هذا ما نجده في مقالات الكتاب الشباب المشاركين في المؤتمر والمنشورة في مجلة[3] (Transition)، وتمثل الكتاب والأدباء الأفارقة بالسعي لإنهاء الاستعمار في نتاجهم السردي الأدبي على مستوى الثيمات والمواقف. وكان دورهم هرميًّا بحيث رأوا أنفسهم في موقع أستاذية، تمامًا كما فعلت النخب السياسية لدول ما بعد الاستقلال الأفريقية الذين تمثلوا على شكل أساتذة لشعوبهم، تسمية "mwalimu" مثلًا التي عُرف بها "Julius Nyerer"، أول رئيس لتانزانيا، تعني "المعلم". ويمكن الإشارة هنا إلى مقالة تشينوا أتشيبي "The Novelist as Teacher" المنشورة عام 1965،[4] والذي يحدد وظيفة الرواية الأفريقية في التعبئة نحو إنهاء الاستعمار، وحاجج بأن الرواية لها مهمة "تعليمية"، وعلى عاتق الروائي الأفريقي مسؤولية "أستاذية" تتمثّل بإنهاء الاستعمار.لا غرابة هنا أن أتشيبي يعد حتى اليوم من أكثر الكتاب تدريسًا تحت مساقات الأدب الأفريقي حول العالم. وعلى هذا، تركز اهتمام الأدب الأفريقي الما بعد استعماري على أسماء مثل تشينوا أتشيبي ووول سوينكا وجيل ما بعد الاستقلال بأشخاص مثل نكروما وكينياتا وسنغور، ولكن المفارقة الملحّة التي خرجت من المؤتمر هو اعتبار اللغة الإنجليزية اللغة الأدبية القومية لأفريقيا، باعتبارها لغة الأمر الواقع، لكنه بنفس الوقت برز نقاش محتد بكيفية جعل هذه اللغة الإنجليزية لغة أفريقية.
إلى جانب النضال السياسي والمجتمعي، كان الأدب الأفريقي الما بعد استعماري يدور في فلك الرد الدائم على الرجل الأبيض، ويفيد المثال الساخر، بأن كل النتاج الروائي الأفريقي المبكّر محاولة للرد على رواية "قلب الظلام" لجوزيف كونراد؛ 1902. ولقد انتقد فرانز فانون هذه الوضعية عندما تحدث بأن على الأفارقة يجب ألا ينظروا إلى الاستعمار كبداية لتاريخهم، ودعا للخروج مما سماه "بمانوية العالم الاستعماري"[5]، ويقصد بالتقسيمات الأزلية التي وضعها الاستعمار في العالم على شكل نقائض يدور بينهما صراع درامي أزلي لا فكاك منه. ألقت فكرة "المانوية"، كما كل تنظيرات فانون، صدى معينًا لدى العديد من المثقفين والكتاب في أفريقيا القرن العشرين، الذين حاربوا القيود القمعية للمجتمع الاستعماري على أمل تحقيق العدالة الاجتماعية، ويعد الكاتب الكيني من أصل هندي عبدجان محمد من الذين اهتموا في فكر فانون، في إطار سعيه إلى صياغة نظرية اجتماعية - سياسية للإنتاج الأدبي الأفريقي تأخذ في الاعتبار العنصر العرقي، ونشر في عام 1983 دراسته المُعنونة بـ"جماليات المانوية: سياسة الأدب في أفريقيا الاستعمارية". ويتقصّى فيها أعمال ستة أدباء أوروبيين وأفارقة، كل روايتين منهم تتناول نفس الموضوع، وتقع أحداثها في نيجيريا وجنوب أفريقيا وكينيا، ما يهمني هنا، هو حجة عبدجان بأن الكاتب الاستعماري يدافع عن أيديولوجية الاستعمار على الدوام، وفي الرد على ذلك يسعى الكاتب الأفريقي إلى نقض هذه الأيديولوجية وتحميل المسؤولية الاستعمار، وهو ما يسميه بأنه تأثير سلبي في الكتابة الأفريقية. بحيث أن هذا "الديالكتيك هو في الواقع مظهر أدبي للعلاقة الاجتماعية - السياسية المانوية بين المستعمِر والمستعمَر"[6].
من المهم الانتباه أن محاججة عبدجان محمد ليست عرضية، بل هو واحد من جيل من كتاب شرق أفريقيا الآسيويين الذين انخرطوا في دراسات ما بعد الاستعمار، مدفوعين بالشعور بعدم اليقين من دولة الاستقلال الوطني في أفريقيا وخطابها. في الواقع لقد اضطر عدد من أولئك الكتاب مغادرة أوطانهم بعد الاستقلال. في حين اعتنق البعض منهم أيديولوجية الوعي الأسود واختاروا التماهي مع الدول المستقلة حديثًا ومع مواطنيهم السود، إذ أعطى الإطار المانوي الأمل الليبرالي في أن الآسيويين والأفارقة السود يمكن أن يعتبروا أنفسهم مواطنين أصليين. لكن نفس النزعة المانوية أدت إلى نتائج عكسية تمثلت بالاعتداءات التي استهدفت الآسيويين في فترة ما بعد الاستقلال، مثل تلك التي حصلت في أحداث ثورة زنجبار، أو الطرد الجماعي للآسيويين من أوغندا من قبل عيدي أمين. فعلى سبيل المثال، يصور فيلم "Mississippi Masal" للمخرجة الهندية ميرا ناير عائلة من أصول هندية تفر من حكم عبدي أمين في أوغندا في السبعينيات، في وسط المناخ الذي خلقته محاولات جيل ما بعد الاستقلال في اختراع هوية عرقية لأفريقيا، وهو ما نتج عنه الاقتلاع الصاعق للأفارقة ذوي الأصول الهندية والعربية والفارسية، بحجة الشعار المجنون "أفريقيا للأفارقة". وجّه الفيلم الانتباه إلى محنة الآسيويين في شرق أفريقيا. وثمة العديد من الأعمال التي أنتجها كتاب أفارقة من أصول آسيوية ناقشت الموضوع، مثل رواية الكيني مويز فاسانجي "The Gunny Sack" في عام 1989. وكذا رواية "The Emperor"؛ 1984 للكاتب الجنوب أفريقي أحمد إيسوب.
المغزى هنا أن تمثيل هؤلاء الكتاب للثقافات الكريولية تنقض الثنائيات التي تصاحب غالبًا السردية السائدة والاختزالية عن الهويات الأفريقية، التي نافح عنها الاتجاه السائد في الأدب الأفريقي الما بعد استعماري. وذلك هو السبب الجوهري وراء الاحتفال بفوز الكاتب التنزاني عبد الرزاق غورنه بجائزة نوبل للأدب مؤخرًا، لأنه ولد في زنجبار، وهي مجموعة جزر مستقلة في المحيط الهندي، واندمجت مع البر الرئيسي عند الاستقلال عن البريطانيين في الستينيات تحت اسم تنزانيا[7]. واضطر غورنه إلى الفرار عن وطنه في عمر مبكّر من حياته، بسبب المناخ المعادي لذوي الأصول المختلفة، لكنه أقام فيه سرديًّا عبر سفر معقّد في الذاكرة والتاريخ.
الهوامش:
[1] هكذا سنعيد كتابة جميع أسماء السكان الأفارقة المحيط هنديين من أصول هندية وفارسية وعربية ومالاوية!
[2] J.T Ngugi. “A Kenyan at the Conference.” Transition, No. 5 (Jul. 30 – Aug. 29, 1962).
[3] أسس الكاتب الأوغندي "Rajat Neogy" مجلة "Transition" قبل عام من انعقاد المؤتمر. وبوقت قصير أصبحت المجلة الأدبية الأفريقية الأكثر شهرة وانتشارًا في الستينيات.
[4] Chinua Achebe. “The Novelist as Teacher.” In Hope and Impediments: Selected Essays”. New York: Doubleday. 1989.
[5] Fanon, Frantz. The Wretched of the Earth. New York: Grove, 1963.
[6] Abdul R. JanMohamed. Manichean Aesthetics: The Politics of Literature in Colonial Africa. Amherst: University of Massachu- setts Press, 1983.
[7] أعتقد أننا يجب أن نحترس في الوقوع في فخ الانتماءات الوطنية والعرقية عندما نتحدث عن تجربته الإبداعية، وهو ما فعلته الصحافة العربية مؤخرًا عندما ذهبت أبعد من ذلك وألصقت تكريم أدبه بهوية أجداده، رغم أن بيان اللجنة المانحة لم يشر لانتماء الكاتب. بل تحدث عن "سرده المتعاطف مع مصير اللاجئين العالقين بين الثقافات والقارات، وتمسكه المتفاني بالحقيقة وإحجامه المذهل عن التبسيط". وفي الواقع نجد غورنه يصرح بأنه لن يسمّي نفسه كاتبًا لأي نوع، وأنه لن يطلق على نفسه أي شيءٍ بخلاف اسمه. يقول: "إذا ما تحدّاني شخصٌ بطريقة أخرى للقول: هل أنت واحد من هؤلاء؟ فربما سأقول له: كلا. ..".