كاثرين مانسفيلد
[كاثرين مانسفيلد (١٨٨٨- ١٩٢٣) كاتبة نيوزلندية من تيار الحداثة، أسهمت قصصها في تطور شكل القصة القصيرة الحديثة. كانت أيضاً شاعرة وروائية متميزة].
- إنها غرفة مريحة جداً.
قال السيد وودفيلد محدقاً من كرسيه الجلدي الهزاز الكبير الموضوع قرب مكتب صديقه المدير كما يحملق طفلٌ من عربته اليدوية. وبما أنه لم يعد لديه ما يقوله حان وقت خروجه. بيد أنه لم يرغب بالذهاب فمنذ إحالته إلى التقاعد وتعرضه للإصابة كانت تحجزه زوجته وبناته في المنزل طوال الأسبوع عدا يوم الثلاثاء حين يرتدي ملابسه ويمشط شعره ويسمح له بالخروج لقضاء النهار في المدينة رغم أن الزوجة والبنات لا يعرفن ماذا يفعل هناك. خمَّنَّ أنه يسبب الإزعاج لأصدقائه. حسناً! .. . ربما كان هذا صحيحاً. رغم ذلك، نحن نتمسك بمتعنا الأخيرة كما تتمسك الشجرة بأوراقها الأخيرة. وهكذا جلس وودفيلد هناك يدخن سيجاراً وينظر بحسد إلى المدير الذي يتمايل في كرسيه المكتبي ضخماً متورداً ويكبره بخمسة أعوام وما يزال قوياً على رأس عمله حتى أن النظر إليه مريحٌ.
أضاف الصوت العجوز بكآبة وإعجاب: الجو مريحٌ هنا قسماً بشرفي!
نعم الجو مريح!
وافقه المدير وفتح صحيفة الفايننشال تايمز بسكين لقطع الورق. في الواقع، كان فخوراً بغرفته ويحب أن يكون مثار إعجاب العجوز وودفيلد بخاصة وأن يكون مزروعاً وسط الغرفة أمام بصر العجوز الضعيف المتلفع ولّد عند المدير شعوراً بالرضا عميقاً وراسخاً.
لقد رتبتها مؤخراً.
أعاد شرح ما شرحه سابقاً ومنذ أسابيع.
إنها سجادة جديدة.
أشار بيده إلى السجادة الحمراء البراقة المطرزة بحلقات بيضاء واسعة.
- إنه أثاث جديد.
أشار إلى خزانة الكتب الكبيرة وإلى الطاولة والمدفأة الكهربائية، ولوَّح بذراعه مبتهجاً مشيراً إلى الأصابع الكهربائية المتوهجة في الوعاء النحاسي إلا أنه لم يجذب انتباه العجوز وودفيلد إلى الصورة الموضوعة على الطاولة والتي هي لفتىً رزين المظهر يرتدي اللباس العسكري، ويقف في واحدة من تلك الحدائق الطيفية التي أعدَّها المصور وخلفه غيومٌ بددتها العاصفة. لم تكن صورة جديدة. توضعت هناك منذ ستة أعوام.
كنت أريد أن أقول لك شيئاً.
تكلم العجوز وودفيلد وقد غاصت عيناه في عتمات الذاكرة.
وما هو هذا الشيء؟
تذكرته عندما استيقظت هذا الصباح.
بدأت يداه ترتجفان وظهرت بقع حمراء في ثنايا لحيته. ظنَّ المدير العجوز أن المسكين على أحر من الجمر. ولكي يبدو لطيفاً غمزه وقال مازحاً:
ما رأيك؟ عندي قليل من شيء سيفيدك قبل أن تخرج إلى البرد ثانية. إنه شيء جيد لن يؤذي طفلاً.
أخذ مفتاحاً من سلسلة وفتح درجاً في مكتبه وأخرج زجاجة قاتمة قصيرة وثخينة.
هذا هو الدواء. أخبرني الرجل الذي اشتريتها منه أنها من ويندسور كاسل.
فغر العجوز وودفيلد فاه لدى رؤيته لها. ولن يكون أكثر دهشةً لو أن المدير أخرج أرنباً بدلاً منها. تكلم بصوته الواهن:
إنها ويسكي، أليس كذلك؟
فتل المدير الزجاجة وأظهر له الطباعة، وكانت ويسكي.
قال وهو ينظر إلى المدير:
أتعلم! لن يسمحوا لي بلمسها في المنزل.
بدا كأنه على وشك أن يبكي.
قال المدير: "آه، ربما كنا نعرف أكثر من السيدات"، ثم اتجه إلى الطاولة حيث يوجد قدحان مع زجاجة ماء. صب في كل كأس جرعةً تنم عن كرم:
اشرب. سيفيدك. لا تخلطه مع الماء. إنك ستدنسه لو خلطته. تجرع كأسه ثم أخرج منديله. مسح شاربيه بسرعة ونظر إلى العجوز وودفيلد الذي كان يمرر كأسه بين فكيه. ابتلع العجوز الجرعة. صمت للحظة ثم قال بخفوت: إنها جوزية النكهة.
أدفأته وتسللت إلى دماغه الكهل البارد، وتذكر.
- لقد تذكرت.
قال ذلك ونهض عن الكرسي.
أظنك ستفرح لو عرفت. كانت الفتيات في بلجيكا الأسبوع الماضي يزرن قبر ريكي المسكين وحدث أن عثرن على قبر ولدك. إن القبرين متجاوران على ما يبدو.
توقف العجوز وودفيلد عن الكلام ولم يتفوه المدير إلا أن ارتعاشاً في جفنيه بين أنه سمع. وتابع العجوز:
سرّت الفتيات من طريقة العناية بالمكان. إنه محفوظ بشكل جيد. من الأفضل لو دُفنا في الوطن. هل حدث وذهبت؟
كلا! كلا!
لم يذهب المدير لأسباب عدة.
تابع العجوز:
إن المسافة كبيرة والمكان مرتب كحديقة وتنمو الأزهار على جميع القبور. هناك ممرات واسعة وظريفة.
كان واضحاً من صوته أنه يحب الممر الواسع العريض. توقف عن الكلام. بعد ذلك، تورد العجوز بشكل رائع.
أتعلم كم دفعوا ثمن وعاء من المربى؟ لقد دفعوا عشرة فرنكات! هذه لصوصية. كان وعاءً صغيراً جداً كما قالت جيرترود. ولم تكن قد أكلت سوى ملعقة عندما جعلوها تدفع عشرة فرنكات. أحضرت جيرترود الوعاء معها لتلقنهم درساً. إنه استغلال سيئ. يظنون أنه بمجرد ذهابنا إلى هناك لنلقي نظرة نكون جاهزين لدفع أي شيء. هذا هو الأمر.
اتجه إلى الباب.
هذا صحيح! هذا صحيح!
قال المدير ذلك علماً أنه لم يكن يمتلك أدنى فكرة عما هو الصحيح. دار حول مكتبه وتبع الخطوات الثقيلة إلى الباب وشاهد صديقه العجوز يخرج. وذهب وودفيلد.
وقف المدير فترة طويلة يحدق ببلاهة بينما كان المعاون ذو الشعر الرمادي يراقبه وهو يتحرك جيئةً وذهاباً في مكانه مثل كلب يتوقع أن يؤخذ إلى سباق. بعد ذلك قال:
لا أريد أن أرى أحداً لمدة نصف ساعة يا ميسي. فهمت؟ لا أحد إطلاقاً!
حاضر سيدي.
أغلق الباب وعبر بخطوات متثاقلة السجادة البراقة من جديد. هبط الجسد البدين على الكرسي الهزاز وانحنى المدير إلى الأمام مغطياً وجهه بيديه. إنه يريد، بل صمم أن يبكي.. سبَّب له العجوز وودفيلد صدمة عظيمة عندما ذكره بقبر الولد. كأن الأرض انفتحت أمامه ليشاهد الولد ممداً هناك وبنات وودفيلد يحدقن إليه. كان شيئاً غريباً. ورغم أنه مرَّ ستة أعوام لم يفكر المدير أبداً بالولد سوى أنه يتمدد كما هو في لباسه العسكري نائماً إلى الأبد. ولدي! صاح المدير كالنائم إلا أن الدموع لم تتساقط من عينيه. في الماضي، في الشهور الأولى وقبل مقتل الولد بسنوات كان عليه فقط أن يتفوه بهاتين الكلمتين ليهيمن عليه الحزن. إلى درجة أنه لا شيء سوى نوبة من البكاء يمكن أن تريحه. ولا يختلف الأمر مع مرور الزمن كما صرَّح بعد ذلك وقال للجميع. البعض يمكن أن يصحوا والبعض يمكن أن ينسوا. أما هو فلا.
كيف كان ذلك ممكناً؟ لم يكن عنده غير ذلك الولد. منذ ولادته اشتغل المدير لتأسيس هذا المكان له. هذا المكان الذي لن يكون له أي معنى إذا لم يكن لابنه. إلى أن صارت الحياة نفسها بلا معنى، وكيف يستعبد نفسه وينكرها ويعيش كل هذه الأعوام دون الوعد الأبدي بأن يكبر الولد ويستلم ما سيتركه هو؟
كان هذا الوعد على وشك أن ينفذ إذ إن الولد جاء إلى المكتب وتعلم قواعد العمل لمدة سنة قبل الحرب. كانا يأتيان سوية كل صباح ويرجعان في القطار نفسه. وكم تلقى من التهنئات كونه والداً له! ولا عجب لقد أحب ذلك على نحو مدهش. أما بالنسبة لشعبيته بين المساعدين فقد كانت كبيرة إلا أن شخصيته لم تفسد من الإطراء. كان يعبر عن نفسه بوضوح. يقول: رائع. . ببساطة.
وتبخرت هذه الأمور كأنها لم تحدث وجاء اليوم الذي سلمه فيه ميسي البرقية التي جعلت المكان كله ينهار عليه.
ببالغ الأسى أنقل إليك الخبر.
غادر المكتب محطماً كأن حياته انتهت.
منذ ستة أعوام، ستة أعوام. كم مرَّ الزمن بسرعة! كأن الأمر حدث أمس! رفع المدير يديه عن وجهه. كان محتاراً. أحس أن هناك خطأ ما. لم يكن يشعر كما أراد أن يشعر. قرر أن ينهض ويلقي نظرة على صورة الولد إلا أنها لم تكن الصورة المفضلة لديه. كان التعبير ناقصاً، بارداً وباهتاً. لم يكن الولد يبدو هكذا أبداً. في هذه اللحظة شاهد المدير ذبابة سقطت في محبرته الواسعة تحاول بوهنٍ ويأس أن تخرج منها كأن ساقيها اللتين تصارعان تصرخان: النجدة! النجدة! كانت جوانب المحبرة رطبة وزلقة. سقطت الذبابة مرة ثانيةً وبدأت تسبح. تناول المدير قلماً. التقط الذبابة من الحبر ووضعها على ورقة نشاف. همدت قليلاً على البقعة السوداء التي تشكلت حولها. بعدئذ تحركت الساقان الأماميتان. تماسكت. وبرفعها لجسدها المتبلد بدأت مهمتها الضخمة في تنظيف جناحيها من الحبر. مررت ساقها على جانبي الجناح في الأسفل والأعلى كما يجلخ الحجر شفرة المنجل. تلت ذلك وقفة غير أن الذبابة التي بدت كأنها تقف على رؤوس سيقانها حاولت أن تمدد أولاً جناحاً ثم انتقلت إلى الآخر. نجحت أخيراً. وبدت كقطة صغيرة تنظف وجهها. ويستطيع الناظر أن يلمح الآن السيقان الصغيرة الأمامية تحتك ببعضها البعض.
بخفة ورشاقة انتهى الخطر المريع. لقد نجت وكانت على وشك أن تحلق في فضاء الحياة ثانيةً. وهنا خطرت للمدير فكرة. غمس قلمه في المحبرة ووضع يده على ورقة النشاف. وحين حاولت الذبابة أن ترفع جناحيها سقطت قطر حبر ثقيلة عليها. ماذا ستقدر أن تفعل؟ بدت الذبابة المتوسلة مرعوبة، حائرة ومتوجسة من الحركة نظراً لما سيحدث ثانيةً. إلا أنها جرّت نفسها إلى الأمام بألم. تحركت الأقدام الأمامية. تماسكت وببطء أكبر هذه المرة بدأت المهمة من جديد. ظن المدير أنها شيطان صغير مقدام. وأعجب أيما إعجاب بشجاعة الذبابة. هذه هي الطريقة الصحيحة في التصرف. هذه هي المعنويات الحقيقية. لا تقل أبداً يموت؟ إنها فقط مسألة... وأنهت الذبابة المهمة الصعبة ثانيةً. وكان لدى المدير الوقت الكافي ليملأ قلمه ويصبه على الجسم الذي تخلص لتوه من قطرة سوداء أخرى. ماذا ستفعل الآن؟ تبع ذلك فترة مؤلمة من التشويق. عادت الأقدام الأمامية إلى العمل ثانيةً. شعر المدير بالارتياح. انحنى فوق الذبابة وقال لها بلطف: أيها الو.. الماهر الصغير. وخطرت له فكرة النفخ عليها ليساعدها في تجفيف نفسها. رغم ذلك وهنت قواها. قرر المدير أن هذه المرة ستكون الأخيرة بينما كان يغمس قلمه في المحبرة. وكان ذلك. تمددت الذبابة المنهكة في القطرة الأخيرة على ورقة النشاف دون حراك. التصقت السيقان الخلفية على الجسم واختفت السيقان الأمامية. وصاح المدير:
تحركي، عجلي! لكزها بقلمه دون جدوى. لم يحدث أي شيء وما كان سيحدث أي شيء. لقد ماتت الذبابة.
رفع المدير الجثة بقاطعة الورق ورماها في سلة المهملات، تملكه شعور حاد بالبؤس ولَّد عنده الخوف. اندفع إلى الأمام وقرع الجرس منادياً ميسي:
- أحضر لي بعض ورق النشاف الجديد. أسرع.
وعندما خرج ميسي بدأ يتساءل بماذا كان يفكر سابقاً. ماذا كان الأمر؟ كان.... أخرج منديله ومرره داخل ياقته ولم يقدر أبداً أن يتذكر.
[ترجمة أسامة إسبر عن قصص مختارة للكاتبة].