عبود الجابري
(الدراويش للترجمة والنشر، ألمانيا، 2022)
[صدر للشاعر عبود الجابري "فهرس الأخطاء" (2007) عن دار أزمنة؛ "يتوكأ على عماه" (2009) عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر؛ "متحف النوم" (2012) عن دار فضاءات للنشر؛ "فكرة اليد الواحدة" (2015) عن دار فضاءات للنشر؛ "تلوين الأعداء" (2017) عن منشورات أحمد المالكي في بغداد؛ "أثر من ذيل حصان" (2021) عن منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب العراقيين في بغداد. تُرْجِم ديوانه "متحف النوم" إلى اللغة الإسبانية، وصدر في عام 2021 عن دار المأمون للترجمة والنشر في بغداد].
جدلية (ج): كيف ولدت فكرة نصوص المجموعة؟ ما هي منابعها وروافدها، ومراحل تطوّرها؟
عبود الجابري (ع. ج.): منذ البدايات وأنا مولع بالكتابة عن البيت، لأنه يمثل لي رمزية تحيل إلى السكينة، مثلما يحيل إلى البيت الأكبر وهو الوطن، وعندما غادرت العراق بدأت مفردة البيت تتسلل بلا وعي منّي بين ثنايا النصوص، وحين حلّت جائحة كورونا انتبهت إلى أنّي أعاود اكتشاف بيتي الصغير بما فيه ومن فيه، كذلك كان للجائحة دور في أن يكتشف المرء تفاصيل لم يكن يراها من قبل، تفاصيل كانت موجودة لكن العمى الذي تسبغه الحياة على الإنسان الذي يعدو ليل نهار كان يحول دون مشاهدتها، أو سماعها، إذ انتبهنا إلى أماكن وعلامات كانت أمام عيوننا لكننا لم نكن نلتفت إليها، كانت الجائحة رغم ضراوتها سبباً في تمكين الناس من سماع حفيف الشجر، وأغاني الطيور، أضف إلى ذلك صارت البيوت أكثر وضوحاً بشرفاتها وصمتها وصخبها وألوانها، كما أنني كنت أستغيث بالكتابة عن بيتي عندما تعسر الأحوال ولا أجد سوى الشعر مغيثاً أو معادلاً موضوعياً لترويض الأسى.
(ج): ما هي الثيمة/ات الرئيسية التي تحتوي عليها؟ ما هو العالم الذي تأخذنا إليه النصوص؟
(ع. ج.): الثيمة الأساسية في المجموعة ترتكز على ملاحقة ما هو يومي في حياة الإنسان، من خلال التقاط ما هو مهمل وتلوين مفاصله كي يبدو ناصعاً يحتفي بأهميته ويبصر الناس دور الأشياء الصغيرة في حياتهم.
(ج): كتابُك الأخير مجموعة شعرية، هل لاختيارك جنسًا أدبيًّا بذاته تأثير فيما تريد أن تقول، وما هي طبيعة هذا التأثير؟
(ع. ج.): هو ديوان شعر، وأنا أجدني في الشعر كميدان أبحث فيه عن مغايرة أسعى إلى تأصيلها فيما أكتب، وأرى أن اختيار الجنس الأدبي يعود إلى صلاحية الإنسان فيما يريد أن يكونه وذلك يستلزم الإحاطة بالمشهد الشعري وعموم الفنون التي تضيف إلى القصيدة أدوات تساعد الشاعر على التجديد والابتكار، وأنّ على من لا يحمل مثل هذه الصلاحية أن يكتفي بما لديه من صمت جمالي، فالصمت في رأيي أكثر جمالاً من ثرثرة لا طائل منها، لا سيما وأن الكتابة الشعرية مهمة عسيرة لمن يريد أن يعيش طويلاً في ضمير الشعر والمتلقي.
(ج): ما هي التحديات والصعوبات التي جابهتك أثناء الكتابة؟
(ع. ج.): محاولاتي الدائمة في تجنب نمطية الكتابة، والسعي إلى أن تكون لكل نص شخصيته المستقلة التي تضع له قدماً واضحة في الكتاب، فما جدوى أن تجمع في كتاب ما هو متشابه مضموناً وأسلوباً يفضي بالقارئ إلى الملل؟
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الإبداعية؟
(ع. ج.): هو كتابي السابع في تسلسل دواويني التي أصدرتها، أضيف إليها الترجمة الإسبانية لديواني الثالث (متحف النوم).
(ج): هل هناك نصوص كانت ذات تأثير خاص، أو قرأتها أثناء إنجاز المجموعة؟
(ع. ج.): أبتعد عما أقرأ عند شروعي بكتابة الشعر، على أني لا أنكر أن التراكم المعرفي والجمالي له بشكل حتمي أثر وإن بدا غير واضح في نصوص أي شاعر، فالمرء هو نتاج ما يمور داخل ذاته من تفاصيل حياته واهتماماته اليومية والثقافية.
(ج): هل تُفكّر بقارئ محدّد أثناء الكتابة، صفه لنا؟
(ع. ج.): أفكّر بنفسي قارئاً لما أكتب عند تقادم النصوص، وأرى إن كانت تحتفظ بالوهج ذاته عند الفراغ منها، أفكر أن يكون ما أكتبه سهلاً ممتنعاً يقرأه الجميع ويجدون فيه ما يقال نيابة عنهم، وفي النهاية فإن الشاعر لا بدّ له من الندم وغض الطرف عن كثير من قصائده القديمة كلّما تقدم به العمر وامتلأت حياته ثراء من حيث التجربة والامتلاء المعرفي الجمالي.
(ج): ما هو مشروعك القادم؟
(ع. ج.): هي مشاريع وليس مشروعاً واحداً، إذ أعكف على العمل في كتاب يتناول العلاقة بين الشعر والصلاة، مثلما أحاول أن أبلور أفكاري في تأصيل مشروعي في الترجمة الأدبية وفي لملمة أعمالي المتناثرة وإصدارها في كتب، وتبقى المشاريع طموحات أسعى لإنجازها ما لم يحل بيني وبينها ما يجعلني أعاود تأجيلها ثانية.
نصوص مختارة
في مهبّ البيت.
بيتي
ليس بعيداً عن يد الله،
فالبيتُ يمكن تعريفه بلا لغةٍ
قد يكون قطّةً توغل في المواء
فيجلدها الجوع
عند باب مغلق
وقد يكونُ صوتَ ارتطام كرة
بقدرٍ فارغة،
يمكنُ للبيت أن يخرج
من جسد رجل
يموتُ على ناصية الشارع
فتحفّ به الملائكة،
البيت أغنية ناقصة
مالم تفرش حجراته بايقاع أنينك
البيت، بيتي
صورةٌ في دفاتر الصبّاغين
في اللوحات المائية
تسيحُ ألوانها تحت مطر الخطايا
في قلم رصاصٍ
يضعه النجّارون خلف آذانهم،
البيت، بيتي
سماءٌ بلا إله
وقافلةٌ من الملذّات
تتمطّى في عضلات الفكّين
لا هُوَ بالضاحك
فأستعيده في لحظات الأسى
ولا هو بالباكي
فاقاسمهُ وجوم نوافذه
بيتٌ
يسكن في الحديقة
يفكّر بطريقةٍ
يجزّ فيها عشب ساكنيه
ويرسم أرجوحةً
بين غصنَي ياسمين ذابلين
البيت، بيتي،
يتسلّق سوره كل صباح
ويمضي في نزهته اليومية
بين قطعان بيوت
متخمةٍ بالعشب الأخضر
وزلال الرخام
ثم يعود ليفترس
ما تبقى من صورته
في خرائطِ ضيوفه القدامى.
***
ابراهيم الذي توشك النار
أن تحنو على جسده
لم يفعل شيئاً
سوى أنّه بنى بيتاً
وأسكن روحَ خالقه فيه
***
ليس بوسعي
أن أعمّر بيتاً
على أنقاض قصائدي
فقد نام أولادي
أيها المحسنون
يامن أغرقتم حياتي بالاسمنت
شرائح مجهريّة
كنتُ قد أوصدتُ باب المنزل
واتكّأتُ عليها
فارغة كانت خزانةُ الأحذية
عندما عبرَتْ على عجلٍ
أعوامي الحافية
***
غالباً ما أحنُّ إليه
وحين تأخذني قدماي مصادفة
إلى هناك
أتأمّلهُ بشغف
كما لو أنّني أشكره
- الشارع الذي عثرت فيه
على ثلاثة دنانير
كانت تتراقص في الهواء
***
في ثلّاجة الكوكا كولا
عثرتُ على جدول الضرب
أكثرُ من قنّينة زجاجيّة
لتضربَ رأسك
ثم تفكّر بمن يَليك
***
ليس للرغيف يدٌ
وذلك يعني أنه بلا خاتم زواج
كيف لي إذن
أن أخبر أولادي
أنّه مرتبطٌ
ويفكّر بالإنجاب
***
بلا دعوة يحضر الربّ
يأكل ما تبقّى لدينا
من خبز يابس
ويشرب
قارورة الماء الوحيدة
يتأمّل وجوهنا الشاحبة
ثم يهزّ يده هازئاً
ويمضي
***
في حفل الزفاف
ثمّة صائغ
يرسم بأسى شديد
صورة حزينة
لعروس تقصده فيما بعد
كي تبيع مجوهراتها
***
ليس لديّ ما أبيعه لأحد
مثلما لا أملك
ما أبيعه من أجل أحد
كل ما أملكه
أقترضه من نفسي
وأسدّد ديوني
بسجائر
أحرق بها ذاكرة الشهود
***
هناك في آخر حويصلة من رئتي
يتعفّن خزيني
من التبغ والكبريت
بينما أتمدّد على فراشي
منتظراً بلهفة
من يشعل اللفافة الأخيرة
***
أنت أيّها الأصمّ
أيّها الأعمى
كنت أخاطبك
لكنّك لم تلتفت إليّ