أحسست أن جسدي صغير وبأني أحتل مساحة أكبر مما يجب من فضاء الغرفة. رغبتُ بالاختباء، فكرت بالتواري تحت الطاولة الخشبية التي توسطت تلك القاعة الصغيرة وجميع من احتلها من أجساد وعيون تحدق بي.
أربع وعشرون عيناً بالتحديد، تراقبني وتتساءل ما الذي جئت من أجله. أربع وعشرون عيناً لاثني عشر ذكراً جلسوا أمامي على الطاولة المربعة منتظرين أن أباشر الكلام.
بحثت عن طرف الخيط لأبدأ الجلسة، عن بداية الجملة، كنت قد تدربت على ما أريد قوله ولكن الكلمات تناثرت في تلك المساحة الصغيرة التي وقفت بيني وبين رجال المخيم.
كنت هناك كباحثة أكاديمية في سنتي الثالثة من دراسة الدكتوراه في جامعة دلفت في هولندا، أقوم بجولتي الثالثة من من العمل الميداني الذي كنت أقوم فيه في مخيم الوحدات في عمّان/الأردن في صيف العام ٢٠٢١. انقسمت سنواتي الأكاديمية بين هولندا والأردن، حيث كنت أعود كل صيف إلى عمّان لأقوم بالعمل الميداني في مخيم الوحدات الذي تدور رسالة الدكتوراة في الهندسة المعمارية حوله.
تدرس رسالتي بالمجمل العلاقة الفراغية بين مخيم الوحدات ومدينة عمّان، والعوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي ساهمت باتساع كل منهما باتجاه وداخل الآخر.
يتمحور البحث حول سؤال أين يقع المخيم؟ كوسيلة لفهم توسع المخيم وعمليات إنتاج فراغاته المختلفة وتطوره، من خلال دراسة حركة سكانه وطبيعة نشاطاتهم واختلاف تجاربهم اليومية باختلاف الجندر والعمر والجيل والتوجهات السياسية.
تاريخياً، تأسس مخيم الوحدات في العام ١٩٥٥ كرابع مخيم للاجئين الفلسطينيين في الأردن، بعد مخيم الزرقاء في العام ١٩٤٩ ومخيم إربد في العام ١٩٥٠ ومخيم جبل الحسين في العام ١٩٥٢. أسست وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا) أربع مخيمات رسمية لإغاثة اللاجئين الفلسطينيين بعد نكبة ١٩٤٨ ومن بعدها ستة مخيمات للاجئين للفلسطينيين رسمية بعد نكسة ١٩٦٧، واستمرت الأونروا بالتعاون مع الحكومة الأردنية بتقديم الخدمات للاجئين الفلسطينيين من مؤن وخدمات صحية وتعليم منذ تأسيس هذه المخيمات إلى يومنا هذا، مع اختلاف طبيعة هذه الخدمات مع الوقت وتحولها من الإغاثة إلى التمكين، من خلال تقديم مشاريع الرعاية الاجتماعية والحماية والتمويل الصغير، مع الحفاظ على التعليم والرعاية الصحية، ووقف توزيع الحصص الغذائية في عام 1978.
بالعودة إلى تلك الغرفة، كنت في مخيم الوحدات في ذلك اليوم لعقد تلك الجلسة النقاشية مع أهالي المخيم، لأستمع إلى فئة الذكور من عمر ٢٠ وما فوق عن تجربة عيشهم في المخيم في شهر أغسطس/آب من العام ٢٠٢١.
أثناء تحضيري للجلسة، كنت أنا بموقع قوة، أسطّر ما شئت من أسئلة على تلك الورقة البيضاء التي احتوت ما يكفي من مساحة سمحت لي بأن أسأل وأتساءل. جئتهم كباحثة محملة بحقيبة أسئلة، جئت كباحثة، ولكن باحثة عن ماذا؟
ضاع مني الجواب في تلك اللحظات، حين انقلبت موازين القوى وشعرت بجسدي يهوي من السماء، بعد أن سُحبت العتبة الخشبية من تحت قدمي، وصرنا جميعاً واقفين على الأرض. أرض الواقع؟ أرض المخيم؟
تبادر إلى ذهني في تلك اللحظة مفهوم النظر من السماء بلا جسد، وهو مفهوم توسعت الأكاديمية دونا هاراوي بالكتابة عنه كجزء من انتقادها للموقع الذي يتقلده الباحثون أثناء دراستهم لظاهرة أو بيئة معينة. يموضع الباحث في تلك الحالة نفسه خارج الإطار الذي ينظر من خلاله، فيباعد بينه وبين موضوع بحثه كوسيلة للحفاظ على "موضوعيته" العلمية، بطريقة تنتج معرفة تدعي الحياد ولكنها في الواقع تثبت عكس ذلك.
دافعت هارواي عن عمليات إنتاج المعرفة التي سمتها بـ"المعرفة المتموضعة" أو "Situated Knowledge" وهي عمليات إنتاج معرفية لا تسعى للتعميم أو الحياد المطلق، بل تقترن هذه المعرفة بالتجارب المعيشة في مواقع معينة بكل ما تحمله من تناقضات وتعقيد واختلاف. لا يمكن إنتاج هذه المعرفة من خلال تبني منظور علوي بلا جسد، بل تعتمد المعرفة المتموضعة على تبني منظور من الجسد، لجسد واقف على الأرض وقريب من أرض الواقع.
في تلك الغرفة، في هذه المساحة صار كل منا ينظر إلى الآخر، ولم أعد أحاور الورقة البيضاء، بل صار على أسئلتي أن تقطع المسافة الفاصلة بيننا. مسافة تقاس بالأمتار، وفرق العمر، والتجربة الحياتية، والفروقات الجندرية.
مهما تعمقت في البحث عن المخيم وبنائه على مدى الثلاث سنوات الماضية خلال إعدادي لرسالة الدكتوراة، لن أمتلك من المعرفة ما يخولني بأن أدعي معرفته أمام أشخاص عاشوا وترعرعوا في بيوته وبين أزقته وتحت سمائه.
نعيش تحت نفس السماء في نفس المدينة، ولكني أعرف بأن سماء المخيم أوسع وأكثر ارتفاعاً، خصوصاً عندما تعانقها عيون هاربة من اكتظاظ البناء والبشر، فتجد في فسحتها مهرباً وملاذاً يسمح لها بأن تبحر وتسافر، من دون جوازات سفر ولا قيود ولا نقاط تفتيش.
حاولت أن أتمالك نفسي وأن أتغاضى عن كل التحديات التي حوّلت المسافة التي تفصل بيني وبين رجال المخيم لحلبة قفز حواجز. يلا، واحد، اثنان، ثلاثة.. بدأت المسرحية الأكاديمية.
تمحورت الأسئلة حول موضوع الجندرة المكانية: كيف تختلف تجربة العيش في المخيم والتنقل بين فراغاته باختلاف الجندر؟ ما لفتني في تلك الجلسة مع فئة الذكور كان استغرابهم من أسئلتي عن الجندر، لأنهم اعتادوا الحديث عن مواضيع أخرى عند الحديث عن المخيم، مواضيع تتعلق بتاريخ المخيم ورمزيته، بالإضافة لمواضيع أكثر حساسية توقعوا أن أسأل عنها وجهزوا أجوبة محايدة لها تفي بالغرض ولكنها لا تثير الجدل ولا تتعدى أي خطوط حمراء كنا جميعاً قد فهمنا حدودها وتعلمنا التحرك حولها دون المساس بها.
من ضمن الجلسة، سيطر ثلاثة من مخاتير المخيم على النقاش، حيث التزم البقية الصمت وأفسحوا المجال "لكبارية" المخيم بالحديث والانخراط بما يشبه الأداء المسرحي، تقاسم المخاتير فيه الحوار وخشبة المسرح.
لم يكن علي أن أسأل في كثير من الأحيان، حيث تحرك المخاتير بين المواضيع المختلفة بحرية تامة بينما وقفت هناك أحاول السيطرة على دفة الحوار وتوجيه النقاش باتجاه المواضيع التي جئت من أجلها.
في منتصف الحوار، رفع رجل ثلاثيني يده ليتحدث، ومن ثم عرّف عن نفسه بأنه من المركز الأمني، جاء ليشاركنا اللقاء "ليتأكد أن الأمور على ما يرام".
صار لتلك الخطوط الحمراء جسد واسم ووجه، جاء اليوم ليتأكد أن لا نحيد في الحديث عن المسموح به. أومأت رأسي بالإيجاب متظاهرة بأن شيئاً لم يحدث، مع أن جزءاً مني كان قد هوى على الأرض في تلك الأثناء، كأني قُبض علي متلبسة بجرم لم أستوعب ما هو.
بعد شد وجذب، تمكنت من الحصول على مجموعة من الإجابات بما يتعلق بالجندرة المكانية من وجهة نظر الذكور.
"إذا بدنا نتسلى، ما بنضل بالمخيم، بناخد تاكسي على أي مكان بعمّان وبنجتمع هناك، شو في نشاطات تنعمل هون أساساً؟" (طالب جامعي في العشرينات من عمره).
"في نسبة منيحة من الشباب بتحب تجتمع جوا مبنى النادي، في طاولة بلياردو وألعاب. بس طبعاً ما في بنات بفوتوا".
(طالب جامعي في العشرينات من العمر).
"حتى بالنسبة لشاب، في حارات مش آمنة بالليل، وفي شوارع بنتفاداها لإنه بنعرف مين سكانها وما بدنا مشاكل".
(موظف حكومي في الثلاثينات من العمر).
قبل هذه الجلسة، كنت قد عقدتُ أولى الجلسات مع مجموعة من إناث المخيم لأستمع لتجاربهن، إذ قررت أن أبدأ معهن لأنهن الأغلبية وأردت أن أعطيهن الأسبقية، وأتبنى منظورهن كنقطة مرجعية أنظر من خلالها وأبني معرفتي.
أؤمن بأن علاقتنا مع مدننا تختلف باختلاف جندرنا، وتختلف كذلك تجربة حركة أجسادنا في فضاءاتها. تحتكم هذه الاختلافات لمعايير كثيرة أخرى بالتأكيد، مثل العمر ومكان السكن والقدرة الجسدية والخلفية الاجتماعية والعرق وغيرها، فلا بد من التفكير بهذه التقاطعات عند أي محاولة لفهم علاقة الجندر مع المكان، أيّاً كان.
ما يميز المخيم هو أنه يختزل المدينة كلها، فتصير الأشياء فيه أكثر تركيزاً وصخباً، حيث تطوى مناطق كاملة في حيزه، وتتراكم التجارب في قاعه وتحت أسطحه.
في وصفه لمخيم الوحدات وطفولته فيها، كتب الروائي الفلسطيني إبراهيم نصر الله في روايته طيور الحذر: "مر زمنٌ طويل، مرّ قبل أن يعرف: أن ليس بإمكانك رؤية الشيء على حقيقته وأنت بعيد عنه، ثم تعلم أن رؤيته من الخارج غير كافية لمعرفته أبداً".
في المخيم، وجدت بعد عقدي لمجموعة من الجلسات مع سكانه من الإناث والذكور، بأن التجارب المكانية مختلفة لدرجة تكاد أن تجعل من المخيم مخيمين، ومن نفس الشوارع والأزقة عوالم مختلفة لا تتقاطع.
[صورة ١: أزقة وشوارع المخيم/ الصورة من تصوير كاتبة النص].
بالنسبة للساكنات من الإناث، جاء الجواب واضحاً: لا نذهب إلى مكان لا نعرفه.
خلال الجلسة النقاشية التي عقدتها مع الإناث في شهر أغسطس/آب من العام ٢٠٢١ لفئة الـ٢٠ وما فوق، استمعتُ إلى وجهات نظر مجموعة من الإناث.
"عند خروجنا من باب المنزل، نوجه أنظارنا إلى المكان الذي نرغب بالوصول إليه. يتحول المخيم إلى نفق نتحرك على طوله خطه، من النقطة أ إلى النقطة ب. لا مجال للكزدرة أو التسكع، لا مجال لأخذ طرق بديلة، نفس الطريق التي اعتدنا عليها وحفظنا معالمها وأَمِنّا سكّانها". (طالبة جامعية في العشرينات من العمر).
"بنعرف أنه لازم نتجنب الأزقة الضيقة والممرات المغطيّة وسوق الخضرة وأصحاب البسطات وأماكن التزاحم والنادي الرياضي وحارات الغجر وحارات المخدرات وولاد المدارس وغيرهم كتير". (أم وناشطة اجتماعية في الثلاثينات من العمر).
"لازم نرجع قبل العتمة، كتير من الشوارع السكنية ما فيها ضواو، إذا عتّمت مصيبة". (أم وربة منزل في العشرينات من العمر).
بعد الاستماع إليهن، شعرت بأن الأنثى في المخيم تتحرك في شوارعه كسوبر ماريو، تقفز فوق الحواجز وتتفادى الاصطدام بالأجسام الغريبة والأجساد المتسارعة باتجاهها التي تضمر الأذى في كثير من الأحيان.
"إنتاو عم بتبالغوا.. المخيم مش هالقد سيئ، هينا عايشين هون من زمان ومربيين ولادنا أحسن ترباية، ما عمرهم أجو بحدا ولا تحرشوا ببنت. عندهم أخوات بنات بخافوا عليهم وما بقبلوا يغلطوا ببنات الناس". (أم وربة منزل في الخمسينات من العمر).
"أنتو متأكدات إنكن عايشات بالمخيم؟ كإنكن بتحكوا عن مكان تاني.. من وين جايبين هالحكي؟" (أم وربة منزل في الأربعينات من العمر).
[صورة ٢: الحواجز البشرية والأجساد المتسارعة في المخيم/ الصورة من تصوير كاتبة النص].
تقلدت مجموعة من السيدات دور شرطة الفضيلة أثناء انعقاد الجلسة، بطريقة كانت تشبه الطريقة التي سيطر فيها المخاتير على الحوار أثناء جلسة الذكور، ممارساتٍ سلطتهن التي اكتسبنها بحكم العمر على الفتيات الأصغر عمراً اللاتي كنّ الأكثر استياء وتضايقاً من التحرش اللفظي والجسدي الذي كن يتعرضن له بشكل مستمر.
شعرت بأن أياد كثيرة امتدت إلى الكاميرا (المجازية) في تلك الغرفة وحاولت أن تتحكم بزاوية التصوير، فحاولت فئة من الإناث أن تظهر واقعها الذي قلمّا أُعطيت الفرصة لكشف تفاصيله، بينما انشغلت مجموعة أخرى بمحاولة تسليط الكاميرا على واقع وردي أقنعن أنفسهن به وأردنني أن أراه.
من واقع تجربتي الشخصية كأنثى زارت المخيم بشكل مكثف على مدى ثلاث سنوات، كنت قد أدركت بأن محاولة التحرك في المخيم كانت بالفعل تشبه تجربة سوبر ماريو، الذي ربما كان سيتمتّع بالأفضلية في المخيم لأنه ماريو.
تدخلت بالحديث بعد الاستماع للنقاش الدائر بينهن، مستعينة بسلطتي كمُنظمة للقاء لأعطي مساحة أوسع للفتيات ليتوسعن بمشاركة تجاربهن. ثبّتُّ الكاميرا باتجاههن ومنعت الأيدي المتسلطة من محاولة لف الكاميرا أو تغطيتها.
اختلفت التجربة المكانية تماماً في وصف كل من الجندرين، فظهر المخيم كحيز ضيق مزدحم ومكتظ بالباعة والبيوت الخرسانية والأجساد المتحركة من منظور الإناث ومن ثم ظهر كميدان متسع ومفتوح ومتصل ببقية المدينة من منظور الذكور. تباين الوصف كذلك بين مسارات حركة متقطعة وحادة تتفادى نقاط التصادم.. وأخرى مستقيمة تخترق الأحياء والشوارع بشكل مباشر دونما قلق، بين وتيرة حركة سريعة ومتذبذبة للوصول بين نقطتين وأخرى معتدلة ومرتاحة بين عدد من النقاط المتنوعة والمتناثرة.
بسبب هذا التباين في التجربة المكانية، لا بد بأن الخرائط الذهنية التي ارتسمت في أذهان كل من الفئتين مختلفة تماماً، ومعرفتهم لمحيطهم وعلاقتهم به مختلفة كذلك.
"ما بعرف شكل المخيم بالليل، ما عمري طلعت مشيت فيه بعد ما تعتم". (طالبة جامعية في العشرينات من العمر).
"حارات المخيم كتير بتختلف عن بعض. إذا غمّقتِ لجوّا بصير الوضع أصعب والممرات أخطر. وجود السيارت الرايحة والجاي بكشف المنطقة وما بسمح للزعران يتجمعوا". (ربة منزل في العشرينات من العمر).
"لا تمشي في حارة الغجر، ممكن تطلع عليكي سمعة سيئة ويفكروكي وحدة منهم، ما بدك هيك مسموعيات".
( معلمة مدرسة في الثلاثينات من العمر).
عند تحركي في المخيم، لطالما شعرت بأني مراقبة. كل الأعين تنظر إليّ، متوزعة بين الطوابق.. أعين في الشارع، أعين في البلكونات، أعين خلف النوافذ، أعين أمام الدكاكين. تعجبت من حساسية أهالي المخيم العالية لمحيطهم وقدرتهم على استشعار أي حركة أو وجود غريب في أحيائهم. عيون تنظر وتراقب، شعرتُ بها في كل مكان، رسمت شبكات معقدة من خطوط النظر التي أحاطت بجسدي كشبكة صيد نجحتُ بالتملص منها مرة بعد أخرى.
ربما كان للكاميرا التي كنت أحملها حول عنقي دور في لفت الأنظار إليّ بشكل أسرع، وحقيقة بأنني أمشي برفقة شاب في وضح النهار دورٌ في تسليط الضوء عليّ كذلك. كان الشاب هو مساعدي في البحث، وهو شاب من المخيم كنت قد استعنت به (واختبأت خلفه أحياناً) لمساعدتي في إتمام البحث وترتيب اللقاءات مع السكان.
[صورة ٣: أبراج المراقبة المنتصبة في حارات المخيم/ الصورة من تصوير كاتبة النص].
عرفه معظم من رآه بالشارع أو لعلهم أدركوا أنه ابن المنطقة بينما لم أكن كذلك.
"شو بتصوري؟ طيب صورينا!
أنتِ مين؟ صحافية؟ شو بتسوي؟" صرخت مجموعة من الشباب عندما مررت بجانبهم.
ربما كان من العدل أن أقف أنا على الجهة الأخرى من الكاميرا من باب التغيير، فأصير أنا محط الأنظار واقفة تحت بقعة الضوء.
كمجتمع أكاديمي، اعتدنا أن ننظر، نسأل، نلتقط الصور، نشاهد، نلاحظ، نسجل، نراقب. ربما كان من العدل أن تنقلب الأدوار ولو قليلاً لأدرك بأن هناك نوعاً من العنف يعتري عملية النظر والمراقبة، ونوعاً من سطوة النظر على الجسد، سواء نظرة العيون أو الكاميرا، حين نحشر أحدهم داخل إطار ونسلط الضوء على وجهه لنسأل.
تذكرت تلك السيدة الخمسينية التي قالت لي مرة: "يلا صوري صوري، صورينا وإحنا قاعدين بهالمخيم، لمي شو ما بدك معلومات وروّحي وما ترجعي، متلك متل غيرك".
حملت كلماتها الكثير من الغضب والمساءلة. تحتم علينا نحن، من جئنا ونظرنا ورأينا وسألنا، أن نفعل شيئاً. هل يقبل أي إنسان رأى كل هذا البؤس بهذا الحال؟ هل يجعلنا موقفنا الحيادي، متواطئين في استمرارية هذا الوضع؟
بطريقة ما، غفلت عن حقيقة بأن رغبتي بالبحث لم تعن بالضرورة رغبة من يحمل الجواب بالمشاركة في هذا الاشتباك المعرفي، خصوصاً إن لم يكن هذا الاشتباك متبوعاً بحلول مباشرة ولا مساعٍ عملية لتحسين الواقع.
أسئلتنا تدق الأبواب، ولكن هذا لا يحتم على صاحب الدار أن يجيب أو يرحب بنا.
وبعد هذا يظل السؤال.. ما الذي كان سيختلف في تجربتي لو كنت ذكراً، وما انعكساته على بحثي، على جلساتي النقاشية، على رحلاتي حول المخيم؟ لو كنت أصغر سناً؟ أكبر سناً؟ من بلد مختلف؟ غير محجبة؟ من ديانة مختلفة؟
ما الذي كان سيختلف لو درست المخيم عن بعد، ونظرت إليه من السماء، من دون أن أموضع نفسي في وسط ناسه وأبنيته؟ لو حلقت فوقه كطيف بلا جسد وادعيت معرفته من الأعلى، دون الوقوف على الأرض ولا الاشتباك بالنظر والحوار؟
كانت العملية ستكون أسهل كثيراً، فلا اختباء تحت الطاولات ولا شد أيدي على زاوية تصوير ولا محاولات هروب من شباك صيد. لا تبادل أدوار ومواقع قوة بين سائل ومجيب، بين باحث ومشارك، بين عيون وصورة، بين ذكر وأنثى، بين عقل وجسد.
ولكنها بالتأكيد عملية لم تكن ستسمح لي بأن أعرف المخيم كما عرفته الآن، بكل ما فيه من تناقضات وتقاطعات واختلاقات، ولم أكن سأجد جواباً لما جئت باحثة عنه متجسداً بداخلي، كمعرفة تراكمية معاشة عن الجسد والجندر والمخيم.
[صورة ٤: المخيم من الأعلى/ الصورة من تصوير كاتبة النص].