يوم جميل حقاً
أخيراً، ها هو المتحف العراقي يفتح أبوابه من جديد! كان خبراً ساراً حقاً، ظل العراقيون يترقبونه بلهفة، وأنا واحد منهم. وجدتُ من المناسب حين قررتُ الذهاب لزيارته أنْ أتوجه مُبكراً، مُرتدياً ملابسَ رسمية أنيقة تليق بالمناسبة. كنتُ أول الواصلين، ثم دخلتْ بعدي فتاة أجنبية، ببنطلون من الجينز، وقميص أزرق طبع فوقه شعار إحدى المنظمات الإنسانية. فضَّلتُ أن أبدأ جولتي من القاعة الآشورية، فهي أكثر القاعات مهابة. وهناك، عند الجداريات العظمية لقصور الآشوريين، بدأ شاب وفتاة في مقتبل العمر يلتقطان الصور مع تماثيل الثيران المجنحة (لاماسو). كان واضحاً أنهما يعيشان بهجة أيام الخطوبة. اقترحتُ أن آخذ لهما صورة معاً، فوافقا بسعادة. لكنَّ سعادتهما بالتعرف عن قرب على تراث العراق كانت أكبر بالتأكيد. لم يصدقا في البدء أن تلك الجداريات الفخمة أصلية بالفعل. المفارقة أن الشاب والفتاة يزوران المتحف للمرة الأولى، مع أنهما يسكنان بجواره في حي الصالحية. أنا أيضاً، برغم معرفتي الجيدة بمقتنياته وتاريخه، واهتمامي منذ فترة مبكرة بحضارة العراق، لم تسنح لي الفرصة لزيارته. سبق أن قصدته مرتين، كان في كلتيهما مغلقاً، دون أن يُعلن عن ذلك. يقترب منا رجلان في الخمسين من العمر، فما كنتُ أقدِّمه للشاب وخطيبته من معلومات تاريخية جعلهما يحسبان أنَّي من موظفي المتحف. سأعرف أنهما كرديان من أربيل، وسأكتشف أن أحدهما (الأستاذ طارق) وهو يحمل شهادة الماجستير كان زميلاً لي أيام الدراسة الجامعية. أخبرني أن مهمته التي جاء من أجلها أُنجزتْ، وكاد أن يعود لأربيل يوم أمس، لكنه عرف بالمصادفة أن المتحف العراقي قد فتح أبوبه فأجَّل رحلته، وها هو يتأمل الآثار الفريدة بشغف، ثم يقترب مني ثانية ليقول: لقد زرتُ المتحف المصري، لكن كُنْ على ثقة من أن المتحف العراقي أكثر روعة. موظفو المتحف لطفاء حقاً، يتجولون في القاعات، مبدين استعدادهم للمساعدة بمودة واحترام. هكذا بدوا وهم يستقبلون الطلبة الصغار من ثانوية المنصور بزيِّهم الموحد الجميل، وعدداً آخر من طلبة إحدى الجامعات، صادف أن كانت الأستاذة التي ترافقهم زميلة لي أيضاً. عرفتها من صوتها، كان الطلبة قد شكلوا دائرة حولها. راحتْ تطلب من طلبتها الانتباه جيداً لما يقوله الدليل، وهو يعرِّفهم بأثر نفيس عمره خمسة آلاف عام، وتلتمس منه أن يعيد ما ذكره من أن الحضارة العراقية سبقتْ جميع الحضارات الأخرى في ميادين العلم والفن. أحسستُ أن الأستاذة تغالب البكاء. بدتْ نبرتها مليئة بالفخر والحماس. ها هم الزوار يتدفقون بكثرة. ألمح بينهم سائحاً غربياً بعمر السبعين، ترافقه امرأة بمثل سنه، راحا يتأملان المعروضات، وكأنهما يتعبدان بخشوع. لقد قضيتُ صباحاً ربيعياً استثنائياً حقاً. رحتُ أفكر وأنا أغادر المتحف لا في عظمة الآثار العراقية فحسب، بل بتنوع الأجيال والانتماءات للزائرين الذين صادفتهم، باعتزازهم بحضارة العراق، وبتلك اللحظات التي وفرتْ لهم تجربة فريدة لم يسبق لهم أن اختبروها لأسباب سأذكرها لاحقاً. قلتُ في نفسي من المؤكد إنَّ الآلاف مثلهم سيأتون قريباً، وإنَّ عليَّ أن أقول شيئاً ما، أنْ أُسهمَ بما أستطيع تقديمه من مراجعات وأفكار آمل أنْ تكون نافعة.
سنوات السبات الطويل
عجيب هو أمر المتحف العراقي الذي تمَّ تأسيسه منذ مئة عام، تماماً في العام 1923، في إحدى غرف مبنى السراي (القشلة) في بغداد، على يد السياسية المغامرة، وعالمة الآثار الإنكليزية غيرترود بيل "المس بيل" لا غيرها، وهي من ستصبح أوَّل مديرة فخرية له. صار بذلك ثاني متحف عربي، بعد المتحف المصري، وواحداً من أبرز الصروح الثقافية في المنطقة، في أيامه الذهبية اللاحقة. ما يستدعي العجب أن أغلب أهله العراقيين لم تسنح لهم الفرصة لمشاهدة شيء من كنوزه! لقد بدا وكأن أبوابه التي بقيت موصدة لسنين طويلة تمارس تقليداً يؤهله لحمل الرقم القياسي، متفوقاً على جميع المتاحف التي شهدت اغلاقاً، لسبب أو آخر. كانت الحرب العراقية الإيرانية قد ألقت بظلالها على نشاطه في ثمانينيات القرن الماضي ، ثم جاءت حرب الخليج الثانية 1991 لتوصد أبوابه في سنوات العقد التسعيني. سيستمر الإغلاق لاثني عشر عاماً لاحقة، بعد مأساة النهب والتخريب التي طالت مقتنياته إثر اجتياح الجيش الأمريكي لبغداد في 2003. يومها استبيح المتحف لثلاثة أيام من قبل لصوص محترفين دمروا وسرقوا آلافاً من آثاره، بينما اكتفى الجنود الأمريكان بدور المتفرج.
[القيثارة السومرية، أقدم آلة وترية في العالم، بحدود (2400 ق.م)، تم تهشيمها وسرقة رأسها الذهبي أثناء نهب المتحف العراقي في العام 2003].
كانت تلك السنوات أسوء ما مرَّ بتاريخ العراقيين، فبدا اغلاق المتحف من أجل الحفاظ على مقتنياته أمراً لازماً، إثر تصاعد رصاص العنف الطائفي ودويَّ السيارات المُفَخَّخَة. أما المرات القليلة التي استقبل المتحف فيها بعض الزائرين فبقيت تأتي هامشاً لدعاية سياسية، يلجأ إليها رؤساء الوزارات بالتعاقب، كي يثبوا قدرتهم على إدارة البلاد. فعل ذلك حيدر العبادي في فبراير من العام 2015، أي بعد اثني عشر عاماً من إغلاق المتحف، وبعد يومين فقط مما قام به تنظيم الدولة الإسلامية من تدمير لآثار مدينة الموصل. كان ظهوره وهو يفتتح المعرض أمام شاشات الإعلام، وما أدلى به من تصريحات يؤكدان الحاجة إلى ردِّ فعل رمزي كبير. سبق لسلفه نوري المالكي أن فعل الأمر ذاته في العام 2009، لإعطاء انطباع باستتباب الأمن في بغداد. لقد أُعلن يومها أن المتحف تم تجديده وسيفتح بشكل دائم، ولم يحصل شيء من ذلك في الواقع. سرعان ما أقفلت الأبواب من جديد لما يقرب من ثلاثة أعوام، بسبب الأحداث التي رافقت ثورة تشرين، وما تلاها من تمدد لوباء كورونا. أما الحاجة لترميم بعض قاعات العرض فهو العذر الذي بقي يطرق آذان العراقيين من غير أن ينجح بإقناعهم. وجَّه رئيس الوزراء الحالي مصطفى الكاظمي متبعاً نهج أسلافه بإتاحة المتحف للزائرين في يوليو الماضي، أي قبل ستة أشهر ضاعت هي الأخرى. وأياً كانت الأسباب التي أغلق المتحف بسببها فقد كانت النتيجة واحدة، بقاء آثار أعظم الحضارات الإنسانية لسنين طويلة تقبع في سكون عجيب، تشكو الوحدة خلف واجهات زجاجية، أو مخبأة داخل صناديق في أقبية. أتحدث هنا عن أقدم الشواهد على ولادة الحرف الأول، وأولى القوانين والفنون والآداب والشرائع، تلك التي يكنُّ لها العراقيون وشعوب العالم تقديراً واحتراماً كبيرين، عمَّا أبدعه السومريون والأكديون والبابليون والآشوريون، عن الوعاء النذري الشهير وقناع الوركاء، عن القيثارة السومرية وخوذة الملك مسكلام دك والثيران المجنحة، وصولاً إلى روائع فنون الحضارة الإسلامية في أدوارها المتعاقبة.
[من معروضات المتحف العراقي الصورة بكاميرا الكاتب].
[من معروضات المتحف العراقي الصورة بكاميرا الكاتب].
لقد عمل عدد كبير من علماء الآثار العراقيين والأجانب بجهد وإخلاص طوال المئة والخمسين عاماً الماضية للكشف عن هذا التراث الثقافي العظيم، وكثير منهم كرَّسوا حياتهم بأكملها لدراسته والتعريف به. وبرغم من أن العراقيين كانوا بأمس الحاجة لأشياء مشتركة تجمعهم، لإرث يبعث فيهم الفخر بامتلاك هوية وطنية لها امتداد موغل بالأصالة، إلَّا أنَّ الأعوام الأخيرة كانت قد مَرَّتْ ووضع الآثار في المتحف العراقي يشبه حالها يوم كانت مطمورة تحت التراب. أمَّا الاستثناء الوحيد، فتمثل بفتح أبواب المفتح أمام السفراء والقناصل وبعض والوفود الأجنبية. الغريب أن استمرار ذلك الحال لم يسهم بإثارة اهتمام النخب الثقافية والعلمية، ولم يشهد الفضاء العام نقاشاً جاداً لأسباب الإغلاق، أو تقديم اقتراحات من أجل استعادة دور أهم مؤسسة ثقافية. وحدها الشرائح الشعبية هي التي رصدت بذكائها الفطري خطر الظاهرة، ومن يرجع لوسائل التواصل الاجتماعي، سيجد ممثليها قد طالبوا مراراً بفتح المتحف أمام الناس، ولم يكن هناك من يجيب على أسئلتهم، أو يعبأ بنقدهم البليغ، وإنْ كان مصاغاً باللهجة العاميَّة.
[الصورة من وسائل التواصل الاجتماعي (فيسبوك)].
من أجل عودة أجمل
كان المأمول - بعد كل تلك السنوات - أن تأتي عودة المتحف أكثر فاعلية، في الأقل لجهة إتاحة الفرصة المناسبة أمام جمهور متعطش لرؤية تراث الأجداد. لكن المفاجأة أن جدول دوام المتحف لا يتماشى مع المعروف من قواعد العمل المتحفي، فهو يبدأ من يوم السبت حتى الخميس، ولأربع ساعات في اليوم فقط، من التاسعة صباحاً حتى الواحدة ظهراً، أي في الوقت الذي يكون فيه أغلب الناس قد توجهوا لأداء أعمالهم. لا أعرف كيف سيكون حال مواطن يسكن في محافظة قريبة من بغداد، يريد اصطحاب أولاده لزيارة المتحف. سيتوجب عليه أن يحصل على إجازة من دائرته أولاً، وإجازات أخرى من مدارس أولاده ثانياً، وأن يبكروا في الوصول إلى المتحف ثالثاً، قبل أن تبدأ بغداد بالغرق في لجج الازدحامات المرورية الخانقة ليستفيدوا مما تبقى من الساعات الأربع. ليس من الصعب تمديد ساعات العمل، أو التأسيس لدوام إضافي مسائي، يبدأ من الرابعة ظهراً حتى الثامنة مساءاً. من اللازم أيضاً استقبال الزائرين في عطلتي الأسبوع، يومي الجمعة والسبت. فأغلب متاحف الدول العربية، فضلاً عن العالمية لا تغلق أبوابها في العطل الأسبوعية، بل إن أعلى نسب الزيارة تتحقق فيها، كما أنًّ ساعات عملها لا تقل عن ست ساعات يومياً، وتصل لدى بعضها إلى عشر ساعات كاملة. إنَّ تلك التسهيلات الضرورية المقترحة لا تتطلب سوى توزيع مهام موظفي المتحف على وجبات، وستكون النتائج إيجابية ونافعة للجميع. ثمة أمور أخرى ينبغي الالتفات إليها، مثل أهمية التأسيس لدعاية جاذبة للزوار، كما يجب جعل الدخول مجانياً بالنسبة للعراقيين، للتخفيف عن كاهل المواطن حين يصطحب عائلته، وعلينا أن نتذكر هنا أن المتحف ليس مؤسسة ربحية بالأساس. كان ثمة مواد إنشائية أيضاً، وعمال بناء وصباغة يباشرون عملهم عند البوابة، وداخل إحدى القاعات المغلقة أمام الزائرين. لم يؤثر ذلك على حركة زوار المتحف، وما كنتُ لأتوقف عند هذه الملاحظة، لولا ما أتذكره الآن من تصريحات كثيرة لمسؤولين صدرت منذ سنوات وقد أكدتْ جميعها على قرب الانتهاء من أعمال الصيانة.
الحاجة لمتحف جديد
[البوابة الرمزية للمتحف العراقي الحالي].
يوماً ما كانت بناية المتحف الحالي التي صممها المهندس المعماري الألماني (فيرنر مارش) تمثل لمسة معمارية جميلة في الفضاء البغدادي. مع ذلك، لم يعد المتحف مؤهلاً لأداء الدور الذي بُنِيَ من أجله. لقد تغيرتْ أشياء كثيرة، بغداد ذاتها تغيرتْ بشكل سيء للأسف، تزايد عدد سكانها على نحو غير مسبوق، وانتشرتْ فيها المساكن العشوائية، كما تبدلتْ وظيفة الكثير من الأمكنة، وتفتَّتَ النسيج الحضري لأغلب الأحياء القديمة، ومن بينها تلك المحيطة ببناية المتحف. خلال المئة عام الماضية قُدِّرَ للمتحف أن ينتقل من مكانه أكثر من مرة. فحين وجدتْ "المس بيل" أن غرفة السراي (القُشْلَة) لم تعد كافية، نجحتْ بنقله في العام 1926 إلى مبنى مناسب في شارع المأمون. لاحقاً، وللأسباب ذاتها فَكَّرَ مسؤولو العهد الملكي ببناء متحف عصري أكثر حداثة، وبدأوا بتهيئة الأرض والمال والمخططات. لكن ستمرُّ سنوات حتى يفتح فعلياً في منتصف ستينيات القرن الماضي. من المؤكد إن أولئك المسؤولين الذين اختاروا موقعه، وكان نموذجياً وقتها، ومعهم الملك فيصل الثاني الذي وضع له حجر الأساس لم يتخيلوا ما سيحصل لاحقاً من خراب مؤسف لبغداد الحديثة التي بنوها وأداروها بكفاءة. اليوم، لم يعد المتحف يمثل قلب المكان. إنه يبدو منزوياً ومحاصراً بضجيج المركبات في الشوارع القريبة منه، والمحال الشعبية البائسة في منطقتي الصالحية والعلاوي.
لقد جلب لنا العام الماضي بعض الأخبار الطيبة، حين تمت إعادة 17000 قطعة أثرية سرقت من العراق، وحين تزايدت فرق التنقيب الآثارية الأجنبية العاملة في كثير من المواقع، ونجحت جهودها وجهود الآثاريين العراقيين بالكشف عن أعداد كبيرة من القطع الأثرية. لا شك في أن الأيام القادمة تعد بما هو أكبر بكثير، فالحضارات المتعددة التي مرت بتاريخ العراق تركتْ لنا آلاف المواقع التي لم يتم التنقيب فيها حتى الآن. كل ذلك أمر حسن، لكن كيف وأين سيتم عرض كل تلك الآثار؟ إن مخازن المتحف مليئة بآلاف القطع الأثرية التي لا تجد مكاناً لتعرض فيه. ضاق المتحف بآثاره، مثلما ضاقتْ بغداد بأهلها. كان من نصيب بغداد أن تتمدد بطريقة غير حضرية، ومن المحزن أن يكون نصيب المتحف على هذه الشاكلة هو الآخر.
لم يعد من المقبول بقاء الحال كما هو عليه، فطريقة العرض التي رأيتها قديمة للغاية. لا بد من توفير اللوازم الأساسية لأي متحف عصري: صرح معماري كبير وحديث، قاعات عرض كافية مصممة وفقاً لأحدث أساليب العرض المعروفة في المتاحف العالمية الكبرى، قاعة كبيرة مخصصة لعقد المؤتمرات والندوات والفعاليات الأخرى، سينما ثلاثية الأبعاد، موقف كبير للمركبات، مقهى حديث، ومطعم يمكنه تقديم أطباق عراقية الأصل بأسلوب عصري، ومتجر يوفر الهدايا والتذكارات بتصاميم جميلة مستلهمة من التراث، تحيط بذلك كله حدائق غناء، تجمع ما عرفته البيئة العراقية في تاريخها من أشجار وورود، وللنخلة الصدارة بالتأكيد. جميع هذه الأساسيات الضرورية لا يوجد منها شيء في المبنى الحالي.
لكن، بعيداً عن التفاصيل، ما هو المكان الأفضل للمتحف الجديد؟ لنتفق أولاً على ضرورة الاحتفاظ بالوظيفة الأصلية لمبنى المتحف الحالي. إن دول العالم المتحضر تعجُّ بعشرات المتاحف، من كل صنف ولون، ويمكن التفكير بخيار مناسب للمبنى الذي لا يستحق التفريط به، لأنه صار جزءاً من الذاكرة البغدادية. إنَّ صوب الرصافة من بغداد يضم المتحف البغدادي ومتحف التاريخ الطبيعي، وسيكون من الأفضل بقاء المتحف في صوب الكرخ، لأسباب كثيرة منها وجود مساحات كبيرة مثالية غير مستغلة قريبة من مركز بغداد، وهي تضمن توفر ما يحتاج إليه المتحف من أجواء آمنة وهادئة وقليلة الزحام. يمكن مثلاً التفكير بمساحة الأرض الكبيرة عند مطار المثنى، سيصبح المتحف بذلك قريباً من نقاط كثيرة جاذبة للزوار، كمتنزه الزوراء ومعرض بغداد الدولي، والمراكز التجارية الحديثة في المنصور والحارثية، وهي في مجملها أمكنة تُمثِّل متنفساً للعائلة العراقية.
متاحف العصر الرقمي وعجز المؤسسة
ما إنْ أهلَّ عصر التقنية الرقمية حتى بدأت المتاحف العالمية بالعمل مثل خلية نحل، لتحدث نقلة كبرى في طبيعة العمل المتحفي. في البدء أُعطت الأولوية لرقمنة كل شيء، أرشيفها وبياناتها ومكتباتها. قامتْ أيضا بأخذ صور ثلاثية الأبعاد لجميع مقتنياتها من آثار وأعمال فنية، وأولتْ أهمية بالغة لتأسيس الموقع الإلكتروني الرسمي، ولحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي تقدم محتويات مُعدَّة ببراعة، ومُصَمَّمة بيد أمهر الخبراء. لم يعد الزائر للمتحف يطالع الآثار منتصبة أمام جدران صماء، وبقربها لوحة تعريفية مكتوبة، فقد أصبحت صالات العرض ذكية وتفاعلية، تسمح له بأنْ يخوض بنفسه تجربة علمية ترويحية في الوقت نفسه، وذلك بالاستفادة من التقنيات المحسِّنة والمعزِّزة لطرق العرض، كالشاشات الذكية التي تتيح بلمسة إصبع معرفة كل ما له صلة بتاريخ الأثر، منذ لحظة إبداعه حتى اكتشافه، ويتم ذلك من خلال توظيف الصورة، والصوت بأكثر من لغة. ولعل من المفيد هنا أن نتذكر كيف بدأت المتاحف تسابق بعضها بعضاً للقيام بـ(استنساخ) المتحف الحقيقي، لتقديمه عبر ما يعرف اختصارا بتقنية "VR" أي الواقع الافتراضي (Virtual Reality) وهو ما مكنها من مواجهة التحديات، ويسَّر لها العمل بمرونة في شتى الظروف الصعبة، ومنها السنتان اللتان شهدتا فترات طويلة من حظر التجوال، بسبب انتشار فايروس كورونا. ونتيجة لذلك صارت المتاحف الحديثة توفر للمرء - في أي وقت - جولة مجانية ممتعة، توقفه فيها على كنوزها النادرة، ثم تنقله إلى بيئات حضارية تاريخية موغلة في القدم، كل ذلك وهو يجلس مستريحاً، فوق الكنبة في صالون البيت. سترسل له أيضاً، ولكل من يريد الاشتراك معها آخر أخبارها ونشاطاتها على البريد الرسمي، مع معلومات مفيدة أخرى، عن أفضل طرق الوصول، وأنواع وأسعار الأطعمة المتوفرة في حال احتياجه إليها. تأخر المتحف العراقي عن اللحاق بكل ذلك للأسف. لماذا لم تُستغَل السنوات المشار إليها في بداية الحديث، والتي توفر فيها الوقت الكافي للإعداد والتأهيل، ولمواكبة بعض مما ذكرناه؟ كنتُ أمام مفاجأة حقاً، حين سألتُ - أثناء زيارتي - عن متحف الطفل الملحق بمبنى المتحف العراقي، أخبرني أحد الموظفين بأنه مغلق، ولم يبين لي الأسباب. إنه مرفق تعليمي تربوي بلمسة ترفيهية يحتاجها الطفل العراقي، فلا تخفى ضرورة المبادرة الفورية لتأهيله. هل سأبدو مبالِغاً إنْ قلتُ إنَّ المتاحف العالمية تحرص على تقديم أفضل ما يمكنها إلى الطفل في المقام الأول، حتى تلك التي هي ليست مخصصة للأطفال؟ إنَّ إحدى أجمل ما أبدعته من لمسات علمية مُسَلِّية يتمثل ببراعتها في خلق بيئة المحاكاة التاريخية. هذا فضلاً عن العروض التقديمية، والنشرات والدوريات الرصينة، ومحاضرات لأساتذة متخصصين بتاريخ الحضارات تُقَدَّم عبر قناة في اليوتيوب، وتنسيق رفيع المستوى مع إدارات ومعلمي المدارس، لإقامة ورش عمل تفاعلية، وتوفير برامج تعليمية للطلبة، موزعة بحسب المراحل العمرية، فللأطفال من عمر ثلاثة إلى ستة أعوام منهج خاص، ولمن هم بين السابعة والحادية عشرة برنامج آخر، وهكذا لمن هم بين الحادية عشرة والرابعة عشرة، والرابعة عشرة والسادسة عشرة. بالمناسبة، لا أتحدثُ هنا عن متاحف من أمثلة المتحف البريطاني ومتحف اللوفر الفرنسي والبيرغامون الألماني، فهي ليست وحدها مَنْ يقدم كلَّ ما تمتْ الإشارة إليه، فالكثير من الدول العربية الصغيرة، التي أصبحتْ دولاً بعد تأسيس المتحف العراقي بسنين طويلة نجحتْ بتشييد متاحف عصرية، برغم فقر تاريخها للشواهد الآثارية والثقافية، بينما يعجز المسؤولون في العراق عن إدارة تراثهم الثقافي المتنوع الكبير بأسلوب عصري احترافي. لماذا؟
في الواقع ثمة أسباب كثيرة، لكن أهمها يتصل بطبيعة أداء الوزارات والمؤسسات العراقية، تلك التي تفتقد إلى الألمعية في فن الإدارة المستندِة لتفكير استراتيجي، ولروح الابتكار الخلاق، إلى قياديٍّ عصاميٍّ كفوء، أهَّلتهُ قدراته وحدها لشغل المنصب، وامتلك حرية اختيار فريق عمل مُنسجِم، يتوفر على خبرات رصينة وتجارب ميدانية، وخيال مُتطلِّع أيضاً. لا يمكن تحقيق ذلك في ظل المحاصصة التي راكمتْ ثقافة الولاء والمحسوبية، ولم تجلب للعراقيين سوى المزيد من الفساد وتردي الأوضاع. تُرصَدُ الأموال من أجل المشاريع لتُبدَّد سريعاً، ثم تُوقِف الدوائر الرسمية استكمال أعمالها الضرورية بانتظار تخصيصات مالية جديدة يؤخرها الروتين الحكومي سيء الصيت. مَنْ يتذكَّر اليومَ ما فعله الفساد المستشري في تبديد أموال عراقية هائلة، كمثال ملايين الدولارات التي خُصِّصَتْ لمشروع بغداد عاصمة للثقافة؟ كان الأجدر أنْ نبني بها متحفاً وطنياً كبيراً يليق بالعراقيين وبتراثهم الحضاري العريق، متحفاً لنا، نُهديه للأجيال التي ستأتي بعدنا، وللإنسانية كلها أيضاً، مثلما فعل المصريون مؤخراً، حين أشادوا متحفهم الجديد الكبير قرب الأهرامات، ليكون بمثابة هرم رابع.
[مراحل استكمال المتحف المصري الجديد].
إنَّ حال وزارة الثقافة والسياحة والآثار وهي الجهة المسؤولة عن عمل المتحف كحال سائر المُؤسَّسات الرسمية العراقية، وزارة مترهلة بأعداد كبيرة من المدراء العامين الذين يمكن دمج مديرياتهم بدوائر أخرى، وبكوادر لم يتم توظيف طاقاتها وتطوير مهاراتها لتكون أكثر نفعاً. لا أحد يعرف الحكمة – مثلاً - في أنْ يكون لوزير الثقافة والسياحة والآثار ثلاثة وكلاء ليس من بينهم وكيل واحد متخصص بالآثار أو السياحة، مع أن أحدهما يكمل عمل الآخر بالضرورة! هل سنستغرب بعدئذ إنْ تراجع ملف الآثار، وتراجعتْ السياحة، ومعهما الثقافة أيضاً؟ آمل فقط أنْ لا يعود المتحف العراقي إلى سباته الطويل مرة ثانية.