(دار دال للنشر والفنون، دمشق، 2022)
[محمود الصباغ، فلسطيني سوري، وُلد عام 1962، حاصل على دبلوم دراسات عليا من جامعات الجزائر تخصص كيمياء. مترجم في الشأن الإسرائيلي وعلم الآثار وتاريخ فلسطين القديم. عضو مشارك ومؤسس في مركز الجرمق للدراسات منذ العام 2021].
جدلية (ج): ما هي الأفكار والأطروحات الرئيسة التي يتضمنها الكتاب؟
محمود الصباغ (م. ص.): يتألف الكتاب من 11 مقالة ودراسة ترجمت عن اللغة الإنكليزية ـ بعضها كتب في الأصل باللغة العبرية التي لا أجيدها، تمتد المقالات على فترة زمنية طويلة نسبياً ما بين العام 1992 وحتى العام 2014، أي في فترة الانتفاضتين الفلسطينيتين المعاصرتين وبداية انحسار ما يعرف بـ"الربيع العربي"، ولهذا دلالته البالغة، إذ لطالما شكلت الانتفاضة الفلسطينية الأولى صدمة قوية هزت المجتمع الإسرائيلي عمودياً، وبات سؤال "القلق الوجودي" عن مستقبل الدولة مطروحاً بقوة. وباتت الحاجة -إسرائيلياً- إلى مراجعة الأدبيات الصهيونية ضرورة ملحة للدخول في حقبة ما بعد الصهيونية، بالإضافة إلى محاولات "تأريخ" النشاط السياسي الصهيوني في فترة ما قبل الدولة، إذ لم تعد الآليات والوسائل التي استخدمتها الحركة الصهيونية للسيطرة على فلسطين، منذ نهاية القرن التاسع عشر، ضمن السياق الاستعماري الأوروبي العام، فضلاً عن الخطوات العملية لبناء "أمّة" يهودية و"وطن" قومي لهذه الأمة، كافية لتفسير المجتمع الإسرائيلي القائم حالياً. لقد كان مشروع التهويد، السمة الرئيسة للدولة التي قامت في العام 1948. واستخدم، من أجل ذلك، جملة من الحلول العنصرية التي تتشابه مع العديد من التجارب الاستيطانية في مناطق مختلفة من العالم، وإن كان المشروع الصهيوني يحمل صفاته الخاصة المميزة. كما قدمت بعض المقالات تصورات أخرى عن الطرق التي انتهجتها الصهيونية لبناء دولة " قومية يهودية على الطراز الغربي"، عبر طيف واسع ومتنوع من المقاربات النظريات والفرضيات الحديثة في الاجتماع السياسي ودراسات ما بعد الكولونيالية لتعريف الطبيعة العنصرية الاستيطانية للحركة الصهيونية وللدولة "القومية" التي أنشأتها، بما يشمل ذلك مقولات "الإثنية العرقية" المتمركزة قومياً ودينياً، وسياسات الهجرة والطرد والتوطن وبنى سياسية ما بعد صهيونية واقتصادية نيوليبرالية حالية تساهم في "تآكل" الفوارق بين "اليمين" و"اليسار" في إسرائيل. ولست هنا بصدد محاكمة أو مناقشة هذه الفكرة أو الأفكار، لكن الانطباع العام لمعظم المقالات يشير، بطريقة ما، إلى فشل هذه المحاولات، أو على الأقل لم تحقق الصهيونية التوقعات التي عبّر عنها الآباء الأوائل المؤسسون للكيان الصهيوني في فلسطين العربية. وعند البحث عن الحل، لا بد من التعرف على جوهر المشكلة، الذي هو -باعتقادي- وجود المجتمع الاستعماري في فلسطين. ويبدو من الصعوبة بمكان التقدم للأمام نحو أساس حل، دون الشروع في تفكيك الخطاب الصهيوني الاستيطاني المستند على إرث استعماري أوروبي عريق مازال يغذي أحلام وأوهام مريديه.
(ج): ما هي التحديات التي جابهتك أثناء البحث والكتابة؟
(م. ص.): لعل أهم التحديات تتمثل في عدم معرفتي باللغة الأصلية التي كتبت بها معظم المقالات، أي العبرية، وهذا أدى بالتالي إلى الصعوبة في الوصول إلى الحالة الذهنية والنفسية الدقيقة لبعض التعابير، بمعنى "ترجمة الأفكار". من ناحية أخرى، بعض المقالات كنت قد اشتغلت عليها قبل مغادرتي سوريا في العام 2013 (مثل مقالات موعاز عزرياهو وأورن يفتحئيل) واضطرت إلى إعادة العمل من جديد بعد انتقالي إلى السويد مما أثر، بلا شك، على طريقة النقل والترجمة انسجاماً مع واقعي الجديد الشخصي والواقع العام الموضوعي. فقد اقتصر عالمي على كمبيوتر شخصي لا أكثر ولا أقل، بينما في سوريا كنت قادراً على إغناء ما أترجمه سواء من خلال رفدها ببعض الملاحظات من مكتبتي الشخصية أو من خلال مناقشة ما أترجمه مع الكثير من الأصدقاء بما يساعد في اختيار الجملة الذهنية المناسبة التي تناسب القارىء العربي دون الإخلال "اقرأها خيانة إن شئت" بمقاصد الكاتب الأصلي للنص. من التحديات الأخرى وهو تحدي فني شكلي يتمثل في أن النصوص المترجمة عبارة عن دراسات ذات طابع أكاديمي نشرت في مجلات متخصصة أو جامعات ما جعلها تحفل بعدد وافر من الإحالات والمراجع والمصادر، ولكي لا يبلغ الكتاب حجماً ضخما يشكل عبئاً على القارىء ، تم الاستغناء، إلا ما ندر، عن هذه الإحالات والمراجع والمصادر، غير أنه تمت الإشارة إلى المواقع الأصلية التي نشرت فيها المقالات بحيث يمكن لمن يرغب في الاستزادة العودة إليها. ولو تحدثتا بأريحية أكثر فسوف أضع صعوبات النشر وطرق تعامل دور النشر في المقام الأول بناء على تجربتي الشخصية وتجربة العديد من الأصدقاء، أصحاب المؤلفات، الذين أعرفهم.
(ج): كيف يتموضع الكتاب في الحقل الفكري/ الجنس الكتابي الخاص به وكيف سيتفاعل معه؟
(م. ص.): يندرج الكتاب في إطار عام بات معلماً واضحاً من ملامح "الثقافة الفلسطينية" منذ أيام الشهيد غسان كنفاني وأقصد تعريف القارئ العربي بما يدور داخل المجتمع الإسرائيلي، قد تكون الأكاديميا بعيدة نوعا ما عن "الشارع" لكنها بصورة عامة هي أكثر من يمكنه أن يفسر حراك الشارع (لعل مقالتي "الإثنوقراطية" و"استيطان الفراغ" في الكتاب هما مثال على ذلك). أذكر أن مؤسسة الدراسات الفلسطينية سبقت الجميع في هذا الصدد حين عمدت في العام 1977 إلى ترجمة ندوة عقدتها "وقفية كارنيغي للسلام" الأمريكية في أوروبا سنة 1976، وضمت مجموعة من المفكرين والكتّاب والصحافيين الإسرائيليين، يشكلون نماذج للتيارات الفكرية الرئيسة السائدة في إسرائيل تجاه القضية الفلسطينية والصراع العربي - الإسرائيلي. وظهرت أعمال الندوة على هيئة كتاب باللغة الإنكليزية من تحرير لاري فابيان وزئيف شيف، وقد اختارت مؤسسة الدراسات الفلسطينية عنوان "إسرائيليون يتكلمون" للتعبير عن جوهر ومحتوى الكتاب، ولا أخفيك أن العنوان لفت نظري منذ أن قرأت الكتاب في أواخر السبعينيات، وقد حاولت أن أجد ما يشبهه فوقع اختياري على العنوان الحالي "فلسطين في الفضاء الصهيوني" ولا شك أن الاختلاف يعود إلى طبيعة الكتابين، فترجمة مؤسسة الدراسات الفلسطينية تتحدث عن حوار بين إسرائيليين حول القضية الفلسطينية والصراع العربي – الإسرائيلي، بينما المقالات التي ترجمتها تتحدث عن "المجتمع الإسرائيلي" من حيث مشاكله الذاتية، حلولها وطرق علاجها ومن ثم انعكاسها على الصراع "الفلسطيني- الإسرائيلي". وسوف يكون الكتاب مفيداً لمن هم مهتمون بالشأن الإسرائيلي، لا سيما أن هذه المقالات غير مترجمة من قبل إلى اللغة العربية، على حد علمي واطلاعي المتواضعين، لا سيما تلك المتعلقة بعمليات التهويد والأسرلة والعبرنة للمشهد المكاني الفلسطيني.
(ج): من هو الجمهور المفترض للكتاب ومن القراء الذين تأمل أن يصل إليهم؟
(م. ص.): كما قلت في الجواب السابق بأن طبيعة ونوعية ومواضيع المقالات في الكتاب تعنى بالشأن الإسرائيلي، فضلاً عن كونها من طبيعة أكاديمية محكمة وصارمة في منهجيتها، وهي إذن هامة للقارىء المختص في الشأن الإسرائيلي، لا شك أن الطموح أن يلقى الكتاب رواجاً " شعبياً" أو ما يشبه ذلك، وإن كان ذلك يصطدم بعقبات عديدة أقلها التغير الحاصل في المناخ العربي الرسمي والشعبي إزاء القضية الفلسطينية، والظروف الاقتصادية الضاغطة التي تجعل الفرد يتجه نحو اهتمامات أخرى بعيدة عن "ترف" القراءات الأكاديمية.. رغم هذا، ثمة أمل في يكون للجهد المبذول لإخراج الكتاب تقدير ما.
(ج): ما هي مشاريعك المستقبلية؟
(م. ص.): في البداية لا بد من التذكير بأني لست مترجماً محترفاً بالمعنى المهني، لذلك لا أنظر لأي عمل محتمل كمشروع مستقبلي، غير أن هذا لا يمنع من القول إن هناك العديد من العناوين التي تستهويني للعمل عليها، ويمكنني الإفصاح عن بعضها، فأنا حالياً أنجزت ترجمة ستة كتب تتعلق بالأبحاث الآثارية عن تاريخ فلسطين القديم ، ثلاثة منها على الأقل لعلماء آثار إسرائيليين، كما أنني أراجع حالياً ترجمتي لكتاب "أنبياء مزيفون" وهو دراسة مقارنة في أعمال ألبير كامو وفيودور ديستويفسكي وهيرمان ملفيل. بالإضافة إلى نشاطي في منصة "مركز الجرمق للدراسات" ونشر العديد من المواد المترجمة المتعلقة بالشأن الإسرائيلي.
مختارات من الكتاب
"نحن لا نفكر إلا على أساس النماذج"
بول فاليري
تتطلب منا الحاجة التحليلية لتقديم مقاربة دقيقة للواقع المتناقض للفضاء المستعمَر في فلسطين، العمل، على مراجعات، ملحّة، للمفاهيم والأفكار والحقائق بوصفها عناصر تعريفية وسلوكية ونفسية وضرورة اجتماعية، فضلاً عن كون مراجعتها تعبر عن حاجة إنسانية وعقلية لاشتراكها في بناء الذات الإنسانية كحقيقة قائمة ضمن الوجود الإنساني وليس خارجه؛ وهكذا يمكننا فهم مقولة بول فاليري بمعنى التمثل الذهني لفكرة ما أو لعدة أفكار ولكيفية اشتغالها، وبهذه الحالة، نحن نقلد هذا النموذج "خارجيّاً"، أي اصطناعياً، من أجل إضفاء ميزة التنظيم على فكرنا لتحقيق الغاية المطلوبة، ضمن صور ذهنية، تمكننا من تركيب و تقليد النموذج.
تظهر فصول هذا الكتاب، الخصائص المميزة للحركة الصهيونية كحركة اجتماعية سياسيّة، تأسست رسمياً -على يد ثيودور هرتزل- في العام 1897، ضمن سياق كان في جزء منه رداً على تزايد معاداة السامية في أوروبا وأجزاء أخرى من العالم، ولم تنظر الصهيونية لنفسها كحركة سياسيّة فحسب، بل، وإلى حد ما، كحركة اشتراكية أيضاً، روّجت لإنشاء وطن يهودي في أرض إسرائيل القديمة، عن طريق تشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وتمويل المستوطنات. (إسرائيل، في الحقيقة، مجتمع فاشي على نحو ما، منذ ولادتها، ومناهضة للاشتراكية على نحو ما أيضاً، منذ ولادتها، وهذا ما يؤكده تعريفنا لجوهر الاقتصاد السياسي المحلي لإسرائيل، واندماجه في العلاقات الرأسمالية البينية الإقليمية والعالمية في ضوء المواجهة الاستعمارية للمشروع الصهيوني مع الفلسطينيين الذي يستهدف التحولات المكانية في فلسطين الذي تختلط فيه الرؤية الاستعمارية بالنزعة القومية بالاستعارات المجازات الصوفية الصهيونية عن "الأرض الفارغة"، وتنويعاتها العديدة ومفاهيمها المتنوعة).
هذه الحركة المتنوعة والمتصارعة داخلياً، في كثير من الأحيان، والتي هيمنت على "المجتمع اليهودي" في فلسطين وعلى مؤسساته الهامة (الييشوف) قبل العام 1948، هي ما يمكن وصفها بـ "الصهيونية العمالية" التي حاولت أن تجعل من العمال اليهود على وجه الخصوص، والحركة العمالية في فلسطين، على وجه العموم، طليعة لمشروعها عن طريق الهجرة والاستيطان بهدف بناء الدولة. وتمكنت الصهيونية، بفضل هذين العاملين، من إقامة شبكة سائدة كثيفة من المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية صبغت جوانب الحياة اليهودية المختلفة في فلسطين، واستمر الحال إلى ما بعد قيام دولة إسرائيل.
يمكن القول، من وجهة النظر الموضوعية، أن الأدبيات الصهيونية تنظر إلى مشروعها باعتباره مشروع "تحرر" وطني، يرى نفسه في فضاءات حركات التحرر ضد الاستعمار التي تسارع ظهورها بعد فترة الحرب العالمية الثانية في أماكن مختلفة من الكرة الأرضية، فإذا كانت الصهيونية كذلك، فلا بد أن يكون من أهم نتائج نجاحها "القضاء على الاستعمار" وهو هنا يتمثل في الانتداب البريطاني.
غير أن واقع الحال يثبت، أنه لولا هذا "الاستعمار" لما كان بمقدور المشروع الصهيوني أن ينجح، ومن ناحية أخرى، يثبت واقع الحال أن نجاح المشروع الصهيوني في فلسطين لم ينهِ الحالة الاستعمارية في البلد، بل، للأسف كرّسها وعمّقها، ولعل هذه، في الحقيقة، إحدى مفارقات الاستعمار حين يستمر الصراع بدل من أن ينتهي. فباتت تمثل إسرائيل الحالية، مثل المشروع المؤسس لها، أي الصهيونية، موضوعاً خلافياً وتشكيلاً فظاً في الجغرافيا السياسيّة الإقليمية منذ أن سيطر وجودها على الشأن في النصف الثاني من القرن العشرين، وربما قبل ذلك أيضاً لا سيما، في أعقاب الحربين العالميتين وحقبة الحرب الباردة، إذ باتت الحركة الصهيونية\ إسرائيل، تمتلك نظوراً إمبريالياً شاذا، انغرس في غير تربته، وبالتالي، سوف لن تصمد المزاعم "التحررية" لهذا المشروع، في سياق مقارنته مع مشاريع الأمم الأخرى في تقرير مصيرها. وعلى الرغم من الزعم الذي يصف فلسطين "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، فقد كان الصهاينة الأوائل (في الواقع أكثر مما هو حال المدافعين المعاصرين عن إسرائيل) أكثر استعداداً للاعتراف بالبعد الاستعماري لحركتهم، ومن ثم أكثر استعداداً للاعتراف بالوجود الشرعي للفلسطينيين كشعب.
وعلى الرغم من ظهور إسرائيل على المسرح العالمي، و"تصنيعها" [فبركتها] عن طريق العديد من الممارسات الجيوسياسية، والهندسة الديموغرافية للمكان عن طريق "عبرنة" جغرافيا متخيلة لوطن قديم، وليس الاحتلال العسكري فحسب، تبقى القضايا المتعلقة بها عصية على الفهم، وليس من السهل التعامل أو التعاطي معها، وفي حين يمكن استخدام عدة وجهات نظر مختلفة لرؤية إسرائيل من خلالها، فالأمر يختلف عند الحديث عن الحركة الصهيونية، حيث يكمن أحد أبرز ملامح تباين تعريف الصهيونية في طبيعة الجهات التي تنظر لها، حيث تتعدد الآراء ووجهات النظر إلى حد التنازع، بصرف النظر عن الارتباطات السياسية والاقتصادية التي تؤيد وجهة النظر هذه أو تلك، بل يتخطى الأمر ذلك ليصل إلى بعض الجوانب الروحيّة والإيمانية سواء للمؤيدين للمشروع الصهيوني أو للمعارضين له، فيؤيد البعض إسرائيل عن قناعة وإخلاص قويين، بينما يعارضها البعض الآخر بقوة لا تقل عن قوة وحماسة المؤيدين له. ومن نافل القول التأكيد- من جديد- على أن الحياد هنا غير موجود. ولعل وجود إسرائيل في فلسطين، يُنظر له على أنه من بين أكثر المواضيع ابتعاداً عن معنى الحياد، إذا لا يمكنك أن تنكر حق أي شعب في الوجود وفي تقرير مصيره القومي وبناء دولته، في المصطلحات السياسية المعاصرة، في ذات لوقت الذي لا يمكنك أن تقبل أن يقع الغبن على كاهل شعب كامل يرى أحقيته في أرضه وفي وجوده وفي بناء دولته أيضاً. فلا يوجد سوى القليل ممن يمكنهم وصفهم بالمحايدين حقاً، أو غير المنحازين، عندما يتعلق الأمر بإسرائيل، مازال وصف هرتزل لإسرائيل ماثلاً أمام هؤلاء باعتبارها "جزءاً من الحصن الدفاعي لأوروبا ضد آسيا، ومعقلاً قوياً للحضارة ضد البربرية"، رغم قناعتهم أنها دولة، يسكنها في الغالب مستوطنون قادمون من أوربا.