سعر الصرف؛ ثمن الفلسطيني فوق التراب وتحته

سعر الصرف؛ ثمن الفلسطيني فوق التراب وتحته

سعر الصرف؛ ثمن الفلسطيني فوق التراب وتحته

By : إبراهيم آب إمام

[نُشرت المقالة بالانكليزية في LRB. أيال وايزمان معماري إسرائيلي مناهض للصهيونية من دعاة السلام، أستاذ الثقافة الفراغية والبصرية في جامعة جولدسميث في لندن، ومؤسس العمارة الجنائية Forensic Architecture وهي مؤسسة داخل جامعة جولدسميث معنية بالبحث الجنائي في فضح وتشريح الممارسات الإجرامية والقمعية للدول والأنظمة، وذلك باستخدام الأدوات المعمارية والتقنيات المصاحبة لها، بالإضافة إلى البحث التاريخي. من أشهر أعماله المترجمة إلى العربية كتاب "أرض جوفاء: الهندسة المعمارية للاحتلال الإسرائيلي"].

[إبراهيم آب إمام، معماري وسينمائي ممارس من مصر، مهتم بكتابة وترجمة المقالات والبرامج في الشأنين السينمائي والمعماري وتداخلاتهما مع الشأن العام، بمساعدة الأدوات التي توفرها سرديات العلوم الإنسانية].


في ربيع 1956، 8 سنوات من النكبة، تعبر مجموعة من الفدائيين الفلسطينيين خندقاً محروثاً هو كل ما كان يفصل غزة عن دولة إسرائيل. على جانب من الخندق 300,000 فلسطيني، 200,000 منهم لاجئون هجروا من المناطق المحيطة؛ على الجانب الآخر حفنة من المستوطنين الإسرائيليين الجدد. شرع المقاتلون الفلسطينيون في دخول كيبوتس ناحل عوز، وقتل روي روتبرج، ضابط أمن. أخذوا جثته معهم عائدين إلى غزة، ولكنها أعيدت لاحقًا بعد تدخل الأمم المتحدة. صادف أن كان موشيه ديان، رئيس هيئة الأركان الإسرائيلية حينها، في المستوطنة لحضور حفل زفاف، وطلب أن يلقي في الليلة التالية كلمة تأبين في جنازة روتبرج. عن الرجال الذين قتلوا روتبرج طرح سؤالاً: "لماذا علينا أن نشتكي كرههم لنا؟ ثمان سنوات قضوها في مخيمات لاجئين في غزة، رأوا أمام أعينهم كيف حولنا الأراضي والقرى التي سكنوها هم وأجدادهم في وقت ما، إلى وطن لنا". لقد كان اعترافًا بما خسره الفلسطينيين، لم يعد السياسيون الإسرائيليون المعاصرون قادرين على الإفصاح بمثله. لكن ديان لم يكن يدافع عن حق العودة، لقد أنهى خطبته بأن على الإسرائيليين أن يعدوا أنفسهم لحرب أبدية ومُرة، سيكون لها مع ما تسميه إسرائيل "المستوطنات الحدودية" دور رئيسي.

بمرور السنين، تحول الخندق المحروث إلى نظام معقد من التحصينات: 300 متر منطقة عازلة، حيث قتل أكثر من 200 متظاهر فلسطيني بين عامَي 2018 و2019 وأصيب آلاف؛ طبقات متعددة من أسوار الأسلاك الشائكة؛ حوائط خرسانية ممتدة تحت الأرض؛ رشاشات آلية بنظام تحكم عن بعد؛ وأنظمة مراقبة تشمل أبراج مراقبة، كاميرات، ومستشعرات الرادار وبالونات تجسس. وخلف كل ذلك سلسلة من القواعد عسكرية، بعض منها قريب من المستوطنات المدنية التي تشكل ما يعرف بـ"غلاف غزة"، أو داخلها. في 7 أكتوبر، وفي هجوم منسق، دقت حماس كل عناصر هذا النظام المترابط. نحال عوز أقرب المستوطنات إلى السور كانت من بؤر الهجوم. مقطع كلمة "نحال" يشير إلى وحدة عسكرية أسست المستوطنات الحدودية. مستوطنات نحال بدأت وجودها كمواقع عسكرية وكان مخطط لها أن تتحول إلى قرى مدنية، غالبًا على نسق الكيبوتس، لكن التحول هذا لم يتم قَطُّ، وبعض السكان ينتظر أن يخدموا كقوات دفاع وقتما يحين الموعد.

"أراضي الغائبين" وضعها المخططون الإسرائيليون بوصفها فكرة مبدئية وبديهية حين وضعوا الرسومات الأساسية لمشروع المستوطنة الصهيونية بعد عمليات الطرد في عام 1948. كبير معماريها كان أرييه شارون، خريج مدرسة الباوهاوس [مدرسة معمارية ألمانية بارزة] الذي درس تحت إشراف والتر جروبيوس وهانس ماير قبل أن ينتقل إلى فلسطين في عام 1931، حيث بنى تجمعات سكنية، وتعاونيات عمالية، ومستشفيات، وسينمات. حين أسست دولة إسرائيل، عينه ديفيد بن غوريون على رأس إدارة الدولة للتخطيط. يشرح المؤرخ المعماري تسفي أفرات، في كتابه "موضوع الصهيونية" The Object of Zionism الصادر في عام 2018، أنه بالرغم من أن التخطيط العام الذي وضعه شارون كان مبنيًّا على أحدث مبادئ التصميم الحداثي، إلا أنه كان يحمل أكثر من هدف آخر: أن يوفر منازل لموجات المهاجرين الذين وصلوا بعد الحرب العالمية الثانية، وأن ينقل السكان اليهود من المركز إلى المحيط حتى يؤمن الحدود ويحتل المناطق بما يُصعب عودة اللاجئين.

في الخمسينيات والستينيات، أدى التخطيط العام لشارون وما تلاه إلى بناء، في "المناطق الحدودية" التي حددت وقتها بحوالي 40 بالمئة من الدولة بوصفها محاور قطرية، "بلدات تنموية" تخدم سلسلة من المستوطنات الزراعية. شُيدت هذه المدن التنموية بهدف تسكين اليهود المهاجرين من شمال أفريقيا (اليهود العرب) والذين يمكن أن يصبحوا بروليتاريا من عمال مصانع. وشُيدت المستوطنات الزراعية للكيبوتس والموشاف من أجل الأعضاء الرواد في الحركة العمالية، وهم في أغلبهم من أوروبا الشرقية. الأراضي التي تعود إلى القرى الفلسطينية دير سنيد، سُمسُم، نجد، هوج، المحرقة، الزريعي، أبو ستة، الوحيدات، وتعود أيضًا إلى قبائل الترابين والحناجرة البدوية، كل هذه القرى بنيت عليها البلدات التنموية سديروت وأوفاكيم، وكيبوتسات بئيري، رعيم، مفلاسيم، كيسوفيم، وإيرز. كل هذه المستوطنات استهدفت في السابع من أكتوبر.

لاحقًا بعد الاحتلال الإسرائيلي في عام 1967، أنشأت الحكومة مستوطنات بين المراكز السكانية الفلسطينية الرئيسة داخل غزة نفسها. أكبرها كان غوش قطيف، قريبًا من رفح على الحدود المصرية. في المجمل غطت المستعمرات الإسرائيلية 20 بالمائة من أرض غزة. في مطلع الثمانينيات امتصت المساحة داخل غزة وحولها أيضًا عديداً من المستوطنين الإسرائيليين ممن تم إخلاؤهم من سيناء بعد اتفاقية السلام مع مصر. أول سور أحاط المنطقة بني بين عامَي 1994 و1996 وهو الوقت الذي يُعَد أعلى مراحل "عملية السلام". أصبحت غزة عندها معزولة عن العالم بأكمله. وقتها، ونتيجة للمقاومة الفلسطينية، فُككت المستعمرات الفلسطينية في غزة في عام 2005، بعض ممن أخلوا من المستعمرات اختار أن ينتقل إلى مستوطنات قرب حدود غزة. فيقام النظام الثاني، نظام تطويق أكثر تطورًا، بعدها بقليل. في عام 2007، بعد عام من تولي حماس السلطة في غزة، بدأت إسرائيل حصارها الشامل، بالسيطرة والتحكم بمدخلات المؤن الأساسية لاستمرارية الحياة مثل الطعام، والأدوية، والكهرباء والبترول. حدد الجيش الإسرائيلي درجة الحرمان إلى الحد الذي قرب الحياة في غزة إلى مستوى الثبات. هذا مع حملات من التفجيرات أدت، بشهادة الأمم المتحدة، إلى وفاة 3500 فلسطيني ما بين عام 2008 وسبتمير2023. هذا الحصار أوصل الكارثة الإنسانية إلى حد غير مسبوق: مؤسسات المجتمع المدني، المستشفيات، المياه، ونظام النظافة العامة بالكاد يتم تشغيلها، مع كهرباء لا تتوفر إلا لنصف اليوم. ما يقارب نصف سكان غزة من العاطلين عن العمل وأكثر من 80 بالمائة منهم يعتمدون على الإعانات لتوفير الاحتياجات الأساسية.

عرضت الحكومة الإسرائيلية خصومات ضريبية سخية (20 بالمائة خصم على ضريبة الدخل على سبيل المثال) للمقيمين في المستوطنات حول غزة، التي رُص عديد منها على طول طريق يبعد بضعة كيلومترات بموازاة خط السياج. يضم غلاف غزة 58 مستوطنة داخل محيط 10 كيلومتر من الحدود يسكنها 70 ألف مستوطن. في الأعوام السبعة عشر منذ أخذ حماس زمام السلطة، وبالرغم من الصواريخ الفلسطينية المتقطعة وقذائف الهاون، بالإضافة إلى القذف المدفعي الإسرائيلي للقطاع على بعد أميال قليلة من المستوطنات، إلا أن عدد المستوطنين أخذ في النمو. فقد أدى ارتفاع أسعار العقارات في منطقة تل أبيب وتلالها المفتوحة (يسميها سماسرة العقارات "تسكانة النقب الشمالي") [نسبة لمنطقة ساحرة في إيطاليا] إلى تدفق أعداد المستوطنين من الطبقة الوسطى. وتدهورت الأحوال على الجانب الآخر من السياج بمعدل عكسي لازدهار المنطقة المتزايد.

المستوطنات جزء أساسي من نظام العزل المفروض على غزة، لكن ساكنيها يميلون إلى الاختلاف عن المستوطنين المتدينين في الضفة الغربية. متظاهرين بالعمى الجزئي لليسار الإسرائيلي، فبعض المستوطنين في النقب مشاركون في حركة السلام.

"أراضي الغائبين" وضعها المخططون الإسرائيليون بوصفها فكرة مبدئية وبديهية حين وضعوا الرسومات الأساسية لمشروع المستوطنة الصهيونية بعد عمليات الطرد في عام 1948.

في السابع من أكتوبر، اخترق مقاتلو حماس النظام المترابط لشبكة السياج. صوب القناصة نيرانهم نحو كاميرات المراقبة لمنطقة حظر التواجد. أسقطوا القنابل اليدوية على أبراج الاتصال. سُحب من الصواريخ ملء مجال الرادار. وبدلاً من المرور أسفل السياج، انتهج المقاتلون طريقهم على الأرض، وفشل المراقبون الإسرائيليون، إما في رؤيتهم أو في نقل ما شاهدوه بالسرعة الكافية. فجر المقاتلون أو قطعوا بضعة عشرات من الفتحات في السياج. وسعت البلدوزرات الفلسطينية هذه الفتحات. استخدم بعض مقاتلي حماس الطيران الشراعي لعبور الحدود. انقض أكثر من ألف منهم على القواعد العسكرية. الجيش الإسرائيلي، معمي وأصم، ظل بلا صورة واضحة لساحة المعركة، وأخذت الفرق العسكرية ساعات حتى وصلت. ظهرت أونلاين مشاهد لا تصدق. تبع مراهقون فلسطينيون، على دراجاتهم الهوائية أو أحصنتهم، المقاتلين إلى الأرض التي ربما سمعوا عنها من أجدادهم، ولكنها الآن استحالت إلى شيء آخر لا يعرفوه.

بعدما وصلت القوات إلى المستوطنات، والمجزرة التي لا يمكن لعنف سابق أن يبررها. أُحرقت عائلات أو قتلت في بيوتها. في المجمل قضى المقاتلون على 1300 مدني وعسكري [بعد نشر المقال طرحت الصحافة الاسرائيلية ما يخالف هذه الرواية ويتهم الجيش نفسه بنيران صديقة]. أُسر مائتي شخص وأُخذوا إلى غزة. قضت إسرائيل عقودًا في تعمية الخط بين الوظيفة المدنية والعسكرية للمستوطنات. ولكن الخط أُعمي الآن أكثر، بأشكال لم تقصدها قَطُّ الحكومة الإسرائيلية. السكان المدنيون، الذين تعاونوا في أن يكونوا جزءًا من الحائط الحي لفضاء غزة، لقوا الأسوأ من الجانبين. لم يستطيعوا حماية أنفسهم كجنود، أو أن تتم حمايتهم كمدنيين.

قدمت صور المستوطنات المدمرة للجيش الإسرائيلي موافقة مرور مجانية من المجتمع الدولي. ورفعت أي من القيود التي ربما رفعت في الجولات السابقة. طالب السياسيون الإسرائيليون صراحة بالانتقام في لغة إبادية. قال المعلقون إن غزة يجب "محوها عن وجه الأرض"، وإن "هذا وقت النكبة الثانية". ريفيتال جوتليف، عضو الليكود في الكنيست، غردت: "دمروا المباني!! فجروا من دون تمييز!! توقفوا عن هذا العجز. لديكم القدرة. هناك شرعية دولية! دكوا غزة. بلا رحمة!".

كيفما انتهت المعركة، في وجود حماس في السلطة أو بدونه (وأنا أراهن على الأولى)، لن تتمكن إسرائيل من تجنب المفاوضة على مبادلة السجناء. بالنسبة إلى حماس، ستكون نقطة البداية الفلسطينيين الستة آلاف حاليًا في سجون إسرائيل، وكثير منهم مقبوض عليه في اعتقال إداري بلا محاكمة. لطالما كان للقبض على إسرائيليين مكانة أساسية في النضال الفلسطيني المسلح، على مدار 75 عامًا من الصراع. بالحصول على رهائن، هدفت منظمة التحرير الفلسطينية، وغيرها من المجموعات، على إجبار إسرائيل بالاعتراف الضمني بوجود أمة فلسطينية. موقف إسرائيل في الستينيات كان إنكار شيء اسمه الشعب الفلسطيني، ما يعني الاستحالة المنطقية للاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعيا لهم. وأعفى الإنكار إسرائيل أيضًا من الاعتراف بالمقاتلين الفلسطينيين بصفتهم محاربين شرعيين تحت القانون الدولي، وبالتالي ألغى الحاجة لمنحهم صفة أسرى الحرب طبقًا لاتفاقيات جنيف. كان احتجاز الفلسطينيين يتم في حالة من الفراغ القانوني، يشبه بشكل كبير حالة "المقاتل غير القانوني" في عصر ما بعد الحادي عشر من سبتمبر.

في يوليو 1968 اختطفت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين طائرة إل عال وهبطت بها في الجزائر، لتكون تلك فاتحة سلسلة من اختطافات الطائرات، هدفها المعلن الإفراج عن المساجين الفلسطينيين. أفضت حادثة الجزائر إلى 22 رهينة إسرائيلية تمت مبادلتهم بـ16 سجينا فلسطينيا، على الرغم من أن الحكومة الإسرائيلية أنكرت وجود اتفاق. 16 أمام 22: معدل للتبادل لم يكن ليستمر طويلاً. في سبتمبر 1982، بعد الغزو الإسرائيلي للبنان، قبض أحمد جبريل، من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين-القيادة العامة، على ثلاثة جنود من جيش الدفاع الإسرائيلي. بعد ذلك بثلاث سنوات، وفيما عرف بـ"اتفاقية جبريل"، توصلت أخيرًا إسرائيل والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة إلى اتفاق مبادلة أسرى: ثلاثة جنود في مقابل 1150 سجين فلسطيني. في اتفاق عام 2011 للإفراج عن جلعاد شاليط، الذي كانت حماس قد أسرته في عام 2006، كان معدل المبادلة تفضيليًا أكثر لصالح الفلسطينيين: 1027 سجين في مقابل جندي إسرائيلي واحد. وبدأت إسرائيل، تحسبًا لأن تصبح مُجبرة على عقد مزيد من مثل هذه الاتفاقات، بزيادة الاعتقالات التعسفية للفلسطينيين، بما فيهم القُصّر، لتعظيم أصولها من أجل مبادلات مستقبلية. واحتفظت بجثث المحاربين الفلسطينيين، لتتم استعادتها بصفتها جزء من أي مبادلة. كل هذا عزز من التصور بأن حياة واحد من المُحتلين تساوي آلاف المرات حياة من جرى احتلالهم. تستدعي هذه الحسبة إلى الذاكرة تاريخ الإتجار بالبشر. ولكن سعر المبادلة هنا حققته المقاومة الفلسطينية، لتعكس اللاتناسب العميق في الهيكل الاستعماري.

تختلف اتفاقيات أسر الجنود والمواطنين باختلاف الدول. الأوروبيون واليابانيون عادة ما ينخرطوا في مبادلة سرية للسجناء أو التفاوض على فدية. الولايات المتحدة والمملكة المتحدة تدعيان في العلن أنهما لا تتفاوضا أو تذعنا لطلبات الخاطفين، ولكنهما أيضًا لم تلتزما بذلك على الدوام بشكل صارم، كانتا تفضلان الجلوس والصمت حين تبدو عملية الإنقاذ مستحيلة، ويُعَد هذا على أنه "أقل الشرين" وجزء مما يسميه منظرو الألعاب الحربية "لعبة مكررة": يقيَّم كل فعل يبناء على تبعاته المحتملة طويلة المدى، تُزان فوائد تأمين إطلاق سراح سجين بمقابل فرصة أن تنتج هذه المبادلة عددًا أكبر من عمليات الأسر للعسكريين أو المدنيين في المستقبل.

حين يتم أسر أي جندي إسرائيلي، تخرج عائلته، وأصدقائه، وداعمون إلى الشوارع للتظاهر من أجل إطلاق سراحه. وفي الغالب ترضخ الحكومة لعقد اتفاقية. عادة ما ينصح الجيش الإسرائيلي بغير اتفاقيات التبادل، حيث يشيرون إلى المخاطر الأمنية من خروج الأسرى، خاصة كبار القادة، واحتمالية تشجيع المقاتلين الفلسطنيين على عمليات أسر الرهائن. يحيى السنوار، قائد حماس حاليًا، كان ممن خرجوا في "اتفاقية شاليط". قادت الحركة الاستيطانية الدينية غوش إيمونيم [كتلة الإيمان] حملة مجتمعية بارزة ضد مثل هذه المبادلات، ورأت أنها تجلي لهشاشة مجتمع "الليبرالية العلمانية" الإسرائيلي.

في عام 1986، وفي أعقاب اتفاقية جبريل، أصدر الجيش الإسرائيلي بروتوكول حنبعل المثير للجدل، وهو أمر عملياتي سري صُمم لاستدعائه في حالة أسرت قوة عسكرية غير نظامية جنودًا إسرائيليين. رفض الجيش هذا التعريف، ولكن الجنود الإسرائيليين فهموا الأمر على أنه رخصة لقتل رفقائهم قبل أن يؤخذوا أسرى. في عام 1999، شرح شاؤول موفاز، رئيس هيئة الأركان وقتها، هذه السياسة: "مع كل الألم الذي يتضمنه قول هذا، إن الجندي المختطف، على عكس الجندي المقتول، هو مشكلة قومية." على الرغم من ادعاء الجيش أن اسم البروتوكل اختير عشوائيًا بواسطة برنامج حاسوبي، إلا أنه مناسب. القائد القرطاجي حنبعل برقا قتل نفسه في عام 181 قبل الميلاد كي لا يسقط في أيدي الرومان. وكان الرومان قد وجدوا حلاً مشابها ثلاثين عامًا قبلها، حين حاول حنبعل أن يأخذ فدية مقابل الجنود الذين أسرهم في انتصاره عند كاناي، فرفض مجلس الشيوخ بعد نقاش حاد، وأعدم من تم أسرهم.

في 1 أغسطس 2014، أثناء العدوان على غزة فيما عُرف بـ"عملية الجرف الصامد"، أسر المقاتلون الفلسطينيون جنديا من جيش الدفاع الإسرائيلي قرب رفح، ودخل بروتوكول حنبعل حيز التنفيذ. قصفت القوات الجوية الأنفاق حيث أخذ الجندي الأسير، وطال القصف 135 فلسطينيا مدنياً، بمن فيهم عائلات كاملة قتلت في القصف. ألغى الجيش البروتوكول من وقتها. ولكن مع القصف العشوائي الحالي في غزة، يبدو أن الحكومة لم تقدم فقط تدميرًا غير مسبوق على أهل غزة، ولكنها أيضًا عادت إلى مبادئها بتفضيل الأسرى مقتولين على إجراء اتفاقية. بتسلإيل سموتريش، وزير مالية إسرائيل، كان قد دعى لضرب حماس "بلا رحمة، ومن دون الأخذ في الاعتبار مسألة الأسرى. جلعاد أردان، مندوب إسرائيل الدائم لدى الأمم المتحدة، قال إن الرهائن "لن يمنعونا مما نحتاج إلى فعله." ولكن في هذه الحرب، قدر مواطني غزة وأسرى إسرائيل متشابك، كما هو الحال مع الشعبين.

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬