ما لم يتمكّن المخرج الأردني حسين دعيبس من قوله في مقابلته الأخيرة، التي اتضح لاحقا أنها صُوّرت بدون تنسيق مع عائلته، وبدون أدنى مسؤولية تجاه وضعه الصحي وخصوصيته، قالته منذ زمن أعماله الكبيرة، وأجدى بجمهوره ومحبيه، أن يتداولوا مناقبه، عوض تداول فيديو المقابلة التي لم تنصف تاريخ الرجل، ولم تراعِ مشاعره ومشاعر عائلته، الممتدة من نواة الأسرة إلى إطار المريدين.
بدأ حسين دعيبس حياته في محافظة مأدبا في الأردن، حيث ولد عام 1953، ونشأ في عائلة كبيرة تتكون من 16 فردا، تنقل بين تخصصات كثيرة على صعيد الدراسة، من اللغة الإنجليزية إلى الطيران إلى الحقوق، لكنه لم يكمل أيا منها، فاتجه مباشرة إلى المسرح، ليبدأ حياته ممثلا، ويذكر في إحدى مقابلاته أن مسرحياته ورفاقه في مأدبا كانت تلقى رواجا ساحرا، دفعه نحو الفن دون تردد، من خلال فرقة شباب مادبا مع شقيقه المخرج أحمد دعيبس.
هذا الشغف الذي تنامى منذ سبعينيات القرن الماضي، انفجر في ثمانينات القرن الماضي، حين وجد نفسه يقف خلف كاميرات الدراما مصورا محترفا، لصالح التلفزيون الأردني، فتوّجت بداياته بمسلسل "نزهة على الرمال" كمصور مع المخرج نجدت أنزور.
ويبدو أن التجربة أغرته ليغوص أبعد في الرمال، فمن المسلسلات والبرامج التلفزيونية، شكل قاعدة جاذبة لوكالات الأخبار، التي كانت تبحث عن عين أكثر وعيا من عين مصور التقارير الأخبارية التقليدي، فتعاقدت معه وكالة WTN الأميركية، عام 1990 لتصوير حرب الخليج الثانية، فانتقل إلى بغداد، وأمضى فترة الحرب هناك، حيث تنقل بين العراق والكويت وتركيا وإيران، ويقول إنه رأى من الدماء والجثث والبشاعة، ما أقنعه بأن كل الحروب خاسرة، ما دام الإنسان ضحية في آخر الأمر، وانطلاقا من هذه القناعة، غادر ميدان الأخبار، برفضه عرضا للذهاب إلى الصومال، لتأسيس فريق لإحدى الوكالات بديل عن فريق آخر قضى في الحرب هناك، بعد أن أصبح استهداف الصحفيين أمرا عاديا.
ولعل الأثر الذي أحدثته الحرب في نفس دعيبس، خلق رد فعل دفعه إلى الفن، بصورة أعمق من تلك في بداياته، فتعاقد مع شبكة إم بي سي عام 1994، لإخراج الكليبات، فكانت بدايته مع المغني الأردني ربحي رباح، والمغني المصري مصطفى قمر بأغنيتي "افتكرني" و"ارمي المنديل"، لكن الرحلة طالت واتجهت نحو القمة سريعا، فوسّع دائرته بإخراج خمس أغان لنجوى كرم عام 1995، وهي "أنا أو هي" و"حكم القاضي" و"مابسمحلك" و"ناطرة" و"حظي حلو".
وفي عام 1996 التقى بكاظم الساهر للمرة الأولى في استوديوهات شبكة راديو وتلفزيون العرب، وأوكلت إليه مهمة كتابة سيناريو الأغنية "الرحيل"، لكنها أحيلت لاحقا للمخرج طارق العريان، ومع ذلك فقد سخّرت له العلاقة مع كاظم الساهر فرصة لإخراج حفله في ألمانيا، كأول حفل عربي منقول بشكل مباشر، وقد حظيت التجربة بدهشة القيصر، الذي أسمعه آنئذ أغنية زيديني عشقا، وطلب منه تصويرها، فكانت فاتحة لتعاون طويل بينهما، وضع خلاله حسين دعيبس توقيعه على نحو 80% من أعمال الساهر المصورة، بواقع 48 عملا، امتدت حتى العام 2011 واختتمت بأغنية "دلع النساء"، مرورا بكثير من جواهر القيصر ومنها: "ها حبيبي" و"مدرسة الحب" و"أنا وليلى" و"إلا أنت" و"مستقيل" و"الليلة احساسي غريب" التي صورت في البترا، و"صباحك سكر" و"مدينة الحب" التي صورت في مأدبا، و"أحبيني" و"إني أحبك" و"تقول انسى".
ويمكن القول إن دعيبس تمكن مع مرور الوقت وتطور التجربة، من بناء صورة كاظم الساهر في الأغنية المصورة، ويذكر دعيبس أن كاظم كان يتدخل في وضع بعض السيناريوهات، إلا أن القرار كان يظل بيد المخرج دائما، مشيرا إلى أهمية دور المغني في بناء الرؤية الإخراجية، إيمانا منه كمخرج بأهمية العمل الجماعي للتوصل إلى الإحساس الصوري المناسب للإحساس الغنائي، وهذا مؤشر على وعيه كمخرج بأهمية الدور الذي يلعبه الفيديو كليب بحمل الأغنية على ظهره في مضمار التلفزيون.
ومن هذا الباب يمكن القول إن دعيبس تمكن من وضع الكليب في مساحة فريدة، بين مهمة السرد الحكائي، والتوازن الصوري، من خلال لقطات سريعة تمتد في مجملها على مدى 3 دقائق فقط في معظم الأحيان، وهذه مهمة من شأنها تقييد التفكير، إلا أنه أثبت جدارة غير عادية، من خلال نحو 480 أغنية قام على إخراجها لنجوم الصف الأول في العالم العربي.
فمن نجوى كرم وكاظم الساهر، إلى جورج وسوف "لسا الدنيا بخير"، وطلال سلامة في باقة كبيرة من الأغنيات أبرزها "راضيناك" وصابر الرباعي، وعبد الرب إدريس بأغنية "ليلة"، وفضل شاكر في عدة أغنيات أهمها "بياع القلوب" و"عاش من شافك" و"الحب القديم"، ثم عمر العبداللات وماجد المهندس، وعبد المجيد عبد الله في أغنيات مثل "اتدلع يا كايدهم" و"كل عام وانت الحب" وغيرهما، إلى سعدون جابر في "عشرين عام"، ومحمد عبده في " ما هنّا يا أمي".
وبعد ثورات الربيع العربي، والتحفظ الفني الذي رافقها على وقع الاضطرابات والآلام، انكفأ دعيبس قليلا، ويبدو أن الانكفاءة تلك، وفرت وقتا كافيا لتأمل الواقع الفني، حيث رآه بعين المخرج المحترف، أصبح منصة للأدعياء أكثر منه منصة للمبدعين المجيدين والمجددين، فاتخذ قرارا بالإقلاع عن تصوير الكليبات.
قرار دعيبس لم تكن غايته التوقف عن مداعبة عيون المشاهدين تماما، فقد اتجه حينها لمخاض أوسع، عائدا إلى الدراما مخرجا هذه المرة، فأخرج مسلسل "وعد الغريب" من كتابة مصطفى صالح، وبطولة ياسر المصري وقمر خلف، عام 2015، وهو مسلسل بدوي لكنه يعرض صورة من صور الاستشراق، ودور البادية العربية ولا سيما الأردنية، في تخصيب خيال المستشرقين، وقد تمكن في هذا العمل من نقل صورة المسلسل البدوي من الحيز التقليدي إلى حيز أكثر نضجا، من خلال بناء ديكورات أكثر جاذبية، وتطوير صورة أكثر دينامية، مستفيدا من سرعة الحركة التي وفرها النص، ومن الأدوات التي طوّرتها خبرته في الفيديو كليب، فقدم عملا دراميا رشيقا، برغم زخم الأحداث ودقة البيئة البدوية.
وفي عام 2021 قبل إصابته بجلطة دماغية، وضع دعيبس مؤلفا بعنوان "اللغة السينمائية" تناول فيه أهم المبادئ المتعلقة بالإخراج السينمائي، وسبل تطوير الرؤية الإخراجية في هذا المضمار.
هذه المسيرة بمحطاتها المتعددة، تعزز الإيمان بدور المبدع الشغوف، وأثره على الساحتين الفنية والثقافية، ولعل تذكر هذه الإنجازات، التي حققها حسين دعيبس في زمن ليس بالقصير، أولى بالتذكر اليوم، من دموعه أمام كاميرا مباغتة، في توقيت لم يختره، وعدسة لم يشرف عليها.