[مصطفى موسى روائي مصري، مواليد 1967، حصل على ليسانس الحقوق، ثم ماجستير في إدارة الأعمال، تفرغ للكتابة بجانب الدراسة. نُشرت مقالاته وقصصه القصيرة في مجلة أوكسجين الإلكترونية. ثم صدرت أول رواية له بعنوان "بديعة بدون رخصة" عام 2011، ووصلت قصته القصيرة "مقطع رأسي من أتوبيس النقل العام" إلى التصفيات قبل النهائية لمسابقة متحف الكلمة بأسبانيا عام 2012، وفي نفس العام فاز بجائزة مركز مساواة لحقوق الإنسان بجمهورية مصر العربية في القصة القصيرة عن قصته "قانون على كرسي متحرك". وصلت روايته "السنغالي" إلى القائمة القصيرة لجائزة ساويرس الأدبية في دورتها الثانية عشر عام 2016].
جدلية (ج): كيف ولدت فكرة النص، ما هي منابعه وروافده ومراحل تطوّره؟
مصطفى موسى (م. م.): في الغالب تولد الفكرة من موقف عابر لا ألقي له بالاً لحظتها، لكنه يعود إلى الذاكرة فجأة، ليبدأ سيل من الأسئلة "ماذا لو...؟" فتظهر البدايات والشخصيات قبل الكتابة، مجرد صور ذهنية للشكل الفيزيائي، وتستمر مرحلة توالد الشخصيات بصورة بطيئة في البداية، ثم يبدأ الدفق الحماسي فلا أقمعها، بل أنصت إليها وربما أتورط مع حكاياتها، وحين تنبعث إلى الحياة تتخذ مصيرها الذي ربما يختلف عما كنت أريده.
(ج): ما هي الثيمة/ات الرئيسية للعمل، ما هو العالم الذي يأخذنا إليه النص؟
(م. م.): تتبع "نداء القرنفل" مسارات شخوص أثرت وتعثرت في زمن الحرب ثم الانفتاح، لذلك ربما يهيأ للقارئ أنها تتناول نقداً مجتمعياً، لكنها في الحقيقة ليست كذلك بقدر ما هي وسيلة لإثارة أسئلة ملحة تجعل القارئ محمّلاً بطاقة تفرضها عليه تفاصيل النص، فالمهم بالنسبة لي في "نداء القرنفل" هو البحث عن حيوات الناس البسطاء، بتفاصيل عديدة تترك هامشاً آخر من التفاصيل في ضمير المتلقي، بغض النظر عن الأحداث الكبرى التي هزت المجتمع.
(ج): كتابُك الأخير عبارة عن رواية. هل لاختيارك جنسًا أدبيًا بذاته تأثير فيما تريد أن تقول، وما هي طبيعة هذا التأثير؟
(م. م.): تتمتع الرواية بمساحة من الحرية والبراح لا أعتقد - من وجهة نظري - أنها متاحة في الأنواع الأخرى من الأجناس الأدبية. مساحة تسمح لي بتغيير نغمة الحكي، وفي نفس الوقت التحرّك بشيء محسوب من الدقة ما بين الرؤية الواقعية والرؤية الخيالية.
(ج): ما هي التحديات والصعوبات التي جابهتك أثناء الكتابة؟
(م. م.): ليست صعوبات وتحديات جديدة، فمع كل رواية تظهر مشكلة الجملة الافتتاحية للرواية، بالإضافة إلى مشكلة اختيار العنوان، ثم التورط العاطفي مع بعض شخصيات الرواية، تورط يجعل بعض أحداث أو أفعال تلك الشخصيات غير منطقية، لكن في الغالب يتم تدارك الأمر في مرحلة المراجعات، تلك صعوبات معتادة تحدث مع كل عمل.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الإبداعية؟
(م. م.): هذه هي الرواية السابعة والإصدار الثامن، لكن من الناحية المعنوية فنداء القرنفل هي قطعة بلون مختلف بالنسبة لي، فهي أول رواية لم ألتزم بالمشروع التاريخي أو اللون الأدبي واللغة الكلاسيكية في كتابتها، واستخدمت لغة لم أتعود الكتابة بها، فاكتشفت أن التجربة ثرية جداً بما فيها من تحدي.
(ج): هل هناك نصوص كانت ذات تأثير خاص، أو قرأتها أثناء إنجاز النص؟
(م. م.): لا أستطيع القراءة وأنا في مرحلة الكتابة، لكن هناك نصوصاً وعناوين تأثرت بها في مرحلة ما قبل الكتابة، وجمع المعلومات الاجتماعية والسياسية، مثل كتاب "خبايا القاهرة" للأستاذ أحمد محفوظ.
(ج): هل تُفكّر بقارئ محدّد أثناء الكتابة، صفه لنا؟
(م. م.): في الحقيقة لا أفكر بالقارئ أثناء الكتابة، فما يتوجب على أي روائي هو أن يعمل جاهداً ليتعلم كيف يتجنب الشلليات الأدبية ليكون أديباً، وأن يكتب بكل جوارحه، وينهمك في الحياة ويعرض عن اللهاث وراء الشهرة أو ذيوع الصيت.
(ج): ما هو مشروعك القادم؟
(م. م.): أنا الآن في مرحلة الإعداد لرواية جديدة، ما زالت شخصياتها تتشكل ببطء وهدوء، ولا أعرف حتى الآن متى ستبدأ مرحلة الكتابة.
مقتطف من الرواية
بعد الجوع يأتي الشبع، وبعد الخراب يأتي البناء، وحرّية الكسب السريع أو البطيء هي حقٌّ مكفول للشعب. شركاتٌ لها تاريخٌ في تشييد الثكنات الحربيّة والخنادق وقت الحرب باتت أهلًا للثقة ولها النصيب الأكبر الآن، والنصيب الأصغر للشركات الناشئة مثل شركة جابر الرفاعي. خبرة الرجل في الأعمال الناقصة مدهشة، لم يدع مناقصةً حكوميّة إلّا اقتنص لشركته جزءًا منها، تولّى هو رئاسة الشركة، وتولّى ابنه لطفي إدارتها. رأى فيه جابر ما كان ينقصه وهو في مثل عمره، الشهادة الجامعيّة والذكاء والمظهر الثريّ، لهذا ترك للابن تفاصيل الإدارة، وتفرّغ ليكون صاحب أملاك. ما زال وجع عقدة البوّاب يؤلمه، يسكّن هذا الوجع بشراهةٍ عجيبة في شراء العقارات ليُكمل ما فاته؛ عمارات قديمة، شقق مؤمّمة أو تحت الحراسة. علم كيف يحصل عليها ويغسل ذمّته من شبهات الرشى واستغلال النفوذ، كما حين وقف أمام القاضي ذات قضيّة يدافع عن استيلائه على شققٍ كانت تحت الحراسة. تحدّث بهدوء وثقة المطمئنّ من العقاب وهو يخبر القاضي أنّ أخا الرئيس حصل على شقّةٍ واحدة، والثانية هي لعديل أخي الرئيس المستشار في محكمة الجنايات، أمّا هو فمواطنٌ صالحٌ حسن السمعة اشترى الشقّة بطريقةٍ مشروعة كما فعل الشرفاء السابقون. كان داهيةً في نسج علاقاتٍ تحميه في أيّ وقت، ولم يسمح لمؤامرات السوق بأن تسرق منه الفرصة ليحيا الحياة الدافئة. استطاع أن يعيش وسط عائلته باعتباره شاهدًا، بعدما أسّس شركته الضخمة. لا شكّ في أنّه ما زال يسدّد دين الصعود خلال انفتاحٍ ربح منه كثيرون غيره، وخسر فيه آخرون، لكنّه تمسّك بوهم بنائه لذاته، وجعله حقيقةً يتحاكى بها الأهل والمعارف، وبخبرته أدرك قيمة المكان، فجعل الجميع يعيشون في الفيلّا الكبيرة. أوّل قسط لسداد دينه كان زواج ابنه لطفي، زواج مشروع لأجل أهدافٍ كبرى لمصالح رجال الأعمال. زواج بابنة وزير الإسكان، فتاة خاصمها الجمال فخاصمها الرجال، ودفعها الخوف من التحوّل البيولوجي السريع إلى مرافقة الجميلات في نادي الجزيرة، ممّن كان المكياج على وجوههنّ أكثر وزنًا من عقولهنّ، فطالت سمعتهنّ سمعتها، وكتبت جريدة «الأهرام» في صفحة الحوادث خبرًا عن «القبض على بنات رجال الأعمال في شقّةٍ مشبوهة بعد دقائق من مغادرة ابنة وزير». لم تكن مغادرتها سوى اعتراضٍ على ما رأت، واعتمدت الصحيفة على احترافيّة الشعب في حلّ الكلمات المتقاطعة، واكتفت بالحروف الأولى دون أسماء. وفي الجريدة نفسها بعد أسبوعٍ واحد، نُشر بالصور خبر زفاف ابنة وزير الإسكان على نجل رجل الأعمال جابر الرفاعي. كان المهر مناقصة الحكومة لمشروع الصرف الصحّي لقرية أمّ عزّام.
سعادة لطفي في الأشهر السبعة اللاحقة لزواجه قامت على المباهج النقديّة، فقد رست المناقصات على شركة العائلة الوطنيّة، أمّا ابنة الوزير فقد كانت سعادتها قائمة على المباهج الجسديّة وعلى محبّة سامية لها. وجدت حماتها خلف القبح طيبةً متخفّية، ومنذ اليوم الأوّل تأثّرت من نظرتها المنكسرة، فشعرت تجاهها بفيضٍ غريب بالأمومة.
حين أحسّت الابنة بالسرّ الرقيق في رحمها، وصعدت حرارته في أحشائها، تبدّلت الحال. غابوا جميعهم عن الفيلّا شهرين، وأعادت شركة ديكور فرنسيّة طلي المكان بأكمله، حفرت حمّام سباحةٍ صغيرًا مخصّصًا للأطفال بجوار الكبير، وصمّمت سقف الغرفة كي يكون في النهار سحابًا وفي الليل نجومًا مضيئة. تحوّلت غرفة جابر الأساسيّة إلى غرفة الحفيدين القادمين، فنادية تسبق ابنة الوزير بشهرين. أعيد ترتيب المكان في الطابق الثاني؛ جناح على اليسار للطفي وزوجته، وآخر على اليمين لنادية، الأخت الصديقة. وللدقّة كان الجميع أصدقاء لابنة الوزير، أحبّوها محبّة المفارق قريبًا، محبّة بانت حين أنجبت عزّت ورحلت في اليوم الأول. أتاها المخاض في الشهر السابع فجأة، وللصدفة، لحقت بها نادية إلى المستشفى. هشاشة جابر الرفاعي تجاه عائلته تجلّت ذلك اليوم، مؤكّدةً أنّ العائلة أهمّ من عالم الأعمال، ارتعشت أصابعه في المستشفى، دعك جبهته بقلقٍ لم يعرفه في أكثر لحظات حياته سوادًا إلّا مرّةً واحدة. صرخت ابنته، ممسكةً يده بعنادٍ وقوّة لا يستقيمان مع وضعها الممدّد، وقبل أن تغيب خلف باب غرفة العمليات هدّدت الجميع بإصرارٍ بأنّها ستقتل الوليد إن أخبروا طليقها بالولادة. عنادها يعلمه الجميع فلبّوا طلبها. بدا خوف العائلة كـ«زعابيب أمشير»، لا اتّجاه لها، حزن وفرحة في مساحةٍ ضيّقة ملتبسة، الكلّ متورّط فيها عاطفيًّا، حتّى نادية التي احتضنت مولودتها دليلة، كان خاطرها مشغولًا بعزّت، مولودها الآخر الذي أصبحت له أمًّا مثل سامية.
الفرحة في فيلّا الرفاعيّة بأوّل حفيدين ظهرت بالزينة والأنوار التي استمرّت لشهر كامل. كان أسبوعًا مشهودًا؛ احتفال صاخب وثريّ يملأ الفسحات المظلمة بالمنظر الباهر والجوهر، الشوكولاتة السويسريّة والبندق والحمّص في علبٍ ذهبيّة لأُولي الأمر، وفضّية للأصدقاء والعامّة. عزّت قمر البيت ودليلة نجمته، قطعتان صغيرتان من اللحم الأحمر ممدّدتان في مهدٍ رقيق، جلدهما مجعّدٌ وباطنا كفّيهما يحتويان أصابعهما المقبوضة، عيون مغمضة عن عالمٍ لم يكتشفاه بعد. هما عينا سامية التي رأت فيهما أجمل ما في حياتها، ولعبتا لطفي، وقلبا جابر الرفاعي المفعم بإحساسٍ مجهول. يحِنّ إليهما فيتسحّب على أطراف أصابعه في الليل، يدخل غرفة ابنته النائمة، ويقترب من مخدع عزّت، يحدّق بالمولود النائم وهو يمصّ شفتيه، تنتفض يده إلى الهواء فجأةً ثمّ تعود ساكنةً مرّةً أخرى في لحظة، تلاعبه الملائكة ويحلم بالجنّة كما أخبرته سامية ذات مرّة. يلتفّ إلى سرير دليلة، يتأمّلها وكأنّه يكتشف روحًا غريبة، تغطّ في نومها وهي مستلقيةٌ على جانبها الأيمن في وضع الجنين، وتضمّ كفّيها تحت ذقنها الصغير. يمدّ جابر إصبعه ويتحسّس قبضتها، تفتح الصغيرة عينيها، ولدهشته لم تصرخ، بل تنظر إليه لتستكشف ذلك الوجه المدبّب، والشعر المهوّش الأبيض، واللحية النابتة الرماديّة. تبادلا التعارف بصمت، لاحظ تماثل العينين العسليّتين، ابتسمت فانفتحت شفتاها بلون التفّاح عن فمٍ دون أسنانٍ ولثةٍ ورديّة، أمعن النظر فتمعّنت في جدّها، بادلها الابتسامة بمزيجٍ من الانبساط والرهبة، رقرقت الطفلة فوضع جابر إصبعه على فمه:
– هش.
ضحكت دليلة، ورفست بقدميها. لم يلحظ جابر استيقاظ نادية التي جلست في فراشها متربّعةً بهدوء، تراقب أباها يداعب حفيدته. حين همّ بالقيام انتبه لتربيتةٍ على كتفه، نظرت نادية إليه واحتضنته فغبّ في حضنها شوقًا، ثمّ حملت الرضيعة وناولته إيّاها، تنهّد جابر، وترك الصغيرة تعبث في وجهه، تتحسّس أذنه ووجنتيه الخشنتين بإصبعها الناعم المبلّل بلعابها. كان لها جدًّا وأبًا بعدما زهد كرم في رؤية ابنته الوحيدة، إذ اكتفى برفض طلبه للرؤية أول مرّة، ولم تثمر وساطة عمّه حافظ مع جابر الرفاعي إلّا رؤيتها مرّة كلّ شهرين.