[تُنشر هذه الترجمة بموجب إذن رسمي من مجلة "Jacobin"].
بعد اثني عشر شهراً لا تلوح في الأفق نهاية لعدوان إسرائيل المتواصل على غزة، والذي شمل الآن لبنان. يشرح لنا المؤرخ رشيد الخالدي في هذا الحوار كيف أن إسرائيل والولايات المتحدة تعملان معاً لتدمير القيود التي تمنع استهداف المدنيين والاعتداء عليهم.
مر على هجوم إسرائيل على غزة أكثر من سنة الآن، ولا يبدي أية إشارة بأن نهايته قريبة، ووسّع بنيامين نتنياهو الحرب كي تشمل لبنان ما أدى إلى مزيد من المجازر. رشيد الخالدي، أحد أبرز مؤرخي فلسطين الحديثة، تحدث مع مجلة "جاكوبين" عن ما يجري في غزة وتداعياته العالمية، وعن نظرته إلى النظام الجامعي الأمريكي فيما هو يستعد للتقاعد من منصبه كأستاذ في جامعة كولومبيا.
دانييل فين: محرر في "جاكوبين"، وألّف كتاب "إرهابي رجل واحد: التاريخ السياسي للجيش الجمهوري الأيرلندي".
دانييل فين: تبادلنا الحديث في تشرين الأول\أكتوبر الماضي، في الأسابيع الأولى من الهجوم الإسرائيلي على غزة وأعتقد أن كثيراً من الناس يواجهون صعوبة في تصديق أننا بعد اثني عشر شهراً ما زلنا نرى أن هذا الهجوم يتواصل ويشتد، ويشمل الآن الضفة الغربية ولبنان. هل يمكن أن تشرح لنا، من وجهة نظرك كمؤرخ، كيف يبدو هذا الهجوم القاتل والمدمر الذي بدأ العام الماضي، خاصة عند مقارنته بتجربة النكبة في الأربعينيات؟
رشيد الخالدي: لم أكن أستطيع التصور في تشرين الأول\أكتوبر من العام الماضي أننا سنكون حيث نحن بعد عام. كان هذا غير قابل للتصور لدى معظم الناس كما أظن. غير أنه من الواضح أن هذه الحرب، بالمقارنة مع النكبة، ليست واسعة النطاق في بعض جوانبها حتى الآن، لكنها على مستوى آخر أشد قوة وكثافة، وتبدو بلا نهاية. ما فعلته إسرائيل في غزة أسوأ بكثير مما فعلته في أي جزء من فلسطين في ١٩٤٨، وما فعلته في لبنان أسوأ بكثير مما فعلته في ١٩٨٢، أو ٢٠٠٦. هذه حرب إبادة، إنها إبادة جماعية. قرأتُ مسرحية لمارينا كار تتحدث عن تدمير طروادة بعد حرب طروادة. اقتطفتْ كلام هيكوبا، التي قالت: "هذه ليست حرباً، في الحرب هناك قواعد وقوانين وأنظمة. هذه إبادة جماعية. إنهم يقضون علينا". أعتقد أن هذا هو ما يحدث الآن في غزة، وما اتسع الآن كي يشمل لبنان، وهذا واضح في درجة المعاناة التي يفرضها الإسرائيليون؛ والتعمد في قتل أعداد كبيرة من المدنيين. وأعتقد أن هناك تهديداً بتقويض النظام القانوني الدولي برمته إذا سُمح باستمرار هذا، كما تفعل الولايات المتحدة. وإذا ما واصلت الولايات المتحدة دعمها لإسرائيل فإن الحواجز التي أُنشئت منذ الحرب العالمية الثانية ضد هذه الأنواع من الفظائع ستُزال، وسنكون في موقف يستطيع فيه أي شخص أن يفعل أي شيء. إن استهداف المدنيين، وعدد الأطفال الذين يدخلون المستشفيات من إصابات بطلقات في الرأس من القناصين، وتدمير معامل تنقية المياه والصرف الصحي، هذه الأنواع من الأفعال كلها تهدف إلى القتل والتجويع على نطاق جماهيري واسع، وهذا مستوى جديد فيما يتعلق بما فعلته إسرائيل بفلسطين والمنطقة. قال بنيامين نتنياهو هذا الأسبوع: "سنفعل بلبنان ما فعلناه بغزة"، وهم يفعلون ذلك. ليس هذا تهديداً فحسب، إنهم يفعلون هذا في لبنان، وسيتم توسيعه. لكن الأمر لا يبدو واسعاً كما حدث أيام النكبة، ولم يؤثر حتى الآن إلا بقطاع غزة حيث يعيش مليونان ومئتا ألف فلسطيني، وبالضفة الغربية بدرجة أقل، لكن نطاقه يتسع، ويصل إلى لبنان الآن حيث أُجبر أكثر من مليون شخص على اللجوء. إن هذه الأرقام أعلى بكثير من تلك التي سُجلت أثناء النكبة، عندما تم تهجير ما يقارب مليون فلسطيني من ديارهم. وإذا أضفنا مليوني شخص شردتهم إسرائيل في غزة إلى مليون شخص اضطروا إلى مغادرة ديارهم في لبنان، فإن هذا الرقم يصبح أعلى بكثير من الأرقام التي سُجلت أثناء النكبة.
دانييل فين: كيف تقارن سجل إدارة الرئيس بايدن في الأشهر الاثني عشر الماضية مع الإدارات الأمريكية السابقة، وخاصة إدارة ريغان وموقفها من غزو لبنان في الثمانينيات، أو جورج دبليو بوش وموقفه من الانتفاضة الثانية في العقد الأول من هذا القرن؟ ما العوامل الرئيسية التي تدفع جو بايدن إلى دعم إسرائيل، بدءاً من نظرته الأيديولوجية الشخصية إلى مسائل المصالح السياسية المحلية والتكتلات، والمصالح الجيوسياسية للولايات المتحدة؟
رشيد الخالدي: إن الشيء الأول الذي يجب أن نفعله هو تحرير أنفسنا من فكرة أن الولايات المتحدة لديها تحفظات على ما تفعله إسرائيل. تفعل إسرائيل ما تفعله في تعاون وثيق ودقيق مع واشنطن وبموافقة كاملة منها. فالولايات المتحدة لا تسلّح إسرائيل وتحمي دبلوماسياً ما تفعله فحسب بل تشاركها في الأهداف وتوافق على أساليبها. إن السخرية والاستهزاء ودموع التماسيح بشأن القضايا الإنسانية والخسائر المدنية نفاق محض. لقد وافقت الولايات المتحدة على النهج الإسرائيلي إزاء لبنان، وتريد من إسرائيل القضاء على حزب الله وحماس، وليست لديها أية تحفظات حول هجوم إسرائيل على السكان المدنيين من أجل فرض التغيير في لبنان وفي غزة. سنرتكب خطأ منطقياً إذا افترضنا بأن هناك أية تحفظات لدى صانعي السياسة الأمريكيين سواء كنا نتحدث عن بايدن وأنطوني بلينكن وجيك سوليفان وبريت ماكغورك وعاموس هوكستين أو سامانثا باور ومن لفّ لفهم. من الخطأ تخيل أن هناك أية تحفظات حول الأهداف الإسرائيلية الأمريكية المشتركة. وسنكون متوهمين لو صدقنا أي شيء يقوله هؤلاء الأشخاص. لقد وقّعوا على قتل المدنيين كي يفرضوا التغيرات، والتي تتضمن استئصال حماس من الخريطة السياسية الفلسطينية، واستئصال حزب الله من الخريطة السياسية اللبنانية. هذه هي أهداف مشتركة يتم العمل على تحقيقها من خلال تعاون وثيق بين الطرفين. فالولايات المتحدة تساعد إسرائيل في استهداف قادة حزب الله وحماس، وهذه حقيقة، وكل من يتجاهل ذلك، ويتظاهر بوجود أي فرق بين ما تفعله إسرائيل وما تريد الولايات المتحدة فعله يكذب على نفسه، أو يكذب علينا. الأمر الثاني الذي يجب أن نعترف به هو أن ما يحدث يتساوق مع السياسات الأمريكية السابقة. ففي كتاب ألّفتهُ قبل بضع سنوات أشرتُ إلى أن حرب ١٩٦٧ كانت جهداً مشتركاً: اتفقت واشنطن مع إسرائيل حول ما يجب أن تفعله، ووافقت عليه. لم تسلّح الولايات المتحدة إسرائيل في تلك المناسبة لكنها حمتْها في مجلس الأمن الدولي، وأمكنة أخرى أثناء وبعد الحرب. وحدث الأمر نفسه في ١٩٨٢: وافقت الولايات المتحدة على ما خططت إسرائيل لفعله. وجاء آرييل شارون إلى واشنطن، والتقى مع ألكسندر هيغ. أعطى هيغ لشارون الضوء الأخضر حين قال له: "سنفعل هذا بمنظمة التحرير الفلسطينية، وسنفعل هذا بسوريا، وسنفعل هذا بلبنان". كبحت الولايات المتحدة جماح إسرائيل في نقطة معينة لأن الأهداف تحققت. فقد هُزم الجيش السوري في لبنان، وكانت هناك حكومة تابعة ستُشكل، ووافقت منظمة التحرير الفلسطينية على الانسحاب من لبنان. وحققت إسرائيل الأهداف التي اتفق عليها الطرفان، لكنها بدأت تقصف لبنان انطلاقاً من سادية خالصة، فطلب منها رونالد ريغان التوقف عن ذلك. لم تتحقق الأهداف المشتركة للقوتين في لبنان وغزة بعد، لهذا لم تكبح الولايات المتحدة جماح إسرائيل (وفي رأيي لن تفعل). على العكس، إن الولايات المتحدة شريك في هذه الحرب. فهي تقاتل في لبنان حتى ولو لم تكن القوات الأمريكية منخرطة بشكل مباشر في القتال. سنكون متوهمين لو افترضنا أن الأمر بخلاف ذلك. ما هو باعث ولاء جو بايدن الأعمى لكل ما تقوله وتفعله وتريده إسرائيل؟ أحد الأسباب هو الجيل الذي أتى منه بايدن، وهناك سبب آخر وهو حقيقة أنه أكبر متلق في التاريخ الأمريكي للنقود من أيباك (لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية). وهناك سبب آخر وهو حقيقة أن اليهود قاموا بتحويله بلا توقف منذ أن قامت غولدا مائير بغسل دماغه في سبعينيات القرن العشرين. ويتعلق جزء من هذا أيضاً بحسابات استراتيجية بخصوص العلاقة مع إيران، ومع من وُصفوا بأنهم وكلاء إيران. ثمة رؤية للشرق الأوسط - وهي منحرفة ومشوهة- تتقاسمها الولايات المتحدة وإسرائيل، وتستند إلى لجوء مطلق إلى استخدام القوة كوسيلة لحل القضايا. وكلما طُرح حل دبلوماسي يقوم نتنياهو بالتصعيد لجعله مستحيلاً. فعل هذا مرة بعد أخرى، وقتل الأشخاص الذين كان يتفاوض معهم في لبنان، أو في حماس، وهاجم السفارة الإيرانية في دمشق وهلم جرا. وكانت الولايات المتحدة شريكة في هذا كله، ووافقت على هذه المقاربة، وقدمت لها الأسلحة. ثمة مقالة طويلة في "محاضر المعهد البحري الأمريكي" عن الأسلحة الأمريكية التي استُخدمت في قتل حسن نصر الله. هذه أسلحة لا يمكن أن تُستخدم من دون غطاء أمريكي كاذب بأن هذا فعل دفاع عن النفس. إن بايدن على وجه الخصوص داعم مخلص لإسرائيل لكنه لا يختلف عن معظم أعضاء النخبة الأمريكية. ومن هذه الناحية، يعمل ضد الرأي العام الأمريكي لأن معظم الأمريكيين لا يوافقون على شحنات الأسلحة الأمريكية لإسرائيل، وينطبق هذا على عدد كبير من الجمهوريين الذين يفضلون إيقاف شحنات الأسلحة هذه. ولا يحبذ معظم الأمريكيين سياسات بايدن ونتنياهو لكن هذا ليس مهماً في واشنطن لأنهم يفعلون ما يحلو لهم بصرف النظر عما يقوله الرأي العام ولا يكترثون به. بايدن هو في الطرف الأقصى من الطيف السياسي الذي يحتقر مسائل مثل الرأي العام، والقانون الإنساني الدولي، ومكانة الولايات المتحدة بين بقية دول العالم.
دانييل فين: حتى لو لم تكترث النخبة السياسية الأميركية بالرأي العام في ما يتصل بالأسئلة المتعلقة بإسرائيل، فهل تعتقد أن هناك تحولاً كبيراً حدث خلال العام الماضي في الطريقة التي ينظر بها الشعب الأميركي ككل إلى إسرائيل والتحالف الأميركي معها؟ هل من المرجح أن تكون هناك عواقب لهذا التحول على المدى الطويل؟ ما أهمية التعبئة المضادة التي شهدناها من جانب جماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل مثل لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية، وخاصة الجهود التي بُذلت لإزاحة بعض أعضاء الكونغرس الذين كانوا صريحين في الدعوة إلى وقف إطلاق النار؟
رشيد الخالدي: لا ريب أن الرأي العام قد تغير. ومن بين الأغلبيات التي ذكرتُها، ربما كانت الأغلبية التي تستنكر أفعال نتنياهو هي الأغلبية الوحيدة التي كانت موجودة قبل بدء الحرب في السابع من أكتوبر/تشرين الأول. لم يكن هناك استنكار جماعي لإسرائيل في بداية الحرب، بل كان هناك دعم لحربها في الرأي العام. بيد أنه حصل تغيّر ضمني في المواقف من إسرائيل قادتْه وجهة نظر مختلفة اعتنقها أشخاص تحت سن الثلاثين، أو تحت الخامسة والثلاثين، كانت مخالفة لوجهة نظر كبارهم. ولقد توسعت هذا الفظائع البربرية التي ترتكبها إسرائيل بأسلحة ودعم أمريكي، وأدت الفظائع المرتكبة إلى زيادة عزلة الأشخاص الذين ربما كانت لديهم آراء انتقادية إلى حد ما في السابق لكنهم تحولوا الآن إلى معارضة أكثر قوة للسياسات الأمريكية والإسرائيلية. لا أعتقد أنه حدث تغيّر رئيسي مهم في الرأي العام، وليس من المرجح أن تكون هناك عواقب على المستوى السياسي على المدى القصير. وأيا كان من سيفوز في انتخابات تشرين الثاني\نوفمبر، وأياً كانت الحكومة في السنوات العديدة التالية في هذه البلاد من المحتمل أن تكون ملتزمة كالحكومات السابقة بدعم غير محدود لأهداف إسرائيل الأساسية، حتى لو كانت هناك أحياناً اختلافات تكتيكية. هذا لأن النخبة الأمريكية لم تتغير مثقال ذرة. فالناس الذين يملكون السياسيين - طبقة المانحين، الأثرياء، الذين من دون ملايينهم وبلايينهم لن يتمكن السياسيون من البقاء في مناصبهم، - لم يتغيروا. هؤلاء الأشخاص أنفسهم هم من يملكون الشركات الكبيرة والإعلام والمؤسسات والجامعات، وهم الذين يدفعون للزمار، ويختارون اللحن، ويقولون للسياسيين ما هو مقبول وما هو غير مقبول. ويملكون هذه الأمور كلها بالطريقة التي يملك بها شخص ما منزله، أو مشروعاً خاصاً، ولم يتغيروا مثقال ذرة. لم يحدث تغيير بين النخب السياسية والإعلامية والشركاتية والثقافية ولهذا لا أتوقع تغييراً ولا عواقب على المدى القريب. ستزداد الفجوة بين رأي النخبة والرأي الجماهيري، ولكن هذا ما كانت عليه الحال في الماضي. لقد خاضت حربَ العراق نخبةٌ فقدت دعم الجماهير بعد عام من الحرب. وخيضت حرب فيتنام لسنوات متواصلة بعد أن تغيّر الرأي العام ضدها. وليس من غير العادي في التاريخ الأمريكي أن يتصرف قادة غير ديموقراطيين بطريقة تخالف وجهات نظر دوائرهم الانتخابية، وأخشى أن هذا سيتواصل. أما بالنسبة لهجومهم المضاد، وإن كان سيؤثر بالرأي العام، لا أعتقد أن هذا سيحدث. أظن أنه سيوسّع الفجوة بين الناس وحكامهم. إن الإجراءات القمعية، وتحويل معاداة السامية إلى سلاح لمنع أي خطاب حول فلسطين، ومحاولات استخدام وسائل قانونية لمعاقبة الجامعات إذا لم تمتثل لأوامر هؤلاء السياسيين الضعفاء، كل هذا سيتفاقم وستنتج عنه معارضة ومقاومة واسعة بين الجمهور العام للمقاربة التي تتبناها النخب.
دانييل فين: هناك على صعيد آخر فجوة هائلة قد انفتحت أثناء العام الماضي فيما يتعلق بخطاب حقوق الإنسان، والقانون الدولي، ونظام عالمي قائم على مبادئ تتجاوز السياسة الواقعية الساخرة التي تركز على الدولة. استخدمت الطبقة السياسية الأميركية وحلفاؤها هذا الخطاب لإضفاء شرعية على أفعالهم ودورهم في العالم، وخاصة على مدى السنوات الخمس والعشرين الماضية. وعلى مدى الأشهر الاثني عشر الماضية، شهدنا تحركات قانونية مهمة ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية، وطالب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بإصدار مذكرتي اعتقال ضد نتنياهو ويوآف غالانت. ما هي برأيك أهمية هذه التحركات وحقيقة أن الولايات المتحدة وحلفاءها تجاهلوها علناً؟
رشيد الخالدي: لقد وجّهت الولايات المتحدة ضربةً قوية لأية رؤية لنظام دولي قائم على القواعد. كالت ضربة للقانون الإنساني الدولي وقواعد الحرب. إذا كنتَ قادراً على الفتك بمئات المدنيين من أجل القضاء على زعيم واحد، فإن فكرة القانون الإنساني الدولي وقوانين الحرب القائمة على مبدأ التناسب والتمييز صارت مستحيلة. حدث ذلك منذ أحد عشر شهراً في غزة عندما أحيلت كتل سكنية بأكملها إلى حفرة واسعة من أجل قتل شخص واحد. لا نعرف العدد الدقيق لأولئك الذين قُتلوا لأن الضحايا تبخّروا. وفُعل هذا في كثير من الحالات، بأسلحة أمريكية، ولا يمكن أن يتواصل هذا من دون الأسلحة الأمريكية، والموافقة الأمريكية. قدمت الولايات المتحدة لإسرائيل آلاف القنابل التي يبلغ وزن الواحدة منها ألفي رطل، والمزودة بأنظمة توجيه، واستخدمت إسرائيل هذه الأسلحة كي تدمر بشكل كامل أية تصور لنظام عالمي يستند إلى القواعد. إذا لم يكن هناك تناسب ولا تمييز في استخدام القوة تستطيع قتل أي عدد من الناس والزعم بأنهم كانوا دروعاً بشرية لشخص إرهابي وشرير يجب قتله. لم يعد هناك حدود. إن هذه واحدة من الآثار المأساوية الدائمة لهذه الحرب، ولا علاقة لها بفلسطين، أو إسرائيل، أو لبنان، أو الشرق الأوسط من حيث أهميتها المستقبلية. هذا هو النموذج الذي ستتمكن كل دولة من اتباعه في شن الحرب على أعدائها. فقد أزيلت القيود كلها الآن، وعدنا إلى ما كانت عليه الأمور قبل الحرب العالمية الثانية. لقد ارتُكبت أفعال أثناء الحرب العالمية الثانية قادت إلى توقيع اتفاقية الإبادة الجماعية، وسادت مظاهر مختلفة من القانون الدولي كان الناس يأملون أن تستمر. لكنها دُمرت الآن، وعدنا إلى السماح بالإبادة الجماعية، وإلى قتل عدد غير معروف من المدنيين، إذا كان بوسعك أن تستخدم كحجة الزعم بأن الهدف كان إكس أو واي. من ناحية، هناك أشخاص سيواصلون محاولة التأكيد على النظام القانوني الدولي واستعادته - ما يواصل الأمريكيون تسميته بنظام دولي قائم على القواعد - بينما من ناحية أخرى لديك أكبر قوة على الأرض ودولتها التابعة مشغولتان بتقويض هذا النظام وتحديد المعايير الفعلية التي يُسمح لهما وللآخرين بالعمل ضمنها.
دانييل فين: فيما نحن نتحدث، بعد اثني عشر شهراً من بداية هجوم إسرائيل على غزة، يبدو أن الموقف مشوش، وغير قابل للتنبؤ، وثمة احتمال بأن يتفاقم إلى حرب إقليمية شاملة يمكن أن تتجلى بطرق عديدة مختلفة. ما الذي تعتقد أنه من المحتمل أن يحدث نتيجة لما رأيناه في الأسابيع القليلة الماضية وحدها؟
رشيد الخالدي: لا أستطيع التنبؤ بالمستقبل، ولن أحاول فعل ذلك. لا أعرف ما الذي سيحدث، لكنني أستطيع أن أقول لك ما هي الاتجاهات الحالية الآن. إذا استمرت هذه الاتجاهات فإنها ستحضر لنا الكثير مما رأيناه سابقاً. ما بدأ في غزة يتوسّع الآن كي يشمل الضفة الغربية على نطاق محدود لكنه بدأ يتمدد، وهذا النهج يجري اتباعه الآن بقوة ضارية في لبنان، ويخشى المرء أن يمتد إلى إيران إذا تمكنت حكومة نتنياهو وحلفاؤها وأصدقاؤها وشركاؤها في النخبة الأميركية من تحقيق أهدافهم. ما نشأ هو رغبة في الانخراط في ارتكاب قتل جماعي، وجرائم حرب شاملة، كعقاب جماعي للسكان كلهم من أجل فرض بعض التغيرات. هذا ما تفعله الولايات المتحدة وإسرائيل في غزة. جرت محاولة لنقل مليون شخص خارج الجزء الشمالي من غزة، وقتل أكبر عدد منهم لإجبارهم على الانتقال، فيما يتواصل قتل خمسين إلى مائة شخص يومياً. يهدف هذا إلى إحداث تغيير للنظام. لا أتحدث هنا عن المظهر العسكري بل أتحدث عن أي نوع من النظام يحاولون فرضه في غزة. من المحتمل أن يفعلوا الأمر نفسه في الضفة الغربية. وأعلنت كلٌّ من الولايات المتحدة وإسرائيل أنهما ستفعلان الأمر نفسه في لبنان. وقالت وزارة الخارجية إن الولايات المتحدة لم تعد تحاول فرض وقف إطلاق النار في لبنان، إنها تتمسك بأهداف إسرائيل، التي أوضحها نتنياهو: يريد تغيير كاملاً للنظام في لبنان، ويخشى المرء أن يمتد هذا كي يشمل إيران. وأود أن أذكّر الناس أن لتغيير النظام في لبنان تاريخاً. فقد كانت حرب ١٩٨٢ تهدف، بين أمور أخرى، إلى تنصيب نظام صديق لإسرائيل في لبنان. ورأينا ما الذي نتج عن هذا: أدى إلى مزيد من عدم الاستقرار، وظهور حزب الله، كما أدى أيضاً إلى هجمات استهدفت جنود مشاة البحرية الأمريكيين والسفارة الأمريكية، والسبب هو أن كثيراً من اللبنانيين تعاونوا مع إسرائيل في قتل تسعة عشر ألف فلسطيني أثناء حرب ١٩٨٢. ساد اعتقاد بأن الولايات المتحدة ستنفّذ وعدها بحماية المدنيين الذين تُركوا في الخلف حين غادرت منظمة التحرير بيروت في آب\أغسطس ١٩٨٢، لكن عملية القتل حدثت في صبرا وشاتيلا. وما حاول هيغ وشارون فعله في لبنان لم يؤد إلى نتائج جيدة، كما أن محاولة تغيير النظام في العراق لم تتمخض عن نتائج جيدة، أيضاً. صار العراق دولة تابعة لإيران أكثر من كونها تابعة للولايات المتحدة. وفي ٢٠٢٤، أُطلقت صواريخ على القوات الأمريكية في العراق، وأُطلقت صواريخ على إسرائيل من العراق. لا أعرف ما الذي سيحدث، لكن هذا ما تبدو عليه التوجهات الحالية، وثمة اعتماد للإبادة الجماعية والقتل الجماعي كسياسة من أجل تحقيق أهداف سياسية معينة. أستطيع أن أقول لك، بناء على التجربة السابقة، إن هذه الأمور لا تؤدي إلى نتائج جيدة وخاصة للسكان الخاضعين للقتل الجماعي، ولا للذين يحاولون فرض هذه التغييرات أيضاً.
دانييل فين: من الجلي أن هذه إحدى أصعب اللحظات، إن لم تكن أصعبها على الإطلاق، التي واجهها الشعب الفلسطيني في المدة الزمنية التي تلت النكبة. ومن الجلي أنه من الصعب للغاية أن نتحدث في ظل هذه الظروف عن الآفاق المستقبلية للفلسطينيين، وما قد يكون عليه الطريق إلى الأمام، ولكن هل يمكنني أن أسألك ما إذا كانت لديك أي تأملات عامة قد ترغب في الإدلاء بها رداً على هذا السؤال؟
رشيد الخالدي: إن وضع الشعب الفلسطيني في غاية السوء. لا أتذكر النكبة. لقد ولدتُ في تشرين الثاني\نوفمبر ١٩٤٨، وفي ذلك الوقت كانت النكبة قد انتهت، ولم أكن واعياً لأي من هذا. لا أعرف حتى إن كان بوسعي أن أعقد مقارنة تاريخية، لكن لا ريب أن هذا هو اليوم الأشد ظلمة بالنسبة للفلسطينيين منذ ذلك الوقت. أما فيما إذا كان الوضع أشد سوءاً من السابق أم لا، فإن الزمن وحده كفيل بأن يجيب على هذا السؤال لأن الأحداث لم تصل إلى نهايتها بعد، ولا تلوح نهايتها في الأفق. أتمنى أن تنتهي، لكن التطورات لا تبشّر بذلك.
يواجه الفلسطينيون على المستوى السياسي المعضلة نفسها التي واجهوها في الخامس من تشرين الأول\أكتوبر العام الماضي. ما يزالون منقسمين، ومن دون قائد، وثمة تيار قوي، أو فئة، تناصر شكلاً غير مقيد من العنف. في رأيي، لا يمتلك هذا التيار رؤية استراتيجية. لقد حقّق انتصارات تكتيكية، ومُني ببعض الهزائم الاستراتيجية الكارثية، وسبّب معاناة هائلة للفلسطينيين، وكذلك للإسرائيليين، بيد أنه لا توجد قيادة موحدة، أو رؤية استراتيجية مشتركة. كان هذا هو الموقف قبل السابع من تشرين الأول\أكتوبر ولم يتغير. لا يوجد تصور حول كيف يريد الفلسطينيون أن يعيشوا في المستقبل، وكيف ستكون علاقتهم مع الإسرائيليين في فلسطين، ولا يوجد تصور حول كيف سيحققون ذلك. هذه مسائل استراتيجية لم تُطرح، ولم يجب عليها الأشخاص الذين يزعمون حالياً أنهم يقودون الحركة الوطنية الفلسطينية، في حماس، أو في ما يُدعى، على نحو مثير للضحك، السلطة الفلسطينية، المؤسسة التي لا سيادة، أو سلطة، أو شرعية لها بين أفراد شعبها. لا أعتقد أن هاتين القيادتين لديهما أجوبة على الأسئلة التي طرحتُها وهكذا فإن الفلسطينيين كشعب بلا دفة على صعيد القيادة السياسية. من ناحية أخرى، ينبغي أن يُقال إن إسرائيل والولايات المتحدة تصرفتا بطريقة تثير تساؤلات جوهرية حول إمكانية استمرار النهج الإسرائيلي، ونهج الشعب الإسرائيلي، حيث يبدو الآن أنه يوافق إلى حد كبير على ما تفعله حكومته في المنطقة. أتساءل كيف يمكن أن يستمر هذا الوضع إلى ما لا نهاية في المستقبل، وكيف يمكن لإسرائيل أن تتوقع أن تواصل هيمنتها على الناس بالطريقة التي تحاول أن تفعل بها ذلك دون أن تصبح المقاومة شاملة. أعتقد أن إسرائيل ستفشل في غزة والضفة الغربية ولبنان. أعلم أن هناك أصواتاً في إسرائيل تقول: "هذا انتحار، هذا جنون، لا توجد استراتيجية هنا. كيف تريد أن تنتهي هذه الأمور؟" لا توجد أجوبة على هذه الأسئلة، لأن الناس الذين يقودون المشروع ليست لديهم أجوبة، سوى القول: إن كانت القوة غير كافية يجب أن نستخدم المزيد من القوة. هذا هو الشيء الوحيد الذين يفهمونه. هكذا يرون السياسة، لكن هذه ليست سياسة، إنها كما لو أن كارل فون كلاوزفيتز لم يوجد أبداً. من ناحية أخرى، أرى المستقبل قاتماً جداً بالنسبة للفلسطينيين على المدى المنظور، وسيظل هكذا إلى أن يطوروا إجماعاً حول استراتيجية وقيادة. آمل أن يحدث هذا قريباً جداً لكن لا نعرف متى سيتحقق.
أعتقد أن هناك رسالة في ما تفعله إسرائيل. إن سياسة القوة، التي كانت ستعمل في القرن السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر، أو التاسع عشر، وحتى في العشرين، لا يمكن أن تعمل في القرن الواحد والعشرين، ومن المستحيل أن تعمل في أي مكان على المدى الطويل، ولكنها لا يمكن أن تعمل في هذه الحالة خاصة لأن إسرائيل كمشروع تعتمد بشكل كلي على الدعم الخارجي. هكذا هي الآن، وهذا ما كانت عليه دوماً، ولم يكن المشروع مستقلاً تماماً، أو فكرة قادرة على الاستمرار بذاتها، وإلا لما ذهبوا إلى بريطانيا للحصول على وعد بلفور، أو إلى الأمم المتحدة للحصول على قرار التقسيم، ولما ذهب رئيس الموساد للحصول على موافقة ليندون جونسون في عام ١٩٦٧، ولما ذهب شارون للحصول على موافقة هيغ في عام ١٩٨٢. إن المشروع يعتمد على العالم الخارجي، وخاصة على الغرب الذي يمثل ميتروبول هذا المشروع الاستيطاني الاستعماري، وهو أيضاً مشروع قومي له جوانب أخرى عديدة لكنه يعتمد كلياً على الميتروبول الغربي. وهو ما أدى إلى نفور الرأي العام في الغرب، وتدمير قاعدة دعمه في البلدان التي تعتمد عليها إسرائيل، والتي لا تستطيع أن تفعل شيئاً من دونها. ما يزال لديها النخب والحكومات والمجمع العسكري الصناعي، الذي يسعده جداً بيع كميات غير محدودة من القنابل التي يبلغ وزن الواحدة منها ألفي رطل. ولكن إسرائيل فقدت نوع الدعم الشعبي الشامل الذي كان المشروع الصهيوني ودولة إسرائيل يتمتعان به في معظم أنحاء العالم الغربي منذ وعد بلفور وحتى تسعينيات القرن العشرين، أو حتى الانتفاضة الأولى في أواخر الثمانينيات. من الممكن أن نتصور إمكانية وقف هذا الاتجاه، أو حتى عكسه، ولكن هذا يتطلب تغيير سياسة القوة هذه، سياسة اللجوء إلى المزيد من القوة، ولا شيء غير القوة. يتطلب هذا إيقاف القتل الجماعي والعقاب الجماعي، ولا أرى أن هذا يحدث. إن المستقبل قاتم جداً بالنسبة للفلسطينيين، لكنني لا أعتقد أنه أفضل بأية طريقة بالنسبة للإسرائيليين. وفي الحقيقة قد يكون أسوأ في بعض مظاهره على المدى الطويل لإسرائيل في وضعها الحالي.
دانييل فين: أنت الآن على وشك التقاعد من جامعة كولومبيا. رأينا أثناء العام الماضي كيف أصبحت الأحرام الجامعية في الولايات المتحدة إحدى أهم وأبرز ساحات المعارضة والجدل. وكانت هناك إشادة غير مباشرة بأهمية معسكرات الطلاب من قبل العناصر الأشد يمينية في الكونغرس الأمريكي، الذين عقدوا سلسلة من جلسات الاستماع للمطالبة باتخاذ إجراءات ضدهم. ما الذي تعتقد أن تجربة العام الماضي تقوله لنا عن نظام الجامعات الأمريكية، وإلى أين يتجه؟
رشيد الخالدي: ما حدث العام الماضي حدث عالمي تاريخي. ما بدأ في الحُرم الجامعية الأمريكية انتشر في أنحاء العالم، وأوضح بشكل كامل أن الأغلبية الساحقة من الشعوب في كل بلد على وجه الأرض تعارض ما يحدث رغم حقيقة أن حكوماتها سعيدة بشكل كامل بالسماح له بالاستمرار، أو منخرطة في مساعدته على الاستمرار. صارت الفجوة بين الشعوب والحكومات جلية. إنها أيضاً فجوة جيلية، فالشبان ملتزمون بشكل كامل بينما الكبار في السن منقسمون أكثر حيال الأمر. تذكّرْ أن الجامعات تعمل وفق تقويم غريب حيث تبدأ الأمور في الخريف وتنتهي في الربيع. نحن الآن في عام جديد يبدأ في أيلول\سبتمبر، أو تشرين الأول\أكتوبر. كان هذا العام مختلفاً عن العام الأخير في الحرم الجامعي. فقد حققت التدابير القمعية التي فرضها الكونغرس، والتي نفّذها بحماسة غير عادية مديرو الجامعات المذعنون والجبناء والجديرون بالازدراء، نجاحاً كبيراً. ولم نشهد أي نشاط قوي على المستوى الذي شهدناه العام الماضي. حدث حراك في حرم جامعة كولومبيا، وكان الطلاب يقرؤون أسماء الأشخاص الذين قتلتهم إسرائيل، وفعلوا ذلك لأيام متتالية، وكان فعالاً جداً، لكنه لم يحدث تأثيراً - ولم يُسمح له بذلك - كمثل أي شيء فُعل العام الماضي حتى حدوث اقتحام الشرطة. لقد لعبت الجامعات دوراً كبيراً في ٢٠٢٣-٢٤، لكنني لا أرى احتمال استمرار هذا الدور، على الأقل في الولايات المتحدة، في الأمكنة التي أستطيع رؤيتها. في أوروبا يمكن أن يحدث في الأحرام الجامعية نشاط أكبر مما يحدث الآن في الولايات المتحدة حيث انتقل الاحتجاج إلى الرأي العام. لقد تبدل الرأي العام لأن الناس يشاهدون على شاشات هواتفهم الحقيقة التي يكذب حيالها الإعلام الجماهيري ويشوهها، ويمنعنا من رؤيتها. بصراحة، لا أعتقد أنه يمكنك أن تتطلع إلى الجامعات، في ضوء نجاح موجة القمع هذه، للحصول على النوع نفسه من الشرارة الملهمة التي قدمتها في عامي٢٠٢٣ و٢٠٢٤. وبناء على ما أعرفه لا تستطيع الرهان على الأحرام الجامعية. كانت الإجراءات الأمنية التي فُرضت في جامعة كولومبيا خلال العام الدراسي الحالي - نقاط التفتيش، والمراقبة، والقيود غير العادية على الحركة وعلى العمل السياسي - فعالة للغاية. واتُخذت هذه الإجراءات بتنسيق مع الولاية وقسم شرطة ولاية نيويورك، وعن طريق التعاون مع أشخاص من الاستخبارات الإسرائيلية والإف بي آي، للتأكد أن ما حدث العام الماضي لا يمكن أن يحدث مرة ثانية لهذا لن أتطلع إلى الجامعات في هذا العام الدراسي. إلا أن هذا لم يمنع المظاهرات الناشطة خارج الحرم الجامعي، فقد قمنا بالكثير منها في مدينة نيويورك على الأقل. قد أكون مخطئاً: نحن فقط في تشرين الأول\أكتوبر، ولا يعرف إلا الله ما الذي سيحدث في الأشهر القادمة.
دانييل فين: يتناول كتابك القادم، على حد علمي، الروابط والتفاعلات بين الاستعمار البريطاني في فلسطين وفي بلدان أخرى، وخاصة في أيرلندا. هل يمكن أن تحدثنا قليلاً عن هذا؟
رشيد الخالدي: هذا كتاب آمل أن أكتبه، ولم أكتبه بعد. فالأفكار لم تتطور بشكل كامل، إنه مُنْتج لم يكتمل، ولست متأكداً كيف سيتطور. ما أعرفه هو أنني كنت أعمل على بعض الروابط والتواشجات الفائقة للعادة بين الأساليب التي اتُبعت في أيرلندا وتلك التي اتُبعت لاحقاً في فلسطين. ثمة أوجه تشابه مهمة أيضاً بين أيرلندا وفلسطين كمستعمرتين استيطانيتين. من الواضح أن هناك أيضاً اختلافات هائلة. ذلك أن المحاولات الإنجليزية والبريطانية اللاحقة لإخضاع أيرلندا تعود إلى القرن الثاني عشر، وتواصلت على مدى قرون. ولم تبدأ عملية الاستيطان المهمة حقاً في هذا السياق إلا في العصر الإليزابيثي والقرن الذي تلاه، أي قبل مئات السنين من ظهور الصهيونية كمشروع سياسي. وكما كان الحال في معظم المشاريع الاستيطانية الاستعمارية، فإن ما رأيناه في أيرلندا كان توسيعاً لسيادة وسكان الدولة الأم وتحويلاً لأيرلندا إلى مستعمرة استيطانية. لقد أرسل التاج البريطاني رعاياه الإنجليز والويلزيين والإسكتلنديين لبسط سيادته والسيطرة على البلاد التي تم استيطانها. هذا هو النموذج الكلاسيكي للاستعمار الاستيطاني، وهذا ما حدث في أميركا الشمالية وأستراليا والجزائر وجنوب أفريقيا وكينيا وبلدان أخرى. إلا أن الحركة الصهيونية كانت مختلفة جداً. كانت مشروعاً سياسياً مستقلاً، ومشروعاً قومياً. لقد ذهب المستوطنون إلى أمريكا الشمالية، أو إيرلندا، كمستوطنين إنجليز، كرعايا للتاج، وكتوسيع لسيادته. لم يصنعوا كياناتهم المستقلة، وسمّوا كارولاينا على اسم الملك تشارلز، وجيمس تاون على اسم الملك جيمس وهلم جرا. إلا أن الصهيونية كانت لها مظاهر أخرى، ورأت نفسها كحل للمسألة اليهودية، وبالنسبة للناس الذين تعرضوا للاضطهاد في العالم المسيحي، كانت تستند إلى صلة بين اليهودية وأرض إسرائيل، وهكذا كانت لها سمات متميزة لكن منهجيتها وسلوكها كانا سلوك ومنهجية مشروع كولونيالي استيطاني. رأى الصهاينة الأوائل أنفسهم في هذا الضوء، ونظروا إلى أنفسهم كمستوطنين يعملون كمثل المستوطنين الأوروبيين الآخرين في أراض بربرية غير أوروبية يحب أن يُزْدَرى سكانها الأصليون. هذه هي مقاربة المشاريع الاستيطانية الكولونيالية تجاه السكان الأصليين. ولكن الصهيونية لم تكن مجرد مشروع استيطاني، بل كانت مشروعاً مستقلاً. وكانت الصهيونية تتطلب على غرار المشاريع الاستيطانية الاستعمارية الأخرى، وجود عاصمة (ميتروبول). كانت الدولة الأم هي الميتروبول بالنسبة لأغلب هذه المشاريع. وبالنسبة لأميركا الشمالية وأستراليا وأيرلندا، كانت إنجلترا أو المملكة المتحدة في وقت لاحق هي العاصمة. كانت الصهيونية مشروعاً مستقلاً، وبدأت بالبحث عن الدعم من القيصر الألماني، أو السلطان العثماني، أو الجمهورية الفرنسية، قبل أن تجد بريطانيا حليفة لها في نهاية المطاف. ولكن المشروع الصهيوني تحول بسلاسة إلى الاعتماد على دعم الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي عندما خفّ الدعم البريطاني في عام ١٩٣٩. يتطلب أي مشروع استعماري استيطاني بالضرورة وجود عاصمة كبيرة، ولكن الصهيونية فريدة من نوعها في قدرتها على القفز من جبل جليدي إلى جبل جليدي آخر، حيث وجدت العديد من الرعاة الخارجيين المختلفين للمشروع. واليوم، يعمل الغرب ككل ــ الدول الغربية القوية مثل الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا وعدد قليل من الدول الأخرى ــ كعاصمة كبيرة لهذا المشروع. إن التفاصيل مثيرة. ذلك أن الأشخاص الذين فاوضوا لإنهاء حرب الاستقلال الأيرلندية كانوا نفس الأشخاص في رئاسة الوزراء نفسها التي تبنت وعد بلفور، وساعدوا في فرض الانتداب على فلسطين. وأدى هذا إلى إرساء النظام الذي أنشأته بريطانيا في فلسطين لتعزيز ودعم المشروع الصهيوني. وكان هناك الأشخاص أنفسهم: آرثر بلفور، وديفيد لويد جورج، وونستون تشرشل.
كانوا ينقلون مسؤولاً من الهند ويحضرونه إلى أيرلندا لتعذيب الناس. وكان الشيء التالي الذي تعرفه، بعد عقد من الزمان، وبعد المزيد من الخدمة في الهند، أنه يعود إلى فلسطين ليقيم مراكز للتعذيب. بعد ذلك نُقل قائد الشرطة الملكية الأيرلندية إلى فلسطين لإنشاء الدرك الفلسطيني، وتم إرسال الجنود الأيرلنديين السود وقدامى المحاربين في الشرطة الملكية الأيرلندية عندما اضطرت بريطانيا إلى مغادرة أيرلندا في نهاية حرب الاستقلال في عامي ١٩٢١ و١٩٢٢. إن هذه الروابط ملحوظة، وهي تمتد إلى ما هو أبعد من ذلك في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين. كانت هذه هي الخبرة العامة للإمبراطورية، وكانت الخبرة التي تم تطويرها في مستعمرة المستوطنين الأيرلندية على وجه الخصوص هي التي تم توريثها لاحقاً للضباط والمسؤولين الذين طبّقوا السياسة البريطانية في فلسطين، وبدورهم ورّثوا هذه الخبرة للإسرائيليين. إن الضباط الذين كانوا منخرطين في قمع التمرد في فلسطين في نهاية الثلاثينيات نقلوا دروس مكافحة التمرد البريطانية إلى الأفراد الذين أصبحوا الضباط الرئيسيين في الجيش الإسرائيلي. لقد دُرّب موشيه دايان وإيغال آلون على يد هؤلاء، وتعلما كيف يطلقان النار على السجناء، وكيف يدمران البنية التحتية. علّمهم أسيادهم البريطانيون مقاربات مكافحات التمرد هذه، وكان كثيرون من هؤلاء الأسياد أنجلو أيرلنديين مثل السير تشارلز تيجارت، مثلاً، أو المشير برنارد مونتغمري، الذي قاد لواء في كورك أثناء حرب الاستقلال، ولواء في فلسطين في الثلاثينيات. كان ابناً لرجل دين من كنيسة إيرلندا. وكانت مواقفهم ونظرتهم إلى العالم (خاصة الطريقة التي نظروا بها وعاملوا بها السكان المحليين وتفضيلهم للمستوطنين) متطابقة في أيرلندا وفلسطين.
[ترجمة عن الإنكليزية أسامة إسبر، المصدر: "Jacobin"].