توغَّلَ فاضل الرُّبيعيّ وراء المَشْهَدِ الثَّقافيّ العربيّ الراهن، فلمْ يكترثْ بدعاوى التجديد والعلمانيّة والتَّنوير المستمدّة من الحضارة الغربيّة في مجتمعات لم تخرج بعدُ من روح العصور الوسطى وفي الوقت نفسه يريد مثقفوها الآن مواجهة مشكلاتها الجوهريّة باستنساخ حلول لم تكن، تاريخيّاً، صالحة إلا لمجتمعات غربيَّة مرّت بتحوُّلات وانعطافات وتطوّرات صناعيّة وتكنولوجيّة ومعرفيَّة جعلتنا خلفها بمئات السنين.
فَهِمَ بعمقٍ أنَّ الغرب الأوروبيّ–الأمريكيّ مسؤول مسؤوليّة كاملة عن استلابنا، بدءاً من استعمار أوطاننا وصولاً إلى زرع الكِيان الصهيونيّ في فلسطين ودعمِه دعماً لا محدوداً على جميع المستويات؛ لذلك لم يقتنع باستحضار مقولات الفكر الغربيّ لتكون معايير لعقولنا. بل وجدَ أنّنا خضعنا لتضليل كامل بتوهّمنا أنَّ الغرب يمكن أن يُعَدَّ مصدراً موثوقاً للمعرفة، تحديداً لمعرفتنا بتاريخنا.
اكتشفَ عمليّة تزوير كبرى للتَّاريخ العربيّ القديم، وجاء حزنه من أنَّنا نعيش ونفكِّر ونحاول إطلاق ثورة الحداثة داخل عوالم هذا التَّاريخ المزيّف. وكانت –وفق رأيه-نقطةُ الابتداء في صناعة هذا التَّاريخ المزيّف مع صندوق استكشاف فلسطين Palestine Exploration Fund (PEF) الذي تأسَّس تحت رعاية الملكة فيكتوريا في عام 1865 من قِبَلِ مجموعة من الأكاديميين واللاهوتيين، وأبرزهم عميد دَيْر وستمنستر آرثر ستانلي والسِّير جورج غروف. ولقد موَّل البريطانيون منذ تأسيس هذا الصندوق عدداً كبيراً من علماء الآثار والمؤرِّخين والجغرافيين من أجل اختلاق "إسرائيل التَّوراتيّة"، وتعاون معهم علماء مصريات وآشوريات وفينيقيّات من مختلف أنحاء أوروبا وأمريكا، وكان محور اهتمامهم فكّ الرموز الهيروغليفيّة وتفسير الخطوط المسماريّة الآشوريّة وتحليل الأبجديّة الفينيقيّة على نحو يُثبت وجود مملكة إسرائيليّة متّحدة (استمرت 1047-930 قبل الميلاد) حكمها خمسة ملوك هم شاول وابنه إِشْبُوشِث ثم داود وابنه سليمان وأخيراً رحبعام بن سليمان إلى أن انقسمت هذه المملكة المتّحدة إلى مملكتين: مملكة إسرائيل الشَّمالية التي شَمَلَت مدينتي شكيم والسامرة، ومملكة يهوذا الجنوبية التي تضمَّنت أورشليم. ظلت مملكة إسرائيل (أو المملكة الشَّمالية أو السَّامرة) قائمة كدولة مستقلة حتى عام 722 قبل الميلاد عندما غزتها الإمبراطورية الآشورية الحديثة. وظلت مملكة يهوذا (أو المملكة الجنوبية) قائمة كدولة مستقلة حتى عام 586 قبل الميلاد عندما غزتها الإمبراطورية البابلية الحديثة.
لاحظَ الرُّبيعيّ أنَّ كلّ ما قام به هؤلاء العلماء المزعومون الذين وظَّفهم صندوق استكشاف فلسطين لم يفعلوا أكثر من تأكيد ما أسماها "السَّرديّة التَّوراتيّة"، وتساءل: هل يُعقل أن تتطابق اكتشافات كلّ هؤلاء العلماء المزعومين في أرض فلسطين، تاريخياً وجغرافيّاً، مع أسفار الكتاب المقدّس العِبْريّ تطابقاً مطلقاً من دون أن توجد أيّ إمكانيَّة للخطأ ولو مرَّة واحدة؟ هنا انتبه الرُّبيعي إلى أنَّ هؤلاء العلماء المزعومين كانوا في غالبيتهم من اللاهوتيين الذين خضعوا لتدريب قصير في علم التَّاريخ وعلم الآثار وعلم النقوش، إلخ..وكانوا جزءاً من المشروع الاستشراقيّ-الاستعماريّ، وبذا استطاع الرُّبيعيّ أن يُحَدِّد أساس الإشكاليّة التي تجلّت -وفق تسميته- في "سرديّة لاهوتيّة-استشراقيّة"، أي في نوعٍ من التلفيق بين الأحداث الواردة في الكتاب المقدَّس العِبْري والاكتشافات التَّاريخيّة والجغرافيّة والأثريّة التي جاءت في أُفق حركة الاستشراق الغربيّ. لكن ما راعَ الرُّبيعيّ هو أنَّ هذه السَّرديّة اللاهوتيّة-الاستشراقيّة أصبحت حاكمة على الوعي العربيّ، فلا يملك كثير من الاختصاصيين العرب أي معرفة حقيقيّة بتاريخهم القديم إلا ما أملاه عليهم الغربيون ممن استطاعوا اكتشاف المواقع الأثريّة والعثور على الألواح والرُّقم والمِسَلات وفك شيفرات الرموز والخطوط والحروف الموجودة فيها التي استُخدمت في الحضارات المصرية والآشوريّة والبابليّة والفينيقيّة وسواها، ولذلك لم يكن في وسع الوعي العربي بوجهٍ عامّ إلا أن يخضع لسرديّة استشراقيّة لم يتم الانتباه بوجهٍ عامٍّ إلى أنّها ذات أصول لاهوتيّة-توراتيّة تُكرِّس احتلال فلسطين.
لكن انتبه الرُّبيعيّ إلى كتاب كان بالنسبةِ إليه ذا قيمة استثنائيّة وهو مؤلَّف كمال الصَّليبيّ "التَّوراة جاءت من جزيرة العرب (1985)"، وانصبَّ تركيز نظريّة الصليبيّ في هذا المؤلَّف على أسماء الأماكن في أسفار الكتاب المقدَّس العبري من جهة إظهار أنَّها في الواقع تشير إلى أماكن في جنوب غرب الجزيرة العربيَّة، وسوَّغَ الصليبيّ نظريته بتأكيد حدوث هجرة لليهود العرب من الجزيرة العربيّة حيث استوطن كثير منهم في فلسطين وأسسوا مملكة سلالة الحشمونائيم Hasmonean dynasty تحت قيادة شمعون المكابي Simon Maccabee في القرن الثاني قبل الميلاد. ووفقًا للصليبيّ، تمت إعادة تأوُّل أسماء الأماكن في الكتاب المقدس العِبْريّ على نحو استغرق جهود مفسِّري التَّوراة اليهود لوقت طويل من أجل إسقاط أسماء الأماكن الأصليّة المُحَرَّفة على أماكن في فلسطين وسوريا ولبنان والأردن.
ويجب هنا الالتفات إلى قضيّة ذات أهميَّة كبرى وهي أنَّ الصليبيّ لم يوجِّه دراساته نحو فكرة الربط بين تحريف مفسِّري التَّوراة للأماكن واستغلال الصهاينة لهذا الأمر من أجل إعلان حقّهم التَّاريخيّ المزعوم بالأراضي العربيّة المحتلة بصفتها "أرض ميعادهم"، وهذا أهم وجه من أوجُه الاختلاف بين الصليبيّ والرُّبيعي الذي لم يفهم هذا التَّحريف إلا بصفته عمليّة زمانيّة طويلة المدى انتهت بوجود دولة الكِيان الصهيونيّ.
اتُّهِم الرُّبيعيّ بأنَّه أعاد تكرار أفكار الصليبيّ؛ لكنَّ هذا الكلام غير صحيح ويدلّ على عدم قراءة لمؤلَّفات الربيعيّ التي بلغت نحو سبعين كتاباً. ذلك أنَّ الرُّبيعي لم يوافق على المواضع الجغرافيَّة التي حدَّدها الصليبيّ في جنوب غرب الجزيرة العربيَّة، بل ارتأى أنَّ سرّ الأمر يكمن في مملَكَتي سبأ وحِمْيَر في اليمن القديم اللتين دخلتا في حالة اتِّحاد ثم حالة انفصال، فأصبحت مملكة سبأ هي مملكة إسرائيل (نسبةً إلى أنبياء بني إسرائيل) وأصبحت مملكة حِمْير مملكة اليهود نسبةً إلى (يهوذا)، ويوجد خلاف عَقَديّ بين المملكتين فأهل سبأ من بني إسرائيل ويؤمنون بالتوراة أو أسفار موسى الخمسة، أما أهل حِمْير فيؤمنون بما تمت إضافته من أسفار على التوراة ليتكوَّن ما يُعرف بالتَّناخ الذي يتضمن في الوقت نفسه أسفار موسى وأسفار الأنبياء بعد موسى. وبذا يكون الرُّبيعي قد فسَّر وجود مملكة متّحدة انقسمت إلى مملكة شمالية هي سبأ (=إسرائيل) ومملكة جنوبيّة هي حِمْيَر (=يهوذا)، ودخلت هاتان المملكتان في دورات سلام وحرب. وأوضح الربيعيّ انَّ هناك هجرات حدثت من هاتين المملكتين بعد انهيارهما إلى فلسطين، ومن هناك بدأت عملية إسقاط الجغرافيا التوراتيّة-التناخيّة على أرض فلسطين.
غير أنَّ هذا الرأي أيضاً كان مثاراً لإشكاليّة عند بعض المتأوِّلين الذين استنتجوا من نظريّة الرُّبيعيّ عن وقوع أحداث التَّوراة في اليمن القديم أنّه يُعطي الحقّ لليهود للمطالبة باليمن عوضاً عن فلسطين، بيد أنَّ ردّ الرُّبيعيّ كان حاسماً، فقد ميّز بين قبيلة بني إسرائيل وهي-في رأيه- قبيلة عربيّة قديمة منقرضة ظهرت فيها مجموعة من الأنبياء ومنهم النبيّ موسى وبين اليهود الحاليين من الأوروبيين وغيرهم وهم أُناس من أصول قبليّة وعرقيّة مختلفة اعتنقوا ديانة أنبياء بني إسرائيل، مثلما هو الحال في الإسلام تماماً، فالنبوَّة وإن كانت قد ظهرت في قبيلة قريش، إلا أنَّ المسلمين ينتمون إلى قبائل وأعراق مختلفة، وكما لا يحقّ للمسلم الإندونيسي مثلاً-وفق رؤية الربيعيّ-أن يطالب بمكة بصفتها ميراثاً له لأنّه مسلم، لا يحقّ كذلك للأوروبيّ مثلاً أن يُطالب بأرض اليمن بصفتها ميراثاً له لأنّه يعتنق اليهوديّة.
هذا، وعُني الرُّبيعيّ بكشف كيفيّة تزوير التَّاريخ من أجل تحويل الأراضي العربيَّة المحتلة إلى ما يُعرف اليوم بدولة "إسرائيل". واكتشفَ بنفاذ بصيرته أنَّ عمليّة التَّزوير بدأت مع الإمبراطور قسطنطين "العظيم" (272-337 م) ذلك أنّه بعد اعتناق قسطنطين "العظيم" للمسيحيّة، أبدى اهتماماً بالتُّراث الكتابيّ بما في ذلك التَّوراة من حيث صلتها بصفتها العهد القديم بالعهد الجديد أو الأناجيل.
في عام 326 م، زارت الملكة هيلانة أم قسطنطين جنوب بلاد الشَّام من أجل مشاهدة الجغرافيا التي عاش فيها المسيح، ومن ضمن ما شاهدته الكهف الذي يوجد فيه مِذْود المسيح على مشارف بيت لحم حيث ولِدَ المسيح وفق ما انتشر بين الجماعات المسيحية القاطنة هناك التي كانت أصلاً في غالبيتها من العرب الغساسنة. لذلك قرر الإمبراطور قسطنطين تجاوباً مع رغبة أمه هيلانة تشييد صرح كنيسة المهد في مكان العثور على المِذْود في بيت لحم، وبما أنه تم تحديد الموقع المُفتَرض لولادة المسيح هو "بيت لحم" بدأت وفق الرُّبيعيّ خريطة الكتاب المقدَّس بعهديه القديم والجديد بالارتسام، فأصبحت "النَّاصرة" هي النَّاصرة التي خرج منها المسيح، وتحوَّلت القُدس إلى "أورشليم"، وفي رأي الرُّبيعيّ هذه هي المطابقة الأولى بين جغرافيا التوراة وجغرافيا جنوب بلاد الشام؛
أما المطابقة الثانية فكانت مع غزو الصَّليبيين أو على حدّ تعبير الرُّبيعيّ "الإقطاع الأوروبيّ" لجنوب بلاد الشام عام 1164 م، إذ استردّ الغزاة الصليبيون الرواية البيزنطيّة للاستيلاء على أرض جنوب بلاد الشَّام بصفتها الأرض المقدَّسة. وأعادوا من جديد إسقاط جغرافيا الكتاب المقدَّس بعهديه القديم والجديد على الأراضي المحتلة.
وتمت المطابقة الثالثة مع حملة نابليون بونابرت (1769-1821 م) وكما هو معروف تاريخيّاً كان نابليون معنيّاً بالقضيّة اليهوديّة، وقام بإصلاحات تحسّنت بسببها أوضاع اليهود في فرنسا في عهده منذ عام 1806 م، وجاءت حملته على مصر و"فلسطين" بمثابة إعادة تذكير بـ"أرض الميعاد"، وكانت أهم نتائجها تنبيه اليهود المنتشرين في أنحاء العالم إلى "أرض ميعادهم" بعد نسيانها لها، وأمر نابليون فعلاً مجموعة من العلماء المرافقين لحملته برسم مجموعة من الخرائط التي تصوِّر أجزاء من أرض "إسرائيل" المزعومة، لكن كان الأهم من ذلك أنَّ نابليون جَلَبَ معه في حملته عدداً من العلماء من أشهرهم جان فرانسوا شامبليون (1790-1832 م) الذي يُعَدّ الرائد الحقيقيّ لعلم الآثار (الاستشراقيّ) ومن بعد نابليون تولّى البريطانيون استئناف عمليّة التزوير مع تأسيس صندوق استكشاف فلسطين-كما سبق القول-الذي ما يزال مستمراً في عمله إلى يوم النَّاس هذا، وإليكم رابط موقع على الشَّابكة: https://www.pef.org.uk/.
أضاءَ فاضل عوالم مجهولة، واستمرَّ وحيداً في كفاحه المعرفيّ، ولم يقبل أن ينتسب إلى تاريخ كتبته أقلام علماء وظَّفتهم أجهزة استخبارات غربيّة، بل جعل من فكره النقيض الحقيقيّ لمسلّمات تحوّلت إلى مُقدّسات معرفيّة عالميَّة؛ لذلك واجهته حملات ظالمة من أبناء جلدته واجهها ببطولة تفكيره كما يواجه الآن مرَضَه ببطولة منقطعة النَّظير، وكأنَّه مقصد المعرِّي حين قال:
أُلو الفضلِ في أوطانهم غُرَباءُ تَشِذُّ وتنأى عَنهُمُ القُرَباءُ