لو قدر لنا أن نختار الأمراض التي تصيبنا، تلك الأمراض الشائعة والمعروفة، هل سنختار المرض الذي يحطّم أرواحنا وأجسادنا ويجعلنا كائنات عاجزة وهشة وأشبه بهياكل عظمية، تتعثر خطاها وتعبث بها ريح خفيفة؟ هل سنختار المرض الذي يعبث بقدراتنا النفسية والمعنوية ويدمّر جهدنا على التماسك ويشلّ قدرتنا على التفكير ويصبح تركيزنا الذهني في خبر كان؟ هل سنختار المرض الذي يدفعنا، لحظة بعد أخرى، إلى التفكير بما هو أسوأ من المرض نفسه، ويظلّل سماءنا بغمامة من الأفكار السوداء عن الموت والألم وقسوة العلاج وضياع الوقت في المستشفيات وردهاتها وأسرتها، وصالات العمليات وغرف سحب الدم ومشاهدة النظرات التي تبالغ في لطفها وحنوّها علينا؟ هل سيكون السرطان ضمن قائمة الأمراض التي يمكن أن نختارها؛ أم سنشيح عنه بنظراتنا ونقلب الصفحة التي كتب فيها، ونحذف السطر الذي ورد فيه؟
السرطان.. هو مرض أيضاً، أسوة بالأمراض الأخرى، كما يقول أصحاب الرأي الذي يريد أن يُخفّف الأمر وكأنه نزلة برد لا أكثر؟ أشك في ذلك، وأشك في أن أحداً سيختار السرطان كمرض ليصاب به، لأنه ليس المرض العادي الذي يمكن أن يصيبنا ونخرج منه بسلام رغم كل التقدم الذي أحرزته البشرية في معالجة السرطان، وتنوع وسائل علاجه بين حالة وأخرى، وكثرة مراكز العلاج وتواصل الأبحاث الطبية والدوائية عنه، وبشكل دؤوب من أجل التوصل إلى علاج شافٍ يمكن أن ينهي السرطان ورعبه إلى الأبد ويجعله أسوة بالأمراض الأخرى التي تزول ما أن يتعاطى المصاب بها علاجاً معروفاً ومحدداً.
سبق لي الكتابة في يومياتي التي سجلتها طوال رحلتي الأولى مع السرطان والأشهر الطويلة والقاسية مع العلاج المهلك، أشرت إلى أن السرطان زلزال يصيب الإنسان وعائلته ومحيطه وعلاقاته الاجتماعية، ويحوّل هذا الإنسان من كائن نشط وفعال، يعمل ويفكر ويسافر ويحلم ويبني شبكة علاقات وصداقات حميمة، إلى هيئة مظلمة محاطة بالشكوك والاحتمالات القاتلة وبالأدوية ووجوه الكوادر الطبية ونظرات الشفقة التي يحسّها المصاب بالسرطان وكأنها وخزة في القلب. فكيف سيكون حال هذا المصاب عندما يقع مرة أخرى في دوامته ويكون أشد وأكثر فتكاً من المرّة الأولى؟
عندما أشاهد خريطة التشوهات التي أحدثها السرطان في جسدي، وألمح الندوب التي خلفتها العمليات الجراحية التي أجريت لي، أو أشاهد الهيكل العظمي الذي هو بقايا جسدي وعضلاتي التي تلاشت وعظامي البارزة ونتوءاتها، فإني أشعر بقتامة ما أنا فيه، وأكون في مواجهة سؤال واحد: مَن هذا الكائن الذي أراه أو أتحسس بقاياه؟ لم أكن أنا ذلك الكائن الذي كنت عليه قبل الدخول في دوامة السرطان والعلاج المدمر ومرارة الترقب والشكوك والعجز والشعور بالذل والمهانة التي كانت تتسرب إلى روحي مع كل جرعة من السم الكيمياوي. يصبح الحديث عن مرحلة ما قبل المرض وما بعده حديثاً مثيراً للاضطراب والهموم، ويزيده تعاسة عندما أحاول الإجابة عن هذه الما-قبل والما-بعد، في محاولة يائسة مني لوصف حالتي بعد عودة السرطان مجدداً، هل ستكون ما قبل عودة السرطان أم ما بعد الشفاء منه في زيارته الثقيلة الأولى؟!
إن الحديث عن الأمل والشفاء والعودة للحياة يمكن أن يكون في كل لحظة، وبعد كل كبوة أو مشكلة تواجهنا في حياتنا وبعد كل فقد أليم وبعد كل مرض، لكنه مع السرطان سيكون عبئاً ثقيلاً على من يتمسك به. فلا يمكن التنبؤ بما يضمره هذا الوحش الشرس، ولا يمكن معرفة أين يختبئ ويعدّ العدة للعودة من جديد، حتى لو قُطع الشك باليقين وأبلغك الطب والعلم والمستشفيات المرموقة وأجهزة الفحص المتطورة أن جسدك خال من السرطان، اذهب وعش حياتك من جديد!
غير وارد في ذهني إثارة الذعر والمواجع، لكنها محاولة لتوصيف تجربتي مع السرطان، والتي أكدّت لي أن الإنسان - رغم غطرسته وتباهيه بوجوده وقواه ورجاحة عقله، واستعداده الدائم للصراع والتفكير البعيد، ورغم رغبته في حيازة كل شيء أو الهيمنة عليه بالقوة والاحتيال والعنف والحروب، أو قدرته على الحب أو الكره وإثارة الأحقاد - يبقى، في خاتمة المطاف، كائناً هشاً ووحيداً يمكن أن يغرق ويضيع ويعجز في أبسط دوامة من المرض أو مشكلات الحياة الأخرى التي يمكن أن يواجهها. قد يكون المرض فرصة مناسبة لنا، نحن البشر، لنعيد النظر في كلّ ما حققناه وكلّ الحماقات التي ارتكبناها، وأن نعيد النظر في وجودنا وحياتنا ورغباتنا وعلاقتنا بالعالم الذي نعيش فيه.
لست من الذين يبحثون عن حلول خارج العقل ويتعلقون بالغيب وأساطير الآلهة والأديان لتفسير ما يحدث لهم، بل أنا ابن الواقع وأتمسك بما يحققه العلم والخبرات الطبية المتراكمة والقفزات التي أنجزها نضال الأطباء المتواصل منذ قرون بعيدة وصراعهم الحثيث ضد السرطان وسعيهم المتواصل لإيجاد حلول نهائية له. ولست ممن يغيب عنهم إدراك أن السرطان سيبقى مثار ذعر وشؤم وأسى يخيم على البشرية ما دام خارج لائحة الأمراض التي يمكن علاجها بسهولة أسوة بالأمراض الأخرى وطالما يُترك المصاب ضحية الهواجس القاتلة أو المتاعب والآلام التي يسببها العلاج الكيمياوي وتفرعاته.
هل يمكن أن أتحدث عن التمسك بالأمل مجدداً وبالعودة المنتظرة للحياة بعد الشفاء من السرطان، والتعافي منه؟ قطعاً، فآخر معاقلنا هو الأمل بأن نشفى ونعود من جديد إلى حياتنا رغم كل الندوب والأضرار والمتاعب التي خلفها السرطان وعلاجه. وحيث لا شيء يقال بعد أن يفعل السرطان فعله في أجسادنا وأرواحنا سوى أن "تمسّكْ بالأمل وكنْ قوياً وشجاعاً وأنت تخوض معركتك ضد السرطان!" هل هي معركة حقاً وهل أنا محارب في ساحة معركة؟ أم مريض يدرك ما يعنيه السرطان بعد عودته، ولا يعلم متى ستنتهي رحلة العذاب والأسى التي يعيشها؟
وبغض النظر على كلّ شيء، فالأمل المزعوم بالشفاء من السرطان في عودته الثانية سيتلاشى أو يشح أو يبتعد عنك ويصبح بعيد المنال عندما يقال لك إنك "ستبقى خاضعاً للعلاج طوال حياتك".