(دار جبرا للنشر والتوزيع، عمّان، 2024)
[باسم المرعبي شاعر من العراق، فاز بجائزة يوسف الخال للشعر سنة ١٩٨٨، وأصدر أكثر من عشر مجموعات شعرية كان آخرها في مطعم الوجود، كما أطلق وحرر مجلة ملامح للشعر والنقد، وكتب في النقد الأدبي والمقالة الصحفية وشعر الأطفال].
جدلية (ج): كيف ولدت فكرة النصوص، ما هي منابعها وروافدها، ومراحل تطوّرها؟
باسم المرعبي (ب. م.): كل عمل أدبي يبدأ كفكرة، سرداً كان أم شعراً، هذا من حيث المبدأ. إلّا أن الأمر قد يختلف مع الشعر، بمعنى أنه ليس للشاعر من مخطط مسبق صارم للقصيدة كما هو الحال مع كتابة الرواية أو القصة. القصيدة قد تبدأ بومضة، جملة يتلقاها الشاعر كهبة، ومن ثم يبني عليها أو ينطلق منها. والشاعر يتأثر بما حوله.. بمشهد ما، حياً كان أم جامداً، ذكرى تعتمل في النفس، خبر يتلقاه ويتفاعل معه، وحتى كلمة عابرة يسمعها لكنها تتحول لديه، وبما يشبه عملية التفاعل الكيمياوي، إلى مادة جديدة لا علاقة لها بمدلولها الأساس اللصيق بالحديث اليومي ونفعيته المباشرة. طبعاً هناك أيضاً القراءات والمشاهد البصرية. كلام كهذا ينطبق على مجمل عملي في الكتابة الشعرية وليس على هذا الديوان فقط الذي هو مدار هذا الحوار.
(ج): ما هي الثيمات الرئيسية، وما هو العالم الذي يأخذنا إليه النصوص؟
(ب. م.): يمكنني القول إنّ الديوان يختلف في مجمله عن أعمالي السابقة، لناحية اشتماله على ثيمة أساسية تتردد في أكثر من قصيدة فيه، هي ثيمة الوجود، كنوع من هوية تطغى، بشكل أو آخر. وهو ما عكسه العنوان أيضاً. صحيح أن هناك قصيدة في الديوان تحمل هذا العنوان، غير أن في اختياري له، فضلاً عن جدة العنوان وجماليته وعمقه، تأكيد للموضوعة الأساس المسيطرة والتي عالجتها بمقاربات شتى. وهذا لا يعني خلو الديوان من التنوّع في بعض موضوعاته، لكن الحديث هنا عن الهم الأساس والسمة الغالبة، وهو ما يشكّل، بالتالي، العالم الذي انطوت عليه نصوصه.
(ج): كتابُك الأخير عبارة عن مجموعة شعرية، هل لاختيارك جنسًا أدبيًا بذاته تأثير فيما تريد أن تقول وما هي طبيعة هذا التأثير؟
(ب. م.): أفضّل إطلاق تسمية الديوان على كتابي هذا بدلاً من مجموعة شعرية، وربما لاحظتم ذلك خلال إجاباتي السابقة. ولهذا علاقة بطبيعة الثيمة الأساس فيه وغلَبتها كما أشرت من قبل. هذا من ناحية ومن ناحية ثانية هناك ما يوازي الثيمة المطروحة فيه، أهميةً، وهو المنحى الفني الذي اتخذته معظم القصائد. وفي هذا الصدد يمكن القول إن القارئ سيواجه تجربة جديدة، على صعيد التقنية الشعرية سعيت فيها إلى التحرّر من محدّدات وقيود كثيرة، حدّ مقاربة المنحى السردي، كما في بعض القصائد وهو في صلب هذه التجربة. أما السؤال بصدد نوع الجنس الأدبي المختار هنا، فأقول، منذ ما يقارب الخمسين عاماً والشعر هو خياري الأول، فمن الطبيعي أن يكون هو الأداة الأولى للتعبير عني وعن مشاغلي الفكرية والذاتية. وبالتأكيد فإن القول يتكّيف وفقاً للجنس الأدبي الذي يتخذه، فالتعبير بالشعر عن رؤيتي للوجود هو غيره حين يكون عبر مقال أو بحث.
(ج): ما هي التحديات والصعوبات التي جابهتك أثناء الكتابة؟
(ب. م.): الكتابة دائماً عملية صعبة، عندما لا تكون آلية، وأعجب لهؤلاء الذين يكتبون كل ساعة قصيدة! والصعوبة التي أجدني في مواجهتها عند كتابة كل قصيدة تتمثل بدءاً في السؤال الذي أطرحه على نفسي، ما الذي أريد قوله، وكيف أنأى بهذا القول عن الشائع والمبتذل والمكرور. بمعنى أن الصعوبة مزدوجة وهي تتعلق بجدة الموضوع وأهميته ومن ثم في كيفية صوغ ذلك. هي مواجهة على صعيدي المعنى والفن.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الإبداعية؟
(ب. م.): "في مطعم الوجود" هو الكتاب الشعري الثاني عشر لي، وهو بطبيعة الحال امتداد لمجمل مشروعي الشعري، وإن كان ينطوي على خصوصية داخل هذا المشروع، ألمحت إليها من قبل. وهو يمثل أهمية خاصة لي، سواء لناحية المنجز في ذاته، كونه تراكماً في التجربة والخبرة، أو لناحية الإنجاز الفني فيه الذي كان مؤرقاً لي على امتداد كتابة أغلب قصائده التي ترتبط في ما بينها بوحدة عضوية على الصعيد الفني، في الأقل. ويمكنني القول هنا أني قد جددت فيه حتى على صعيد الموضوع، كما في قصيدة "اسمي كارلوس".
(ج): هل هناك نصوص كانت ذات تأثير خاص، أو قرأتها أثناء إنجاز النص؟
(ب. م.): تمثّلات القراءة وتبيّن أثرها في الكتابة لديّ لا يحدث بالشكل الآني السريع، وإذا ما حدثت فهي تحدث بشكل غير واع، لأنها تكون ضمن النسيج الثقافي التكويني وهذا يأخذ مدى زمنياً طويلاً يُحسب بالسنوات وربما العقود، هذا بشكل عام. وبخصوص هذا الديوان فإنه من المفارقة هنا أن أكشف وللمرة الأولى، أن ثمة أكثر من قصيدة وظفت فيها معطيات الحلم، بالمعنى الرؤيوي، كما في قصيدة "سبيل الشعر" و"حلم مرآة بورخيس". أردت القول إن القراءة، على أهميتها، ليست هي السبيل الوحيد للتأثير في الشاعر، وكما ذكرت في إجابة السؤال الأول فإن مصادر شتى تلعب دورها في التأثير في الشاعر وتحفّزه على الكتابة.
(ج): هل تُفكّر بقارئ محدّد أثناء الكتابة، صفه لنا؟
(ب. م.): عند الكتابة لا أفكّر إلا في كيفية نجاح أو إنجاح النص الذي بين يدي، وإرضاء القارئ الذي هو أنا. إنّ تفاعلي مع النص في طور كتابته وانغماري في عالمه، يحول بيني وبين ما هو خارجي، إن صحّ التوصيف. فلا متسع لمراقبة ما هو خارج ذلك ولا تفكير إلا في كيفية إنهاض الكلمات وجعلها مليئة بالحياة، ومراقبة نمو اللغة والصور والمعاني. وكلّ شيء يأتي تالياً.
(ج): ما هو مشروعك القادم؟
(ب. م.): ثمّة أكثر من مشروع، خاصة وأنا أكتب إلى جانب الشعر، المقال والقصة القصيرة وأترجم، كما أعدّ كتب المختارات، شعرية كانت أم نثرية، كما هناك مجالات أُخرى لا تندرج ضمن ما ذكرت، كمجال التأمل في القرآن ودراسته، إضافة إلى ما دأبت على تسجيله وتوثيقه من يومياتي الحلمية، أو تدوينه من شذرات.
ثلاث قصائد من الديوان
اسمي كارلوس
ماذا لو اتخذتُ لي اسماً جديداً.. كارلوس، مثلاً؟ اسم جديد شاغر أعبئه بشغف الاندفاع نحو البراري، اسم قابل للانضمام إلى معجم الطيور والرياح والكواكب. يتخذ له رصيداً من الحجر والماء، من النبات والمعدن، من الفراغ والضوء. ولا يرى في السراب سُبّةَ، فهو ابن كل هذه العناصر المستحيلة. اسم بقدر ما هو برّي، فإنه يستعذب السير في شوارع المدينة، بعد المطر، حيث الالتماعة الأثيرة في ورق الشجر ونضارة الأسفلت المغسول، وبدء معاودة السير، بعد التلبث تحت السقوف والاحتماء بمظلات واجهات المحال. اسم ينفصل عني وقتما أشاء، وأسترده وقتما أشاء. أسافر دونه، فيما هو يستريح عند مقهى رصيف، في يوم شتائي مشمس، يدخّن ويطالع صحيفته المفضّلة، حيث لا أحد يجرؤ على تعكير نهاره بسؤال أو نظرة.
كارلوس.. مدى من عُشب، راهب في دير، وصوفيٌّ في معتزله. شعاع ماءٍ في إناء فخاري في باحة مسجد لا يقصده سوى مصلٍّ واحد. وغبار منسي يثيره خفق جناح حمَام في إفريز مترَب. اسم يضيئني بقْدر ما فيه من الضوء، ويسترني بقدر ما فيه من النبات، ويقوّيني بقدر ما له من صلادة المعدن.
كارلوس، الاسم الذي أسكنه، مفرغ من شقاء المسافات، ولهُ بَشَرة الفجر الصريحة وتاريخ من المطر والضياع في السهوب. هو كلمة السر التي تُتلى عند كل باب، واللغز الذي يُطرح على كل داخل إلى المدينة.
حلم مرآة بورخيس
جاءني من مدينة بعيدة، يعرض عليّ مرآةً للبيع.
مرآة، قال أنها لا تعكس من يقف أمامها!
قلتُ وما فائدتها؟
قال لا يهم، حسبها أن لها شكل المرآة، وقد تنفع كتعويذة ضد الزمن.
لفتَ انتباهي أنه عمد إلى تعريف "المرآة"، فلم يقلها نكرةً، كأنه بذلك يريد إطلاقيتها.
وفيما هو يحدثني فكّرتُ أن أكتب هذه الثيمة، غير أني استبعدتُ ذلك، لأنها ثيمة بورخيسية بامتياز.
سافرتُ إلى مدن كثيرة كنت قد كتبت عنها. ولطالما جلست في مقاهيها مستمتعاً بالتدخين تحت شمس الشتاء النديّة، واستعادة ذكريات عن مدن اختفت إلى الأبد. مدن لطالما سرتُ في شوارعها، وسُررتُ مفتوناً بسحر نسائها. متعجباً من ابتهاج سكّانها الدائم. مدن لا يمكن عدّها بمشاهدها العصية على الوصف لروعتها، غير أني لم أجد أجمل وأرحب من المدن التي أنشأتها على الورق، ولم يكن لها من وجود أصلاً.
مدن الخيال
سافرتُ إلى مدن كثيرة كنت قد كتبت عنها. ولطالما جلست في مقاهيها مستمتعاً بالتدخين تحت شمس الشتاء النديّة، واستعادة ذكريات عن مدن اختفت إلى الأبد. مدن لطالما سرتُ في شوارعها، وسُررتُ مفتوناً بسحر نسائها. متعجباً من ابتهاج سكّانها الدائم. مدن لا يمكن عدّها، بمشاهدها العصية على الوصف لروعتها، غير أني لم أجد أجمل وأرحب من المدن التي أنشأتها على الورق، ولم يكن لها من وجود أصلاً.