[نُشر هذا المقال بتاريخ 5 تشرين الثاني/نوفمبر 2024 عبر منصة مجتمع الأنثروبولوجيا الثقافية، ضمن سلسلة "الأنثروبولوجيا في زمن الإبادة الجماعية: حول النكبة والعودة". كُتبت مقالات هذه السلسلة خلال صيف عام 2024، وقد لا تغطي بشكل كامل العنف المتصاعد بسرعة في المنطقة].
في أوائل آب ٢٠٢٤، انضممت إلى ورشة عمل صوتية لمدة ستة أيام في بيروت بقيادة فنانين محترفين في مجال الصوت، أحدهما لبناني، والآخر فلسطيني تشيلي. كان من المقرر أن تقام الورشة بالقرب من برج الشمالي، وهو مخيم للاجئين الفلسطينيين في جنوب لبنان. ولكنها نُقلت إلى مكان آخر بعد اغتيال إسرائيل لفؤاد شُكر، القائد العسكري في حزب الله، وإسماعيل هنيّة، الزعيم السياسي لحركة حماس.
قدِم المشاركون في الورشة إلى بيروت من مخيمات الجنوب، برج الشمالي، والرشيدية، والمية ومية. اشتغل العديد من المشاركين في كمنتجين موسيقيين وصانعي أفلام، وامتلكوا خبرة في مجال الصوت. أما بالنسبة للمشاركين الآخرين، فقد ضموا مربي نحل وبائع زهور وعازف ناي، أي أن الموضوعات والأساليب المتبعة في الورشة لم تكن مألوفة لهم. كان الهدف من الورشة محاولة استكشاف الصوت كوسيلة للتعبير في وقت أصبحت فيه صور عنف الإبادة الجماعية تسيطر على إدراكنا للحياة الفلسطينية. لكننا أردنا، أيضًا، أن نتأمل في العلاقة الأوسع بين الصوت والفضاء والسياسة، وإمكاناته، ربما، كمقابل صوتي للصورة المرئية للإمبراطورية. وبينما كُنّا مجتمعين في مكتبة في طابق سُفلي بغرب بيروت، تساءلت ما الصوت الذي قد ينتج عن استماعنا الجماعي؟ كيف ستكون أصوات الحزن والخوف والغضب؟
بدأنا بالاستماع إلى نغمة الغرفة، وتقليد ما سمعناه في محيطنا (صوت المروحة، النفس، الأجساد، أصوات بعيدة قادمة من الشارع، مولد الكهرباء، تشويش الأضواء فوقنا)، مع إضافة كل شخص منا لاهتزازاته الخاصة. هل كنا نسمع الصوت، أم نصدره؟ قمنا بالتسجيل على جهاز صغير ثبتناه على سلّة مهملات في وسط الغرفة، ثم سجّلنا مرة أخرى بوضعه داخل السلّة. اكتسب طنيننا الجماعي قوة، مرتفعا ومنخفضا مثل سرب، مما زاد وعينا بمحيطنا والتحولات الدقيقة في انتباهنا الجماعي. أصبحت أجسادنا المُستمعة أدوات للتواصل والتجمّع، متماسكة معا في حالة من الاهتزاز المُعلَّق.
من الخصائص المميزة للاستماع أنه لا يوجد انفصال. فالأذن لا تستطيع أن ترمش. والسمع غير إرادي. إذا سدّ المرء أذنيه، يتردد صدى صوته داخل رأسه، فيسمع صوت القلب يضخ الدم والفم يتنفس.
وقد نجحت المُخرجة ديبورا ستراتمان في التقاط هذه الخاصية اللمسية للسمع عندما قارنتها بـ"اللمس عن بعد" (٦، ٢٠٢٤). فعند الاستماع مرة أخرى، اكتشفنا العديد من الأشياء التي التُقطت بواسطة الميكروفون ولكننا لم ننتبه إليها، ما عزز الفارق بين الاستماع داخل رأس المرء ومن خلال جهاز على سلة المهملات، وكشف عن ديناميكية الفضاء الصوتي الذي خلقناه معًا. وتساءلنا، في نهاية المطاف، ما هي الدقة؟
كانت تجربة الاستماع إلى استماعنا غامرة ومحررة. وقد أطلقت الموسيقية والمُلحِّنة بولين أوليفيروس على هذه الأفعال المتمثلة في الاستماع المتزامن (لأكثر من واقع واحد، من قبل أكثر من شخص) اسم "الاستماع الكمّي". وهي سعت، في "تأملات صوتية لزمن الحرب" على وجه التحديد، إلى توسيع نطاق الانتباه والوعي البشري من خلال تمارين الاستماع الجماعية التي قد تؤدي إلى "نهاية للعنف" (أوليفيروس، ٢١، ٢٠٢٢).
في الخارج، كانت الطائرات المقاتلة الإسرائيلية تخترق جدار الصوت فوق بيروت، تماما كما فعلت فوق صيدا، وصور، وبلدات أخرى في الجنوب لعدة أشهر. الهدف من إحداث الانفجارات الصوتية هو بث الرعب النفسي من خلال موجات صدمية والتي يمكنها أن تحطم زجاج النوافذ وتسبب أضراراً مادية للناس والأشياء. إن أزيز الطائرات بدون طيار الإسرائيلية والانفجارات الصوتية المتواصلة أصبحت الآن حقيقة واقعة في جنوب لبنان، كما كانت لسنوات عديدة في غزة، مما ينتج عنها اضطراب ما بعد الصدمة والصمم وأنواع أخرى من الإصابات. وإذا أصبح الجدول الزمني غير المنتظم للانفجارات الصوتية - في وقت مبكر جدًا من الصباح، في وقت العشاء، أو أثناء بث خطاب حسن نصر الله - متوقعًا، إلا أنها ما تزال تسبب خوفًا وذعرًا شديدًا لا إراديًا. يصفها لورانس أبو حمدان، منظّر الصوت ومؤسّس (مدى الصوت) وهي منظمة غير ربحية تُعنى بإجراء تحليل صوتي لانتهاكات حقوق الإنسان، بأنها "تذكيرات صوتية بأن إسرائيل يمكنها تحويل لبنان إلى غزة في أي لحظة" (ناشد ٢٠٢٤). وتعيد الانفجارات الصوتية إلى الأذهان ذكريات الغزوات الإسرائيلية في أعوام ١٩٧٨، و١٩٨٢، و ٢٠٠٦، ولكنها تعد أيضاً بعنف مستقبلي.
أوضح ساري، أحد ميسري الورشة، أن الدوي المزدوج الذين يسمعه المرء ــ عند مقدمة وذيل الطائرة، وهما بمثابة علامات صوتية للدخول والخروج من موجة صدمية قوية تحدث في ضغط الهواء ــ يؤكد أنه ليس قنبلة. وعلى نحو مماثل، تعلم الناس، أثناء الغزو الإسرائيلي عام ١٩٨٢، أن سماع صفارة صاروخ يعني أنه مر وأن المرء أصبح في مأمن. ففي زمن الحرب، قد ينقذك التفكير في الصوت ومعه. ويتعلم المُستمع الحذِر كيفية تحديد المخاطر غير المرئية وتخطيها، فضلاً عن اكتشاف علامات الحياة وسط الأنقاض. والعيش تحت الحصار يصقل تناغم المرء مع المجموع الصوتي للبيئة المُقيَّدة، تماماً كما يستمع أولئك الذين في الخارج عن كثب إلى صوت أحبائهم بحثاً في ثنايا تفاهات حديث قصير عن مؤشرات على سلامتهم، كما يحدث على الهاتف، عندما تفصل بيننا ظروف لا يمكن تصورها ولا يمكن حقاً وصفها بالكلمات.
إن الميكروفون في الأساس عبارة عن محول يعمل عن طريق تحويل الطاقة الصوتية إلى طاقة كهربائية. وإذا ما سمعت بهذه الطريقة، فإن الانفجارات الصوتية التي تخرق المجال الجوي اللبناني تُشكل إشارات إلى سعي الدولة الإسرائيلية إلى الطرد أو الإبادة. وكذلك يمكن فهم رثاء الآباء والأمهات في غزة على أنه تحول ألم الموت إلى أغنية. ففي حزنهم على الموت، يحتفلون بالحياة. وكلاهما من العلامات الدالة على ذلك. وإذا كان الصوت سلاحاً للإرهاب والإخضاع، فإنه أيضاً وسيلة للصمود والمقاومة والنهضة. فالموسيقى والأغنية تحركنا وتحفزنا.
في اليوم الثاني من الورشة، ٢ آب، أقيمت مظاهرات متزامنة في المخيمات الفلسطينية في مختلف أنحاء لبنان حداداً على مقتل هنيّة. ومع تآكل المشاعر الوطنية والوحدة بسبب الانقسامات الفصائلية، طُلب من المتظاهرين غناء أغاني ثورية من سبعينيات القرن الماضي، ورفع الأعلام الفلسطينية فقط. هذه الهتافات المعروفة جيداً، حتى لدى الأجيال التي ولدت بعد رحيل منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، محفورة في ذاكرة الناس كصدى لمقاومة لا يصمت.
على مدار الأسبوع، لم يكن هناك الكثير من النقاش حول الأحداث المُتكشفة في غزة، أو في أماكن أخرى من فلسطين التاريخية، أو في الجنوب. كان الأمر وكأن الاستماع الجماعي قد حررنا لفترة وجيزة من قبضة دورات الأخبار الكارثية، مما جعلنا نتناغم مع بعضنا البعض، ومع الأعمال الصوتية التي خلقناها وتشاركناها. في اليوم الأخير، سألت أحمد وحمادة ـ بائع الزهور ومربي النحل ـ عما قد تعنيه هذه الأحداث بالنسبة للفلسطينيين في لبنان. دار حديثنا حول قيود الترميم. فماذا يحدث عندما لا يكون من الممكن إعادة الشيء إلى كُلّيته مرة أخرى؟
في حديثهما عن هذه المعضلة، يتساءل الفنانان الفلسطينيان روان أبو رحمة وباسل عبّاس: "ماذا يعني العيش مع الخسارة التي ليست هزيمة؟". إن فظاعة الإبادة الجماعية لا يمكن احتواؤها بسهولة، ومع ذلك، هناك حاجة إلى الكلمات، حتى غير الوافية منها. نحن نتحدث ونكتب في الصمت وضده.
برفقتي إلى المطار، تحدث صديقي بتفاؤل عن حركة الاحتجاج العالمية ومخيمات الطلاب. وعلى الرغم من شعوره بالألم كفلسطيني لإراقة الدماء ذات الطابع الإبادي، إلا أنه وجد شيئاً من المواساة في مظاهر التضامن والرفض الصريح لجرائم إسرائيل. قال لي وأنا أنزل من السيارة، "على الرغم من خسارتنا الفادحة، إلا أننا كسبنا الكثير. وأرى في ذلك نصراً، كما في انتفاضة عام ١٩٣٦". لقد تعجبت لشعوره بالأمل وأحسست بالتواضع إزائه.
عند الاستماع مرة أخرى إلى تسجيل صوتنا الجماعي في اليوم الأول من الورشة، أذهلتني من جديد قوته الغريبة، والتزامن الذي ربطنا ببعضنا البعض، كما الشعور الذي أنتجه بإمكانية تحول عميق لنوع من المعرفة والعمل الجماعي. فعرف الجميع غريزيًا متى يتوقفون. ما يذكرني بنصيحة أوليفيروس للاستماع بشكل مركزي وعمومي، من خلال راحة اليد وباطن القدمين، لتوسيع المجال الصوتي من الذات إلى العالم، و بهذه البادرة الشعور بقوة العلاقات الصوتية.
كيف يمكن للصوت أن يحررنا من قبضة حرب الإبادة والاستيلاء الاستعماري؟ إن صيحة الحياة الفلسطينية تستعيد مساحة الاحتجاج وتطالبنا بالاستجابة. أغنية الشوق هذه تعلو أكثر، حتى عندما يبدو الأمر وكأنه لم يبق هناك نفس لاستمرارها. وبينما تهتز الأرض، نسمع صدى عالم ينهض من جديد.
ملحق/إضافة
بعد وقت قصير من تقديم هذه المقالة، صعّدت إسرائيل بشكل كبير هجومها الجوي، فسوّت بالأرض مبانٍ وأحياء بأكملها في مختلف أنحاء لبنان، وفي بيروت. وأسفر الهجوم المستمر عن تدمير مجتمعات، وسقوط عدد كبير من الضحايا، وتشريد مئات الآلاف من الناس. أصبح الآن صوت الطائرات بدون طيار في كل مكان، كما تستمر الطائرات الحربية الإسرائيلية في اختراق جدار الصوت.
المراجع:
-
Abou-Rahme, Ruanne and Basel Abbas. 2022. “May Amnesia Never Kiss Us on the
-
Mouth.” Dia Talks, listening session, April 22. New York: Dia Art Foundation.
-
Oliveras, Pauline. 2022 [2010]. Quantum Listening. London: Ignota Books.
-
Nashed, Mat. 2024. “Sonic Booms—The Psychological Warfare Israel Uses to Sow Fear in Lebanon.” Al-Jazeera, August 10.
-
Stratman, Deborah, and Sukhdev Sandhu. 2024. Geologic Listening. New York: Union Docs.