[نُشرت النسخة الأصلية من هذه المقالة عبر منصة مشروع أبحاث الشرق الأوسط (MERIP) عام 1989].
عُرض فيلم أحلام هند وكاميليا[1] في القاهرة في يوليو ١٩٨٨، ليحظى بإعجاب جماهيري واسع، لكنه أثار في الوقت ذاته جدلًا نقديًا. يقدم الفيلم الروائي، الذي أخرجه محمد خان، قصة خادمتين تتعرضان للاستغلال المستمر من قبل الأزواج والأشقاء والأعمام وأرباب العمل، في نقد جذري للمجتمع المصري المعاصر وما يزخر به من تفاوت طبقي وعدم مساواة بين الجنسين.
ومع ذلك، فإن خاتمة الفيلم تستعير عناصرها من الأنماط التقليدية للكوميديا الرومانسية البرجوازية والدراما التلفزيونية. فالعثور المفاجئ لهند وكاميليا على المال المدفون تحت الشجرة - وهو المال الذي جناه حبيب هند وزوجها ووالد طفلتها أحلام - يبدو وكأنه يخلّص المرأتين من معاناتهما. إلا أن هذا المال يُنفق بلا تروٍّ في نزهة ترفيهية سرعان ما تتعرضان فيها للاختطاف والسرقة. ينتهي الفيلم بمشهد يجمع النساء الثلاث وهنّ يحدقن في البحر المتوسط من شواطئ الإسكندرية المشمسة، في مشهد يحمل طابعًا حالِمًا. الفارق الوحيد الذي يكسر القوالب النمطية في هذه النهاية هو أن "الثنائي السعيد" هنا مُكون من امرأتين، بينما الرجل المعني - حبيب هند يقضي عقوبة في السجن بتهمة العمل في السوق السوداء.
يبدو أن فشل أحلام هند وكاميليا في تقديم حل سياسي للمشكلات الاجتماعية التي يعالجها في أحداثه لا يقتصر على كونه مسألة جمالية أو سينمائية فحسب، بل هو أيضًا إشكالية تاريخية بامتياز. هذه الإشكالية التاريخية، وسياقها الأوسع الممتد عبر تاريخ العلاقات الاستعمارية بين مصر - أو العالم العربي عمومًا - وأوروبا، هي الموضوع الذي يتناوله كتاب تيموثي ميتشل استعمار مصر[2].
يركز الكتاب على التأثير الفكري والسياسي لأوروبا في مصر خلال القرن التاسع عشر، ويدعو إلى إعادة النظر بشكل نقدي في دراسة التاريخ الاستعماري. يستند ميتشل إلى مناهج مفكرين أوروبيين معاصرين مثل ميشيل فوكو وجاك دريدا، اللذين حلّلا بُنى السلطة ودورها في صعود الهيمنة السياسية الغربية، لكنه يعيد موضعة أهمية هذه النظريات ضمن سياق عالمي أوسع. إلا أن هذا التحول في الخطاب ليس خاليًا من التناقضات، إذ إنه يطرح إشكاليات تاريخية مركبة في الوقت ذاته الذي يوجه فيه تحديًا جادًا للنظرية الغربية حول المشروع الاستعماري.
في مناقشته لتطبيق الآليات الانضباطية الاستعمارية في مصر، مثل القرية النموذجية والثكنات العسكرية، يشير ميتشل إلى أن "[ربما يكون تركيز فوكو الأوروبي] قد أدى إلى إغفال الطبيعة الاستعمارية للسلطة الانضباطية. ومع ذلك، فإن البانوبتيكون، تلك المؤسسة النموذجية التي يقوم نظامها الهندسي ومراقبتها الشاملة بدور محوري في هذا النوع من السلطة، كانت ابتكارًا استعماريًا"، (ص ٣٥).
من خلال توسيع السردية الفكرية الغربية لتشمل قراءة لشروطها الجيوسياسية، والتي تتجسد هنا في مصر، يستعين ميتشل بالنقاشات الأيديولوجية والسياسية التي كانت تدور آنذاك في مصر كرد فعل على التوغل الاستعماري في التاريخ والعادات العربية. ومع ذلك، فإن تطبيقه لبعض النظريات الغربية المهيمنة بشكل غير تاريخي أحيانًا لا يخلو من إعادة إنتاج لشكل من أشكال الإمبريالية الثقافية.
ورغم ذلك، يقدّم استعمار مصر محاولة لإعادة قراءة النقاشات النظرية الغربية المعاصرة، وذلك عبر إدخال التاريخ الفكري لمصر ضمن هذا الإطار. فمصر لا تمثل مجرد مادة خام لبناء الإمبراطورية الغربية وصياغة نظرياتها، بل تطرح أيضًا نقدًا للأسس التي يقوم عليها المشروع الغربي للهيمنة العالمية.
يُفتتح استعمار مصر بوصف لزيارة الوفد المصري عام ١٨٨٩ إلى المعرض العالمي في باريس، ثم انتقاله من هناك إلى المؤتمر الثامن للمستشرقين في ستوكهولم. يقدّم المعرض الدولي الأوروبي نموذجًا عمليًا للعلاقات التي جمعت أوروبا في القرن التاسع عشر بـ"الآخرين" غير الأوروبيين، حيث "كان الزوار غير الأوروبيين طوال القرن التاسع عشر يجدون أنفسهم إما معروضين أمام الجمهور أو موضع فضول أوروبي دقيق."
يركّز ميتشل في نقده على هذا "الهوس الأوروبي بجعل الأشياء قابلة للمشاهدة" (ص ٢)، باعتباره تعبيرًا عن التناقضات الكامنة في التاريخ الاستعماري لأوروبا وتبعاته في القرن العشرين. فكما سعت أوروبا إلى تقديم نموذج مصطنع عن مصر لزوّار معارضها، حاولت أيضًا أن تعيد تشكيل مصر نفسها - بأرضها وشعبها - وفقًا للصورة التي عرضتها في هذه المعارض. وكما يوضح ميتشل: "كان هناك مستويان متوازيان من التمييز، بين الزائر والمعرض، وبين المعرض وما يعبّر عنه"، (ص ٩).
لكن زوّار هذه المعارض لم يكونوا أوروبيين فقط، بل شملوا أيضًا غير الأوروبيين وسكان المدن الاستعمارية. وقد لعبت اختلافات ردود أفعالهم دورًا في تحديد الصراع السياسي اللاحق بين المستعمِر والمستعمَر حول العالم الذي جرى تصويره في هذه المعارض.
فقد بُني الجناح المصري في المعرض، كما يوضح أحد المصريين الذين زاروه عام ١٨٨٩، "ليمثل شارعًا متعرجًا في القاهرة، تحيط به منازل ذات طوابق علوية بارزة، ومسجد يشبه مسجد قايتباي." وأردف قائلًا: "كان الهدف أن يعكس الطابع القديم للقاهرة." وقد أُنجز ذلك بدقة متناهية، حتى إن "طلاء المباني تعمّدوا جعله متسخًا" [...] غير أن الزوّار المصريين شعروا بالاشمئزاز من هذا المشهد، وفضّلوا تجنبه تمامًا.
يتكرر الصراع حول السيطرة على التمثيل والواقع بين أوروبا ورعاياها المصريين في الحقبة ما بعد الاستعمارية (أو الاستعمارية الجديدة)، وإن كان ذلك في شكل مختلف. فقد انتقد المؤرخ المصري والصحفي المعارض صلاح عيسى، عضو حزب التجمع، الرأي السلبي الذي عبّر عنه الكاتب الموالي للمؤسسة الرسمية أنيس منصور بشأن فيلم أحلام هند وكاميليا.
بالنسبة لمنصور، كشف الفيلم عن "الوجه القبيح" لمصر، تمامًا كما فعل المعرض الفرنسي عام ١٨٨٩. غير أن الفيلم، الذي صُوّر خارج الاستوديو، في شوارع القاهرة وعلى أدراج البنايات الأرستقراطية الخلفية، تعامل مع الواقع الذي يسعى إلى تمثيله بطريقة تختلف عن الاستيلاء الفرنسي عليه قبل قرن من الزمان. فقد أصرّ الفيلم على إقامة علاقة نقدية بين الواجهات المتهالكة للمباني وبين البنية الاجتماعية الفاسدة التي بالكاد تحافظ عليها.
كما أشارت فريدة النقاش سابقًا: "السينما المصرية ما تزال متأخرة عن الواقع... رغم أننا في أواخر القرن العشرين، في بلد يرسل آلاف النساء سنويًا إلى سوق العمل، وفي عالم نما فيه التيار النسوي بسرعة، ولم تعد صورة المرأة العاملة أو المناضلة أمرًا مستغربًا."
يُعيد الجدل النقدي حول أحلام هند وكاميليا، وطريقة تصويره للاضطهاد الطبقي والجندري الذي تعانيه الخادمات في القاهرة، ورفضه للتجميل الزائف لواقعهنّ عبر ديكورات الاستوديو، إنتاج "منطق المعرض" بعد قرن من الزمن. إلا أن الصراع بين المركز الاستعماري والأطراف ليس مجرد مسألة جغرافية؛ بل هو صراع داخلي قائم داخل كلٍّ من "المركز" و"الهامش". ولا بد من الكشف عن التحولات، سواء المادية أو الأيديولوجية، التي حدثت بين حقبة الإمبريالية الإقليمية ومرحلة الرأسمالية العالمية.
لكن كيف يمكن تأريخ هذا التداخل النظري بين فوكو أو دريدا وبين مصر المستعمَرة؟
ينتقل فصل "مصر في المعرض" من تحليله للمعارض الأوروبية التي قدّمت تصورًا عن الشرق إلى دراسة كيفية تطبيق تنظيم (نظام) المعرض على إعادة تشكيل القاهرة. يوضح ميتشل كيف أصبحت المدينة نفسها جزءًا من آلية السيطرة الاستعمارية، قبل أن تتحول لاحقًا إلى ساحة مقاومة ضد الهيمنة الأوروبية. ومن خلال استقراء تاريخ القرن التاسع عشر في مصر، يستخرج ميتشل إمكانيات جديدة لإعادة سرد الديناميكيات التاريخية لعملية الاستعمار اليوم.
كانت مسألة المنظور، التي تعدّ جوهر فكرة المعرض، أقل قابلية للتحقيق في "الشرق نفسه" مما كانت عليه في أوروبا. فقد اكتشف كتّاب مستشرقون مثل فلوبير ونرفال، وكذلك فنانون مثل ديفيد روبرتس، هذا التحدي عندما حاولوا استعادة صورهم المستندة إلى التصورات الأوروبية من مصر، ليجدوا أنفسهم عالقين في تناقض بين "الحاجة إلى الانفصال عن العالم وتصويره كموضوع للتمثيل، والرغبة في الذوبان داخله واختباره بشكل مباشر"، (ص ٢٧).
يرى ميتشل أن الانقسام الذي صنعه الغرب بين "عالم الصور والتمثيلات البحتة" و"عالم الواقع الحقيقي" يتداخل مع تقسيم العالم إلى غرب ولا غرب. والطريقة التي نشأت بها هذه الانقسامات في القرن التاسع عشر ما تزال تؤثر على النظام الجيوسياسي الحالي وما يرتبط به من تقسيم دولي للعمل في العالم المعاصر.
يشير مفهوم "التأطير"، كما يتتبعه الفصل الثاني، إلى استراتيجية استعمارية أوروبية محددة تهدف إلى تنظيم واقع "الآخرين" والسيطرة عليه. في مصر، تجلّت هذه السيطرة من خلال القرى النموذجية التي "أُديرت وكأنها ثكنات عسكرية" (ص ٣٤)، وإنشاء جيش منضبط عبر تجنيد عشرات الآلاف من المصريين وإخضاعهم لنظام عسكري صارم، وصولًا إلى تأسيس مدارس تحضيرية لإعداد الجنود الجدد.
كان الانضباط والمراقبة أدوات رئيسية للسيطرة على السكان، وشكّلا الأساس لما سُمِّي بـ"النظام الجديد". ففي عام ١٨٤٤، على سبيل المثال، أصدرت الحكومة مرسومًا إلى المسؤولين المحليين يقضي بفرض "عقوبة الإعدام شنقًا على أي شخص يأوي فلاحين فرّوا من قراهم، وذلك بهدف محو مصطلح ‘الهارب’ نهائيًا"، (ص ٤٢).
لكن استدعاء ميتشل لدراسة بيير بورديو حول البيت القبائلي[3] في الجزائر لتوضيح إعادة تشكيل البريطانيين لمصر يكشف عن بعض الإشكاليات المنهجية في الكتاب.
يتناول الفصل الثالث، "مظهر النظام"، كيف جسّدت التخطيطات السياسية القسرية التي فرضها الأوروبيون على الفضاء الاجتماعي المصري التناقض الغربي بين التمثيل و"الواقع". فعلى سبيل المثال، كان يُترجم مصطلح تنظيم في تلك الفترة غالبًا إلى تحديث (ص ٦٧)، مما يعكس ارتباط مفهوم التنظيم بعملية التحديث وفق التصور الاستعماري.
أصبحت مشروعات "تنظيم" المدن، مثل شقّ الشوارع العريضة عبر بلدات الدلتا أو إنشاء أنظمة الصرف الصحي، جزءًا من سياسة أشمل تهدف إلى ضبط الأفراد، وارتبطت بإنشاء المدارس العسكرية التي فرضت جداول يومية صارمة، وتمركزت في مواقع مركزية داخل المدن لتعزيز الانضباط والنظام.
تم تقسيم التعليم وتصنيفه وفقًا لحجم القرية أو المدينة التي تقع فيها المؤسسة التعليمية، بحيث "عبر تحديد الفئات الاجتماعية المؤهلة لكل مرحلة تعليمية متعاقبة، تمثّل النظام الاجتماعي في صورة هرم دقيق للطبقات الاجتماعية"، (ص ٧٧).
وكما في مقارنته بين القرية النموذجية التي صممها المستعمِر والمنزل العربي التقليدي، يقدّم ميتشل قراءة للنظام التعليمي الجديد مقابل حرفة ومهنة الفقيه، الذي كان يؤدي دور المعالج الشعبي، وقارئ القرآن، ورجل الدين المحلي (ص ٨٧). ويوضّح من خلال ذلك كيف فُرض الفصل القسري بين التعليم والكتابة من جهة، و"الحياة ذاتها" من جهة أخرى—أي الفصل بين ما نسميه الأشياء وبين عالم منفصل من النوايا والتوجيهات (ص ٩٣).
في النهاية، كانت التعليمات تصدر من العواصم الأوروبية. في فصل "بعد أن أسرنا أجسادهم"، يستكشف ميتشل الروابط المتشابكة بين التاريخ الاستعماري لأوروبا والتاريخ الانضباطي للمؤسسة الأكاديمية الغربية. فبعد أن خضع الجسد الاجتماعي للمستعمَرة للمراقبة والانضباط والتنظيم، أصبح من الضروري إدخال وترسيخ مفهوم معين للسلطة السياسية ولما يُعتبر سياسة داخل مصر نفسها.
تبلور هذا المفهوم في أوروبا تحت مسمى العلوم السياسية. ويرصد ميتشل في كتابات مفكرين مصريين من القرن التاسع عشر، مثل رفاعة الطهطاوي، ومصطفى كامل، ومحمد المويلحي[4]، التاريخ المتوتر للسياسة المصرية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث يعكس فكرهم الصراعات والتناقضات التي رافقت تشكّل المجال السياسي في مصر تحت التأثير الاستعماري.
يتداخل هذا التاريخ مع التخصصات الغربية في العلوم السياسية والإثنوغرافيا، بالإضافة إلى جهود الترجمة التي دعمتها الحكومة المصرية، والتي نقلت إلى العربية أعمالًا نقدية ظاهريًا بهدف الإصلاح لكنها في الواقع قدّمت نماذج تعزز التفوق الأوروبي وتنتقد ما اعتُبر طبيعة مصرية متأصلة. يثير ذلك أسئلة حول اللغة وأسس التدوين التاريخي المكتوب.
في فصل "آلات الحقيقة" يحلل ميتشل محاولات المثقفين المصريين للتعامل مع الغزو اللغوي الأوروبي للواقع السياسي المصري، سواء من خلال استيعابه أو مقاومته. يستند إلى كتاب "رسالة الكَلِم الثمان" لحسين المرصفي، الذي نُشر في أكتوبر ١٨٨١، بعد شهر واحد من الثورة العرابية، كمجال لدراسة الجدل حول المفاهيم السياسية المرتبطة بالقومية الأوروبية - مثل الأمة، الوطن، الحكومة، العدالة، الظلم، السياسة، الحرية، والتعليم (ص ١٣١) - وكيفية توظيفها في التشكيلات الإقليمية الجديدة.
يكتب ميتشل عن المرصفي: حذّر القوميين من تقسيم البلاد إلى جماعات عرقية متناحرة، مستحضرًا الدلالات المختلفة لكلمة حزب. فمقارنةً بمفهوم الأمة الذي يوحي بالوحدة—بمعنى الجماعة أو الوطن—رأى المرصفي أن كلمة حزب تحمل في طياتها معاني المصلحة الذاتية والتحزّب (التعصب الفئوي). وقد جرى استدعاء هذه الدلالات بغرض الطعن في السياسة التي يتبناها من يستخدمون هذا المصطلح، (ص ١٣٧).
في طرح مثير للجدل، وإن كان إشكاليًا في بعض جوانبه بسبب نزوعه إلى إضفاء طابع غامض على اللغة العربية، يناقش ميتشل الإمكانيات التفسيرية المتعددة التي تتيحها العربية - بدءًا من غياب الحركات وصولًا إلى سلاسل التلاوة - وهي خصائص لغوية يرى أنها تتحدى "آلات الحقيقة" التي اعتمدت عليها القوى الاستعمارية الغربية، والتي ترتكز على مفاهيم المؤلف والسلطة.
يعتمد استعمار مصر على طرح معقد واستراتيجيات نظرية متشابكة، إذ يفتح أفقًا جديدًا للممارسات الخطابية في السياسة المعاصرة، لكنه لا يقدم حلولًا نهائية. يتناول الكتاب الانقسامات التاريخية بين القرن التاسع عشر والعشرين، وبين الاستعمار وما بعد الاستعمار، كما يعيد النظر في الفروقات الجيوسياسية بين المركز والهامش، والمتروبول والمستعمرة، والعالم الأول والثالث.
لا تقتصر أهمية طروحات ميتشل على النقد الغربي فحسب، بل تمتد إلى الساحة السياسية والفكرية المصرية، حيث يشهد الحقل الأكاديمي جهدًا نظريًا مكثفًا لإعادة بناء التاريخ المصري ومنهجيته. من التاريخ الموسوعي الذي قدّمه رفعت السعيد عن اليسار المصري، إلى العمل النقدي لفؤاد زكريا حول الحركات الإسلامية، وصولًا إلى المجلات الجديدة مثل قضايا فكرية (التي حررها محمود أمين العالم) والمواجهة (التي أصدرتها لجنة الدفاع عن الثقافة الوطنية بمبادرة من حزب التجمع)، تعكس هذه المشاريع لحظة حاسمة في سياسات الثقافة المصرية. لم يعد بإمكان النظرية الغربية تجاهل هذا الحراك، بل أصبح عليها أن تتعلم منه.
تحمل هذه المراجعات الفكرية للتاريخ المصري وأجندته الراهنة تداعيات ملموسة اليوم، تمامًا كما كان الحال قبل قرن من الزمن، سواء على مستوى التخطيط العمراني للقاهرة أو على صعيد نشر الثقافة من العاصمة إلى الأقاليم.
في هذا السياق، أطلق وزير الثقافة فاروق حسني برنامجًا مثيرًا للجدل يهدف إلى إنشاء وترميم قصور الثقافة في أحياء القاهرة وفي مختلف أنحاء مصر، بحيث يتخصص كل قصر في مجال معين - كالفلكلور، والسينما، والفنون التشكيلية - ليعكس الإنتاج الثقافي المصري والعالمي.
وقد قوبلت خطط حسني بمزيج من التشكيك والتأييد والمقاومة، وأثارت نقاشات حادة في الاجتماعات المحلية، كما استحوذت على اهتمام كلٍّ من وسائل الإعلام الرسمية والمعارضة.
يشير ميتشل إلى أن المعارض العالمية الأوروبية، التي مهدت الطريق للسياحة الاستشراقية، أدت أيضًا وظيفة أخرى تمثلت في احتواء السخط السياسي داخل أوروبا نفسها. فقد كتب: "رغم مخاوف السلطات من السماح لأعداد هائلة من الطبقات الدنيا بالتجمع في العواصم الأوروبية بعد أحداث ١٨٤٨ بفترة قصيرة، إلا أنها شجّعتهم على زيارة المعارض"، (ص ٢٠).
في المقابل، كانت السلطات الاستعمارية في مصر تقمع الفعاليات الشعبية، مثل مولد السيد البدوي في طنطا، باعتبارها تهديدًا للنظام العام والصحة العامة في المدن (ص ٩٨).
ورغم ذلك، لا تزال القاهرة تشهد حتى اليوم احتفالات الموالد السنوية، مثل مولد الحسين، والسيدة زينب، والمولد النبوي، وفقًا للتقويم الهجري. في الوقت نفسه، تستضيف العاصمة معارض دولية سنوية، مثل معرض القاهرة الدولي للكتاب ومعرض التجارة الدولي، التي تجمع زوارًا وعروضًا من مختلف أنحاء العالم.
وكما كان مولد السيد البدوي قبل قرن من الزمن، أصبحت هذه المعارض في السنوات الأخيرة ساحةً جديدة للمواجهة السياسية، حيث يتمحور الصراع اليوم حول موقف مصر من الولايات المتحدة وإسرائيل، وسياسات الانفتاح الاقتصادي.
كانت هذه المعارض تُقام سابقًا في أرض المعارض بجزيرة الزمالك، وسط القاهرة، لكنها نُقلت الآن إلى موقع جديد في مدينة نصر، بعيدًا عن مركز المدينة. أما الموقع القديم، فقد أصبح يضم دار الأوبرا المصرية، التي افتُتحت في خريف عام ١٩٨٨ بعرض لأوبرا عايدة لفيردي، وهي الأوبرا التي تم تكليفها لأول مرة احتفاءً بافتتاح قناة السويس.
يؤكد استعمار مصر أن الصراع الثقافي حول تخصيص المساحات الحضرية وإزاحة الممارسات الشعبية ما يزال مستمرًا حتى اليوم. ففي يناير ١٩٨٠، أدت مشاركة إسرائيل في معرض القاهرة الدولي للكتاب إلى اعتقال عدد من أعضاء المعارضة المصرية، وهو ما دفع إلى تأسيس لجنة الدفاع عن الثقافة الوطنية.
وفي مارس ١٩٨٦، تعرّض ثلاثة ممثلين إسرائيليين لإطلاق النار أثناء مغادرتهم جناح إسرائيل في معرض التجارة الدولي، وذلك على يد أعضاء من تنظيم ثورة مصر، وهو تنظيم ناصري يقبع العديد من أعضائه حاليًا في السجون المصرية بانتظار المحاكمة.
على خطى نقد الجبرتي للمستشرقين الفرنسيين والبيان الذي أصدره نابليون عند وصوله إلى مصر عام ١٧٩٨ (ص ١٣٣)، يواصل المثقفون المصريون المعاصرون تحدي الهيمنة الثقافية والسياسية والاقتصادية، التي تمثل إرث الاستعمار الإقليمي.
في هذا السياق، تتضمن مقالات فريدة النقاش في كتابها يوميات المدن المفتوحة مقالًا كتبته عام ١٩٨٢ عن مدينة بورسعيد، الميناء الذي كان يومًا ما يستقبل الجنود المصريين العائدين من جبهات القتال، لكنه اليوم أصبح منطقة تجارة حرة.
أما صلاح عيسى، ففي كتابه الكارثة التي تهددنا (١٩٨٨)، يستعرض الماضي الاستعماري، والسجالات بين أحمد عرابي ومصطفى كامل، وتاريخ الأزهر، ودور طه حسين كمثقف برجوازي، لينتهي بطرح نقدي للبنية الطبقية لثورة ١٩٥٢.
يسعى كل من النقاش وعيسى إلى إعادة قراءة جذرية للإيديولوجيا السائدة في مصر، باعتبارها نتاجًا للعمليات التي وصفها استعمار مصر، وهي العمليات التي أسهمت في تكريس التخلف البنيوي للبلاد.
في خاتمة كتابه، "فلسفة الشيء"، يصوّر ميتشل المدينة التي صُمّمت وفق المشاريع الإمبريالية الغربية على أنها باتت اليوم ساحةً للمقاومة والمواجهة. يروي كيف أن السيطرة على السكان المحليين التي سعت هذه التصاميم إلى فرضها تتجلى في حادثة معرض التجارة في فاس عام ١٩١٦، حيث دفع الفضول أحد قادة التمرد إلى طلب الإذن من السلطات لزيارة المعرض. وبعدما مُنح الإذن واستُقبل هو وقبيلته بحفاوة، انتهى الأمر بأن أعلن هو وقبيلته استسلامهم، (ص ١٦٢).
ورغم ذلك، يؤكد ميتشل أن "هذه العملية الاستعمارية لم تنجح بشكل كامل أبدًا، إذ ظلت هناك دائمًا بؤر مقاومة وأصوات رفض. كما أن المدارس والجامعات والصحافة، شأنها شأن الثكنات العسكرية، كانت معرضة دومًا لأن تصبح مراكز تمرد من نوع ما، حيث تحوّلت أساليب المستعمرين في التعليم والانضباط إلى أدوات لمعارضة منظمة"، (ص ١٧١).
يقدم استعمار مصر، من خلال إعادة تأريخه للتاريخ الاستعماري والاستراتيجيات المنهجية التي يوظفها في هذه العملية، نموذجًا نظريًا لتقويض - أو بالأحرى - "تفكيك" البنى الأكاديمية التي أرستها الهيمنة الغربية في القرن التاسع عشر، والتي لا تزال حتى اليوم تفرض سردية تاريخية خطية للتطور والتخلف.
يطرح الكتاب تكوينات تاريخية جديدة، ويدعو إلى شكل آخر من "تقسيم العمل"، يتطلب التفاعل مع الإنتاج الفكري للمثقفين المصريين بقدر ما ينخرط مع نظريات نظرائهم الأوروبيين، بهدف إعادة ترتيب الأولويات التاريخية والجيوسياسية. ربما يفتح هذا النهج الباب أمام نهاية مختلفة لـ أحلام هند وكاميليا.
هوامش المُترجم:
[1]: العنوان من وضع المُترجم، بينما عنوان المقالة الأصلي هو "Mitchell, Colonising Egypt". أحلام هند وكاميليا هو فيلم مصري عرض عام 1988، من بطولة أحمد زكي ونجلاء فتحي وعايدة رياض. قصة وسيناريو وإخراج محمد خان وحوار مصطفى جمعة.
[2]: هو دراسة للمفكر البريطاني تيموثي ميتشل، نُشرت نسخته الأصلية عام 1988. تُرجم الكتاب إلى اللغة العربية مرتين: الترجمة الأولى: صدرت عن دار سينا للنشر عام 1990، بترجمة مشتركة بين بشير السباعي وأحمد حسان. الترجمة الثانية: أعادت دار مدارات للأبحاث والنشر إصدار الكتاب عام 2013.
[3]: Bourdieu, P. (1965). Le maison kabyle ou le monde renversé. Information sur les Sciences Sociales, 6, 55-93.
[4]: محمد المويلحي (١٨٥٨- ١٩٣٠) كاتب وصحفي مصري، يُعد من رواد النهضة الفكرية والأدبية في مصر خلال أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. اشتهر بكتاباته الإصلاحية التي تناولت القضايا الاجتماعية والسياسية بأسلوب يجمع بين السرد الأدبي والنقد الاجتماعي.
[ترجم المقالة عن أصلها الإنجليزي أحمد نبوي].