يتناول الفيلم قصة الموريتاني محمدو ولد صلاحي (طاهر رحيم)، الذي سُجن في غوانتانامو دون وجود أدلة كافية لسجنه. تتدخل المحامية الشهيرة نانسي هولاندر (جودي فوستر) ومساعدتها (شايلين وودلي) للدفاع عن محمدو، الذي يواجه تهمًا بتجنيد أحد منفذي الهجمات التي استهدفت برج التجارة العالمي في نيويورك، في 11 أيلول، وعلاقته بآخرين من تنظيم القاعدة. هذه القصة تجسّد الأساليب الوحشية التي اتّبعها النظام الأمريكي لاستخراج معلومات من المتهمين وتأطيرها في روايات لخدمة مصالح الولايات المتحدة وإغلاق ملفاتها العالقة على حساب الأبرياء.
اختار مخرج العمل، كيفين ماكدونالد، لهذا الفيلم أسلوبًا واقعيًّا وبسيطًا، ربما يعود ذلك لأن له تاريخًا طويلًا في صناعة الأفلام الوثائقية، ففي عام 2000 حاز على جائزة أوسكار أفضل فيلم وثائقي عن فيلمه "يوم واحد في أيلول" (One Day in September). ينبثق هذا الأسلوب من فكرة تصوير تقريرٍ إخباري يُبقي المشاهد على دراية بما يحدث، دون أن يشعر بأنه يُدفَع للتعاطف مع أحد أطراف الرواية. كان ذلك واضحًا كذلك من ناحية الصورة والألوان، إذ ساعدت جهود مدير التصوير، ألوين هـ. كوشلر، في الوصول لهذا الإحساس في الفيلم، فهو بدوره يمتلك رصيدًا من الأفلام الوثائقية مثل (One more time with feeling) الذي صوّره عام 2016.
لم تكن إضاءة الصورة شبيهة بالإضاءة المعتادة في أفلام هوليوود الدرامية، من ناحية المبالغة في استخدام الألوان، وحركة الكاميرا، وتشبّع الألوان، بل اعتمدت على الإضاءة البسيطة والواقعية في كثير من الأحيان. اختيار هذا الشكل لا يعني إهمال الناحية البصرية، إذ إن إضاءة الفيلم وتصويره جعلا الصورة تبدو جميلة، وخلقا مشاهد مبدعة. كما ظهرت براعة التصوير واستخدام المؤثرات في مشهد التعذيب، إلا أن الفيلم بدا وكأنه لم يبذل مجهودًا لاستخدام هذا الأسلوب للإضافة للقصة، بل بدت وكأن الصورة فيها منفصلة عن الأحداث أحيانًا لتمييزها عن بقية أحداث الفيلم.
الأداء الأكثر تميزًا كان للممثل الجزائري طاهر رحيم، الذي ترشح عنه لعدة جوائز منها الغولدن غلوب لأفضل ممثل، لاقتباسه لحظات الأمل والصبر التي عاشها محمدو بالرغم من التعذيب والانتهاكات التي تعرض لها. بأداء استثنائي، حاول أن يدفع نفسه لتقديم دور أكثر تأثيرًا عن طريق التمثيل المنهجي (method acting)، وعرَّضَ نفسه لظروف صعبة مثل التصوير في سلاسل حقيقية وفي غرف باردة ليكون أداؤه أكثر صدقًا. وأضاف للشخصية الكثير عندما عجز النص عن ذلك، وكان هذا تحديًا نجح به رحيم. أما الحائزة على الأوسكار، جودي فوستر، فقدمت أداءً جميلًا أحرزت من خلاله جائزة غولدن غلوب لأفضل ممثلة وعددًا لا بأس به من الترشيحات.
هذا الحياد الذي طغى على العديد من عناصر الفيلم، كان له التأثير الأكبر على شخصية محمدو، الذي ظل يبدو وكأن الفيلم لا يود الخوض في الحديث عن براءته حتى انقضى نحو نصفه، وأظهر شخصيةً يصعب التعاطف معها لأنه لم يُظهر جوانبها الإنسانية بإنصاف. في كثير من المقابلات على أرض الواقع، تظهر شخصية محمدو المرحة والمضحكة، كمشاهد نهم لأفلام هوليوود ومشبع بثقافة البوب التي تعرّض لها طوال سنوات السجن. وفي وثائقي لصحيفة الغارديان عن محمدو، يروي علاقته الحميمية التي كوّنها مع أحد السجانين، "ستيف"، والذي نراه بضعة مرات في الفيلم.
من المهم هنا أن أنوه أن الفيلم لم يكن بحاجة لإضافة شخصيات أكثر لزيادة الإثارة أو خلق الأحداث، على العكس، فإن عدد الشخصيات الكبير هو أحد أبرز مشاكل الفيلم، فليس محمدو وحده من لم نتعرف عليه كمشاهدين مثلما يجب، إلا أن أغلب الشخصيات كانت تظهر باقتضاب وبشكل سطحي. الفرصة الضائعة كانت التركيز على شخصية محمدو التي نراها في الفيلم في عدد محدود من اللقطات، مثل علاقته مع والدته، وحواره المتفائل مع صديقه السجين في الساحة، وأفضل هذه اللحظات وربما أجملها في الفيلم، عندما يظهر محمدو بنفسه في نهاية الفيلم وهو يغني لبوب ديلان.
عند سؤال المخرج عن سبب صناعته لهذا الفيلم في مقابلة مع هوليوود ريبورتر، يجيب أنه بعدما تحدث مع محمدو عبر الهاتف لأول مرة، "لم يكن على الإطلاق ما كنت أتوقعه، كنت أتوقع شخصًا غاضبًا وممتعضًا، مصابًا بصدمة عميقة بسبب التعذيب الشديد الذي تعرض له بعد قضاء 14 عامًا في غوانتانامو، لكن في الواقع، كان مرحًا ودافئًا، وفكّرت: يا له من شخص لا يصدق. أريد أن أصنع فيلمًا عن هذا الرجل". لكن بالرغم من هذه الفكرة التي راودت ماكدونالد، واسم الفيلم "الموريتاني"، لم يكن الفيلم حقًّا عن هذا الرجل، بل كان عن القرارات والأحداث والأشخاص التي شكّلت حياة محمدو في السنوات الطويلة التي قضاها في غوانتانامو.
هل انتصر "الحق" بعد كل هذا الظلم؟
تمثل نانسي هولاندر النصف الذي يبحث عن العدالة ويؤمن في الدستور والقوانين الأمريكية، فهي دائمًا في صف الأقليات ومدافعة عن حقوق الإنسان. وفي المقابل، يمثل النصف الثاني من المحاكمة المحامي العسكري المقدم ستيوارت كوتش (بنديكت كومبرباتش)، المسيحي المؤمن والذي يود الثأر لكل ضحايا الهجمات، لكنه وبالرغم من تمثيله للحكومة الأمريكية يتحلّى بروح البطل الأمريكي التقليدي الذي لا يخاف من قول الحق والوقوف في وجه الظلم. يمكن وصف هذه الديناميكية بين هاتين الشخصيتين في الفيلم على أنها محاولة للدفاع عن منظومة العدالة الأمريكية، ففي كل طرف هناك أشخاص غير اعتياديين وشجعان سيوقفون الظلم. لكن هل يمكن تعميم هذه الحالة، أم أن محمدو حالفه الحظ؟
من الجدير بالذكر أن الفيلم كان وفيًا إلى رواية الواقع، والوقائع التي يتضمنها لم تكن مبالغات درامية، وإنما أحداث صادمة وقعت حقًا. لكنّ الفيلم يؤكد على أن محمدو كان ليتحول رقمًا آخر ضمن قائمة سجناء غوانتانمو لولا المنقذين الأمريكيين الذين اجتمع بهم. وبالرغم من حقيقة هذا الأمر، إلا أنها حبكة مستهلكة في الأفلام الأمريكية، وقد يكون استخدامها في الفيلم بمثابة تشتيت الناس عن التعاطف مع المتهم لشخصه، بل لأن هناك العديد من الشخصيات التي صدقته، أو لأن القضاء الأمريكي لا يمكن أن يكون ظالمًا. وإن كان هناك عبرة يمكن استخلاصها من الفيلم، فربما تكمن في أن جمال روح محمدو لا يمكن إخفاؤه، وأن شجاعته وصبره، حتى بعد القهر والتعذيب لسبعين يومًا متواصلًا، ساهما بألا يكون مجرّد مسلم عربي آخر منتمي للقاعدة في غياهب غوانتانمو.
محمدو يذكر في كثير من المقابلات أنه لا يملك مكانًا للضغينة والحقد، وإنما الطريق للراحة بالنسبة له هو يكمن في الغفران لمن أوقعوا عليه الظلم. وهذا ما يجعله منتصرًا بلا شك، إذ لم يلجأ محمدو لرفع قضايا على الحكومة الأمريكية بعدما حصل معه، رغم أنهم لم يتكبدوا عناء تقديم اعتذار بعد إعلان براءته. ربما لأنه لن يجد العزاء في محكمة جديدة، ولن يعوضه شيء عن خسارته لشبابه ووالدته التي توفيت قبل خروجه من السجن.
هذا الفيلم، وحتى إن لم يركز على هذا التفصيل، يبين أنه بالرغم من تغيّر الحكومات الأمريكية بين ديمقراطية وجمهورية، فإن جميعها تلعب دورًا مشابهًا في الأعمال غير الإنسانية التي ارتكبها الجيش في غوانتانامو.