المقدمة
منذ الطفولة يتعرض الشخص إلى عدة طرق في تجربته مع اكتساب اللغة من محيطه سواء مع لغة الأم، أو اللغات الأخرى التي يكتسبها الشخص أو ينشأ عليها منذ نعومة أظافره أو في المدرسة أو في مرحلة لاحقة من حياته. وإن اكتساب الأفراد لثنائية لغوية أو للغات متعددة يجعلهم ينتقلون بين هذه اللغات ويستخدمون اللغة التي تناسبهم أو تناسب الموقف الذي يجدون أنفسهم فيه. تنتشر ظاهرة التعدد اللغوي في الكثير من المجتمعات حاليًا، إما على مستوى اللهجات التي تندرج جميعها ضمن لغة رسمية واحدة لها أم على مستوى عدة لغات وعادةً ما تكون هذه الظاهرة جلية في المجتمعات التي خضعت أو ما زالت تخضع تحت وطأة استعمار أجنبي، وكثيرًا ما تنشأ عند المناطق الحدودية بين الدول والتي تسمح بالتقاء واندماج أشخاص تختلف لغاتهم ولهجاتهم.
اعتبر اللغوي البريطاني ريتشارد هدسون أن إحدى النتائج الحتمية للثنائية اللغوية وبشكلٍ عام التعدد اللغوي هي التناوب اللغوي (2001: 51). ففي كثير من الأحيان يجد الأشخاص الذين يتحدثون أكثر من لغة واحدة أنفسهم في مواقف تستدعي منهم تغيير لغة الكلام أو الانتقال إلى لغة رسمية. غالبًا، وفي هذه الحالة، يختار المتحدث عادةً اللغة التي يفهمها المستمع. وقد يكشف التناوب اللغوي عن العلاقة التي تربط المتحدثين ببعضهم البعض أو حتى المكانة الاجتماعية والفوارق بينهم.
هناك العديد من الأسباب التي تؤدي إلى اللجوء إلى ظاهرة التناوب اللغوي في المحادثات عامةً:
1. قد يرى المتحدث أن المفهوم الذي يريد استخدامه أدق تعبيرًا لما يريد أن يوصله للشخص الآخر (المستمع أو القارئ) في لغة أخرى فحينها ينتقل إليها أثناء الخطاب.
2. قد يكون الدافع وراء اللجوء إلى التناوب اللغوي هو غياب كلمة في لغةٍ ما وتواجدها في لغة أخرى.
3. أو أن هناك قوانين اجتماعية تفرض استخدام لغة معينة في مكانٍ ما (هدسون، 2001: 52).
4. قد يلجأ بعض الأشخاص إلى استخدام لغة أخرى في كلامهم فقط لإظهار تمكنهم من لغات أخرى أو حتى يُنظر إليهم على أنهم مثقفين.
الإطار النظري
تختلف ظاهرة التناوب اللغوي عن الظواهر الأخرى المتعلقة بالاتصال اللغوي، مثل ظاهرة اللغات الهجينة واللغات المولّدة والألفاظ المستعارة والترجمة الاقتراضية. يعد التناوب اللغوي (code-switching) تقنية لغوية تشير إلى عملية الانتقال بين اللغات واللهجات أي الانتقال من شفرة لغوية إلى شفرة لغوية أخرى أثناء الحديث أو الكتابة. وبحسب مونيكا هيلر (1988) فإن التناوب اللغوي هو استخدام أكثر من لغة واحدة في سياق تواصلي. وتجادل سوزان إرفين تريب (1964) بأن الشفرة اللغوية أو اللّسن اللغوي يتكون من "مجموعة منهجية من الإشارات اللغوية التي تحدث بشكل مشترك في مواقف معينة. بالنسبة للغات المحكية، قد تكون الشفرات اللغوية البديلة هي اللغات العامية أو المتراكبة." (ص. 90).
قدّم بلوم وجامبيرز (1972: 424) مفاهيم المكان والموقف والحدث لتحليل المقصد من الاختيار بين شفرتين لغويتين. حيث قسّم بلوم وجامبيرز التناوب اللغوي إلى تناوب لغوي موقفي (situational code-switching) وتناوب لغوي مجازي (metaphorical code-switching). يتمثل الاختلاف المهم بينهما في تأثيرهما على الموقف حيث إن التبديل اللفظي في التناوب اللغوي الموقفي يعيد تعريف الموقف كونه تغييرًا في القواعد الحاكمة، بينما التبديل اللفظي في التناوب اللغوي الاستعاري يُغني الموقف حيث يسمح بالتلميح بوجود أكثر من علاقة اجتماعية واحدة داخل الموقف.
عندما يتغير تعريف المتحدثين للحدث الاجتماعي داخل نفس المكان والموقف، قد يتم الإشارة إلى هذا التغيير من خلال أدلة لغوية. تفترض فكرة التناوب اللغوي الموقفي وجود علاقة مباشرة بين اللغة والموقف الاجتماعي. في حين أنه في حالة التناوب اللغوي المجازي يكون لدى المتحدثين حيّزًا أكبر للتناوب اللغوي، أي أنه لا يحدث أي تغيير فعلي يجبر أحد المتحدثين على الانتقال إلى لغة أخرى أو أي التزامات من أحد المتحدثين تجاه الآخرين، ويكون التغيير اللغوي مرتبط مثلًا بنوع معين من المواضيع وليس الموقف الاجتماعي. بشكل مميز، تسمح مثل هذه الحالات بوجود علاقتين مختلفتين أو أكثر بين نفس المجموعة من الأفراد.
ولكن اللغويين يميزون بين التناوب اللغوي الذي يحدث أثناء المحادثة والتناوب اللغوي الذي يحدث عند الكتابة، وخاصةً كتابة الأدب. يُعرّف التناوب اللغوي التحادثي (conversational codeswitching) على أنه التجاور داخل نفس المحادثة لمقاطع الكلام التي تنتمي إلى نظامين نحويين مختلفين أو نظامين فرعيين. غالبًا ما يأخذ التناوب شكل جملتين متتاليتين، كما هو الحال عندما يستخدم المتحدث لغة ثانية إما لتكرار رسالته أو للرد على كلام شخص آخر (جامبيرز، 1982: 59). من ناحيةٍ أخرى، يناقش ليبسكي (1985: 73) كيف أن التناوب اللغوي في الأدب يختلف عن التناوب اللغوي في الكلام، حيث أن التناوب اللغوي الأدبي قد لا يكون ممثلًا عن المجتمع الذي يستهدفه العمل الأدبي بسبب عمليات الكتابة والتحرير وإعادة الكتابة وكل ما لا يمكن أن يكون عفويًا مثل التكلم.
أود فقط الإشارة إلى أنه بحسب فيرغسون فإن الازدواجية اللغوية هي وضـع لغوي مستقر نسبيًا توجد فيها نمطين مختلفين (H المستوى العالي وL المستوى المنخفض) للغة واحدة في مجتمع واحد ولكل منهما وظيفتها الخاصة (1959: 336). وفي حالة العربية يعتبر فيرغسون H هي اللغة العربية الفصحى وL هي اللهجات الإقليمية (1959: 327). ولكنني هنا أردت فقط الإشارة إلى مستويات اللغة الواحدة دون دراسة ظاهرة الازدواجية اللغوية في الرواية، وأنوّه أنني لا أعتبر العامية دون الفصحى، بل أركز على أهمية توظيف العامية في الحوار.
تقتصر هذه الدراسة على تحليل التناوب اللغوي في الرواية الفلسطينية. وعندما أقول رواية فلسطينية فإنني أقصد بذلك الروايات التي تكون عن فلسطين و/أو تدور أحداثها على أرض فلسطين سواء ناقشت القضية الفلسطينية بشكلٍ مباشر أم لا.
الإطار التحليلي
إذا تتبعنا مراحل تطور الرواية الفلسطينية بعد نكبة عام 1948، حيث إن الشعر كان متصدرًا في الأدب الفلسطيني قبل ذلك، لنقل الرواية مع الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني، وتحرينا عن كيفية استخدام اللغة فيها، نجد أنه استخدم العربية الفصحى في حوارات رواياته حتى لحوار الشخصيات غير الفلسطينية التي من المفترض أنها تتحدث باللغة الإنجليزية كما في رواية "عائد إلى حيفا" التي صدرت عام 1969 للمرة الأولى، ولكن كانت هناك أسماء لشوارع ومناطق بغير العربية لكن كتبت أسمائها في الرواية بالأحرف العربية. ولكن الرواية الفلسطينية أصبحت تستخدم التناوب اللغوي كثيرًا في العقود الأخيرة لرصد اللهجات الفلسطينية المتنوعة والكشف عن التغيرات اللغوية التي طرأت على المجتمع الفلسطيني، فهو مجتمع تتنوع فيه اللهجات من مدينة على أخرى بل حتى يمكن ملاحظة بعض الاختلافات داخل المدينة الواحدة . ويتوجه الكثير من الروائيين الذين يكتبون الروايات العربية عامة ومنها الفلسطينية حاليًا إلى استخدام اللغة العربية الفصحى في السرد القصصي مع استخدام العامية في الحوارات اعتمادًا على الشخصيات والمناطق التي ينتمون إليها.
اخترتُ هذه الدراسة على وجه التحديد لأنها لا تقتصر على النظر في الوظيفة الاجتماعية للغة في كشفها عن ثقافة المجتمع بل تتجاوز ذلك إلى استخدامات اللغة لإثبات هوية ووجود ضمن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. تكمن أهمية هذه الورقة البحثية بكونها تساعد على تحليل الخطابات بين الشخصيات العربية والشخصيات الإسرائيلية في الرواية. وأيضًا لكونها تكشف كيف أن رواية "سفر الاختفاء" سلّطت الضوء على أهمية التمسك باللغة العربية واللهجات الفلسطينية بالنسبة للفلسطينيين، فهذا التشبث يمثل فعل مقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي الذي يحاول طمس الهوية الفلسطينية العربية بشتى الطرق الممكنة، وبشكلٍ خاص في حربه على اللغة العربية ومحاولة فرضه اللغة العبرية في الشوارع وعلى لافتات المرور (إدريس، 2014).
رواية سفر الاختفاء
يشكّل موضوع فقدان الذاكرة وذاكرة الفقدان المحور الرئيسي في رواية "سفر الاختفاء" (2014) للكاتبة الفلسطينية ابتسام عازم، فتدور أحداثها حول اختفاء كل الفلسطينيين في سائر فلسطين فجأة وردة فعل الاحتلال الإسرائيلي حيال ذلك الحدث الفانتازي الغريب. تتركز وقائع الرواية على مدينة يافا الفلسطينية قبل نكبة عام 1948 وبعدها وكيف تغيّرت ملامح المدينة، وما هي المخيلة الجغرافية للمدينة وملامحها في تصور كل من الجدة هدى وحفيدها علاء، الشخصيتين الفلسطينيتين الرئيسيتين في الرواية. كلاهما يعرف صورة ليافا تختلف عن صورتها عند الآخر. ومن أوجه التغيرات التي طرأت على المدينة تتمثل في اللغات المستخدمة في يافا بعد احتلال الكيان الصهيوني لها، خاصة لأن الاحتلال الإسرائيلي أنشأ تل أبيب على جزء من مدينة يافا الفلسطينية.
من الصفحة الأولى، للغة حضور بارز ومهم في الرواية. منها نعرف أن الكاتبة استخدمت اللغة العربية الفصحى في السرد واستخدمت اللغة العامية، وعلى وجه التحديد، لهجة أهل يافا. نعرف أنها يافا بسبب ذكر شوارع (حي العجمي) ومن ثم أول جملة في الحوار "خليك بالبيت بركي ترجع..." (2014: 7). وفي الصفحة التالية، تُذكر تل أبيب وشارع الكونت الموجود في حي العجمي وهذا اسم الشارع قديمًا والذي غيّره الاحتلال إلى شارع "شاعري نمانور". يذكر علاء إصرار جدته أن تُطلق الجدة على الشارع اسمه الأصلي، الكونت. "هذا كان اسمه... هذا كان اسم الشارع." (ص. 9). في الفصل الرابع، تظهر أول شخصية إسرائيلية في الرواية، أريئيل، وهي الشخصية الإسرائيلية الرئيسية. هو وعلاء يقطنان في نفس العمارة. وفي هذا الفصل تظهر اللغة العبرية في الرواية للمرة الأولى.
إذًا، يحدث التناوب اللغوي في الرواية بين مستويات اللغة الواحدة أيضًا، وهي اللغة العربية بين مستويات الفصحى والعامية، كما ويتجلى التناوب اللغوي عند الانتقال بين لغتين مختلفتين وهما اللغة العربية واللغة العبرية.
"لأن العربية كانت لغة القلب وحلو الذكريات." (ص.52)
استخدمت الكاتبة عند السرد القصصي وتوصيف المشاهد اللغة العربية الفصحى بينما استخدمت اللغة العامية وبالتحديد اللهجة الفلسطينية الخاصة بأهل مدينة يافا في الحوارات بين الشخصيات الفلسطينية. أطلقت الكاتبة مصطلح "لغة أهل البرتقال" على اللهجة اليافاوية لأن يافا تشتهر ببيارات البرتقال وهي كانت تصدّر البرتقال للخارج حتى قبل النكبة بأعوام (ص.40). تُبرز اللهجة اليافاوية الطابع الفلسطيني للمدينة، حيث إن الشخصيات تقول عبارات مرتبطة بالثقافة الفلسطينية، على سبيل المثال، "تاتا" و "ستك" للجدة و "حاجّة" للمرأة المسنة.
عندما تعّرفت أم علاء على إخوتها الذين ولدوا وتربوا في مصر، قالت أن إخوتها لهم عيون تشبه عينيها ولكنهم يتحدثون اللهجة المصرية ويفسّر علاء سبب استدراكها بلفظ "لكن" بعد الحديث عن الشبه بينهم، وكتب لجدته "كأنها كانت مستاءة لأنهم لا يتحدثون لهجتها اليافاوية." (ص. 96)
طوال الرواية يشير الإسرائيليون إلى الفلسطينيين على أنهم العرب وكأنه لا وجود لفلسطين عندهم، وهذا يعكس ما يحدث على أرض الواقع. وتتمسك الشخصيات الفلسطينية بلغتها العربية عندما تقوم باستخدامها يوميًا لكي تعبر عن عروبة المدينة وأصولها الفلسطينية، خاصةً بتصحيحها أسماء المدن والأماكن والشوارع وإطلاق الأسماء الفلسطينية الأصلية عليها بدل الأسماء والأرقام التي وضعها الاحتلال الإسرائيلي.
كان علاء يحب يافا على طريقته، فهو يعتقد أن يافا التي يعيش بها تختلف عن يافا التي عاصرتها جدته هدى على الرغم من أنه يستعير بعض القصص والأسماء من ذاكرتها هي. كتب علاء في مذكراته باللغة العربية الفصحى للتعبير والوصف، بينما ترك الحوارات في المذكرة باللغة العامية تاركًا إياها كما جرت. لم يعاصر يافا قبل النكبة، فهو من مواليد 1967، السنة التي احتل الاحتلال فيها الضفة الغربية وقطاع غزة، ولكن كان علاء يحفظ خريطة شوارع يافا عن ظهر قلب لكي لا يضطر إلى النظر إلى اللافتات التي تحمل أسماء الشوارع بالأسماء العبرانية وبالتحديد عندما يصل إلى تقاطع جادة روتشيلد وبلفور. حتى أنه "أحياناً يأخذ طريقاً أطول إلى البيت، كي لا يمر ببعض الشوارع التي تجلده أسماؤها." (ص. 178). كان علاء يشعر بالهزيمة والقهر إذا وقعت عينه على تلك اللافتات لدرجة أنه قام بخلع بعض من تلك اللافتات ورشّ فوقها الدهان الأسود وكتب عليها باللون الأخضر أسماء أخرى لتلك الشوارع، وليس بالضرورة الأسماء الأصلية لها. حيث قام بتغيير "روتشيلد" إلى اسم شارع هشام شرابي (ص. 178). كما كان يذكّر أريئيل طوال الوقت بالأسماء العربية لأحياء وشوارع يافا، وكان علاء يتحدث عن المنشية والشيخ مونس والمسعودية وكل قرى يافا ويخبر أريئيل عنهم وعندما طلب منه أريئيل أن يكف عن القول إن هذه هي يافا وقراها انفجر غضب علاء وردّ بحرقة وتغيّر في نبرة وحدة صوته حتى وصل به الأمر أنه صرخ غاضبًا عندها وقال له إن "تل أبيب هي الكذبة" (ص. 180).
أما عن الشخصيات الثانوية، فكان يوسف الفلسطيني، الذي يعمل على بسطته التي يعمل فيها كأجير، وله "صديق" إسرائيلي يُدعى دافيد يعمل معه في نفس المهنة وفي نفس السوق، يشتاط غضبًا حينما يسمع أحد الفلسطينيين يخطئ في تسمية أي مكان ويستمر بتصحيح الأخطاء التي وقع فيها الكثير خاصة المتعلقة بتل أبيب مشيرًا إلى أن تل أبيب ليست ترجمة لمدينة تل الربيع، وأنه ليس هناك تل في تلك المنطقة فهي ساحلية وقد قامت فوق أجزاء كبيرة من ثلاث بلدات فلسطينية. "كيف بدكم تحرروا فلسطين بهالتخلف؟ هاي سموها هيك قبل النكبة وما في شي اسمه تل الربيع. تل الربيع هي الترجمة العربية بس مش الاسم. تل أبيب هي يافا والقرى إلّي حواليها، هاي هي تل أبيب، يافا وضواحيها، لا أكثر ولا أقل يا حبيبي! لمتى بدنا نضل ما نعرف تاريخنا؟" (ص. ص.39-40). يُظهر كلام يوسف كيف أنه يعتبر التمسك بأسماء القرى والمدن وتصحيح المعلومات عن تاريخ فلسطين هو أقل ما يمكن فعله في الطريق الطويل لتحرير فلسطين.
في إحدى شوارع تل أبيب، يوجد مقهى سارة، لأصحابه أكرم وزوجته ياسمين، يزور المقهى الكثير من الإسرائيليين. ولكن لا يتذكر الزبائن بأن أكرم وياسمين فلسطينيان إلا عندما يتحدثان مع بعضهما البعض أو مع أحد طفليهما باللغة العربية. (ص. 77)
بينما خميس الذي كان يعرف باسم خميس الحزين، وهو أحد الشخصيات الثانوية في الرواية يعبّر عن عروبته وعروبة فلسطينه من خلال الاتصال كل يوم خميس بالقسم العربي لصوت إسرائيل، وهي محطة مذياع، ويطلب منهم تشغيل أغنية "سنرجع يومًا" لفيروز. من بعد تكراره لنفس الطلب كل يوم خميس أصبحت المذيعة تعيد عليه نفس السؤال في كل مرة وهو "لماذا يريد أغنية "سنرجع يوماً" وهو ما زال في يافا،" كان يجيب "لأنه يحبها ويشتاق لشيء لا يعرف ما هو. وإنها الأغنية الوحيدة التي تبكيه." (ص. 160). وكان خميس يهدي الأغنية لكل أهل يافا أينما كانوا في جميع العالم.
"أستمع إلى نفسي وأنا أتحدث العبرية وكأن الصوت الذي يخرج من حنجرتي ليس لي." (ص. 97)
أما عن التناوب اللغوي بين لغتين مختلفتين فيحدث في الرواية بشكلٍ أساسي عند الانتقال بين اللغة العربية واللغة العبرية، ولكن في إحدى المرات قالت إحدى الشخصيات الإسرائيلية لشخصية أخرى "أوكي باي" (ص. 48) عند إنهاء المكالمة، وهذا التناوب اللغوي يكشف عن الانتقال في لغة الحوار من اللغة العبرية إلى اللغة الإنجليزية. قد يكون السبب وراء هذا التناوب اللغوي هو التلميح من الكاتبة بأنه ربما لهذه الشخصيات أصول من دول تتحدث اللغة الإنجليزية. ما عدا ذلك فإن التناوب اللغوي يحدث بين العربية والعبرية.
من المثير للاهتمام أن اللغة العبرية التي وردت في الرواية كُتبت بأحرف عربية. أعتقد أن الكاتبة لجأت لفعل ذلك لتسهيل الأمور على القارئ العربي، وبما أن الرواية مكتوبة باللغة العربية فإنها تستهدف جمهورًا عربيًا بالدرجة الأولى. حدث أول تناوب لغوي بين هاتين اللغتين عندما التقى علاء وأريئيل عن طريق صديقتهما المشتركة الصحفية الألمانية نتالي. عرّفت نتالي بعلاء على أنه العربي وأنه يسكن مع أريئيل في نفس العمارة و "قالتها نتالي بعبرية طليقة ولهجة أشكنازية. مدّ علاء يده مصافحاً أريئيل وقال ممازحاً، بلهجة عبرية شرقية تعمّد لفظها على ذلك النحو والمبالغة فيها. -شلوم أريئيل. أنا عربي الحفلة الذي تحتاجون إليه كي تقولوا إن لكم صديقاً عربياً. أقدم لك نفسي: علاء العربي." (ص. 30). كان علاء واعياً بما يفعله الإسرائيليون وكيف يمكنهم استخدام صداقتهم به. وردت "شلوم" كلمة التحية في اللغة العبرية مكتوبة بدون ترجمة بسبب شيوعها وانتشارها، أما باقي الكلام الذي من المفترض أنه جرى باللغة العبرية كتبته الكاتبة مترجماً للعربية الفصحى مراعاة للقارئ. من الجدير بالذكر، أن الكاتبة عندما استخدمت العربية لترجمة الحوارات التي دارت باللغة العبرية قامت باستخدام العربية الفصحى ولم تستخدم اللغة العامية، وفي اعتقادي فهذا يعد تأكيدًا على أن لهجة يافا الفلسطينية خاصة بأهل يافا.
ذكرت الكاتبة في الرواية أغنية إسرائيلية والتي كان يستمع إليها أريئيل، عرّفت الكاتبة باسم المغني وهو ديفيد بروزا وكتبت ترجمة اسم الأغنية المكتوبة بالعبرية إلى "المرأة التي معي" ومن ثم كتبت الترجمة العربية لكلمات الأغنية (ص. 33).
لكن في حوارات أخرى أحيانًا كانت الكاتبة تكتب الجملة بالألفاظ العبرية قبل ترجمتها، أو حتى أن تقوم الشخصية الإسرائيلية بالتحدث باللغة العبرية ثم ترجمة كلامها للعربية عندما تتواصل مع فلسطينيين مثل شمعون صاحب مزرعة الورد الذي كان يوظف لديه عاملات من الضفة وكان يحذرهن بقوله " - "نو يالله بنوت تفسيكو لبتبيت"... خلص بكفي خكي..." (ص. 36) يلفظ الإسرائيليون حرف الحاء على أنه خاء ولذلك قال "خكي" وليس "حكي". وهنا، يحدث التناوب اللغوي داخل الجملة الواحدة حتى.
من الكلمات التي لم تترجم هي "شلوم"، "بوكر"، "طوف"، "شلوم أوفرخا" وهي كلمات التحية والسلام وصباح الخير (ص. 78). كما أن الألفاظ البذيئة لم تترجم، مثل "دفوكيم... بني زونوت" (ص. 157).
تعلم أريئيل اللغة العربية و "أحبها ولكن لم يعشقها"، فأبوه لم يرد له أن يعجب باللغة العربية بل يتعلمها لكي يستفيد منها ويعرف المحيط الثقافي ويستخدمها عند التحاقه بالجيش (ص. 87). وفي المقابل، شكّلت اللغة مأزقًا وصراعًا للحفاظ على الهوية عند علاء الذي لم يحب التحدث باللغة العبرية فقد كتب لجدته في مذكراته يصف شعوره عندما تحدث بالعبرية مع أريئيل في أول لقاء بينهما، "لا أدري لماذا وجدتني أستمع إلى نفسي وأنا أتحدث العبرية وكأن الصوت الذي يخرج من حنجرتي ليس لي. لكنه يخرج ويتحدث العبرية نيابة عني وأنا هناك في داخلي أنظر إليه لا أدري ماذا أفعل به وماذا أفعل بي. لم أعد أطيق هذا الصوت. شعرتني غريباً عن نفسي" (ص. 97)
لا يحدث التناوب اللغوي في السرد والحوار فقط بل يتعداه ليكشف عن استبدال الاحتلال الإسرائيلي أسماء الأماكن والشوارع كما أسفلت. حيث يطلق الاحتلال الإسرائيلي مصطلح يهودا والسامرة على الضفة الغربية (ص. 53). وهناك شارع إسكندر عوض الذي غيّر الاحتلال اسمه، ولم يقتصر الأمر على تغيير الأسماء بل تعدّى إلى تحويل الشوارع إلى مجرد أرقام لا تعني شيئًا ولا تكشف عن أصول تسميتها العربية حيث إنهم "وبعد أن خلعوا عن الشارع اسمه أعطوه في البداية رقمًا!" (ص. 101). كما قام الاحتلال الإسرائيلي بتغيير اسم منطقة الشيخ مؤنس إلى منطقة "رمات أفيف" (ص. 40).
أولاً وأخيرًا يدرك علاء أنه حتى لو تكلّم بالعبرية فإنهم لن يصغوا إليه لأن "كل ما نقوله يضيع في الترجمة. حتى لو تحدثنا باللغة نفسها" (ص. 180). ولهذا فإن حديثه بالعربية وتذكيرهم بمدينته هو ما يملكه للرد عليهم.
خاتمة
من خلال الاستقراء والتحليل، نلاحظ أن التبديل اللفظي في الرواية ليس مجرد تناوب لغوي وانتقال من شفرة لغوية إلى شفرة أخرى خاصة بالنسبة لعلاء بل هو فعل مقاومة وسلطة وصراع وكشف عن الهوية والتمسك بالوطن بكل معالمه وكلماته وأحرفه. وهذا يتجلى عند كل الشخصيات، الرئيسية والثانوية بل حتى من الضروري التركيز على الشخصيات الثانوية هنا لأن وجودها يشدد على مسائل الهوية والذاكرة والتاريخ. يندرج التناوب اللغوي المستخدم في الرواية في أغلب المحادثات ضمن التناوب اللغوي الموقفي فهو يعيد تعريف الموقف ويُظهر التغيير في العلاقة بين المتحدثين خاصة في الحوارات بين الشخصيات الفلسطينية والإسرائيلية. فعلى الرغم من تمسك الفلسطينيون بلغتهم إلا أنهم يضطرون عادة لاستخدام العبرية مع الإسرائيليين، وفي المقابل، انتقلت الشخصيات الإسرائيلية إلى استخدام اللغة العربية في مواقف مثل التهديد والتحذير. وبهذا أستنتج أن الكاتبة استخدمت التناوب اللغوي في الانتقال بين اللغة العربية واللغة العربية وبين مستويات العربية وهي الفصحى والعامية في الحوارات أحيانًا في حوارات مختلفة وأحيانًا في جمل متتابعة وأحيانًا في داخل الجملة الواحدة. ومن الأسباب التي دفعت الكاتبة إلى توظيف التناوب اللغوي هي ضرورة الكشف عن التغييرات التي طرأت على فلسطين والمجتمع الفلسطيني بعد النكبة فيما يتعلق بلغة الكلام. كما كشفت من خلال التناوب اللغوي كيفية استخدام الفلسطينيون للغتهم العربية ولهجتهم المحلية ضد الإسرائيليين كوسيلة مقاومة ليثبتوا أسبقية وجودهم وأحقيتهم بفلسطين وهويتهم العربية الفلسطينية.
***
مصادر باللغة العربية:
إبراهيم، فتحي (1986)، معجم المصطلحات الأدبية. صفاقس: المؤسسة العربية للناشرين المتحدين.
إدريس، سهام (2014)، تهميش العربية في إسرائيل: لافتات المرور نموذجاً. عود الند، (92، ص.ص. 84-95).
عازم، ابتسام (2014)، سفر الاختفاء. بيروت: منشورات الجمل.
كنفاني، غسان (2013)، عائد إلى حيفا. قبرص: دار منشورات الرمال.
مصادر باللغة الإنجليزية:
Albakry, M. & Hancock, P. H. (2008). Code switching in Ahdaf Soueif’s The Map of Love. In Language and Literature (Vol. 17, pp. 221–234). Los Angeles: SAGE Publications.
Blom, J., & Gumperz, J. (1972). Social Meaning in Linguistic Structures: Code Switching in Northern Norway. In Gumperz, John J. & Hymes, Dell. (Ed.), Directions in Sociolinguistics (pp. 407-434). New York: Holt, Rinehart and Winston, Inc.
Ervin- Tripp, S. M. (1964). An Analysis of the Interaction of Language, Topic and Listener. Stanford: Stanford University Press.
Ferguson, C. A. (1959). Diglossia. Word, (Vol.15 (2), pp. 325-340).
Gumperz, J. (1982). Conversational code switching. Discourse Strategies: Studies in Interactional Sociolinguistics (pp. 59-99). Cambridge: Cambridge University Press.
Hamamra, B. & Qararia, S. (2018). The Function of Code-Switching in Selma Dabbagh’s Out of It (Vol. 9, pp. 126-130). Advances in Language and Literary Studies.
Heller, M. (1988). Codeswitching: Anthropological and Sociolinguistic Perspectives (Contributions to the Sociology of Language, 48). Berlin: Mouton de Gruyter.
Holmes, J. (2012). An Introduction to Sociolinguistics (Fourth edition). New York: Routledge.
Hudson, R. (2001). Sociolinguistics (2nd edition). Cambridge: Cambridge University Press.
Lipski, J. (1985). Linguistic Aspects of Spanish–English Language Switching. Tempe: Arizona State University.