مدخلٌ جانبيّ إلى البيت
أمل السعيدي
(دار روايات، الشارقة، 2021)
جدلية (ج): كيف تبلورت فكرة الكتاب وما الذي قادك نحو الموضوع؟
أمل السعيدي (أ. س.): لا أظن بأنني أستطيع الإجابة عن هذا السؤال بدقة، إذ بدا لي أنني خُلقتُ من أجل هذه الكتابة. ثمة شيء في موقعي التاريخي الصغير يصدرُ صوتًا لم أستطع تجاهله لسنوات، لقد شغلتني طفولتي بل وعذبتني في أحيان كثيرة، فهل أردتُ التعافي منها بالكتابة عنها؟ ربما، هل قدّرتُ في نفسي أنني لستُ وحيدة؟ بكل تأكيد، بل هنالك من يعيش في موقفي نفسه، أو في لون منه، لذلك أردتُ أن أعبّر عنا، عن هامشيتنا، عن ضعفنا، والأهم من هذا كله، أن يكون ذلك عبر الأدب كصنعة، لأن في فنيته يكمن السحر، الذي هو الآخر هامشيّ ومنبوذ في عالم لا يعترف بغير المادة والحسّي المباشر.
(ج): ما هي الأفكار والأطروحات الرئيسية التي يتضمنها الكتاب؟
(أ. س.): كل أفكار الكتاب تدور في البيت أو حوله. أفكّر الآن وأنا أجيب بأننا لسنا سوى بيوتنا كلها؛ أعضاؤنا، وحركتنا هي البيت الذي نشأنا فيه، البيت الذي هو أنا بدأ في قرية صغيرة في شمال عُمان، لكنني كثيرًا ما أتأمل فيه كما لو أنني سجينة زنزانة ممتدة تصلُ إلى مسقط، الجغرافيا التي لا تحاول كثيرًا أن تثبت أي شيء ولا حتى تمدّنها. لو جاز لي أن أصف موضوع كتابي لقلت بأنه الغربة المريرة، وأن تجد نفسك بلا امتداد كأنما جئتَ من المجهول ذاهبًا للمجهول دون أن يحرّك أحدٌ ساكنًا ليحول دون ذلك.
(ج): ما هي التحديات التي جابهتك أثناء البحث والكتابة؟
(أ. س.): الكتابة بحرية. أنا امرأة وقد لا أستطيع التعبير عن كل ما أفكر فيه، أو أخشى استقبال القرّاء لما أكتب. لا أستطيع إنكار أو تجاهل هذا على الإطلاق، عندما أفكر مثلًا في أنني مهزومة لكن هذا ما يظهر مني، انهزام أبيض، أشعر بالذنب، إذ إنني أغيّبُ جوانب عديدة من ذاتي، يطمرها تنميط جنسانية النساء. بطبيعتي أشكّ كثيرًا في نفسي، ولا يتوقف الصوت في رأسي عن نسج علاقات لا-نهائية من أكثر الأشياء بداهة، فكنتُ أقفُ كالمستسلمة بعد مراجعة كلّ نص، يملؤني إحساس بالخزي مما كتبت ومما أحاول قوله فلا أستطيع.
(ج): كيف يتموضع هذا الكتاب في الحقل الفكري/الجنس الكتابي الخاص به وكيف سيتفاعل معه؟
(أ. س.): ابتسمتُ عندما قرأت السؤال. قبل فترة قصيرة من إعلاني عن الكتاب طلبتُ تغيير الجنس الأدبي من مجموعة قصصية إلى "سرد"، ولو كنتُ أكثر جرأة لطلبت من الناشر حذف النوع الأدبي تمامًا. بصراحة، لا أهتم بهذا الموضوع، وأجد بأن الأدب تجاوزه منذ وقت طويل. لا أخفيكم بأن إجابتي عن هذا السؤال قد تضمر حسدًا وغيرة، وعجزاً عن كتابة نوع أدبي تقليدي. عمومًا، أستطيع القول إن كلّ نص في هذا الكتاب لا يُقرأ بمعزل عن بقيته، ولو أننا كنا في مكان أكثر انفتاحًا على التجنيس الأدبي لقلت بأنه رواية، إذ إن المكان شخصيتي الرئيسية في هذا الكتاب، مثلما هو اللون الأبيض في كتاب الأبيض لهانغ كانغ، والذي بالمناسبة نافس على جائزة الرواية في البوكر. إنها فسيفساء، فلماذا لا تكون رواية إذًا؟
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الفكرية والإبداعية؟
(أ. س.): هذا هو كتابي الأول، أو لنقل محاولتي الأولى، صوتي المتردد لأول مرة خارجًا من قمقمه.
(ج): من هو الجمهور المفترض للكتاب وما الذي تأملين أن يصل إليه القراء؟
(أ. س.): أحلم بقرّاء خاصين، اختبروا التجارب نفسها، لديهم الأحلام ذاتها، وأتخيل بأنهم قلة، لا لأننا مميزون بل لأننا نتشابه ونعترف بهذا، وقد وعينا بأمرنا هذا، لدينا سوء الحظ نفسه، والاستعداد نفسه للسير في طريق صغيرة ودقيقة وشاعرية.
(ج): ما هي مشاريعك الأخرى/المستقبلية؟
(أ. س.): أريد أن أكتب بلا خوف.
مقتطفات من الكتاب
انقلابات
هنالك أحداث تبدو في الظاهر سعيدة جدًّا، لكنها، ولفرط ما آلمتني، لا أعود أتذكرها إلا إذا حدث عارضٌ كبير يذكرني بها. فكرت بهذه المسألة اليوم بعد أن تذكرتُ أنني وفي عمر الثانية والعشرين، وبينما كنتُ عائدةً من مطار مسقط إلى البيت، عرضتُ على أبي ووجهي وصوتي يفيضان بالحيوية، أن أقرأ له قصائد محمد الثبيتي. وفعلت، لم يعلّق أبي أبدًا لكنه ظلَّ مستمعًا حتى بدأتُ أرتابُ من صمته. لقد نسيتُ في فورة حماسي تلك أن أبي يطلب مني أن أكتب له رسائل الواتسآب العادية، لأنه لا يثق من قدرته على أن يمليها جيدًا. خشيتُ في تلك اللحظة أنني أحرجتُ أبي، ورغم أن القصائد التي اخترتها من أعمال الثبيتي الكاملة التي كنتُ أحملها في حقيبتي، دارت كلها عن الصحراء، إلا أنني عرفتُ في تلك اللحظة أن صحراء أبي مختلفة.
علقَ هذا المشهد في ذاكرتي كما لو أن الحياة تبتزني به، إذ تريني أنني أيضًا لم أكن رحيمة في وقت من الأوقات كما ظننتُ دائمًا، أحاول أن أشاهد نفسي على المقعد بجانبي والدي في السيارة، أن أتذكر مواقف أخرى، فمع أنها محدودة، ومع أن انفرادي به، لم يكن إلا في لحظات اضطراري للذهاب إلى المطار في مسقط، إو إجراء مقابلة عمل بعد التخرج، إلا أن هذا الوقت كان خاصًّا بتربية الخوف، ليست الرهبة من سخطه وغضبه، بل من تلطفه، من انكساراته القديمة التي يحبُّ أن يذكرنا بها لكي نأخذ منها دروسًا وعبرًا. لقد أحببتُ أبي كثيرًا، وشعرتُ طيلة عمري بأنني مسؤولة عن كل ما حدث معه، قال لي مرة، أنه لكي لا يطلب شرب الماء ممن استضافهم ليلعبوا معه، شرب من ماء البحر.
يحدث الأمر مجددًا في يوم ذكرى اغتيال غسان كنفاني، استدعت ذاكرتي، ذلك اليوم في كلية الآداب بجامعة الكويت، فرع كيفان، وأنا أجلسُ فيما يسمونه "شارع الحب" لثاني مرة منذ أن دخلتُ الجامعة قبلها بعامين، لأن بنات صفي اتفقن على أن نحتفل بعيد ميلاد زميلة لنا هناك، سبقتهن بحكم عيشي في السكن داخل حرم كيفان، وكنتُ أحمل الأعمال القصصية الكاملة لغسان، وفي كل مرة يأتي فيها على ذكر الكويت، أو يوقّع من هناك، أرفع رأسي المستغرق في زيتون ونضالات حيفا، لأراقب الحب الذي يتحدث عنه زملائي في الكلية عندما أطلقوا الاسم على هذا الممر، لكنه ليس موجودًا، أو على الأقل لا أستطيع تبيُّن معالمه. جلستُ في ذلك المكان طويلًا تنعشني كتابة كنفاني، والضجيج الهادر من تجمعات الطلبة، وعندما حان موعد الاحتفال، ضحكنا كثيرًا، لكن فكرة عبرت إلى رأسي، كان كنفاني يستعدُّ للموت هنا بالتحديد دون أي مكان آخر.