جورج مقدسي، ترجمة د. أحمد العدوي
(مدارات للأبحاث والنشر، القاهرة، 2021)
جدلية (ج): كيف اخترت الكتاب وما الذي قادك نحوه؟
أحمد العدوي (أ. ع.): في الحقيقة لفت الأستاذ أحمد عبد الفتاح -الباحث ومدير دار مدارات- نظري إلى هذا الكتاب. وهو شديد العناية بتراث مقدسي. فذات أمسية أرسل إليَّ رسالة يطلب مني فيها الاطلاع على كتاب مقدسي نشأة الإنسانيات. كان ذلك في أعقاب فراغه من إعداد نشرة منقحة من كتاب مقدسي المعروف "نشأة الكليات"، كما وافق ذلك فراغي من نشر كتاب "يوميات فقيه حنبلي من القرن الخامس الهجري" وهو بتحقيق جورج مقدسي أيضًا. كان حجم الكتاب كبيرًا تجاوز 450 صفحة، فأجبته بأنني سأطالعه ثم أعود إليه بشأنه. والطريف أنني في تلك الليلة أردت الاطلاع على مقدمة مقدسي للكتاب فحسب، كي أتعرف على موضوعه ونطاقه، على أن أواصل قراءته صباح اليوم التالي، ولكن ما أن بدأت في قراءته حتى استغرقني تمامًا، ولم أنتبه من استغراقي في الكتاب إلا قرب منتصف الباب الرابع وكان ذلك يعني أنني تجاوزت نصف الكتاب قراءةً، ثم انتبهت إلى شيء آخر، أنني -أثناء استغراقي في قراءة الكتاب- كتبت ملحوظاتٍ لنفسي تتعلق بترجمة الكتاب إلى العربية على حواشي الكتاب. ومن ثم أشارت هذه الملحوظات إلى أنني وافقت لا شعوريًّا على ترجمة الكتاب دون تفكيرٍ تقريبًا. وأذكر أنني أبلغت الأستاذ أحمد عبد الفتاح صباح اليوم التالي بموافقتي على ترجمة الكتاب إلى العربية، ولم أكن قد أنهيت قراءته كاملًا. ولم تجرِ عادتي بذلك من قبل، فالكتب التي يقع اختياري عليها للترجمة تكون بعد قناعة وتفكير طويل، مثل كتاب قصة الورق لجوناثان بلوم على سبيل المثال، أما الكتب التي تُعرض علي من الناشرين فلا أوافق على ترجمتها إلا بعد قراءة نقدية عميقة لهذه الكتب، ودراسة لأهميتها وجدوى نقلها إلى العربية، وهذا يتطلب بعض الوقت. ومع ذلك فقد كان نشأة الإنسانيات استثناءً من هذه القاعدة. ومن ثم يعود الفضل للأستاذ أحمد عبد الفتاح في اكتشاف هذه التحفة العلمية إن جاز التعبير. والطريف أنه أخبرني فيما بعد أن المسؤولين في "مطبعة جامعة إدنبره" (الناشر الأصلي للكتاب) عبروا له عن سعادتهم أن العرب انتبهوا أخيرًا إلى هذا الكتاب. وأذكر أيضًا أنه فيما بعد علم المستشرق يوسف رابوبورت أنني أترجم هذا الكتاب إلى العربية، فأرسل إلي يستفسر مستغربًا "ألم يُترجم هذا الكتاب إلى العربية حتى الآن؟! كنت أظن أنه لا بد أنه تُرجِم إلى العربية منذ وقتٍ طويل".
(ج): ما هي الأفكار والأطروحات الرئيسية التي يتضمنها الكتاب؟
(أ. ع.): وصفت في مقدمتي هذا الكتاب بأنه كتاب نفيس، لم يؤلَّفْ مثله، لا في الشَّرق ولا في الغرب، فهو نَمَطُ وحْدِه. ولست أعدُّ هذا القول من قبيل المبالغات قطّ، بل هو أقرب إلى الوصف الموضوعي لمحتواه. عالجَ مقدسي في هذا الكتاب موضوعًا لم يُسْبَق إليه من قبل، وهو نشأة العلوم الإِنسانيَّة في الإسلام الكلاسيكي والغرب المسيحي من منظور مقارِن. ومن ثم فالكتاب دراسةٌ تحليليةٌ للنَّزعة الإنسانيَّة (Humanism) أو الأدب في الإسلام منذ عصر صدر الإسلام حتى القرنِ السَّابع الهجري/الثَّالثَ عشرَ الميلادي.
ونشأة الإنسانيات لا يعد تتمة، كما أنَّه ليس ذيلًا على كتابٍ نشأة الكُلِّيات؛ معاهد العلم عند المسلمين والغرب المسيحي. بل هو كتابٌ قائمٌ بذاته، وإن تقاطَع مع كتاب نشأة الكليات في نقاطٍ عديدة، كما أنهما تشابها من جهة التنظيم إلى حد كبير. درَس الكتاب الأوَّل -أعني نشأة الكُلِّيات- الحركة المدرسية في الإسلام والغرب المسيحي، بينما عُني نشأة الإنسانيات بدراسة الحركةِ الإنسانيةِ في الإسلام والغرب من منظورٍ مُقارِن. ومن ثم فكلا الكتابين يكمل كل منهما الآخر، وهذا عائدٌ إلى الارتباط الوثيق بين الحركة المدرسيَّة والإنسانية في الإسلام والغرب المسيحي على حدٍّ سواء، والتأثير الذي مارسته كل منهما على الأخرى.
وكتاب نشأة الإنسانيات يلقي ضوءًا كثيفًا على إرهاصات النزعة الإنسانية، والحركة الأدبية وحقولها الرئيسَة، وتلك المتفرِّعة منها، وروَّادها، ومؤسساتها، ومناهجها. ونشد مقدسي في هذا الكتاب فهم التاريخ على نحو أفضل ابتداءً، ومزيدًا من الاستيعاب للظواهر التاريخية المتعلقة بموضوعه، ووضعها في سياقها. والأهم من ذلك، فهم الحضارة الغربية المسيحية على نحو أفضل من ذي قبل. وعلى هذا النحو أعاد مقدسي التَّنويه بأهمية الاستشراق -في سياق التخصصات والانشغالات الفكرية أوروبيًّا- متجاوزًا النظرة التقليدية إليه بوصفه تخصصًا فرعيًّا يهدف إلى فهم الآخر، إلى تقديمه بوصفه وسيلةً لفهم الذات. من هنا حظِي الكتاب بشهرة واسعة في الغرب، واكتسب أهمية بالغة في سياقه بالنسبة لكلتا الحضارتين الإسلامية والمسيحية الأوروبية على حدٍّ سواء، حتى إن دائرة المعارف البريطانية دأبت على التعريف بمقدسي على أنه صاحب كتاب نشأة الإنسانيات، دونًا عن سائر أعماله. ووصف مقدسي -بعد صدور هذا الكتاب- بأنه واحد من أكبر المستشرقين سواء من الجيل الذي عاش فيه أو من أي جيل انقضى.
وبصفة عامة نبّهت أعمال مقدسي بوجه عام المؤرخين الأوروبيين إلى افتقار المكتبة التاريخية الغربية إلى دراساتٍ مُقارِنة بين الإسلام والغرب المسيحي، وأن هذا الافتقار عمِل على التشويش على كثير من الحقائق التاريخية، ومن جملتها: أصول الجامعات الأوروبية، والعوامل التي أثرت في نشأة القانون الإنجليزي في طَوْره المبكّر خاصة، ومعرفة أوروبا بالنقابات وتطورها ثمة. وكانت المركزية الأوروبية تنظر إلى هذه الظواهر على أنها ظواهر أوروبية بحتة، ومن ثم تجاهل مؤرخو المركزية الأوربية وجود تأثير للإسلام في نشأة هذه المؤسسات الأوروبية. والأهم -بل والأخطرُ من ذلك كله- أثر الإسلام في النَّهضة الأوروبية فيما عُرف اصطلاحًا بعصر النَّهضةِ الإيطالية. ومن المعلوم أنه يسهُل إثبات وجود تأثير مباشر للعلوم الإسلامية في نظيرتها الأوروبية، مثل الرياضيات والطب والفلك والفيزياء، وهو أمر سلَّم به مؤرخو المركزية الأوروبية، وإن حاولوا الحد من نطاقه وتأثيره الكلي، فلم يسعهم إنكار دور الترجمة والاصطلاحات العربية التي تذخر بها العلوم الأوروبية. ولكن هل يسهل التَّدليل على وجود تأثير للأدب العربي في الآداب الأوروبية في عصر النهضة في ضوء الافتقار إلى الأدلة المباشرة على وجود مثل هذا التأثير؟ هذا هو ما يتعذر إثباته على المؤرخين، ولكن ليس المؤرخين من قامة مقدسي. لقد اكتشف مقدسي فصلًا يكاد يكون مجهولًا بالكلية في تاريخ التفاعل بين الحضارتين الإسلامية والأوروبية. ومن هنا تأتي أهمية كتاب نشأة الإنسانيات في تسليط الضوء على هذه البقعة المعتمة من التاريخ واستكشافها.
غطى كتاب نشأة الإنسانيات ما يقرب من ستة قرون تقريبًا، مع ميلٍ إلى التركيز على الفترة الممتدَّة بين القرنينِ الثالث والخامس الهجريين/التاسع والحادي عشر الميلاديين. وانقسم إلى سبعة أبواب، يضم كل منها عدَّة فصول. وعلى غِرار نشأة الكليات، كرَّسَ مقدسي الأبواب السِّتة الأولى للعالم الإسلامي. فناقش البابُ الأول المدرسية في الإسلام، بينما درَس البابُ الثاني مؤسَّساتِ الأدب وتصنيفها. أمَّا الباب الثالث فقد تعرَّضَ للتَّدريس وتنظيم المعارف. بينما عُنِي الباب الرابع بقضايا التَّدريس في فروع الأدب الرئيسة. وكذلك اعتنى الباب الخامس بالتدريس أيضًا، ولكن من حيث المناهج المتَّبعة فيه. وتناول الباب السادس مجتمع الأدباء (الإنسانيين). أما الباب السابع فهو دراسة مقارنة بين الأدب في السِّياق الإسلامي، وبين النزعة الإنسانية في سياق أوروبا المسيحية. وأنهى المؤلف هذا الكتاب بخاتمة بديعة تضمَّنت خلاصة ما توصل إليه.
(ج): ما هي التحديات التي جابهتك أثناء البحث والترجمة؟
(أ. ع.): بالنسبة لي لم تشكّل لغة مقدسي واصطلاحاته -التي كان يستعملها على شرطِه أحيانًا- إشكالًا في حد ذاتها، لقد تمرست على لغة مقدسي، وأسلوبه ومصطلحه، أولًا من خلال قراءة معظم آثاره من مقالاتِ وكتبٍ لاستقراء ملامح مشروعه الفكري بوجه عام. وثانيًا من خلال ترجمتي لبعض مقالاته وكتبه ولا سيما كتاب يوميات فقيه حنبلي من القرن الخامس الهجري. ومع ذلك فإن مقدسي كان ينفرد -دونًا عن أقرانه من المستشرقين- باصطلاحاته التي إما كان يستعيرها من التاريخ الأوروبي الوسيط لظواهر كان يعدها المكافئ أو الموازي لظواهر إسلامية في القرون الوسطى، أو كان ينحتها ويستخدمها على شرطه. وقد أفردت قسمًا في مقدمتي لكتاب نشأة الإنسانيات للغة مقدسي واصطلاحه. ولكن تطرح ترجمة أعمال مقدسي إلى العربية معها تحديات فنية خاصة. من ذلك أنه عندما حقق مقدسي يوميات أبي علي ابن البناء نشر تحقيقه على خمس حلقات في إحدى الدوريات الأوروبية، تضمنت مقدمته للتحقيق ثم النص العربي متبوعًا بترجمة إنجليزية لنص ابن البناء. وكان النص العربي خاليًا من تعليقات مقدسي اللهم إلا تلك المتعلقة منها بقراءة مقدسي للنص، مثل تعقيبه بأن هذه الكلمة غير مقروءة، أو أنه لا يجزم بصحة قراءته لهذا الكلمة.. إلخ. أما تعليقاته الواسعة على النص فقد كتبها بالإنجليزية، وذيل بها الترجمة الإنجليزية لنص ابن البناء، لا النص العربي الأصيل. ومن ثم قمت بعملية مركبة اقتضت ترجمة هذه التعليقات الواسعة إلى العربية أولًا، ثم النظر إلى مواضعها من الترجمة الإنجليزية لوضع الإحالات في المواضع نفسها على النص العربي الأصيل لابن البناء.
وفي نشأة الإنسانيات أيضًا، أرهقتني كثيرًا حواشي مقدسي، ولا سيما المتعلقة بالإحالة على المراجع والمصادر فقد رتَّبها المؤلِّف وفقًا لاختصارات ورموز عيَّنها لكل مصدرٍ أو مرجع على حِدَة. فمثلًا رمز مقدسي لكتاب طبقات النحويين واللغويين للزبيدي برمز (TNN) وكانت أبرز عيوب هذه الطريقة صعوبة الربط المباشر بين المعلومة ومصدرها. وأحيانًا كان الأمر يقتضي بحثًا مركبًا في جريدة مصادر الكتاب ومراجعه للوقف على ماهية المصدر وبيانات الطبعة أو النشرة لهذا المصدر أو ذاك، فعلى سبيل المثال: رمز مقدسي لرسالة ابن تيمية المسماة مَعارِجُ الوصولِ إلى مَعرفةِ أنَّ أُصولَ الدِّينِ وفُروعه قد بيَّنها الرَّسولُ، بهذا الرمز (M'arij) وعندما تصل إلى هذا الرمز في جريدة المصادر والمراجع، تجده رسالة ابن تيمية المشار إليها آنفًا، ولكنك تجد هناك إحالة ثانية توصي بالعودة إلى رمز (Mrk)؛ كي تقف على بيانات الطَّبعة، وعندما تصل إلى هذا الرَّمزِ الأخير تجده رمزًا لمجموعة الرَّسائل الكُبرى لابن تيمية، طبعة المطبعة الشرفية 1323هـ/1905م. وهذه الطريقة مرهقة للقارئ، ولا سيما المدققين منهم الذين يحرصون على معاودة مصادر المؤلف ومراجعه للتثبت. لهذا السبب قررت حل رموز مقدسي التي استخدمها في الإحالة على مصادره في نشأة الإنسانيات، العربية منها والأجنبية. وعلى هذا النحو أعدت تنظيمَ الحواشي وفقًا للنهج التقليدي المألوف للقارئ العربي. وكانت عملية مرهقة بالنظر إلى حجم الكتاب وغزارة حواشيه، واستلزم هذا وقتًا وجهدًا إضافيين. وربما لو لم أواجِه هذه المشكلة لأنجزت ترجمة الكتاب في نصف المدة التي استغرقها العمل في ترجمته.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك في مجال الترجمة والإبداع؟
(أ. ع.): على الصعيد الذاتي يمكنني القول إن هذا الكتاب هو جوهرة التاج في ترجماتي حتى الآن، بل لا أخفيك، أشعر أحيانًا وكأنني لم أترجم غيره. وقد استمتعت كثيرًا بترجمته إلى العربية، وأردت للقارئ العربي أن يشاركني الاستمتاع بمادته. لقد وُصِف هذا الكتاب بأنه عمل حياة مقدسي، ومن ثم كانت ترجمته تحديًا، وآمل أنها وجدت الاستجابة المناسبة مني.
الطريف أنني عندما انهمكت في كتابة مقدمة لهذا الكتاب أسهبت حتى بلغت المقدمة 100 صفحة، ثم فكرت في اختصارها، لكن الناشر رفض اختزال حرف واحد منها. لقد شعرت بأن ظهور الترجمة العربية لهذا الكتاب سيثير أسئلة حول المؤلف والبيئة الفكرية التي عاش وعمل فيها، وعلاقة هذا الكتاب بمصنفاته الأخرى، وكيف واتت المؤلف فكرة تأليف هذا الكتاب، ومشروع صاحبه الفكري، وكذلك إسهاماته في مجال الدراسات الإسلامية، والنقد الذي وجه له، والأهم الوقوف على الكيفية التي جرى بها تأليف نشأة الإنسانيات، وأثر هذا الكتاب الممتد في الدراسات الغربية حتى يوم الناس هذا. ثم دافعٌ آخر وقف خلف تلك المقدمة الطويلة، أن مقدمة مقدسي كما سيلحظ القراء كانت قصيرة ومقتضبة، فكأنها مدخل متواضع لكتاب عظيم. ومن ثم كانت هذه المقدمة العربية المسهبة. ولأن نشأة الإنسانيات كتاب استثنائي كان بحاجة إلى معالجة استثنائية. ولا أظن أنني سأكتب مقدمة بهذا الطول مجددًا لكتاب من ترجمتي أو تحريري.
(ج): من هو الجمهور المتوقع للكتاب وما الذي تأمل أن يصل إليه القراء؟
(أ. ع.): يستهدف الكتاب القارئ العام المهتم بالحضارة الإسلامية بصفة عامة. ولا غنى عنه للمهتمين بالتاريخ الإسلامي وتاريخ التعليم والمؤسسات التعليمية في الإسلام، وكذلك أولئك المهتمين بالدراسات المقارنة بين الإسلام والغرب. فضلًا عن المهتمين بتاريخ التعليم والقانون، والأدب وسائر العلوم الإنسانية في العالم الإسلامي وأوروبا، وكذلك عصر النهضة الأوروبية.
الجدير بالذكر حقًّا أن هذا الكتاب لقي اهتمامًا كبيرًا في الغرب، حتى إن بعض النُّقاد ومؤرِّخي الأدب الأوروبيين دعوا إلى أن يكون كتاب نشأة الإنسانيات على رأس قائمةِ القراءة للطلاب في الجامعاتِ في الغرب. وإذا كانت هذه دعوةُ بعض المؤرخين والنُّقاد في الغرب فحَرِيٌّ بنا -ونحن أبناء الحضارةِ- أن ندعو طلابنا الجامعيين إلى أن يكون هذا الكتاب على رأس قائمة القراءات الحرة عندهم، عسى أن يخرج منهم من يواصل ما بدأه مَقدسي، ويتابع استكشاف حدود ذلك الرَّافِد الأدبي العربي الضَّخم الذي رفدَ الأدب الأوروبي في القرون الوسطى، والأثر المدرسي والإنساني للإسلامِ في المدرسيَّة والإنسانية الأوروبيتين.
وعلى الصعيد الأكاديمي، أعتقد أن هذا الكتاب سينبهنا إلى ضرورة العناية بإنشاء كراسٍ في جامعاتنا العربية تكرَّس للدِّراساتِ المقارنة بين الإسلام والغرب. كما لا بد لنا من توجيه طلابنا لدراسة اللُّغةِ اللَّاتينية القروسطيَّة واللهجات العاميَّة الأوروبية القروسطية تمهيدًا لإخضاع الأدبيَّاتِ الغربية -قُبيل عصر النهضة وبُعيده- للفحص والدَّرس للوقوف على حجم هذا الرافد الأدبي العربي في هذه الحقبة المسماة بـ"عصر النهضة".
(ج): ما هي مشاريعك الأخرى/المستقبلية؟
(أ. ع.): على صعيد التأليف فأنا أتوفر الآن على تأليف كتاب عن ثورة الزنج، سيصدر عن دار مدارات أيضًا إن شاء الله. أما على صعيد الترجمة، فقد أنهيت تقريبًا ترجمة كتاب الطبري حياته وآثاره لفرانز روزنثال، ويصدر قريبًا عن مركز تراث للدراسات والبحوث. كما أعكف الآن على ترجمة كتاب تاريخ سيبيوس للمؤرخ الأرمني سيبيوس وهو مؤرخ عاصر النبي محمد والفتوحات العربية لمصر والشام وبلاد فارس، وسيصدر عن دار مدارات قريبًا. كما أترجم أيضًا كتاب أحمد الشمسي إعادة اكتشاف التراث الإسلامي، وهو يناقش حلقة مهمة من تاريخ المطبعة العربية، وهي المتعلقة بطباعة كتب التراث، وموقعها من برامج الإصلاح في ظل الحقبة الاستعمارية. كذلك كدت أنتهي من ترجمة كتاب منزلة الشريعة وهو كتاب حررته سهيرة صديقي، ويضم 13 فصلًا تتعلق بالشريعة الإسلامية في سياق حياة المسلمين سواءً قبل الحداثة أو في ظلها. وكلا الكتابين سيصدران عن مركز نهوض بالكويت نهاية العام الجاري على ما أتوقع.
مقتطف من الكتاب
الإنسانيَّة والمدرسيَّة حركتان هيمَنتا على التَّاريخ الثَّقافي في الإسلام الكلاسيكي. فأمَّا الإنسانيَّة، فهي موضوع هذه الدِّراسة التي تضمَّنت إلماعةً خاصَّة إلى المدرسيَّة. وأمَّا المدرسيَّة فكانت موضوعًا لدراسة سابقة لي، وهي دراستي المسمَّاة نشأة الكليَّات. وأمَّا المنهَج المتَّبع في هاتين الدِّراستَين فهو نفسُه، وهو أنَّ هاتَين الحركتَين الثَّقافيتَين يمكن فهمُهما بالقَدر الذي تُدرسان به؛ استنادًا إلى القُوى التي أخرجتهما إلى الوجود. كما يمكن فهم منتَجِهما الثَّقافي بقَدر ما نضع أيدينا على التفصيلات الجوهرية لمناهجهما في التَّدريس والدِّراسة والتَّأليف.
وتسعى هذه الدِّراسة -شأنُها في ذلك شأنُ سالفتها- إلى إلقاء الضَّوء على تطوُّر التَّعليم في الإسلام الكلاسيكي، بيد أنَّ كلتا الدِّراستَين لم تستَهدفا إجراء مسح عامٍّ للتَّربية في الإسلام. إنَّ نشأة الكليَّات هي دراسة للحركة المدرسيَّة، وممثِّليها، ومؤسَّساتها، و"إجازة التَّدريس"، والدُّكتوراه، وطريقة النظر المؤدِّية إليها، على نحو أساسي. وأمَّا هذه الدِّراسة فتتناول نشأة النَّزعة الإنسانيَّة، وممثِّليها، ومؤسَّساتها، و"فنَّ الأمالي"، وإبرازها -أي النَّزعة الإنسانيَّة- للكُتب التي صُنِّفت من أجل أولئك الذين علَّموا أنفسَهم بأنفسِهم. بُذلت محاولة في كلتا الدِّراستَين للإجابة عن أسئلة من قَبيل: ماذا؟ ومَن؟ ومتى؟ وأين؟ وكيف؟ ولماذا؟ ولا سيَّما لماذا؛ وذاك أنَّ الإجابة عن السُّؤال لماذا هي التي حمَلت في طيَّاتها مفتاح أصول هاتين الحركتَين الثَّقافيتَين. ولدينا إجابة مقنعة عن السُّؤال المتعلِّق بالأصول فيما يخصُّ الإسلام؛ بيد أنَّنا نفتقِر إلى إجابة واضحة في حالة الغرب المسيحي.
كان لكلِّ حركة من الحركتَين -في سياق الإسلام الكلاسيكي- سببٌ موجِبٌ للوجود، جاء متميِّزًا عن الآخَر. إلَّا أنَّ كلاهما انبثق من الاهتمام بمصدر مشترك، هو: الكتاب والسُّنة. وتاريخ تطوُّرهما هو تاريخٌ من التفاعُل الذي لم يخل من صراع، إلَّا أنَّهما -مع ذلك- لم ينفصلا قطُّ. لقد بزَغ فجر النَّزعة الإنسانيَّة قُبيل نهاية القرن الأوَّل الهجري/السَّابع الميلادي، ونشأت الحركة بسبب القلق العميق على نقاء اللُّغة العربية الفصيحة للقرآن بوصفها لُغة حيَّة، وكذلك لُغة الشَّعائر في الإسلام. ويرجع الفضلُ في نشأة المدرسيَّة إلى صراع دارَت رَحاه بين القُوى الدِّينية المتصارِعة، ووصَل ذلك الصِّراع إلى ذُروته في محنة خَلق القرآن في القرن الثَّالث الهجري/التَّاسع الميلادي. أي بعد مرور ما يربو على القرن منذ انبلَج فجر النَّزعة الإنسانيَّة. ودار هذا الصِّراع حول مسألة ما إذا كان القرآن هو كلامُ الله الأزَلي غير المخلوق. ورنَت كلتا الحركتَين إلى صَحيح اللُّغة والدين؛ فاستَهدفت الإنسانيَّة صحيح اللُّغة، بينما استَهدفت المدرسيَّة صحيح الدِّين.
كان لكلتا الحركتَين جذورهما في الدِّين، بيد أنَّ كلًّا منهما باتَت مدينةً بزَخمها لقوًى خارجية. فأمَّا النَّزعة الإنسانيَّة فكانت مدينةً لتأثير اللُّغات الأعجمية على لسان العرب. وأمَّا المدرسيَّة فكانت مدينةً لتأثير الفلسفة اليونانية على المسار الذي اتَّخذه دين النَّبي [ﷺ]. وبدأت النَّزعة الإنسانيَّة بوصفها حركة لُغوية علميَّة تلتمس اللُّغة العربية النَّقية، في مصدرها في شبه الجزيرة العربية، حيث لم تشُبها أوشابُ العُجمَة قطُّ. وأمَّا المدرسيَّة فكانت حركة دينية علمية، نأت بنفسها بعيدًا عن غُلَواء العقيدة الفلسفية المستَلهَمة من الفكر اليوناني، ومالَت نحو "عقيدة شرعيَّة" أكثر انسجامًا مع هَدي الشَّريعة. وكان الكتاب والسُّنة مادَّة المدرسيَّة، كما كانا النموذج الأرفَع للبلاغة في النَّزعة الإنسانيَّة (الأدب).
امتدَّت حقبة النَّشأة والتطوُّر لكلتا الحركتَين من القرن الأوَّل الهجري/السَّابع الميلادي، إلى القرن السَّابع الهجري/الرَّابع عشَرَ الميلادي تقريبًا. وانطلقت كلتا الحركتَين في المشرق الإسلامي، ثمَّ اتَّجهتا غربًا من العراق إلى الشِّام ومصر، ومن ثمَّ امتدَّتا إلى المغرب والأندلس وصقلِّية، ومن هناك إلى أجزاء أخرى من الغرب المسيحي. ووصلت الحركتان إلى الغرب المسيحي في الوقت نفسه تقريبًا؛ في النِّصف الثَّاني من القرن الخامس الهجري/الحادي عشَرَ الميلادي. بَيد أنَّ مسيرة تطوُّرهما في الغرب المسيحي إجمالًا جاءت نقيضَ تطوُّرهما في الإسلام.
وسنَرى -على امتداد الصَّفحات التَّالية- أنَّ الأدلَّة تتظاهر على تأييد استقبال الغرب اللَّاتيني المسيحي كلتا الحركتَين -أعني المدرسيَّة والإنسانيَّة- من الإسلام الكلاسيكي تأييدًا. ومن المعروف عمومًا أنَّ لهذا التَّأثير وجودًا في حقول مثل: الفلسفة والطبِّ، ومردُّ ذلك إلى ترجمة الكُتب في هذين الحَقلَين، وفي غيرهما من الحقول- من العربية إلى اللَّاتينية، وكذلك اعتماد المصطلحات العربية في تلك المجالات. ومع ذلك، فلا يُعرَف -على وجه العموم- أنَّ الكُتب قد تُرجمَت أيضًا من العربية إلى اللَّاتينية واللُّغات الأوروبية الأخرى في حقل الدِّراسات الإنسانيَّة، وأنَّ مصطلحات النَّزعة الإنسانيَّة في الغرب هي نفسها المصطلحات الأدبيَّة العربية الكلاسيكية.